الرسالية في الشعر الشيعي
الدكتور محمّد علي آذر شب
يطلق اسم الشعر الشيعي على ذلك الشعر، الذي قيل في علي وآل بيت رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ مدحاً ودفاعاً ورثاءً. ومنذ القرن الإسلامي الأول برز شعراء كرسوا جل اهتمامهم في هذا المجال، فسموا شعراء الشيعة.
وفي هذا المقال أهدف إلى إلقاء الضوء على هذا اللون من الشعر في الأدب العربي، لأعرض بعض ما تبين لي من حقائق عند دراسة الشعر الشيعي وتدريسه، وأحسب أنها مفيدة في إبعاد الصفة "الطائفية" و"الحزبية" عن هذا الشعر، وفي استجلاء حقيقة "الرسالية" و"الروح الإسلاميّة" فيه.
في البداية لابد من القول: إنّ الكشف عن حقيقة الشعر الشيعي ورساليته، يخدم هدف "التقريب" بين الأمة المسلمة الواحدة، فسيتبين أنّه يتحدث بلغة إسلامية لا طائفية، ويدافع عن أهداف الإسلام، ويعبر عن آمال الأمة وآلامها، دون أن يتحدد بإطار مذهبي ضيق، ودون أن تكون له أهداف حزبية دنيوية دنيئة.
ومن نافلة القول: إنّ ما أحيط به الشعر الشيعي من أحكام بعيدة عن الصواب، إنّما
هو ناشئ من نظرة "أموية" سادت في كتب القدماء والمحدثين عن الشيعة ونشأتهم وعقائدهم فأسطورة ابن سبأ نقلها الطبري في تاريخه(1)، وتناقلها عنه المؤرخون القدامى (2).
ووجد المستشرقون في هذه الأسطورة ما ينسجم مع رغبتهم في تركيز الخلافات التاريخية بين المسلمين، وتسليط الأضواء على ما ورد بشأن تشرذمهم وتمزقهم، مثل: (فلها وزن) و(دوزى) و(فان فلوتن) ثم راح تلامذة المستشرقين في العالم الإسلامي يحوكون على نفس المنوال (3) مع الأسف، تاركين في الأمة حساسيات وحزازات تثقل كاهل كلّ العاملين في حقل توحيد صفوف المسلمين.
لا أريد هنا أن أتعرض لنشأة الشيعة والتشيع، إنّما أردت الإشارة فقط إلى خلفية النظرات السلبية التي أحيط بها الشعر الشيعي، والتي جعلته في نظر الباحثين المحدثين شعراً حزبياً، وجعلت فواعله في نظرهم نفس فواعل الشعر الأموي ومصادره: تراث جاهلي، وإلهام إلهي، وتأثير أجنبي، وعصبية قبلية، وأهواء سياسية(4).
ولدراسة طبيعة الشعر الشيعي لابد أن نلقي نظرة على موضوعاته، لنتبين من خلالها طبيعته الرسالية:
الحب الرسالي
الإيمان بالمبدأ يقترن دائماً بعواطف حب وبغض، وهذه العواطف توجهها العقيدة وتقوى بقوتها.
ومن العقيدة الإسلاميّة تنشأ عواطف حب الله ورسوله والمؤمنين، وبغض أعداء
الله وأعداء الرسالة الإسلاميّة.
وإذا ترسخت هذه العقيدة في النفوس، ترتفع على كلّ وليجة وآصرة من قرابة، أو قوم، أو جنس، فيضحي الإنسان من أجل هذا الحب الرسالي ويتفاني من أجله.
ونحن نرى هذا الحب الرسالي بوضوح في الشعر الشيعي. يقول أبو الأسود الدولي:
أحب محمداً حباً شديداً**** وعباسا وحمزة والوصي
وجعفر إنّ جعفر خير سبط**** شهيد في الجنان مهاجري
أحـبـهـم كـحـب الله حتـّى**** أجيء إذا بعثت على هويا (5)
هوى أعطيـته منـذ اسـتـدارت**** رحى الإسلام لم يعدل سوي
لاحظ: إنّ هذا الهوى ينطلق من الإسلام، فالشاعر ألهمه منذ استدارت رحى الإسلام، وهو حب شديد لله أوّلاً، ثم لرسوله، والرهط الكريم من آل بيته: العباس والحمزة والوصي وجعفر...
