قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (تعلّموا القرآن فإنّه شافع لأصحابه يوم القيامة).
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) أيضاً: (الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي ربّي منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعّني فيه. ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعّني فيه، قال فيشفعان).
عن أبي هريرة قال: قال النبيّ (صلى الله عليه وآله): (الشفعاء خمسة: القرآن، والرحم، والأمانة، ونبيّكم، وأهل بيت نبيّكم).
وعن علي أمير المؤمنين (عليه السّلام) في كلام يصف فيه القرآن: (واعلموا أنّ هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغشّ، والهادي الذي لا يُضلّ، والمحدِّث الذي لا يكذّب، وما جالس هذا القرآن أحدٌ إلاّ قام عنه بزيادة أو نقصان: زيادة في هدى أو نقصان من عمى.
واعلموا أنّه ليس على أحد بعد القرآن من فاقة، ولا لأحد قبل القرآن من غنى، فاستشفوه من أدوائكم واستعينوا به على لأوائِكم، فإنّ فيه شفاء من أكبر الداء وهو الكفر والنفاق والغيّ والضلال. فاسألوا الله به وتوجّهوا إليه بحبّه، ولا تسألوا به خلْقه، أنّه ما توجّه العباد إلى الله بمثله. واعلموا أنّه شافع مشفّع وقائل مصدّق، و أنّه من شفع له القرآن يوم القيامة شُفّع فيه، ومن مَحَلَ به القرآن يوم القيامة صُدّق عليه، فإنّه ينادي منادٍ يوم القيامة: ألا إنّ كلّ حارث مبتلى في حرثه وعاقبة عمله غير حرثة القرآن. فكونوا من حرثته وأتباعه، واستدلّوه على ربكم، واستنصحوه على أنفسكم، واتّهموا عليه آرائكم، واستغشوا فيه أهواءكم).
محلّ الشاهد في هذا النص العلويّ قوله (عليه السّلام): (واعلموا أنّه شافع مشفّع وقائل مصدّق) أي يشفع لقرّائه والعاملين به الحاملين له يوم القيامة، فيقبل شفاعته في حقّهم، ويقول ويشهد في حقّ هؤلاء بخير، وفي حقّ التاركين له والنابذين به وراء ظهورهم بشرّ فيصدّق فيهما، كما أشار إليه: (و أنّه من شفع له القرآن يوم القيامة شفّع فيه) أي قبلت شفاعته: (ومن مَحَل به القرآن) أي سعى به إلى الله وقال في حقّه قولاً يضرّه ويوقعه في المكروه:(يوم القيامة صدّق عليه).
قال ابن ميثم البحراني: (استعار (عليه السّلام) لفظي الشافع والمشفّع، وجه الاستعارة كون تدبّره والعمل بما فيه ماحياً لما يعرض للنفس من الهيئات الرديّة من المعاصي، وذلك مستلزم لمحو غضب الله كما يمحو الشفيع المشفّع أثر الذنب عن قلب المشفوع إليه، وكذلك لفظ القائل المصدّق، ووجه الاستعارة كونه ذا ألفاظ إذا نطق بها لا يمكن تكذيبها كالقائل المصدّق، ثُمّ أعاد معنى كونه شافعاً مشفّعاً يوم القيامة، ثُمّ استعار لفظ المَحَل للقرآن، ووجه الاستعارة أن لسان حال القرآن شاهد في علم الله وحضرة ربوبيّته على من أعرض عنه بعدم اتباعه ومخالفته لما اشتمل عليه، وتلك شهادة لا يجوز عليها الكذب فبالواجب أن يصدّق، فأشبه الساعي إلى السلطان في حقّ غيره بما يضرّه).
(والإنصاف أنّ حمل الكلام على المجاز مع التمكّن من إرادة الحقيقة لا معنى له، والحمل على الحقيقة هنا ممكن بل متعيّن؛ لدلالة غير واحد من الروايات على أنّه (أي القرآن) يأتي يوم القيامة في أحسن صورة نظر إليها الخلق ويشفع في حقّ قرّائه العالمين ويسعى في حقّّ المعرضين عنه، وعلى هذا فلا وجه لحمل لفظ الشفاعة والقول والمحل على معناها المجازي). وقد أشارت جملة من الروايات إلى هذه الحقيقة:
عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السّلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (تعلّموا القرآن فإنّه يأتي يوم القيامة صاحبه في صورة شابّ جميل فيقول له: أنا الذي أسهرت ليلك وأظمأت هواجرك وأجففت ريتك وأسلت دمعتك، أؤول معك حيثما اُلت وكلّ تاجر من وراء تجارته وأنا اليوم لك من وراء تجارة كلّ تاجر وسيأتيك كرامة من الله عزّ وجلّ فأبشر، فيؤتى بتاج فيوضع على رأسه، ويعطى الأمان بيمينه، والخُلد في الجنان بيساره، ويكسى حلّتين، ثُمّ يقال له: اقرأ وارقه فكلّما قرأ آية صعد درجة، ويكسى أبواه حلَّتين إن كانا مؤمنين، ثُمّ يقال لهما: هذا لما علّمتماه القرآن).
