قال الإمام أمير المؤمنين «عليه السلام»: «املكوا أنفسكم بدوام جهادها»1.
أقسام النّفس في القرآن الكريم
قسّم القرآن الكريم النّفس الإنسانية إلى ثلاثة أقسام حسب الحالات التي تكون عليها، من حيث شدّة التزامها في خط الطاعة وعدمها، وهذه الأقسام هي:
1-النّفس المطمئنّة
وهي التي يكون صاحبها قد وصل إلى درجة عالية من الإيمان، ومرتبة رفيعة من التّقوى، فشكّل إيمانه القوي وتقواه الرّفيعة قوّة تمنعه من الاسترسال في إشباع الشهوات والرغبات النّفسية، فلا يستجيب لها إلاّ في حدود الشرع الشريف، فهو يعيش حالة التذكر لله سبحانه وتعالى ورقابته له بحيث أنّ الشيطان لا يتمكن من إيقاعه في المخالفة الشرعية، فصاحب هذه النفس من الذين قال الله تعالى عنهم: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ﴾ 2.
وإن كان قد مارس معصية في مرحلة سابقة من حياته، عندما كانت النّفس لمّا تصل بعد إلى هذه المرحلة «النفس المطمئنة» فإنّه استغفر الله تعالى وتاب إليه منها توبة نصوحاً.. وإلى هذه المرتبة من مراتب النّفس أشار القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي ﴾ 3.
هذه النّفس هي التي امتدحتها النصوص الشريفة المأثورة عن أهل بيت العصمة «عليهم السلام»، فعن أمير المؤمنين «عليه السلام» قال: «ليس على وجه الأرض أكرم على الله سبحانه من النّفس المطيعة لأمره»4.
إنّها النّفس المخلصة لربّها، المؤمنة بلقائه، الرّاضية بقضائه، القانعة بعطائه.
2- النّفس اللوامة
وهي حالة تكون عليها النفس بحيث أنّ صاحبها يمارس الطاعة لله سبحانه وتعالى بفعل الواجبات وترك المنهيّات إلاّ أنّه ونتيجة لبعض الضعف في إيمانه وتقواه قد يقع أحياناً في المعصية فيرتكب المخالفة الشرعية بسبب غلبة الهوى والشهوات ووساوس الشيطان من غير سبق عزم على الإقدام عليها، وكلّما صدرت منه معصية لام نفسه وندم وتأسّف، وجدد عزمه على عدم العود إلى الذنب مرّة أخرى.. كما أنّ صاحب هذه النّفس لا يكون لومه لنفسه فقط بسبب ارتكابه للمعصية، وإنما حتّى في حالة تقصيرها وعدم اجتهادها في الطاعة لله، وتفويت الفرص التي من خلالها يمكنها أن تكسب المزيد من الثواب والأجر، الذي بسببه ينال العبد مراتب أرفع ودرجات أكبر في ساحة القرب الإلهي.. وهذه المرتبة من مراتب النّفس هي التي أشار إليها سبحانه في قوله: ﴿ ... لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ﴾ 5.
3- النفس الأمارة
وهي التي أشارت إليها الآية الكريمة: ﴿ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ 6.
ومن كانت نفسه في هذه المرتبة، فإنّه يكون منهمكاً في الذنوب، متّبعاً للشهوات، مستجيباً لها استجابة تامّة، غافلاً عن الله سبحانه وتعالى وعن الآخرة، وهي التي أشار إليها الإمام زين العابدين «عليه السلام» في مناجاته المعروفة بمناجاة الشاكين بقوله: «إلهي إليك أشكو نفساً بالسوء أمارة، وإلى الخطيئة مبادرة، وبمعاصيك مولعة، ولسخطك متعرضة، تسلك بي مسالك المهالك، وتجعلني عندك أهون هالك، كثيرة العلل، طويلة الأمل، إن مسها الشر تجزع، وإن مسها الخير تمنع، ميالة إلى اللعب واللهو، مملوءة بالغفلة والسهو، تسرع بي إلى الحوبة، وتسوفني بالتوبة»7.
ولما لهذه الحالة التي تكون عليها نفس الإنسان من الخطورة، فقد حذّرت روايات أهل بيت العصمة «عليهم السلام» منها، فعن الإمام أمير المؤمنين «عليه السلام» قال: «إنّ النفس لأمارة بالسوء والفحشاء فمن ائتمنها خانته، ومن استنام إليها أهلكته، ومن رضي عنها أوردته شر الموارد»8.
وعنه «عليه السلام» أيضاً: «إنّ هذه النفس لأمارة بالسوء فمن أهملها جمحت به إلى المآثم»9.