ولنقف برهة عند الشاعر، لنتبين شخصيته، ومدى صدقه في التعبير عن عواطفه.
هو: ظالم بن عمرو القرشي البصري من التابعين، والفقهاء، والشعراء، والمحدثين، والأشراف، والفرسان...
قال عنه الجاحظ: إنه "من المتقدمين في العلم" (6).
عرف بتشدده في الالتزام بأحكام الدين، حتّى اختلف مع عبدالله بن عباس، ومع زياد ابن أبيه حين اعتقد أنهما استغلا منصبهما لمصالحهما الشخصية (7).
كان "ثقة في حديثة"(8).
وشهد مع الإمام علي ـ عليه السلام ـ وقعتي: الجمل وصفين (9).
واستعمله عمر وعثمان على البصرة(10).
ثم أصبح قاضياً على البصرة في زمن الإمام علي ـ عليه السلام ـ ، بعد أن ولى الإمام علي عبدالله بن عباس البصرة سنة(40 هجرية).
ثم أصبح والياً على البصرة حتّى مقتل الإمام علي ـ عليه السلام ـ (11).
وحاول معاوية إرشاءه بالهدايا، لكنه أبي أن يأخذها رغم ما كان يعانيه من ضنك في العيش، بسبب قلة عطائه. وحين سألته ابنته عن تلك الهدايا قال: "بعث بها معاوية يخدعنا عن ديننا"فقالت ابنته التي تحمل نفس عواطف أبيها وإبائه:
أبـا لشهد المزعفـر يـا ابـن حـرب**** *نبيـع عـليك أحـسابــاً وديــنــا؟
معاذ الـلـه كــيــف يـكــون هـذا*****ومولانا أميـر المـؤمـنـيـنــا ؟(12)
هذا شاعر من النصف الأول من القرن الهجري الأول (ت 69 هـ).
ولنقف عند شاعر آخر من النصف الثاني لهذا القرن، وهو كثير بن عبد الرحمن الخزاعي المعروف بكثير عزة (ت 105 هـ)، حيث يقول:
إنّ أمرأ كانت مساوِؤه****حب النبي لغير ذي ذنب
وبني أبي حسن ووالدهم ****من طاب في الأرحام والصلب
أترون ذنباً أن نحبهم ؟**** بل حبهم كفارة الذنب (13)
واضح، أن الشاعر يشير في هذه الأبيات إلى ما كان يتحمله من ضغوط أموية بسبب رساليته، أو بسبب حبه الرسالي للنبي، وعلي وآل علي، فليس هذا بذنب كما يرى بنو أمية، بل هو كفارة الذنب، وطريق الهدى والنجاة، وكيف لا يتحمل هذه الضغوط وهو يعيش في عصر يسب فيه علي على المنابر؟.