عن سعد الخفّاف عن الإمام أبي جعفر الباقر (عليه السّلام) قال: (يا سعد تعلّموا القرآن، فإنّ القرآن يأتي يوم القيامة في أحسن صورة نظر إليها الخلق والناس صفوف... فيأتي على صفّ المسلمين في صورة رجل فيسلّم فينظرون إليه ثُمّ يقولون: لا إله إلا الله الحليم الكريم إنّ هذا الرجل من المسلمين، نعرفه بنعته وصفته غير أنّه كان أشدّ اجتهاداً منّا في القرآن فمن هناك أُعطي من البهاء والجمال والنور ما لم نعطه. ثُمّ يجاوز حتى يأتي على صفّ الشهداء فينظرون إليه ثُمّ يقولون: لا إله إلا الله الربّ الرحيم إنّ هذا الرجل من الشهداء نعرفه بسمته وصفته.
قال: ثُمّ يجاوز حتى يأتي صفّ النبيّين والمرسلين في صورة نبيّ مرسل، فينظر النبيّون والمرسلون إليه فيشتدّ لذلك تعجبّهم ويقولون: لا إله إلا الله الحليم الكريم إنّ هذا لنبي مرسل نعرفه بسمته وصفته غير أنّه أعطي فضلاً كثيراً، فيجتمعون فيأتون رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيسألونه ويقولون: يا محمد من هذا؟ فيقول لهم: أو ما تعرفونه؟ فيقولون: ما نعرفه، هذا ممن لم يغضب الله عليه، فيقول رسول الله (صلى الله عليه وآله): هذا حجّة الله على خلقه فيسلّم. ثُمّ يجاوز حتى يأتي على صفّ الملائكة في صورة ملك مقرّب، فتنظر إليه الملائكة فيشتدّ تعجبّهم ويكبر ذلك عليهم لما رأوا من فضله ويقولون: تعالى ربّنا وتقدّس إنّ هذا العبد من الملائكة نعرفه بسمته وصفته غير أنّه كان أقرب الملائكة إلى الله عزّ وجلّ مقاماً، فمن هناك اُلبس من النور والجمال ما لم نلبس. ثُمّ يجاوز حتى يأتي إلى ربّ العزّة تبارك وتعالى فيخرّ تحت العرش فيناديه تبارك وتعالى: يا حجّتي في الأرض وكلامي الصادق الناطق ارفع رأسك وسل تعط واشفع تشفّع، فيرفع رأسه فيقول الله تبارك وتعالى: كيف رأيت عبادي؟
فيقول: يا ربّ منهم من صانني وحافظ عليّ ولم يضيّع شيئاً، ومنهم من ضيّعني واستخفّ بحقي وكذّب بي وأنا حجّتك على جميع خلقك. فيقول الله تبارك وتعالى: وعزّتي وجلالي وارتفاع مكاني لأثيبنّ عليك اليوم أحسن الثواب ولأعاقبنّ عليك اليوم أليم العقاب. ثُمّ يأتي الرجل من شيعتنا الذي كان يعرفه ويجادل به أهل الخلاف فيقوم بين يديه فيقول: ما تعرفني؟ فينظر إليه الرجل فيقول: ما أعرفك يا عبد الله. قال: فيرجع في صورته التي كانت في الخلق الأول ويقول: ما تعرفني؟ فيقول: نعم. فيقول القرآن: أنا الذي أسهرتُ ليلك وانصبت عيشك، سمعت الأذى وزحمت بالقول فيّ، ألا وإن كلّ تاجر قد استوفى تجارته وأنا وراءك اليوم.
قال: فينطلق به إلى رب العزّة تبارك وتعالى فيقول: يا ربّ يا ربّ عبدك وأنت أعلم به قد كان نصباً بيّ مواظباً عليّ، يعادي بسببي ويحبّ فيّ ويبغض. فيقول الله عزّ وجلّ: ادخلوا عبدي جنّتي واكسوه حلّة من حلل الجنّة وتوّجوه بتاج، فإذا فعل به ذلك عرض على القرآن فيقال له: هل رضيت بما صُنع بوليك؟ فيقول: يا ربّ إني أستقلّ هذا له فزده مزيد الخير كلّه.
فيقول: وعزّتي وجلالي وعلّوي وارتفاع مكاني لأنحلنّ له اليوم خمسة أشياء مع المزيد له ولمن كان بمنزلته. ألا أنهم شباب لا يهرمون، وأصحّاء لا يسقمون، وأغنياء لا يفتقرون، وفرحون لا يحزنون، وأحياء لا يموتون، ثُمّ تلا هذه الآية: (لا يَذُوقُونَ فيهَا المَوْتَ إلاَّ المَوْتَةَ الأُولى) ، قال: قلت: جُعلت فداك يا أبا جعفر، وهل يتكلّم القرآن، فتبسّم ثُمّ قال: نعم يا سعد والصلاة تتكلّم). وهذا المعنى الذي ذكرته الرواية في القرآن و أنّه يتكلّم ينسجم مع نظرية تجسّم الأعمال.