ولهذا يجب على العبد أن يسعى إلى تطهير نفسه، وتصفيتها من دنس الآثام وآثار الذنوب، والرّقي بها أوّلاً إلى مرتبة النّفس اللوامة، ثم إلى مرتبة النّفس المطمئنة، لأنّ النّفس الأمارة هي أول المراتب والحالات التي تكون عليها النّفس، فإذا دخل العبد في تيار الحركة التكامليّة ارتقى بها إلى مرتبة النّفس اللوامة، فإذا استمرّ في حركة التكامل وصل بها إلى مرتبة النّفس المطمئنة، وهي آخر مراتب النّفس التكامليّة.. نعم هذه المرتبة أيضاً لها مراتب كما يذكر علماء الأخلاق والعرفان، فقد تكون نفس شخصين في مرتبة النّفس المطمئنة ولكن أحدهما في مرتبة أعلى من الآخر.
والارتقاء بالنفس من مرتبة النفس الأمارة إلى اللوامة ومن ثم إلى المطمئنة يحتاج من العبد إلى مجاهدة نفسه، ولقد أكّدت الروايات الشريفة على مجاهدة النفس، فعن الإمام الكاظم «عليه السلام» أنّه قال: «وجاهد نفسك لتردها عن هواها، فإنّه واجب عليك كجهاد عدوك»10.
وعن أمير المؤمنين «عليه السلام» قال: «أفضل الجهاد جهاد النّفس عن الهوى، وفطامها عن لذّات الدّنيا»11.
وعنه «عليه السلام»: «جاهد نفسك على طاعة الله مجاهدة العدو عدوه، وغالبها مغالبة الضد ضده، فإنّ أقوى الناس من قوي على نفسه»12.
وقال الإمام الباقر «عليه السلام»: «ولا فضيلة كالجهاد، ولا جهاد كمجاهدة الهوى»13.
ففي مجاهدة النفس صلاحها، حيث يسيطر العبد على أهوائها وشهواتها فيقهرها ويملك زمامها، فلا تكون حينئذ سبيلاً لإيقاعه في المعصية والمخالفة الشرعية، فعن النبي الأكرم «صلى الله عليه وآله» أنّه قال: «جاهدوا أهواءكم تملكوا أنفسكم»14.
وعن أمير المؤمنين «عليه السلام» قال: «ثمرة المجاهدة قهر النّفس»15.
وعنه «عليه السلام» قال: «إنّ مجاهدة النّفس لتزمّها عن المعاصي وتعصمها عن الرّدى»16.
وعنه «عليه السلام» أيضاً: «بالمجاهدة صلاح النّفس»17.
ومجاهدة النّفس أمر في غاية الصعوبة والشدّة، وقد وصفه النبي «صلى الله عليه وآله» بالجهاد الأكبر، فعن الإمام أمير المؤمنين «عليه السلام» قال: «إنّ رسول الله «صلى الله عليه وآله» بعث سرية، فلما رجعوا قال: مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر، قيل: يا رسول الله، وما الجهاد الأكبر؟ قال: جهاد النفس»
ثم قال «صلى الله عليه وآله»: «أفضل الجهاد من جاهد نفسه التي بين جنبيه»18.
وعن أمير المؤمنين «عليه السلام» قال: «اعلموا أنّ الجهاد الأكبر جهاد النّفس، فاشتغلوا بجهاد أنفسكم تسعدوا»19.
فيحتاج من ينشغل بمجاهدة نفسه إلى صبر قوي وشديد جدّاً، لكي يتمكن من التغلّب عليها وكبح جماح الشهوات فيها.
ومجاهدة النّفس تتم من خلال ثلاثة طرق
الأول: المشارطة
ومعنى المشارطة هو: الاشتراط على النّفس بأن تقوم بممارسة عمل ما أو بتركه، فمثلاً إذا كان ما يرتكبه من ذنب هو التهاون في أداء الصلاة، كمن يصلّي صلاة الصبح قضاء، فلا ينهض من نومه في وقت الصلاة لأدائها ويفضّل النوم والرّاحة، فيشارط نفسه على أن يأتي بصلاة الفجر في وقتها، أو إذا كان ذنبه الكذب، فيشارط نفسه على الامتناع عن الكذب، وكذلك من يفعل أكثر من مخالفة شرعية، فيشارط نفسه ولو يوماً بيوم على أن لا يرتكب اليوم أيّ عمل يخالف فيه الله سبحانه وتعالى، فيتخذ قراراً بذلك ويعزم عليه، ويعتبر نفسه ملزماً بالعمل وفق ما اشترط، فهو من الأمور الضروريّة في تزكية النّفس وتهذيبها.
الثاني: المراقبة
والمراد بها مراقبة النفس ومتابعتها في مدة المشارطة بأن لا تتخلّف عن ما اشترط عليها، وإذا حصل أن حدّثته نفسه بأن ترتكب عملاً مخالفاً لأمر الله، فليعلم أنّ ذلك من عمل الشيطان وجنده، فهم يريدونه أن يتراجع عمّا اشترطته على نفسه، فعليه أن يلعنهم ويستعيذ بالله من شرّهم، وأن يخرج تلك الوساوس الباطلة من قلبه، ويخاطب الشيطان بالقول: «إنّني اشترطت على نفسي أن لا أقوم في هذا اليوم - وهو يوم واحد - بأيّ عمل يُخالف أمر الله تعالى، وهو وليّ نعمتي طول عمري، فقد أنعم وتلطّف عليّ بالصحّة والسلامة والأمن وألطاف أخرى، ولو أنّي بقيت في خدمته إلى الأبد لما أدّيت حقّ واحدة منها، وعليه فليس من اللائق أن لا أفي بشرط بسيط كهذا»20، فهذه المراقبة مما تجدي نفعاً في التزام العبد إلى حد كبير بما ألزم به نفسه.
