للإمام الصادق (عليه السلام) في القرآن بحوث وافرة، بل مدارس متعددة، لأنه كآبائه (عليهم السلام) يستمد تعاليمه من القرآن والسنّة النبوية، فلا يعرض بضاعة إنسانية إلاّ من هذين المخزنين . اللذين لا تنبو عنهما حاجة إنسانية كل جيل وعصر. وكان اهتمام أئمة الهدى (سلام الله عليهم) بالقرآن واستنادهم في تعاليمهم على القرآن من المواضيع الواضحة عند أصحابهم ورواة أحاديثهم، فقد علموهم أن القرآن هو المرجع عند تعارض الأحاديث وهو الحق عند معارضة الحديث لمفهومه :(( فكلما وافق الكتاب خذوه وما خالفه فدعوه )) فالقرآن هو المرجع الحق لأحكام الإسلام ومفاهيمه المقدسة.
أما الإمام الصادق (عليه السلام) فقد كان يستشهد على الاحكام بالقرآن كما يستند في عرض الحقائق على القرآن وكان يجعل من كل آية في القرآن موضوعاً إنسانياً يتحدث عنه إلى أصحابه ، ومن راجع تفاسير الشيعة واطلع على الأحاديث الواردة عنه (سلام الله عليه) لمس اهتمامه الملح بالقرآن ومفاهيمه.
حديث شريف يرويه الشيخ الكليني (قدّس سرّه) في كتابه الخالد الكافي، عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن النوفلي عن السكوني، عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : (( أيها الناس إنكم في دار هدنة ، وأنتم على ظهر سفر والسير بكم سريع وقد رأيتم الليل والنهار , والشمس والقمر يبليان كل جديد، ويقرّبان كل بعيد، ويأتيان بكل موعود ، فأعدّوا الجهاز لبعد المجاز )) , قال (عليه السلام): (( فقام المقداد بن الأسود (رحمه الله) فقال: يا رسول الله ، وما دار الهدنة ؟ فقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): دار بلاغ وانقطاع . . . ، فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم , فعليكم بالقرآن ، فانه شافع مشفّع ، وماحل مصدق ، فمن جعله أمامه قاده إلى الجنة ومن جعله خلفه ساقه إلى النار وهو الدليل يدلّ على خير سبيل ، وهو كتاب فيه تفصيل وبيان وتحصيل ، وهو الفصل ليس بالهزل ، وله ظهر وبطن ، فظاهره حكم ، وباطنه علم ، ظاهره أنيق ، وباطنه عميق له نجوم ، وعلى نجومه نجوم ، لا تحصى عجائبه ولا تبلى غرائبه ، فيه مصابيح الهدى ، ومنار الحكمة ، ودليل على المعرفة لمن عرف الصفة ، فليجل جال بصره ، وليبلغ الصفة نظره ينج من عطب ، ويتخلص من نشب ، فإن التفكر حياة قلب البصير كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور ، فعليكم بحسن التخلص وقلة التربص )).
استعرضت هذا الحديث المطول نظراً لما يتضمنه من الأهداف الإنسانية التي يرمي إليها الإسلام في تشريعاته الخالدة، وانتخبته دون غيره لأنه يعطينا نموذجاً عن الأحاديث التي يلقيها أئمتنا (سلام الله عليهم) على أصحابهم والتي يتصل سندها بالنبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) بطرق لا يشوبها ريب ولا رين ، فهو دستور الإسلام يلقيه الإمام (عليه السلام).
وخلاصة ما يقرره هذا الحديث المبارك ان الحياة دار هدنة وفي منطقة الهدنة تتقرر النتائج الحتمية، وتكون العاقبة أما الحرب أو السلم ولا شك بأن منطقة الهدنة لا تصلح للسكنى ، لأنها منطقة الاستراحة التي تتعقبها الغايات، وإلى هذه الحقيقة يشير الإمام (عليه السلام) بقوله: ((وأنتم على ظهر سفر)). والمسافر لا يستقر في موطن إلاّ في فترة قصيرة وهكذا الإنسان لا يعيش في هذه الحياة إلاّ في أجل جداً قصير لو قسناه إلى حياته الأخرى التي لا نهاية لها ، وإن السير في هذا السفر سريع جداً فإن الأدوار التي يمرّ عليها الإنسان في عمره تمر على الإنسان كما تمر الصور المعروضة في معرض التصوير ، فالطفولة والشباب والكهولة والشيخوخة ليست إلاّ أدواراً يمرّ بها أو تمر على الإنسان وكأنها الأحلام يراها الإنسان في منامه فإذا استيقظ لا يجد لها أثراً في دنياه وهكذا الإنسان إذا انتقل من هذه الحياة الفانية إلى الحياة الثانية الباقية فانه لا يرى للأدوار التي مرّ عليها في حياته الأولى أثراً في حياته الجديدة أبداً . ويلمسنا الحديث الشريف هذا الفناء في الدنيا فيقول: (( إن الشمس والقمر والليل والنهار يبليان كل جديد )) .