ويعبر الشاعر في أبيات أخرى عن أساه وألمه لهذا السب، بلغة تنطلق من عاطفة إسلامية رسالية، هي لغة كلّ المسلمين في عصره، اللهم إلاّ الشرذمة الضالعة في ركاب الحكام الظالمين:
لعن الله من يسب عليا****وبنيه من سوقه وإمام
أيسب المطهرون جـدوداَ****والكرام الأخوال والأعمام؟
يأمن الطير والحمام ولا****يأمن آل الرسول عند المقام
طبت بيتا، وطاب أهلك أهلا****أهل بيت النبي والإسلام
رحمة الله والسلام عليهم****كلما قام قائم بسلام (14)
هذا الولاء الذي يحمله الشاعر لآل بيت رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ لم يكن يعبر عن نظرة فئوية حزبية، بل عن نظرة إسلامية شعبية عامة، اتسعت لتستوعب حتّى الخليفة المرواني ـ عمر بن عبد العزيز ـ الذي استنكر هذا السّب ومنعه في نفس زمن حياة الشاعر كثير عزة. فطار الشاعر فرحا، وانشد قصيدته يثني على الخليفة موقفه هذا، وعدله بين الرعية، ورفعه الظلم عن الناس:
وليت فلم تشتم عليا ولم تخف**** بريا ولم تقبل إشارة مجرم
وصدقت بالفعل المقال مع الذي****أتيت فأمسى راضياً كلّ مسلم
وأظهرت نور الحق فاشتد نوره****على كلّ لبس بارق الحق مظلم(15)
ويكفي لمعرفة صدق ولاء الشاعر لآل بيت رسول الله، أنّه قال ما قال في مدحهم في أقسى ظروف الضغط الأموي على آل البيت. وفي أخباره ما يدل على شدة ولائه لأهل بيت رسول الله بما في ذلك أبناؤهم وذريتهم فكان يأتي إلى أبناء الحسن بن الحسن فينظر إليهم بعاطفة شديدة، تذكره بجدهم رسول الله وبنسبهم الطاهر، فتفيض عيناه دمعاً، ويقول: "بأبي انتم، هؤلاء الأنبياء الصغار"، ويريد بذلك: طهرهم وسمو منزلتهم.
وكان يهب لهؤلاء الصغار عطاءه، فيقول له محمّد بن عبدالله بن عمرو بن عثمان،
وهو أخوهم لأمهم: "يا عم هب لي، فيقول كثير: لا، لست من الشجرة"(16).
وله أخبار مع سكينة بنت الحسين ـ عليه السلام ـ منها: أنّه كان خارجا في الحاج، وقد أراد أن يبيع جمله، فساومته سكينه وهو لم يعرفها، وإنّما عرفته سكينة، فلم يرض إلاّ مائتي درهم، وحين عرفها استحيا وانصرف مهرولاً تاركاً لها الجمل وهو يقول: "هو لكم، هو لكم "(17) خجلاً وإجلالاً.
وإذا وقفنا عند الكميت لاستجلاء هذا الحب الرسالي في شعره، فأننا سنجد العجب العجاب. هذا الشاعر الذي عاش النصف الثاني من القرن الأول، والعقود الثلاثة الأولى من القرن الثاني (60 ـ 126 هـ) كان "خطيب بني أسد، وفقيه الشيعة، وحافظ القرآن، وثبت الجنان"(18).
وسئل معاذ الهراء: "من أشعر الناس ؟ فقال: من الجاهليين: امرؤ القيس، وزهير، وعبيد بن الأبرص. ومن الإسلاميين: الفرزدق، وجرير، والأخطل. فقيل له: يا أبا محمّد، ما رأيناك ذكرت الكميت ! فقال: ذاك اشعر الأولين والآخرين"(19).
ومدحه للنبي ـ صلى الله عليه وآله ـ معروف، وقف عنده النقاد كثيراً، ويحسن أن نتعرض له ولو قليلاً لأنه يكشف عن جانب هام من ولائه الرسالي وظروف عصره.
يقول الكميت:
فاعتتب الشوق في فؤادي والشعر****إلى من إليه معتتب
إلى السراج المنير أحمد لا**** يعدلني رغبة ولا رهب
وقيل أفرطت، بل قصدت، ولو**** عنفني القائلون، أو ثلبو
إليك يا خير من تضمنت الأرض**** وإن عاب قولي العيب
لج بتفضيلك اللسان، ولو****أكثر فيك الضجاج واللجب(20)
والعجيب في هذه الأبيات أنّه يتحدث عمّن يؤنبه ويعنفه لمدحه النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ، ويصر على هذا المدح وإن عاب العائبون، وعنف وثلب القائلون.
