ما هي مسؤولية الجار الأول إزاء الجار الثاني؟
(محمد حسين فضل الله)
قد كثرت الأحاديث التي تربط بين الإيمان وبين مساعدة الجار في معيشته، كما
تنزع الإيمان عمّن يكون جاره جائعاً وهو شبعان. حيث ورد في الحديث عن رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلّم)أنّه قال: ((ما
آمن بي من بات شبعاناً وجاره المسلم جائع)). فالنبيّ (صلى الله
عليه وآله وسلّم) بحسب هذا الحديث يربط بين الإيمان وبين إشباع الجار الذي
إذا لم يشبعه جاره بات جائعاً. وعنه (صلى الله عليه وآله وسلّم) أيضاً:
((من منع الماعون عن جاره منعه اللّه خيره يوم
القيامة)). فإذا كنّا محتاجين إلى الخير في الدنيا من اللّه
تعالى فما أحوجنا إلى الخير في الآخرة (يَوْمَ لا
تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ).
(الانفطار:19).
ويتابع(صلى الله عليه وآله وسلّم) في حق الرعاية بقوله:
((ووكله إلى نفسه ـ أي يتركه لنفسه فلا
يرعاه ولا يتعهده ـ ومن وكله إلى نفسه فما أسوأ
حاله))،لأننا جميعاً ننطلق في الحياة - في أمورنا كلّها - من
خلال رعاية اللّه سبحانه وتعالى، ومن خلال إيكال أمورنا وتفويضها إليه،
فإذا حجب عن أحد من عباده رعايته فمن ذا الذي يرعاه من دون اللّه؟ وفي حديث
آخر: ((ليس بالمؤمن الذي يبيت شبعاناً وجاره جائع
إلى جنبه)). وفي حديث غيره ((ما آمن
بي من بات شبعاناً وجاره طاو)) أي جائع، وفي حديث آخر:
((ما آمن بي من بات كاسياً وجاره عارٍ)).
وهنا تنتقل المسألة من الجوع والشبع إلى العري والاكساء، فإذا كان جار
الإنسان المسلم لا يجد ما يلبسه من ثياب تستره أو تجمّله، فلابد لجاره
المتمكّن من ذلك أن يغطّي حاجته من ذلك حسب استطاعته.
وقال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلّم) كما يروي الإمام الباقر(عليه
السلام): ((ما من أهل قرية يبيتون وفيهم جائع، لا
ينظر اللّه إليهم يوم القيامة)). فإذا عرفنا أنّ حدّ الجوار
أربعون داراً من كلّ جانب فإنّ الجوار يعني القرية.
وعن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه سمع النبي (صلى الله عليه
وآله وسلّم) يقول لأصحابه يوماً: ((ما آمن باللّه
واليوم والآخر من بات شبعاناً وجاره جائع، فقلنا: هلكنا يا رسول
اللّه؟! قال: من فضل طعامكم ومن فضل تمركم وورقكم
وخلقكم وخرقكم)). أي ليس معنى ذلك أنّ المطلوب منك أن تتولّى
جميع شؤون جارك بنحو تعوله كما تعول عيالك، بل بالأشياء الفاضلة عن حاجاتك
مما يمكن أن يسدّ حاجته ((تطفئون بها غضب الربّ)).
التكافل الاجتماعي:
إننا نفهم من ذلك كلّه أنّ الإسلام يؤكّد على التكافل الاجتماعي في المجتمعات الصغيرة كما في مجتمع الجوار، كعنوان من العناوين التي يرتبط بها معنى أن يكون الإنسان مؤمناً أو لا يكون، وهذا ما نستوحيه من الحديث: ((ما آمن بي مَن بات شبعاناً وجاره المسلم جائع)) ،معناه أنّ التكافل الاجتماعي، وبحسب القدرة والاستطاعة، يرتبط بالجانب الإيماني للإنسان ولا يتأكّد بالجانب الاستحبابي والأخلاقي فقط، فلابدّ لنا من أن ندرس المسألة دراسة دقيقة، وإذا كانت المسألة تركّز على المبدأ وهو أن لا يبقى بعض الجيران في حالة جوع أو في حالة عري، فمن الممكن أن تمتد هذه الحالة إلى الحاجات الحيوية الأخرى من غير الطعام واللباس.
