رسالة أم!
أي ولدي!
بقلم رجاء محمد بيطار
... كلمتان خطّتهما أناملي المثلوجة .... بردٌ من القلب أصابها ، ودمع من العين انسكب فوق الحروف ، فإذا الواو دمعة تتدحرج فوق مساحة بيضاء ، وإذا الأحرف الأخرى آهاتٌ تتصاعد مع النداء... وزفرات ، ... أي ولدي !.
كلمة تمنّيتها، كما كل أمّ،... رسمتها بأحلامي وعشتها بأنفاسي وأيامي، ... حبًّا وتضحيات،... بلا منّة، ... فالأمّ تعطي وتُضحّي، ربما دون أن تدري. ذلك أنها أم، ... وهي لا تكون أمًّا إلا بالعطاءِ. كما الشمعة المضيئة، لا تسطع نورًا إلا وهي تحترق وتذوب.
كلمة عشقتها وعملتُ جاهدة لأبني منها صروح المستقبل،...
عشتُ حياتي،... على مدى سبعة عشر عامًا، في فيء دفئها، تنطبع أمامي الساعات دقائقها وأيامها، وحتى ثوانيها، وها أنا ذا في هذه اللحظة، ... أستمع إلى صوتِكَ يناديني، تقرع يداك اللتان كانتا قبل سنوات طويلة،... كانتا صغيرتين غضّتين، فإذا هما قويّتان الآن، يدا شاب في السابعة عشرة،... إنهما تقرعان باب غرفتي،... ولكنني أرفض أن أجيب،... لقد جرحتني في الصميم يا بنيّ،... لقد جعلتني أقف على مفترق طرق،... بين الماضي والحاضر والمستقبل، أنظر خلفي وأمامي،... وأسأل نفسي،... ثم أتوجّه إلى بارئي متضرّعة راجية،... سائلة بحرقة ودموع: "... ترى ... أين أخطأت؟!".
وأمسح دموعي بالحرقة نفسها، خشية أن يحاسبك الله عليها يوم الحساب وأنا،... رغم قسوتك وعقوقك، لن أطيق في ذلك اليوم العصيب أن أكون سببًا في اشتداد الحساب عليك،...
يعلم الله .. أني، ... حين تجرحني،... أتألّم من أجلك قبل أن أتألّم من أجلي، فالعقوق ذنبٌ كبير،... ليتك تعلم أي ذنبٍ تقترف.
ولكن ما يؤلمني أكثر أنّك تعلم! أنني لم أوفّر فرصة لإطلاعك على مغبّة تصرّفاتك الخاطئة،... أنني كنت ولا زلت أقصّ عليك من الأحاديث ما أريد به صلاح أمرك.
... آيات الذكر الحكيم، التي لم أنِ أتلوها في كل حين على مسامعك، مذ كنتَ جنينًا في أحشائي،... إن حلاوة طعمها لا زالت عالقة بشفتيّ. تمتزج بملوحة الدمع الذي يثيره غضبي،.. وأسفي عليك!
حكايات الأئمة والأنبياء لا زالت تضجّ في مسمعي ومسمعك... أردّدها لك ولإخوتك لأرسم لكم بها درب المستقبل الصالح الذي يعجّ بمآثر الصالحين، ويرفل بعزّتهم.
طفولتك تندرج أمامي، كشريطٍ سينمائي حافل،... لا أقول أن تربيتي لك خالية من الشوائب،... فأنا لستُ من المعصومين عن الزلل،... ولكنني أستطيع أن أدّعي أنها كانت متوازنة، يمتزج فيها اللين بالشدّة، في غير إفراطٍ ولا تفريط،...
إذًا،... أين الخطأ؟... ماذا فعلتُ معك حتى وصلتَ إلى هنا؟!
أين قصّرت في تهذيبك حتى أفلتَ لسانك من عقاله وانطلق نحوي،...
ويح نفسي،... ويح قلبي الذي لا يستطيع أن يغضب دون أن يحزن من أجلك،... ويح عيني التي لا تستطيع أن تحدّجك بنظرةٍ ناقمة خوفًا من أن تحاسب في غدٍ عنها،... تحاسب أنت،... أوليس عاقاً من نظر إلى والديه نظرة غضبٍ وهما ظالمين له؟... إذًا، فكيف بمن ينظر إليه والداه نظرة غضبٍ وهو ظالمٌ لهما؟!...
ويح قلمي،... يكتب كلماتٍ طال بها الاحتباس في الأحشاء،... فانطلقت تتخبّط نحو الفضاء،... طال بها المكوث في صفحات الفؤاد، حتى رسمتها الحروف على صفحاتٍ بيضاء،... هذه أيضًا، هل ستكون في أحد الأيام شاهدًا عليكِ لدى ربّ السماء؟!...
وأغضب الساعة،... وأسأل نفسي:... لمَ لا، ترى أنتَ أيضًا ما أرى؟!
وأنا لم أبخلُ عليكَ يومًا بالنظر،... كنت أنسج لك الأمثال وأعتصر في سبيل إقناعك بالحق كل ما قرأت وسمعت من أقوال،... حتى تستطيع رؤية الحق في أوضح صورة،...
هل أثقلتُ عليكَ بالنصيحة؟... هل أعطيتك ولم تكن تطلب،... حتى أصابك الزهد في ما أعطيك؟... ربما،... ولكنني فعلتُ ما رأيتُ فيه الصواب، وأظنّ أنني لم أقترف سوى ذنبٍ واحد،... وهو أن قلبي اتّسع حتى ضمّك،... بصوابك وخطئك،... ولعله، لو ضاق بالخطأ الأول... لما وصلتُ إلى هنا!... ولما وصلتَ أنت!... رباه،... ولكنني أم،.. لم يكن بوسعي أن أراك تتوسّل إليّ لأسامحك، فلا أفعل!
لم يكن لديَّ من القوة ما يجعلني أقسو عليك وأنت تلين،... بل لعلي لم أجد أن للقسوة في مثل ذلك المورد ضرورة،...
لست أدري،... أأصبت أم أخطأت في كلِّ ذلك،... ولكنني أدري أنني كنتُ،... ولا زِلتُ أُمًّا،... ولكنّي الساعة قد فاضِ بي المكيل،... حتى الدموع،.... لا تزال تفيض من مقلتيّ وأنا أتمثّل الموقف الأخير،... وأسأل نفسي:... هل أسامح هذه المرة؟... وإن سامحت، فإلى أين يكون المصير؟
أي ولدي!
كلمتان تعبث بهما أنفاسي المتأرجحة،... وتتأمّل رسم حروفها نظراتي المخضلة بالدموع،...
وتنحدر شمس المغيب وهي تجرجر خلفها آخر همسةٍ من نور،... ويخيّم صمتٌ وظلامٌ،... ويغوصُ في العمق السؤال: ... لماذا تجرحني يا فلذة فؤادي،... وانا أقيك من برد النسيم، لماذا تطعنني، وأنا أخشى عليك من عذاب الجحيم،... لماذا؟!...