بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد وآله الطيبين الطاهرين.
قال تعالى ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ (البقرة:۱۸۵)
في هذه الآية الشريفة تعريف للشهر الفضيل بنزول القرآن فيه كما يعرف شهر محرم بأنه الذي قتل فيه الحسين وشهر ذو الحجة بأنه الذي يحج الناس فيه إلى بيته الحرام وهكذا بقية الأشهر وبه يكتسب كل شهر بل كل يوم قدسيته وعظمته بعظم وقدسية الحدث الواقع فيه، وإلا فإن الشهر بما هو شهر تخلله الأيام والآنات المتصرمة لا فرق بين هذا الشهر وذاك.
من هذه الجهة يتبين لنا فضل هذا الشهر وسر عظمته وهو نزول القرآن فيه، وهذا النزول للقرآن هو نزول الهداية للبشرية، والربط والتزامن بين القرآن وشهر رمضان المبارك استحق أن يكون منطلقا للإنسان وأن يستمد من أجواء شهر رمضان المبارك الهداية الإلهية بواسطة القرآن الكريم.
نعم ربما يطرح إشكال حول هذه الآية الكريمة ألا وهو إذا كان القرآن الكريم قد نزل في هذا الشهر من أجل الهداية للبشرية وهو هذا القرآن الموجود بين الدفتين فلم يتوغل غالبية البشر في الضلال.
وبصياغة أخرى، إذا كان القرآن هو هداية للبشر فكيف يمكن التوفيق بين التفسيرات المختلفة للقرآن الكريم بين المسلمين والتي يستحيل في بعضها جمعها على معنى واحد جامع، مما يعني أن القرآن هداية لبعض البشر دون البعض الآخر.
الجواب على هذا الإشكال يكمن في معرفة الفرق بين القرآن المنزل على قلب النبي (ص) جملة واحدة في هذا الشهر وبين القرآن المتنزل تدريجا الموجود بين الدفتين.
القرآن الموجود بين الدفتين وهو القرآن الذي نزل تدريجيا حسب اقتضاء الزمان والمكان والمصلحة في الهداية كما في قوله تعالى ﴿وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً﴾(الإسراء: ۱۰۶) وقوله تعالى ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً﴾(الفرقان:۳۲)
هذا القرآن العظيم المكتوب لا تكون هدايته هداية على نحو الفعلية للبشر، أي ليس كل من يقرأ القرآن المكتوب فإنه يكون هاديه إلى الصراط المستقيم وإلا لزم أن يكون جميع المسلمين على مذهب واحد وهو معلوم البطلان، ولكن باعتبار أن هذا القرآن المكتوب فيه المحكم والمتشابه وفيه الناسخ والمنسوخ والظاهر والباطن والمجمل والمفصل والمطلق والمقيد والعام والخاص وما إلى ذلك، فلا يمكن أن يكون هاديا إلى قارئه إلا إذا كان يعرف شرائط فهم القرآن الحقيقية. وبهذا يكون القرآن المكتوب له شأنية الهداية إلى الصراط المستقيم وهذه الشأنية لا تتحول إلى فعلية الهداية على قلب المسلم إلا أن يحقق شروط فهم القرآن الصحيحة ولذا فإن عبارة يكفينا كتاب الله يكذبها السيرة التاريخية للمسلمين من بعد وفاة النبي الأكرم إلى يومنا هذا والتشتت والتمذهب والتفرق ليس إلا نتاج هذه المقولة.
إذا عرفنا ذلك فما هو القرآن النازل على قلب النبي في شهر رمضان المبارك والذي سيتضح أن المطلع عليه تكون الهداية له على نحو الفعلية لا الشأنية فقط.
إذا قرئنا هذه الآيات الكريمات ﴿حم (۱) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (۲) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (۳) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (۴) ﴾ (الزخرف)
فهذه الآيات تبين أن للقرآن مرتبتين الأولى هو الذي في أم الكتاب والمرتبة الثانية هو القرآن العربي، وأن المرتبة الأولى مرتبة عالية جدا بحيث أنه يكون محكما دائما لا مشابه فيه ولا ناسخا ومنسوخا أو عام يحتاج فيه إلى مخصص أو مطلق يحتاج فيه إلى تقييد.
وهذه المرتبة العالية صار لها أن تتقولب بقوالب الألفاظ وتتأطر بإطار الزمان والمكان وبه تفقد المرتبة العالية أهم أركانها وهي كونه كله محكم دائما.
وما نزل على قلب النبي الأكرم (ص) في الشهر المبارك هو ذلك القرآن الذي هو في أم الكتاب، ويمكن فهم ذلك من قوله تعالى ﴿وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ﴾ (طـه: من الآية۱۱۴) فالنبي (ص) عالم بالقرآن وما فيه ولكنه مأمور بأن لا يخبر بما يعلمه منه قبل أن يأتيه الوحي.
هذا القرآن بهده المرتبة المطلع عليه يستحيل أن يصيبه الضلال فتكون الهداية على هذا النحو بالنسبة إليه هداية فعلية لا ضلال فيها وهي مرتبة لا يصلها إلا المعصوم كما تشير إليه الآية الكريمة ﴿لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾ (الواقعة:۷۹) أي أنه لا يمكن إدراكه إدراكا حقيقيا كما هو في أم الكتاب إلا المطهرون، والمطهرون هم أهل البيت بدلالة قوله تعالى ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾ (الأحزاب: من الآية۳۳)
وبهذا يتضح أن من يريد أن يصل إلى الهداية القرآنية الفعلية فعليه التعلق بأهل البيت عليهم لأنهم هم القرآن الناطق العالمون بمكنونات وجواهره المكنونة ومن دونهم لو ختم الإنسان القرآن كل يوم حتى ينقضي عمره ما اهتدى.
نسأل الله أن يهدينا بالقرآن ويثبتنا على ولاية أهل البيت عليهم السلام
والحمد لله رب العالمين