الأصول الإسلامية لتربية الأطفال
محسن محمد
عناية الشريعة بالطّفل
نظرة سريعة في التربية المعاصرة:
تزداد تربية الأطفال أهمية كلما ازدادت الحياة تعقيداً وتطوراً، وصحيح أن
جوهر العملية التربوية لا يتغير بتغير العصور ولكن النجاح في استخدام
الوسائل النافعة يصبح أبعد منالاً وأعز وجوداً كلما اتسعت طموحات الإنسان
وتشابكت علاقاته الاجتماعية.
فإذا كان تعليم الطفل ـ مثلاً ـ ضرورة في كافة العصور، فإنه قد كان يُكتفى
منه بالإحاطة بعدد محدود من المعارف ليصبح مثقفاً وملماًً بعلوم عصره، كذلك
كان يكفيه أن يلازم ذا حرفة حتى يصبح مهنّياً متقناً، وحتى على مستوى
الالتزام بتقاليد المجتمع وآدابه لم يكن الجيل الجديد يعيش المعاناة
والصراع في هذا الالتزام، لأنه حتماً سوف يلتزم معظم آداب العصر بنحو هادئ
وطبيعي عند خلو المجتمع من الطروحات المتمردة.
بينما نجد الأمر مختلفاً في عصرنا، فإن الولد لا يمكن أن يعيش اهتمامات
محدودة.. ولا في مجتمع مغلق، ولن يكون ابن جيله وعصره إلاّ إذا أحاط بقدر
كبير من المعارف، وهو لن يكون حِرَفياً ناجحاً إلاّ إذا أحاط بجملة علوم
لها علاقة بحرفته، وإلاّ إذا درس الحرفة دراسة خاصة، كما أنه ليس سهلاً
عليه أن يلتزم الآداب الشائعة في مجتمعه الذي أصبح مفتوحاً على ألوان شتى
من آداب المجتمعات الأخرى تجعله متنوع الخيارات كثير الإغراءات.
بل حتى أن المربي ـ أباً كان أو غيره ـ لن ينجح في عمله التربوي دون أن
يكون في مستوى جيد من الثقافة، يخوله امتلاك الوسائل الناجحة، مضافاً إلى
الأخلاقية العالية التي يجب أن يحوزها لضبط انفعالاته والتحكم بها.
هذا الأمر يجعل العملية التربوية المعاصرة أكثر تعقيداً مما سلف من عصور،
ويجعلها متجاوزة لمجرد تلقين الطفل المبادئ السليمة فحسب، بل لا بد من
توفير البيئة المتوافقة مع هذه المبادئ، والتي تخفف من عناء الصراع لخيارات
أخرى علمانية، موجودة في المجتمع الإسلامي المعاصر.
ففي التربية المعاصرة لا بد أن يأخذ المربي في اعتباره أنه بانٍ واحد خلفه
ألف هادم، ليعيش بذلك مشكلة البناء ومشكلة دفع الهادمين عن العبث بهذا
البناء وتدميره.
كذلك فإن مصب البحث سوف يكون في الأصول الإسلامية للتربية، نظراً لكونها
موضع عناية فائقة في التشريع الإسلامي بسبب دورها الفاعل في التغيير، سيما
الأطفال الذين يحرص الإسلام على التفرد بتربيتهم ليصنع منهم رجالاً ونساء
وفق موازينه وهديه،وليس أفضل من مرحلة الطفولة فرصة لفعل ذلك.
أما مسار البحث فإنه سوف يعالج العديد من المسائل التربوية، من قبيل عناية
الشريعة بالطفل، ودور الأسرة في التربية، ودور المؤسسات التربوية العامة،
وتأثير وسائل الإعلام الحديثة على الطفل، ورعاية اليتيم، وأساليب التربية،
ونحو ذلك من الموضوعات التي سوف نتناولها تباعاً وفي حلقات إن شاء الله
تعالى.
عناية الشريعة بالطفل
تعتبر مرحلة الطفولة من مراحل العمر التي لا تزول ذكراها من نفس الإنسان،
فتجد كل واحد منا يستعرض أحداثها وأشخاصها وأمكنتها بحنين المستهام وحبور
السعادة، ليكون لكل شيء ـ ولو كان تافهاً ـ معناه الكبير ونكهته المميزة..
وتأخذك النشوة العميقة وأنت تستعيد الذكريات، تمنياً لو يدوم هذا العالم
فيشمل العمر كله.