وهناك طريقتان في التعامل مع هذه الحالة:
فإمّا أن تقدّم المعونة بشكل فردي لهذا الجار أو ذاك، ممّا يسدّ جوعه أو يكسو عريه، وهناك أسلوب آخر يعتمد قيام الجيران كجماعة مؤتلفة بالتعاون لسدّ هذه الحاجات، من خلال تشكيل صندوق ضمان، يشارك فيه كلّ الجيران، ليدرسوا الحالات الصعبة الموجودة لدى بعضهم، وليخصّصوا لهم راتباً أو مساعدة شهرية، أو أيّ شيء يرونه مناسباً لعلاج حالات العوز التي يعاني منها بعض جيرانهم، بحيث تسدّ حاجات هؤلاء من خلال التكافل الاجتماعي الذي يقوم به المجتمع.
إنّ الزمن يتطور - أيّها الأحبّة - ونحن حينما نقرأ الأحاديث التي تتحدث عن الصدقة، نرى أنّ الفهم الساذج لها هو أنّ الإنسان يقدّم شيئاً من المال إلى الفقير، في حين يمكن أن تتمثل الصدقة بإيجاد هيئات اجتماعية تتعاون في دفع مقدار من المال شهرياً أو أسبوعياً لمواجهة الحالات الصعبة التي يمرّ بها بعض من يجاورونه من الفقراء، ويقدمونها بشكل يحفظ كرامة هذا الجار الفقير حتى لا يضطروه إلى السؤال فيبذل ماء وجهه للناس.
حقّ الجار:
وفي إطار الحديث عن حق الجوار هناك حديثان أحدهما للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) والآخر للإمام علي بن الحسين (عليه السلام). ففي الحديث عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) ((إنْ استغاثك أغثته وإنْ استقرضك أقرضته، وإنْ افتقر عدت إليه ـ أي تساعده بكل ما تستطيع أن تقدمه له من أمور مادية وغيرها فلا تهمله لأنّه أصبح فقيراً، بل لابدّ أن تقتنع بأنّ الغنى والفقر لا يؤثران على طبيعة العلاقة الإنسانية بين الأفراد ـ وإنْ أصابه خير هنّأته ـ لتشاركه فرحته بهذا الخير ـ وإن مرض عدته، وإنْ أصابته مصيبة عزّيته، وإن مات تبعت جنازته، ولا تستطيل عليه بالبناء فتحجب عنه الريح إلاّ بإذنه ـ فما أصعب ذلك في أيامنا هذه، فقد يريد الجار أن يبني بيتاً من عدة طوابق وبيت جاره من طابق واحد، فيحجب عنه الشمس والهواء، في الوقت الذي ينبغي أن يأتي إلى جاره ويستأذنه في ذلك فإنْ أذن له فبها، وإلاّ فلا ينبغي له أن يستطيل ببنائه عليه فذلك حقّ من حقوقه، بحيث يعيش المجتمع نوعاً من الاحترام المتبادل ـ وإذا اشتريت فاكهة فأهدها إليه، وإن لم تفعل فأدخلها سرّاً ـ بحيث لا يتسبب ذلك في إحراجه حيث يجد نفسه غير قادر على توفير ما توفره لعائلتك ـ ولا يخرج بها ولدك يغيظ بها ولده ـ ففي ذلك نوع من الإذلال، فالطفل الصغير لا يحمل روح الاحترام للآخرين وتقدير مشاعرهم، من خلال عقليته الطفولية، فربّما يشعر أنّه يمتاز على أطفال الجيران ما يُشعر الآخرين من صغار الجيران بالمهانة، فإمّا أن تقدّم لهم مما أعطيته أو لا تدعه يخرج عليهم بها فيغيظهم، فربما يخلق ذلك نوعاً من الضغط النفسي على الطفل الآخر بحيث يجبر أهله على شراء ما لدى ابن الجيران، وقد لا يستطيعون ذلك ـ ولا تؤذه بريح قدرك إلاّ أن تغرف له منها ـ والحال واحدة، فكما كانت الريح تنقل روائح القدور التي تطبخ في العراء، فكذلك الآن، وخاصة في الشقق السكنية حيث تدخل الروائح إلى كلّ دور العمارة لاسيما الروائح التي لا يرتاح لها الجار ـ إلاّ أن تغرف له منها )) فكأنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) يقول إنّ كفّارة ذلك هو أنّ تغرف له من قدرك وتقدّم له من طعامك. وربّما كان معنى الإيذاء هنا هو حالة الاشتهاء التي تسبّبها الروائح الزكية التي يثيرها الطعام اللذيذ، مما قد لا يستطيع الجار أن يوفّره، فإذا ما قدّمت له من طعامك فإنّك تكون قد أشركته في طعام تسبّبت في تحريك شهيته إليه.