أن الطفولة قد بليت وتلاشت عند الشباب، كما أنهما يقربان كل بعيد . ونرى ذلك في سير الإنسان نفسه فإن الطفل كان يرى الشيخوخة بعيدة عن جسمه جداً فإذا به بمرور الأيام والليالي يصبح شيخاً هرماً ويمسي هذا البعيد جداً منه قريباً جداً إليه، إنهما يأتيان بكل موعود وينجزان كل وعد ان الشباب عهد وعد به ، الطفل والكهولة عهد وعد به الشباب والشيخوخة عهد وعد به الكهول فإذا بهذه العهود الموعودة تتحقق للإنسان الطفل فيصبح شاباً فكهلاً فشيخاً وسوف يتحقق الوعد الأخير وينتقل من هذه الحياة إلى الأخرى ، فالإنسان بهذه الحياة في سفر طويل ولابدّ للمسافر من زاد يأخذه معه ومن مركب يتحمل أثقاله فالإنسان يحتاج إلى جهاز السير في هذه المسافة البعيدة.
وهنا يقوم المقداد ليسأل النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) عن موضوع دار الهدنة وكأن الحقائق المعروضة في هذه الجملة تلتبس على هذا الصحابي النابه، فيتساءل عن المقصد المنشود في هذه الكلمة المسحورة ويشرح النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) له المعنى الموجز بقوله: (( دار بلاغ وانقطاع )) إن الدنيا دار بلاغ ينذر ويبشر فيها الإنسان، فليس بها إلاّ البلاغات التي تصل إلى الإنسان من حياته التي هو فيها. تنذره أو تبشره بمستقبله الذي سيوافيه . . . إن الحياة الإنسانية دار بلاغ والبلاغات الرسمية موجبة لتشويش الفكر واضطراب الخاطر إن كل ناحية من هذه الحياة صفحة من صفحات هذا البلاغ المزعج فالحياة مبعث الانزعاج والبلبلة ، وكما أن الإنسان كلما تقدم به العمر ازدادت آلامه ومزعجاته كذلك هذا الإنسان كلما تقدمت مواكبه الكشفية إلى أعماق الحياة وأغوارها ورفع الستار عن مجاهيلها وغوامضها واكتشف جهة جديدة منها ازدادت تعاسته وشقاؤه وكثر التباسه بها واضطرابه فيها إن مثل الإنسان في هذه الحياة مثل الصيد الذي وقع في الشبك فكما أن الصيد كلما كثر سعيه للتخلص من الشرك يزداد انطباقاً عليه فتزداد آلامه منه فكذلك الإنسان كلما سعى إلى تهيئة لوازم الحياة وتغلغل في أعماقها المادية ازدادت تبعاته وأتعابه فكأن الحياة مسرح الشقاء ومستوطن البلاء.