الجاحظ يرى: أن قول الكميت هذا هو "من غرائب الحمق"، ويتساءل مستغرباً: "فمن رأى شاعراً مدح النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ، فاعترض عليه واحد من جميع أصناف الناس!، حتّى يزعم أنّ أناساً يعيبونه ويثلبونه ويعنفونه"؟(21).
والشريف المرتضى رحمه الله يرى أن الكميت لم يرد في مدحه النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ، وإنّما أراد عليا ـ عليه السلام ـ فورى عنه بذكر النبي خوفاً من بني أمية(22).
وأجمل ما رأيت من تحليل لمدح الكميت المذكور، ورأي النقاد فيه، ما كتبه الأستاذ الدكتور عبد الحسيب طه حميدة، أنقله بنصه لأهميته، إذ يقول:
(ونحن نرى: أن الكميت كان أعلم بأخلاق عصره من هؤلاء، وأمس بسياسته...، كان يشعر بأنه يحيا وسط دولة ترى: أن هذا اللون من مدح الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ تزكية للهاشميين، ولفت للذهن إلى حق هؤلاء في الخلافة.
وإذا كانت السياسة قد أباحت لابن الزبير ـ على مكانته الدينية وبيته من الإسلام ـ أن يسقط ذكر النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ من خطبه، حتّى إذا ليم على ذلك، قال: والله ما يمنعني من ذكره علانية أني لا أذكره سراً، وأصلي عليه، ولكني رأيت هذا الحي من بني هاشم إذا سمعوا ذكره، اشرأبت أعناقهم، وأبغض الأشياء إلي ما يسرهم. وفي رواية: أن له أهيل سوء(23).
نقول: إذا كانت السياسة قد أباحت لابن الزبير هذا، فما بالك ببني أمية في عصر الكميت وقد تغيرت الأخلاق، وفسد الناس؟.
فالكميت يحدثنا عن عصر يحيا فيه، ويصطلي بسياسته، ويحس أن مدحه للرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ يعرضه للعيب والثلب والعنف.
والجاحظ يحكم في الرجل نظرة دينية، ويتناسى أن السياسة قد بدأت في هذا العصر تستقل عن الدين، فبغضت هذا اللون من المديح، لا لأنه مدح للرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ بل لأنه ضرب من التمرد والشغب، والخروج على السلطان، به تشرئب أعناق الهاشميين، ويلفت الناس إليهم... هذا إلى أن الجاحظ عثماني، فلا غرو أن اهتم بنفي هذه التهمة عن بني أمية، واحتشد لذلك، فعد مذهب الكميت حمقاً، بل من غرائب الحمق) (24). ويظهر من الروايات: أن الكميت جند نفسه منذ بداية انبثاق الشعر على لسانه للدفاع عن أهل البيت، ورواية صاحب الأغاني عن الحوار بين الكميت والفرزدق، تبين أيضاً اهتمام الشاعر بأن تكون كلمته في المدح قوية مؤثرة، تملك المشاعر والنفوس، حتّى جعلت شاعراً كبيراً مثل الفرزدق، يحار ويدهش أمام هذا الشاعر الناشئ.
انظر إلى هذا الحوار:
الكميت: يا أبا فراس، إنك شيخ مضر وشاعرها، وأنا ابن أخيك الكميت بن زيد. الفرزدق: صدقت، أنت ابن أخي، فما حاجتك؟
الكميت: نفث على لساني، فقلت شعراً، فأحببت أن أعرضه عليك، فأن كان حسناً، أمرتني بإذاعته، وإن كان قبيحاً، أمرتني بستره، وكنت أول من ستره علي.