وأمّا في (رسالة الحقوق) فيقول الإمام علي بن الحسين (عليه السلام): ((امّا حقّ جارك فحفظه غائباً ـ بأن تحفظ سمعته من أن تُنال بسوء، وعياله من أن يتعرّضوا إلى مكروه، وداره من أن تسرق ـ وإكرامه شاهداً ـ أي حاضراً ـ ونصرته إذا كان مظلوماً ـ بأن تنصره بكلّ الوسائل التي تنصر بها نفسك ـ ولا تتبع له عورة ـ لأنّ الجار يطّلع عادة على عيوب وعورات جيرانه فهو أمين عليها ولا يجوز له أن يتتبّعها أو يتجسّس عليه في ذلك ـ فإن علمت عليه سوءاً سترته عليه ـ فإذا اطلعت عن طريق الصدفة على عيب أو نقص أو مثلبة سترتها عليه فلا تفضحه بها ولا تعيّره بها ولا تكتمها اليوم لتكشفها غداً أو تطلع غيرك عليها ـ وإن علمت أنّه يقبل نصيحتك نصحته ما بينك وبينه ـ أي ليس أمام الناس أو الجيران الآخرين، فإنّ ذلك مما يزينه ولا يشينه كما حدّث الإمام الصادق(عليه السلام) في ذلك ـ ولا تسلمه عند شديدة ـ أي عندما يشتدّ عليه الزمان والمشاكل والظروف الصعبة، بل حاول أن تعينه على اجتياز مصاعبه ـ وتقيل عثرته ـ إذا أخطأ، فلا تتركه يمضي في خطئه، بل حاول أن تسدّده وتهديه إلى الصواب وأن تأخذ بيده إلى ما فيه صلاحه ـ وتغفر ذنبه ـ فإذا أذنب معك، أو أساء إليك، فمن حقه عليك أن تصفح عنه وتسامحه ـ وتعاشره معاشرة كريمة)) ،كما يعاشر الكرام بعضهم البعض.
جيران اللّه:
هؤلاء هم جيران الناس، ولكن هناك جيران من نوع آخر وهم الذين اصطلحت عليهم بعض الأحاديث وفق ما جاء في القرآن الكريم بقوله تعالى: (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) ، (القمر:55) تعبير عن جوار الله، ولذا نقول عن المؤمن العامل إذا مات انتقل إلى جوار اللّه.
وفي الحديث الشريف عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلّم) : ((إذا كان يوم القيامة جمع اللّه الخلائق في صعيد واحد ونادى مناد من عند اللّه أين أهل الصبر؟ـ فيأتون فيقال لهم: ادخلوا الجنّة بغير حساب ـ ثم ينادي مناد آخر: أين أهل الفضل؟ ـ فيقال لهم : ادخلوا الجنة بغير حساب، ـ ثم ينادي مناد من اللّه عز وجل يسمع آخرهم كما يسمع أوّلهم، فيقول: أين جيران اللّه جلّ جلاله في داره؟ـ فاللّه تعالى يعطيهم هذه المكرمة بأن يجعلهم جيرانه وهو الشرف كلّ الشرف والعزّ كلّ العزّ ـ فيقوم عنق من الناس فتستقبلهم زمرة من الملائكة فيقولون لهم: ما كان عملكم في دار الدنيا فصرتم به اليوم جيران اللّه تعالى في داره؟ فيقولون: كنّا نتحابّ في اللّه عزّ وجل ـ فعندما نحبّ بعضنا بعضاً فإننا نحبّ من خلال عمق العلاقة باللّه سبحانه وتعالى، لأنّ اللّه أراد للمؤمن أن يحبّ المؤمن، لا على أساس مصلحة أو غاية أو قرابة ـ ونتباذل في اللّه ـ بحيث يبذل كلّ واحد من ماله ونفسه لصاحبه ـ ونتآزر في اللّه ـ أي يؤازر كلّ واحد منا صاحبه ويساعده في شؤون البرّ ومجالات الخير والعمل الصالح، وكلّ ذلك لحساب اللّه ولأجل رضاه ـ قال: فينادي منادٍ من عند اللّه تعالى: صدق عبادي خلّوا سبيلهم لينطلقوا إلى جوار اللّه في الجنّة بغير حساب)). وهذه من أعمق الأخلاق الإسلامية التي يعيشها الإنسان المؤمن في داخل نفسه لتنعكس على حركته الاجتماعية في الحياة، فالإنسان الذي تحرّكت عاطفته ومشاريعه التعاونية والتواصلية على أساس أن يقصد بها وجه اللّه ولا يقصد بها غيره هو إنسان وصل إلى مستوى إيمانيّ رفيع في محبّته للّه تعالى بحيث انعكس ذلك على كلّ علاقاته وتحرّكاته الاجتماعية.