والسر في ذلك ميل الإنسان إلى العيش في عالم هنيء مريح خالٍ من المسؤولية
والتبعات، الأمر الذي يتبدى في عالم الطفولة.. حتى لو لم تكن سعيدة كثيراً،
لأن مفهوم السعادة والشقاء لا وجود له في مدارك الطفل، فإذا ذكر الطفل بعض
الشقاء الذي قد عاشه.. أو بعض السعادة فإن لهما في نفسه نكهة واحدة
متقاربة.. يغيب شقاؤها في سعادة الذكرى وسحر عالم الطفولة.
وهذا لا يعني عدم الحرص على سعادة الأطفال، بل يستدل من ذلك على روعة هذا
العالم الذي يصبح الشقاء فيه لوناً من السعادة لدى الكبار الذين يتذكرون
طفولتهم.
ومن هنا ترانا نستعيد ذكرياتنا عن طفولتنا وكأننا نستعيد ذكرى يم من العالم
الآخر عشنا فيه مشاعر النعيم المقيم.
ولكن..
ولكن هذه الطفولة الرائعة تستبطن في داخلها كل تعقيدات الحياة المستقبلة،
بإنسانها وما فيه من مشاعر وآمال وآلام وأفكار وأخلاق، وبمجتمعها وما سوف
يحدث فيه من علاقات وعدالة ومظالم وطموحات.
إن الطفولة هي الإنسانية كما ينبغي أن تكون في
نقائها وبراءتها وبساطتها وسعادتها ويسرها.. بل وعدالتها، ولكن بفارق واحد،
هو أن الطفل مارس حياته في طفولته من دون وعي لسموها، بينما الرشيد يمارسها
بوعي فيتمثل جميع حقائقها ليسود السلام عالم الكبار.. مثلما قد ساد عالم
الصغار.
كذلك فإن الطفولة هي ساحة من ساحات مسؤولية الكبار، وموقع من مواقع الفتنة
والاختبار، فإذا أحسن الكبير رعاية أطفاله والعناية بهم فإنه يكون قد أدّى
بعض ما في عهدته من تبعات جسام، وهيأ لعالمه الاستمرار بخلَفٍ قيِّم يبنيه
على الأسس المتينة التي ينبغي أن تُبنى عليها جميع مجالات الحياة الأخرى.
ونكون بذلك قد أوجدنا حياة جديدة وعالماً جديداً.. نأمل من خلاله ضمان
مستقبل أفضل.
من هنا حرص الإسلام على رعاية هذا الموقع من
مواقع الحياة والتشريع له، كي يضمن نهوض الكبار بمسؤوليتهم تجاهه بنحو جيد
وكامل، فيحقق بذلك تواصل مراحل الحياة جميعها مع الشريعة،ويهيئ فرصة لنمو
الإنسان نمواً صحيحاً يجعله يعيش التقوى في بناء عالمه والنهوض بتبعات
خلافته.
وقد ظهر هذا الحرص من خلال الأمور التالية:
1 ـ العناية بالنشأة:
لقد بات معلوماً ـ بعد كثرة المكتشفات العلمية ـ تحكُّم العديد من
العوامل في تحديد طبيعة الحياة التي سوف يكون عليها الجنين، في أخلاقه
ومزاجه وصحته وذكائه... بل وحتى في إيمانه، فهو يتأثر بنحو قوي:
أ ـ بالوراثة للعديد من خصائص أسلافه، في السمات والقوة والذكاء والصحة،
فنرى لإسلام ينصح باختيار المرأة التي تساهم في إكساب جنينها خصالاً حميدة،
فضلاً عن اختيار الرجل الشريف الجامع لصفات المحامد والخير، وقد اشير إلى
ذلك في أحاديث عديدة.
ب ـ بالغذاء، حيث حثَّ الإسلام على:
1 ـ تناول مأكولات معينة حين الحمل.
2 ـ اختيار المرضعة العاقلة المؤمنة.
3 ـ تجنب محرمات معينة، يساهم تناولها في إيجاد حالة من الانحراف تختلف حسب
كل محرم، مثل النهي عن أكل الربا، وعن اظلم، وعن الزنا، فضلاً عن شرب الخمر
وأكل لحم الميتة ونحوها.
جـ ـ بالحالة الفكرية والنفسية التي يكون عليها الأبوان حين تكوّن الجنين
وانعقاد النطفة، ولعله لأجل ذلك ورد الحثّ على التسمية وقراءة أذكار معينة
حين الجماع، وحين الولادة، وبعد الولادة(1).