فقال الفرزدق: أما عقلك فحسن، وإني لأرجو أن يكون شعرك على قدر عقلك، فأنشدني، فأنشده:
طربتُ وما شوقاً إلى البيض أطْرَبُ
فقال الفرزدق: ففيم تطرب يا ابن أخي ؟ فقال:
ولا لَعِباً منّي وذو الشّيبِ يَلعبُ؟
فقال الفرزدق: بلى يا ابن أخي، فالعب فأنك في أوان اللعب فقال:
ولم يلهني دار ولا رسم منزل **** ولم يتطربني بنان مخضب
فقال: وما يطربك يا ابن أخي ؟ فقال:
ولا أنا ممن يزجر الطير همه****أصاح غراب أم تعرض ثعلب
ولا السانحات البارحات عشية****أمرّ سليم القرن، أم مرّ أعضب.
فقال: أجل، لا تتطير فقال:
ولكن إلى أهل الفضائل والتقى ****وخير بني حواء، والخير يطلب
فقال: ومن هؤلاء ويحك؟ فقال:
إلى النفر البيض الّذين بحبهم**** إلى الله فيما نالني أتقرب
فقال: أرحني ويحك، من هؤلاء؟ فقال
بني هاشم رهط النبي فأنني**** بهم، ولهم أرضى مراراً وأغضب
فقال الفرزدق: يا ابن أخي، أذع ثم أذع، فأنت ـ والله ـ أشعر من مضى وأشعر من بقي(25).
ونجد في شعر الكميت تركيزاً على الدافع الديني في ولائه لأهل البيت، فحبه ينطلق من تربية قرآنية وطدت جذور هذا الحب في نفسه.
وجدنا لكم في آل حاميم آيةً****تأولها منا تقي ومعرب
وفي غيرها آياً، وآياً تتابعت****لكم نصب فيها لذي الشك منصب(26)
ويؤكد: أن حبه لأهل البيت، هو استمرار لحب رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ وأنه بدافع طلب مرضاة الله سبحانه وتعالى:
إنّ أمت لا أمت ونفسي نفسان****من الشك في عمى أو تعامي
عادلاً غيرهم من الناس طراً****بهم، لا همام بي، لا همام
لم أبع ديني المساوم بالوكس****ولا مقلياً من السوام
أخلص الله لي هواي، فما أغرق****نزعاً، ولا تطيش سهامي
ولهت نفسي الطروب إليهم****ولهاً، حال دون طعم الطعام(27)
ويظهر من سيرة الكميت أنّه كان هائماً في حب أهل البيت إلى درجة صوفية غارقة. وكان أحب شيء إليه أن يسمع منهم دعاء له، وأن يسموه شاعر أهل البيت، فيطير فرحاً ويبكي وجداً.
يروي صاحب الأغاني عن صاعد ـ مولى الكميت ـ قال: دخلنا على فاطمة بنت الحسين، فقالت: هذا شاعرنا ـ أهل البيت ـ وجاءت بقدح فيه سويق، فحركته بيدها ودفعته إليه فشربه، ثم أمرت له بثلاثين دينار ومركب، فهملت عيناه ثم قال: لا والله لا أقبلها، إني لم أحبكم للدنيا(28).
وروي عن محمّد بن سهل ـ صاحب الكميت ـ قال: دخلت مع الكميت على أبي عبدالله جعفر بن محمّد (الصادق) ـ عليه السلام ـ ، أيام التشريق بمنى، فقال: جعلت فداك، ألا أنشدك ؟ فقال يا كميت إنها أيام عظام، فقال: إنها فيكم، فقال: هات، وبعث الإمام إلى بعض أهل بيته فاجتمعوا ـ فأنشد لا ميته:
ألا هل عم في رأيه متأمل **** وهل مدبر بعد الإساءة مقبل
فكثر البكاء حوله... حتّى إذا قال:
يصيب به الرامون عن قوس غيرهم **** فيا آخراً أسدى له الغي أول
رفع الإمام الصادق يديه وقال: اللهم اغفر للكميت، ماقدم وما أخر، وما أسر وما أعلن، وأعطه حتّى يرضى(29).
وكانت هذه الدعوات أثمن هدية يتلقاها هذا العاشق الوله من أحبابه.