كما أنّ قيمة هذا السلوك الذي يرتفع بصاحبه بحيث يصبح جاراً للّه هو أنّه يشدّ المجتمع المؤمن بعضه أزر بعض بحيث يشعر المؤمن أنّ إيمانه يتحرّك اجتماعياً، وأنَّ هذا الإيمان يحميه اجتماعياً ويحقّق له المحبّة في نفوس أبناء مجتمعه من خلال التواصل الاجتماعي معهم، وبذلك ينمو الإيمان في وجدان الإنسان عندما يرى أثره في المجتمع المؤمن في الدنيا، كما ينمو إيمان المجتمع المؤمن عندما تتركز علاقاته على أساس العلاقة باللّه سبحانه وتعالى. وهذا أمر لابدّ أن نربّي أنفسنا وأولادنا عليه. لأنّ المشكلة التي نعيشها في أغلب المجتمعات غير الإسلامية، وحتى في مجتمعاتنا الإسلامية هي أن هذه المجتمعات استحالت إلى تجمعات حقد وتباغض وعداوة، بحيث لم يعد الإنسان يأمن على نفسه ولا على سمعته ولا على ماله ولا على حقوقه التي له على الناس، لأنّ العلاقات الاجتماعية أصبحت تتحرّك من خلال التعقيدات الذاتية والمصالح الشخصية، أكثر مما تتحرّك من خلال الخطوط الإيمانية.
ولعلّ هذا الواقع المأساوي الذي تعيشه مجتمعاتنا الإسلامية بلغ من التمزّق الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والأمنيّ حدّاً أنّ اللّه تعالى لم يعد له أدنى حساب في علاقات الناس ببعضهم البعض، فالحسابات اليوم هي حسابات الناس الذين لدينا مصالح معهم، فلو نشب خلاف بين مؤمنين وأنت أحد الطرفين وجاءك الناس يتوسطون عندك ويقولون لك: في سبيل اللّه وعلى حساب اللّه تسامح في حقّك؟ إلا تقول: ما دخل اللّه في الأمر؟ أو: لا تدخلوا اللّه في هذا الحساب؟ ولكن لو قالوا لك: على حساب فلان، الذي هو رئيس عشيرة أو وجيه اجتماعي أو مسؤول سياسي، فأنت تتساهل وتلبي رغبتهم وكأنّ وجاهة فلان هي اليوم أكثر تقديراً عند بعض الناس من اللّه سبحانه وتعالى. أليس هذا هو الواقع الاجتماعي الذي نعيشه؟ .
فعلينا أن نعيد النظر في ذلك، لأنّنا نخشى - ونعوذ باللّه من ذلك - أن يكون الإيمان عندنا مجرّد شيء على السطح.
الجوار الاجتماعي
هذا ما كان من الحديث عن الجوار بالمعنى الماديّ المستقر كبيت إلى جوار بيت آخر، ولكن هناك جوار اجتماعي متمثّل بجار المجلس، فالحاضرون في المجلس جيران بعضهم البعض ولا يصح أن يؤذي أحد غيره من الجيران في المجلس، فنحن نستوحي مراعاة الجار في البيت مراعاته في المجلس، فلا ينبغي أن يزعج أحدهم بأيّ شكل من أشكال الإزعاج فلا يؤذيه ولا يضيّق عليه مجلسه، بل عليه احترام جاره في المجلس فلا يقوم بأيّ عمل يؤدّي إلى إهانته، وعندما يشعر بأنه جاره يتأذى منه بسبب التدخين فمن حقه عليه أن لا يدخن وهو جالس إلى جانبه، فحرية الإنسان أن يدخن في بيته بل لا يجوز له ذلك لأنه يضرّ بزوجته وأطفاله. ذلك أنّ الأطباء يقولون: إنّ التدخين السلبي هو أخطر من التدخين الإيجابي، فضرر الدخان الذي يتلقاه الجليس من المدخن أكبر من الضرر الذي يصيب المدخن نفسه، وخصوصاً المرأة الحامل لأنّ الدخان يؤذيها ويؤذي جنينها في نفس الوقت.