وهنا يتولى الإسلام تخليص الإنسان من هذه الأشراك الخانقة فنسمع صاحب رسالته الخالدة يشير إلى هذه الخاصة الملازمة للحياة الدنيا، والتي ستزداد كلما تقدم تاريخ الإنسان وازدادت فتوحاته المادية ، لأن الفتن تنبثق من هذه الفتوحات والكشوف المزعجة فتتلبد في طريقه كالليل المظلم ، وهناك يزداد شقاء الإنسان وبلاؤه كما تزداد حيرته في الوسائل التي تخلصه من هذه الكماشة القاتلة ، إننا نرى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) يأخذ بيد الإنسان ليضعه في يد مرشد تقنعك مناظراته ، وتنقذك إرشاداته أنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يدلك إلى القرآن، ويصفه بأنه شافع لا ترد شفاعته ، شافع للإنسان الذي خان أمانته الإلهية، فصرف الطاقات المستودعة عنده في شؤون لا تمت إلى وظيفته الإنسانية بصلة ، أنه يصرفها في جانبه البهيمي فقط فهو يحقد ويحسد ويظلم ويكذب ويخون وو إلى آخر هذه الغرائز البهيمية التي تلازم جانبه الحيواني ، يصرفها فيه ويترك الجانب الذي خلق الله هذه الطاقات لأجلها فقط أنه يترك الجانب الإنساني وكأنه أجنبي عنها أو كأن وظيفته تركها فلذلك تركها وراح يستجيب لغرائزه البهيمية فقط ، إن هذا الإنسان لص خائن صرف الأمانة أمانة الغير في غير وجهها أنه مجرم يستحق أن يوقف في قفص الاتهام أمام المحكمة الإلهية ليعاقب حسب النظام الإلهي العادل ويكون عقابه في الدنيا مسخه إلى حيوان أعجم لا يأخذ من الحياة إلاّ ما تأخذه البهيمة منها ، ويكون عقابه في الآخرة بما أوعد الله المخالفين في ذلك العالم ولكن نبي هذه الأمة ورسول الإنسانية والرحمة يأبى لامته هذا المصير السيئ ولذلك يدلهم إلى القرآن ليكون لهم شافعاً عند الله ولا شك بأن الله سيشفعه وسيتحررون من هذه التبعات بشفاعة القرآن ، فيعودون بشراً في الدنيا وذلك بتطبيقهم أنظمته الإنسانية ويعودون بشراً في الآخرة باستحقاقهم دخول الجنة جزاء لأعمالهم الحسنة ، انه مرشد صحيح من استدل به وجعله أمامه قاده إلى الجنة ومن تركه وجعله خلف ظهره ساقته مخالفته إلى النار، إن القرآن دليل الإنسانية إلى سبل الخير، انه كتاب الله الذي فيه بيان لكل شيء أن فيه تفصيلاً لكل قاعدة كونية ، وفيه تحصيلاً لكل حقيقة شاردة، إن كتاب الله لا يدع شيئاً يحتاجه الإنسان إلاّ ويذكره، ولا يترك خفية من خفايا التكوين إلاّ ويكشفها إن القرآن هو القول الفصل لكل قضية مشكلة والقول الفصل لا تكون فيه زيادة ولا نقيصة لأنه يريد أن يفصل بين الحق والباطل، فإن زاد أو نقص في المقال التبس الأمر وضاع الحق انه في مقام الجد فلا يهزل فيما يقول وأنه في مقام الحق فلا يتلابس في تعابيره وأساليبه.
وأراد النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) أن يلقى على الإنسانية الواعية درساً في القرآن ليكون برنامجاً عاماً لكل من أراد أن يتفهم القرآن، فقال (صلّى الله عليه وآله وسلم): (( إن له ظهراً وبطناً )) فلا يكتفي الباحث في القرآن بدراسة ظاهره المكشوف: لأن ذلك جانب واحد من جوانبه الكثيرة، أنه يستمع إلى القرآن وهو يلقى عليه أقصوصة فنية رائعة ، فيهزه عرضها وأسلوبها ، ويكتفي بما اكتسبه من هذه الأقصوصة وبما استنتج منها من النتائج الرائعة ، بينما هناك مفاهيم أخرى ومقاصد أخرى هي أسمى عند الإنسان الواعي من ذلك العرض الأدبي الذي استفاده من القصة القرآنية إن تلك المفاهيم والغايات تريد أن توجه تاريخ الإنسانية في كل جيل وعصر توجهه إلى حقائق مجهولة لا يتعرف إليها الإنسان إلاّ بدليل خبير بصير ، إن هذه الأقصوصة تأخذ بيده وتسير به في طريق الحقيقة خطوة خطوة ، وهناك يلمس السالك العثرات والموانع التي حالت بين أبطال القصة وبين الوصول إلى المقصد ، كما إن هناك في آفاق باطن القرآن حقايق علمية خافية تعرضت إليها القصة وهي تعرض فصولها على مسرحها الإنشائي ، وكما