ثم نقف عند شاعر آخر عاش النصف الأول من القرن الثاني وردحاً من نصفه الثاني وهو السيد الحميري (105 ـ 173 هـ): إنه أبو هاشم إسماعيل بن محمّد بن يزيد بن مفرغ الحميري، ويكفي في رساليته أنّه ولد من أبوين خارجيين، يسبان علياً، لكنه هام في علي وآل بيته، وحينما علم أبواه بمذهبه هما بقتله، ففر من بيتهما وبقي بعيداً عنهما حتّى ماتا.
وحين سئل عن سبب ولائه لعلي وآل بيت رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ مع أن أبويه خارجيان، يقول: "غاصت علي الرحمة غوصاً"(30).
وتذكر الرواية أن السيد انفجر على لسانه الشعر، بسبب رؤيا مباركة، رأى فيها النبي يطلب منه أن يقلع أشجار نخل طوالاً لأمرئ القيس، ويغرسها في مكان آخر، وحين ذكر الرؤيا لابن سيرين قال له: "أما إنك ستقول شعراً مثل شعر امرئ القيس، إلاّ أنك تقول في بررة أطهار"(31). وهذه الرواية تبين أيضاً المنطلق الرسالي لهذا الشاعر.
أجمع الرواة أن للسيد شعراً كثيراً، وهو من أكثر الناس شعراً في الجاهلية والإسلام (32)، ولكن شعره تحومي بسبب إفراطه في ذكر الخلفاء الثلاثة بسوء وهنا أود أن أشير فقط إلى أن سبب الصحابة بدأ منذ زمن معاوية، حين أمر بسب أول الصحابة إسلاماً وأشدهم إيماناً وهو علي بن أبي طالب.
ولم يكتف أعداء علي بهذا السب، بل تستروا بالخلفاء الثلاثة لكي يطعنوا بالخليفة الرابع، فجعلوا بذلك علياً مقابل الخلفاء الثلاثة، وجعلوا مدح الخلفاء الثلاثة نوعاً من الطعن بعلي بينما لا نرى بين هؤلاء الأربعة نزاعاً في حياتهم قط ـ (وإن كانت لهم وجهات نظر متباينة)ـ، وإنّما هي السياسية الأموية، وسياسة كلّ أعداء علي، التي أرادت أن تطعن بعلي متسترة بالولاء للخلفاء الثلاثة، ولا تزال هذه السياسة المفرقة الاستفزازية
موجودة بشكل وآخر في عالمنا الإسلامي مع شديد الأسف.
وكان للموالين لعلي مواقف مختلفة من هذه الخطة الأموية. منهم من انتهج طريق فضح هذه الخطة، وتوضيح خلفية هذا اللون من الدفاع عن الخلفاء الثلاثة، مؤكداً أن هؤلاء لا يمدحونهم حباً بهم، بل بغضاً لعلي، وبعضهم اندفع لبيان أفضلية علي بين صحابة رسول الله، وبعضهم بلغ به رد الفعل إلى درجة ثلب الخلفاء الثلاثة هذه مسألة هامة نحتاج إلى الوقوف عندها طويلاً، وإنّما أشرت إليها لأذكر أن "السيد" كان يستفز أحياناً بمدح الخلفاء فيفهم من خلال الظروف التي كان يعيشها، أن هذا المدح يستهدف طعناً بعلي فينبري للدفاع عن الإمام وأهل بيته.