الجار في السيارة أيضاً، فلا يجوز لك أن تدخن وأنت جالس إلى جواره أو في أي مقعد من المقاعد، وإذا كان يسيئه الصوت العالي فلا ترفع صوت المذياع عالياً، لأنَّ ذلك يحطّم أعصابه. ولا يجوز لك أن تفعل ذلك بحجّة أنّك حرّ، فحرّيتك في المجتمع تنتهي عندما تبدأ حرية غيرك، فهناك فرق بين الحياة الفردية وبين الحياة الاجتماعية، ففي الأولى تملك نفسك فيما أحلّه اللّه ولكنّك لا تملك غيرك، فعندما تصبح زوجاً - ذكراً كنت أم أنثى - فعليك أن تراعي الآخر الذي أصبح داخلاً في حياتك وأصبحت داخلاً في حياته (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ) ،(البقرة:87). فالعلاقة الزوجية الحياتية في التداخل كعلاقة الثوب بالبدن، فعلى الزوج أو الزوجة أن يتركا حياتهما الفردية إذا كانت تضرّ بحياتهما الزوجية المشتركة، فقد يسهر الزوج مع رفاقه إلى ساعة متأخرة، وقد تذهب الزوجة إلى بيت أهلها لوقت طويل ويبقى زوجها في انتظارها، ناسيين أنّهما عندما عقدا عقد الزواج ارتبطا برباط يتعيّن عليهما احترام شروطه ومقتضياته.
فهناك إذاً الإنسان الفرد والإنسان المجتمع، فلا يصحّ أن يدخل الإنسان الفرد في الإنسان المجتمع، الجار هو جار سواء في البيت أو في المسجد أو في المجلس أو في محلّ العمل أو في الشارع، فالناس الذين يمشون في الشارع كلّ منهم جارٌ للآخر، فعلينا أن لا نعمل في الشارع ما يؤذي جيراننا، فإذا أردت أن تعبّر عن الاحتجاج بإشعال دولاب سيارة فإنّك بذلك تؤذي كلّ الذين يمشون في الشارع أو يسكنون بالقرب منه، فنحن نستوحي من الأحاديث الخاصّة بحق الجليس على جليسه والمسافر على مرافقه، بأنّ مسألة الجوار تتسع لأية حالة يجاور فيها شخص شخصاً في مجلس أو شارع أو قاعة وما إلى ذلك .
إنّ المشكلة التي نعيشها في المجتمع العربي، هي أننا لم نتربّ كمجتمع وإنّما نتربّى كأفراد، وكما تحدثت مراراً فإنّ أمامنا معادلتين يمثلان المجتمع الحضاري والآخر المتخلّف: الأولى معادلة (أنا والآخر)، والثانية معادلة (أنا لا الآخر) كما قال الشاعر:
ما علينا إن قضى الشعب جميعاً أفلسـنا فـي أمـان؟!
فلننطلق من أجل إن نكون المسؤولين عن المجتمع إذا كنّا جزءاً منه ، وهذا ما عبّر عنه رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلّم): ((مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمّى والسهر)). بأن نكون مجتمع تكامل وتكافل الأعضاء في الجسد، ولنصنع الإنسان والمجتمع .. ويبقى للإنسان الفرد دائرة ضيقة من حيث ما يأكل ويشرب ويستمتع، أمّا في المسؤوليات العامّة، فعلى الفرد أن يحبس نفسه في دائرته الشخصية وينطلق إلى الساحة العامّة بمزاج المجتمع لأنّ هذا هو الإسلام: ((ما آمن بي..))، و((مثل المؤمنين..))، ومعنى ذلك أنّ الإسلام يمثل حركة عقلك، وقلبك، وطاقاتك من أجل سعادة المجتمع كله والحياة كلّها.