إن هناك دروساً في الاجتماع وبحوثاً في القانون ، ومفاهيم في الحياة وو . إلى غير ذلك من المواضيع الإنسانية يتوخاها الوعي الإنساني في سيره العقلائي ، أن هذه الغايات وهذه الوسائل كلها مخزونة في القرآن في باطنه المستور ، فللقرآن ظاهر مفهوم وباطن مجهول إن باطنه يراه السالك الواعي من ظاهره، إن ظاهره حكم وباطنه علم إن القانون العام يحوم حول ظاهره ، أما باطنه فلا يمكن الوصول إليه إلاّ بدليل إلهي ، أن ظاهر القرآن أنيق جاذب يصل إليه الإنسان بدون إجهاد وتفكير أما باطنه فعميق يحتاج الوصول إليه إلى وسائل وأسباب دقيقة ، إن لذلك الباطن نجوماً وعلامات يهتدي إليها الفكر البصير ، فإذا وصل إليها رأى هنالك نجوماً أخرى تدلّه إلى حقايق جديدة ، فأغوار القرآن ثرية بالكنوز الإنسانية بعضها يدل على بعض ، إن عجائب القرآن لا تحصى وإن استعمل فيها آلات الإحصاء كلها وأن غرائبه الساحرة لا تبلى جدتها وإن تعاقبت عليه القرون والأجيال ، إنها تعرض جمال الحقيقة وسحر الواقع وهما لا يزولان أبداً إنهما من الحق وإلى الحق ، إنها أسرار الله المخزونة في هذه الطبيعة الساحرة إنها مفاتيح الحقائق في هذه الأكوان المستغربة إن القرآن كتاب الله وكتاب الله يضم علم الله وعلم الله لا تحصى معارفه ولا تستوعب أسراره ، فالقرآن لا تنفذ علومه ولا تنضب حقايقه، إن الحقائق العلمية تنبثق من القرآن وإن واقع المعرفة يشرق من كتاب الله إن في القرآن مصابيح الهدى التي ترشد الإنسان إلى الحق وأن فيه منار الحكمة التي يتطلبها الإنسان الواعي إن القرآن دليل المعرفة فمن تفهمه كان عارفاً حقاً فالعرفان دروس من القرآن وبالطبع لا يتفهم هذه المعارف إلاّ من غمرته لوامع الأسماء وبوارق الصفات فسار في هالة من النور إلى التوحيد الخالص إن المعرفة الصحيحة هي تفهم التوحيد من وسائله ووسائله السير في شواهد الأسماء ومشاهد الصفات ، إن الأنس بهذه الشواهد الربوبية لا يتحقق إلاّ بالإنس بالقرآن ومفاهيمه الإلهية إن طريق الحق مسدود على النفس وأهوائها ولا يفتح إلاّ بغلق منافذ الأهواء في النفس ولا يتحقق هذا الغلق إلاّ بالاستيناس بالقرآن ومعارفه الحقة إن السالك إلى الحق إذا أراد النجاة من العطب والأمان من الضلال فعليه أن يجيل نظره في القرآن وفي القرآن فقط أنه مفتاح الجنة وطريق الحياة الخالدة وأن تفهم القرآن لا يتحصل إلاّ بالتأمل في آياته والتفكر في مفاهيمه لأن التفكر روح الحياة حياة القلب لأن حياته بالوعي . والوعي منتوج التفكر فما لم يفكر في مآرب الآيات لا يصل إلى مقاصدها وما لم يصل إليها لا يتحقق له الوعي المنشود ومن الوعي يدب الحياة إلى القلب فيغذي الإنسان بالحياة الحقة إن الإنسان الواعي هو الإنسان الحي فالحياة تنبثق من الوعي أما الغافل أو الجاهل فانه ميت الأحياء يعيش في الناس وكأنه ليس في الناس إن الفكر للقلب كالنور الذي يسري في الظلام ، فكما إن الساري في الظلام لا يبصر طريقه إلاّ بالنور كذلك قلب الإنسان لا يبصر رشده إلاّ بالفكر إن الدعوة إلى التفكر من خصائص الدين الإسلامي ولذا نص به هذا الحديث الشريف تابعاً في ذلك القرآن الذي دعا الإنسان في أغلب آياته إلى التدبر والتفكر ولذلك يمكننا أن نقول: إن القرآن هو الداعي الأول في الكتب السماوية الدارجة إلى التفكر.
ويختم الحديث الشريف محاضرته القيمة بتوجيه المسلمين إلى القرآن بقوله: فعليكم أيها المسلمون بحسن التخلص من عثرات الطريق وقلة التربّص والتردّد في التخلص وذلك بالرجوع إلى القرآن .
إن القرآن دليل إنسانية المسلم إلى المقاصد العليا التي خلق لها الإنسان فكل مؤمن بالإسلام إذا أراد أن يكمل إنسانيته فعليه أن يدرس القرآن ويطبق تعاليمه بعد تفهّم مفاهيمه.
وهكذا نرى الإمام الصادق (عليه السلام) يجعل القرآن مصدر إنسانية المسلم ويحض شيعته بالرجوع إليه في كل مشكلة بل في كل مسألة.