من ذلك أن أحدهم استفزه ببيت يقول:
محمّد خير من يمشي على قدم****وصاحباه، وعثمان بن عفان
فانتفض غاضباً يقول:
سائل قريشاً إذا ما كنت ذاعمه****من كان أبثتها في الدين أوتادا
من كان أعلمها علماً، وأحلمها****حلماً، وأصدقها قولاً وميعاد
إنّ يصدقوك فلن يعدوا أبا حسن****إنّ أنت لم تلق للأبرار حسادا(33)
ويركز السيد الحميري على المنطلق الرسالي في ولائه لعلي وآل بيت النبي، فيذكر تارة أنّه ينطلق في هذا الولاء من حديث رسول الله في غدير خم:
إذا أنا لم أحفظ وصاة محمّد****ولا عهده يوم الغدير المؤكد
فأني كمن يشري الضلالة بالهدى****تنصر من بعد التقى، وتهود
ومالي وتيم، أو عدي، وإنّما****أولوا نعمتي في الله من آل أحمد
تتم صلاتي بالصلاة عليهم****وليست صلاتي بعد أن أتشهد
بكاملة إنّ لم أصل عليهم****وأدع لهم رباً كريماً ممجد (34)
وتارة يذكر أن ولاءه له منطلق قرآني، لما جاء في حق آل البيت من آية التطهير:
إنّ يوم التطهير يوم عظيم****خص بالفضل فيه أهل الكساء(35)
وولع السيد الحميري بتصوير ما جاء في السيرة، من ارتباط عاطفي بين الرسول وأهل بيته، مشيراً إلى أن ولاءه لأهل البيت يستمد قوامه من السيرة، من ذلك أن السيد سمع محدثا يحدث أن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ كان ساجداً، فركب الحسن والحسين على ظهره، فقال عمر: "نعم المطي مطيكما" فقال النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ: ((نعم الراكبان هما))، فانفجرت قريحة السيد بالقول:
أتى حسناً والحسين النبي****وقد جلسا حجره يلعبان
ففداهما، ثم حياهما****وكان لديه بذاك المكان
فراحا وتحتهما عاتقاه****فنعم المطية، والراكبان
وليدان أمهما برة****حصان مطهرة للحصان
وشيخهما ابن أبي طالب****فنعم الوليدان والوالدان(36)
لأن وقفنا طويلاً عند هذا الولاء الرسالي، فلأن الشعر الشيعي متهم بالولاء الحزبي والطائفي وما هو كذلك، كما يرى بوضوح في النماذج المذكورة وسنمر سريعاً في ذكر الخصائص الأخرى التي تطبع الشعر الشيعي بالطابع الرسالي.
الدفاع عن مصالح الأمة
شعراء أهل البيت تصدوا للدفاع عن مصالح الأمة، وللحديث عما يحط بالمسلمين من ظلم الحكام وطغيانهم، وحث الناس على اليقظة والانتباه إلى تصرفات الحكام. وهذا الاتجاه في الشعر الشيعي يعني أنّه ابتعد عن المصالح الفئوية والحزبية، وحمل هموم الأمة، وارتفع إلى مستوى أهداف الإسلام في ردع الظلم، وإحقاق الحق، وإقامة المجتمع العادل.
ولعل خير مثال على هذا الاتجاه في الشعر الشيعي ـ لامية الكميت (37) ـ التي يبدؤها بتوعية الأمة وإيقاظها فيقول:
ألا هل عم في رأيه متأمل****وهل مدبر بعد الإساءة مقبل
وهل أمة مستيقظون لرشدهم****فيكشف عنه النعسة المتزمل
فقد طال هذا النوم واستخرج الكرى****مساويهم لو أن ذا الميل يعدل
ثم يذكر الشاعر منطلقه في ثورته على واقعه الاجتماعي المنحرف، موضحاً أن سبب ما يعج به المجتمع الإسلامي في عصره، من ظلم وفساد، إنّما هو الانحراف عن الكتاب والسنة، وتعطيل أحكام الإسلام.