وأمام قداسة التشريع الإسلامي وسَداده، يصبح من نافلة القول التأكيد على أن
معظم هذه الأمور قد التفت إليها العلم الحديث ونبّه إليها، بل وتوسع في بعض
مجالاتها، حيث تصبح عناية التشريع بعالم الطفولة في هذه المرحلة دليلاً على
حرص الإسلام على ولادة أطفال أصحاء في نفوسهم وأمزجتهم وأجسادهم، ليكونوا
بذلك نواة مجتمع سعيد وقوي.
2 ـ تحديد المسؤول:
حيث لا بد من تحديد الراعي والكافل لهذا الوليد، ما دام يولد ضعيفاً
عاجزاً غير قادر على تدبير أموره لفترة طويلة تقارب الخمسة عشر عاماً، فلا
بد له من أيدٍ أمينة مخلصة تشرف عليه حتى يصبح قادراً على تدبير أموره
بنفسه، والاستقلال بحياته. ولما كان عدم التحديد موجباً للإخلال بهذا الأمر
الحيوي فقد حرص الإسلام على التشريع لذلك بكل وضوح ومن جميع النواحي كي
يُخرج المسؤولية من دائرة التبرع إلى دائرة الفرض والإلزام، وذلك على النحو
التالي:
أ ـ فترة الحضانة:
فهي للأم بالدرجة الأولى لسنتين على الأقل ولسبع على الأكثر من
تاريخ ولادته، ثم بعد ذلك للأب، فإذا فُقد الأب، فهي للأم ـ مرة ثانية ـ
إلى أن يبلغ.
وفي حال فقد الأبوي، فهي للجد للأب، أو لوصيّهما،.. وهكذا معالجاً شتى
الاحتمالات في موضوع الحضانة، مبيناً لشروطها، هادفاً لتوفير أفضل الفرص
لحضانة جيدة وسعيدة.
ب ـ الولاية:
ويراد بها الإشراف العام على شؤونه، حيث لا بد من وليّ لهذا
الطفل يوجهه ويربّيه ويصون أمواله ويعلِّمه، ولهذه الولاية أحكام مفصلة،
يمتدّ بعضها إلى ما بعد البلوغ، وذلك كما في تزويج البكر، وتتداخل في عضها
مع مرحلة الحضانة، وتكاد تقتصر على صيانة المال وإجراء المعاملات التي
يشترط فيها البلوغ، مثل البيع والإجارة ونحوهما وفي حال عدم وجود ولي من
الأقرباء فإن الولاية للحاكم الشرعي، وفي حال تعذر ذلك فإن الولاية لعدول
المؤمنين، فيؤكد التشريع بذلك مسؤولية المجتمع وتكافله في هذا الإطار.
وثمّة تشديد على موضوع الأيتام وعناية عظمة بشؤونهم لما يتبدّى فيهم من
ضرورات يخشى التشريع من خلالها عدم الاهتمام بهم وسوء الرعاية لهم، وقد ظهر
ذلك في قوله تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ
عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِن تُخَالِطُوهُمْ
فَإِخْوَانُكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَو
شَاءَ اللّهُ لأَعْنَتَكُمْ إِنّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)
[البقرة / 220]، كما قد ظهر ذلك في العديد من الأحاديث التي تحثّ على حسن
رعايتهم، فعن النبي (صلى الله عليه واله):
((إن في الجنة داراً يُقال لها دار الفرح، لا يدخلها
إلاّ من فرّح يتامى المؤمنين))
(2).
وكما شدد على العناية باليتيم تخوفاً عليه، فإنه ولنفس السبب قد تشدد في
العناية بالفتاة، فقد ورد في الحديث عن النبي (صلى الله عليه واله):
((من كانت له ابنة، فأدَّبَها وأحسن أدبها، وعلمها
فأحسن تعليمها، فأوسع عليها من نعم الله التي أسبغ عليه، كانت له منعة
وستراً من النار))
(3).
وهكذا تتضح مسؤولية كل فرد عن هؤلاء الأطفال، كي لا يُترك الأمر فوضى،
فيتسبب في ضياعهم وتحولهم إلى بؤرة منحرفة، بدل أن يكونوا جيل المستقبل
الذي يُؤمّلُ منه كل خير.