الثالث: المحاسبة
فتعدّ محاسبة النّفس من أهم طرق مجاهدة النفس لإلزامها بالسير في خط الطاعة والاستقامة، والنأي بها عن طريق الضلالة والغواية وعبادة الأهواء والشهوات، والانصياع لوساوس الشيطان، وللرّقي بها نحو التكامل والسير في درجات القرب الإلهي، ولذلك ورد الحثّ الأكيد على محاسبة النفس، ففي الرّواية عن النبي الأكرم «صلى الله عليه وآله» أنّه قال: «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا، وتجهزوا للعرض الأكبر»21.
وعنه «صلى الله عليه وآله» أنّه قال لأبي ذر الغفاري «رضي الله عنه»: «يا أبا ذر، حاسب نفسك قبل أن تحاسب، فإنه أهون لحسابك غداً، وزن نفسك قبل أن توزن، وتجهز للعرض الأكبر يوم تعرض لا يخفى على الله خافية»22.
وعن الإمام الصادق «عليه السلام» قال: «حقٌّ على كل مسلم يعرفنا أن يعرض عمله في كل يوم وليلة على نفسه فيكون محاسب نفسه، فان رأى حسنة استزاد منها، وإن رأى سيئة استغفر منها لئلا يخزي يوم القيامة»23.
بل ورد التشديد على لزوم محاسبة العبد لنفسه، وأنّ ذلك من علامات المؤمنين المتقين، فعن النبي الأعظم «صلى الله عليه وآله» قال: «لا يكون العبد مؤمناً حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبة الشريك شريكه، والسيد عبده»24.
وعنه «صلى الله عليه وآله»: «لا يكون الرجل من المتقين حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبة الشريك شريكه، فيعلم من أين مطعمه، ومن أين مشربه، ومن أين ملبسه، أمن حل ذلك أم من حرام»25.
فعلى العبد أن ينظر في أعماله يوماً بيوم، فإن كانت كلّها خيراً حمد الله سبحانه وتعالى وأثنى عليه وشكره أن وفقه لصالح الأعمال، وإن كانت فيها معصية استغفر الله منها، وعزم على ترك العود إليها، وعاتب نفسه عتاباً شديداً ولامها على فعلها للمعصية، وتجرّئها على خالقها، وذكرّها بالموت والقبر وعرصات القيامة وما فيهما من المنازل المهولة والعقبات الصعبة الشديدة، وبالعقاب والعذاب الإلهي في نار جهنم، فإنّ ثمرة كل ذلك هو صلاح النّفس، ومن صلحت نفسه ربح وسعد، فعن الإمام أمير المؤمنين «عليه السلام» قال: «من حاسب نفسه وقف على عيوبه، وأحاط بذنوبه، واستقال من الذنوب، وأصلح العيوب»26 27.
_____________
1. ميزان الحكمة 9/101، برقم: 20543.
2. القران الكريم: سورة الأعراف (7)، الآية: 201، الصفحة: 176.
3. القران الكريم: سورة الفجر (89)، الآيات: 27 - 30، الصفحة: 594.
4. مستدرك الوسائل 11/259، برقم: 12931.
5. القران الكريم: سورة القيامة (75)، من بداية السورة إلى الآية 2، الصفحة: 577.
6. القران الكريم: سورة يوسف (12)، الآية: 53، الصفحة: 242.
7. الصحيفة السّجاديّة، صفحة 403.
8. مستدرك الوسائل 11/140.
9. عيون الحكم والمواعظ، صفحة 141.
10. تحف العقول، صفحة 399.
11. ميزان الحكمة 2/137، برقم: 2908.
12. عيون الحكم والمواعظ، صفحة 222.
13. تحف العقول، صفحة 286.
14. ميزان الحكمة 2/138، برقم: 2921.
15. ميزان الحكمة 2/138، برقم: 2923.
16. ميزان الحكمة 2/138، برقم: 2926.
17. ميزان الحكمة 2/138، برقم: 2927.
18. الأمالي للصدوق، صفحة 553.
19. ميزان الحكمة 2/137، برقم: 2910.
20. الأربعون حديثاً للإمام الخميني، صفحة 36.
21. بحار الأنوار 67/73.
22. ميزان الحكمة 2/362، برقم: 399٨.
23. بحار الأنوار 75/279.
24. بحار الأنوار 67/72.
25. ميزان الحكمة 2/363، برقم: 4005.
26. عيون الحكم والمواعظ، صفحة 435.
27. المصدر كتاب "دروس من وحي الإسلام" للشيخ حسن عبد الله العجمي حفظه الله.