3 ـ تحييد الأطفال وأمنهم:
هذا وإن أكثر الناس حاجة للأمن والحماية هم الضعفاء، ذلك لأن
الظالمين مجرمون ـ عادة ـ، فهم لا يراعون حرمة لأحد في المظالم التي
يمارسونها وفي الحروب التي يضرمون أوارها، وخوفاً من تورط المسلمين في ذلك،
وعدم صيانتهم لحرمة الضعفاء من الشيوخ والنساء والأطفال، فإن الإسلام قد
أوصى بتحييد الأطفال في الحروب وعدم الاعتداء عليهم وقتلهم، وقد ظهر ذلك:
أولاً: في وصايا النبي (صلى الله عليه واله) لقادة جيشه، حيث ورد في الحديث
أنه (صلى الله عليه واله) عندما يبعث الولي، مراعياً فيها الأصول الإسلامية
ومندفعاً بكل إخلاص لإنجاز هذه المهمة السامية وهي تأخذ أهميتها الفريدة
والمميزة من كونها الأصل في نجاح الفرد في حياته ومساهمته في بناء مجتمعه
وسيره على النهج القويم الذي وصفه لله تعالى
لعباده في الأرض.
وعندما نلاحظ الإطار العام الذي وضعه الإسلام نعجب لهذه الدقة ولذلك السداد
الذي شرَّع به الإسلام لحياة الإنسان، وهذا الإطار محكوم للأمور التالية:
أولاً: التدرج في تربية الطفل حسب مراحل العمر، فيتركه سبعاً ويؤدبه سبعاً،
ويصادقه سبعاً، ثم يدعه يواجه الحياة.
ثانياً: عدم تربيته طبق مزاج الولي وأخلاقه الشخصية، لأن لكل زمن أعرافه
وآدابه، وهذا الطفل قد خُلق لزمان مختلف عن زمان جيل الولي.
ثالثاً: أن يُربى الولد بروح الرحمة والمحبة لا سرياه كان يوصيهم بقوله:
(سيروا باسم الله، وبالله، وفي سبيل الله، وعلى ملة رسول الله، ولا تغلوا،
ولا تمثلوا، ولا تغدروا، ولا تقتلوا شيخاً فانياً ولا صبياً ولا امرأة، ولا
تقطعوا شجراً إلاّ أن تضطروا إليه،..)
(4).
رابعاً: جعلُ
الإسلام والتقوى المصدر لهذه التربية، والغاية لها أيضاً، فإن الحياة
جميعها محكومة لله، وهذا الطفل يراد له أن يكون عبداً لله تعالى، ولن يكون
كذلك إلاّ إذا كان مؤمناً تقياً.
ثانياً: سلخهم عن الانتماء الفكري، باعتبارهم على الفطرة، فإن الولد
لا يوصف باليهودية ولا بالنصرانية.. ولا بشيء آخر، وقد اشتهر الحديث عن
النبي (صلى الله عليه واله): ((كل مولود يولد على
الفطرة، فأبواه يُهوِّدانه وينصِّرانه..))
(5)، الأمر الذي يساهم في
تحييد الأطفال لدى نشوب الصراعات المذهبية والدينية.
4 ـ الحث على حسن تربيتهم:
وهو بيت القصيد، حيث ان سلامة النشأة، وتحديد الراعي
الكفؤ، وصيانة الأطفال من الأذى، ليست إلاّ مقدمة للتربية الجيدة
الصالحة التي ينبغي أن لا
يتصدى لها بروح القهر والانتقام، انسياقا مع الغضب الذي تسببه تجاوزات
الطفل.
وهكذا يكون التشريع قد استوعب جميع العناصر الأساسية التي ينبغي مراعاتها
في حياة الطفل، ملاحظاً له من زاوية كونه فرداً في أسرة وفرداً في مجتمع،
ومورداً لعلاقات اجتماعية متنوعة، وعليه فإنه لا بد من التشريع له مثلما
يشرع لكل جانب من جوانب الحياة المهمة.
وإذا كان الفكر الحديث قد التفت إلى ذلك مؤخراً فكرّم في شريعته ونظامه،
ومتجاوزاً التكريمالرسمي والشكلي ليجعله تكريماً
رائعاً وخالداً بخلود الفكر.
وإن من غير المناسب أن نقيس شريعة الإنسان ونقاربها بها، ولكن لا يزال أناس
كثيرون مبهورين ببهارج الغرب، التي لا تعدو كونها مجرد غطاء لحقارة حضارتهم
وسقوطها، حيث لا شرف لنا ولا كرامة إلاّ بالإسلام العظيم شريعة الله
الخالدة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر في جميع ما مر: مكارم الأخلاق للطبرسي، والوسائل للحر العاملي، وبحار الأنوار للمجلسي، باب النكاح ولواحقه.
(2) ميزان الحكمة /ج1/ ص765.
(3) المصدر نفسه / ج2/ ص74.
(4) المصدر نفسه / ج2 / ص328.
(5) بحار الأنوار / ج64 / ص133.