وعطلت الأحكام حتّى كأننا****على ملة غير التي نتخل
كلام النبيين الهداة كلامنا****وأفعال أهل الجاهلية نفعل
أنظر إلى الشاعر كيف يحدد منطلقه في الدفاع عن الأمة، إنه يدين العودة إلى مظاهر الجاهلية، باعتبارها سبب كلّ انحراف ثم يندفع الشاعر في حث الأمة على استعادة كرامتها، وعدم الالتصاق بالأرض، والمتاع الدنيوي الرخيص، والارتفاع إلى مستوى التضحية في سبيل المبدأ يقول:
رضينا بدنياً لا نريد فراقها****على أننا فيها نموت ونقتل
ونحن بها المستمسكون كأنها****لنا جنة مما نخاف ومعقل
أرانا على حب الحياة وطولها****يجد بنا في كلّ يوم ونهزل
ثم يرفع صوته بوجه الظالمين، مندداً بما ينزلونه من عذاب بالأمة ومن استهانة بكرامتها وتضييع لحقوقها:
فتلك أمور الناس أضحت كأنها****أمور مضيع آثر النوم بهل (38)
فياساسة هاتوا لنا من جوابكم****ففيكم لعمري ذو أفانين مقول
أهل كتاب نحن فيه وأنتم****على الحق نقضي بالكتاب ونعدل
فكيف، ومن أنى، وإذ نحن خلفه****فريقان شتى تسمنون ونهزل
لنا راعيا سوء مضيعان منهما****أبو جعدة العادي وعرفاء جيال (39)
أتت غنماً ضاعت وغاب رعاؤها****لها فرعل، فيها شريك وفرعل(40)
ويؤكد الشاعر ثانية على منطلقه الرسالي في الدفاع عن الأمة، حين يعود ثانية إلى القول بأن هذه الأمة لا تصلح أوضاعها، إلاّ بأصلاح دينها، والعودة إلى هدى كتاب ربها وسنة نبيها، يقول:
أتصلح دنيانا جميعاً وديننا **** على ما به ضاع السوام الموبل (41)
كان كتاب الله يعنى بأمره **** وبالنهي فيه الكودني المركل(42)
ألم يتدبر آية فتدله **** على ترك ما يأتي، أم القلب مقفل
وكيف يمكن العودة إلى إسلام رسول الله، وهؤلاء الولاة الظلمة يسومون الأمة سوء العذاب؟:
فتلك ولاة السوء قد طال ملكهم **** فحتام حتام العناء المطول
رضوا بفعال السوء في أهل دينهم **** فقد أيتموا طوراً عداء وأثكلوا..
لهم كلّ عام بدعة يحدثونها **** أزلوا بها أتباعهم ثم أوحلوا
تحل دماء المسلمين لديهم **** ويحرم طلع النخلة المتهدل
ما أروع هذا البيت الأخير، الذي يصور وضع طواغيت العالم الإسلامي في كلّ زمان ومكان يستهينون بدماء المسلمين، وليست لنفس المسلم عندهم أية كرامة، لكنهم يطالبونه بأداء ما فرضوا عليه من ضرائب وخراج، ولا يحق له أن يمشي بين نخله، ويمسه حتّى يؤدي خراجه، فأن هو مسه قبل ذلك قتل.
ومثل هذا الدفاع عن حقوق الأمة المضيعة نجده عند جميع شعراء الشيعة.. دفاعاً ينطلق من إيمان بما أراده الله للإنسان المسلم، من عزة وكرامة وحقوق فردية واجتماعية.
وهذا التصدي للدفاع عن الأمة، عرضناه في شعر الكميت وهو يقارع الأمويين، ونعرض بعض أبيات شاعر شيعي آخر، هو أبو فراس الحمداني، وهو يدافع عن حقوق الأمة أمام ظلم حكام زمانه من العباسيين يقول:
الدين مخترم والحق مهتضم **** وفيء آل رسول الله مقتسم
والناس عندك لاناس فيحفظهم **** سوء الرعاء، ولا شاء ولا نعم...
وما السعيد بها إلاّ الذي ظلموا **** ولا الغني بها إلا الذي حرمو
للمتقين من الدنيا عواقبها **** وإن تعجل فيها الظالم الأثم(43)
وفي البيت الأخير، حث لأهل الإيمان أن لا ييأسوا من مطالبة حقهم، ومن مقارعة الظالمين.
(إنّ الأرض لله يروثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين)(44).
الصمود على المبدأ
مر بنا أن شعراء الشيعة كانوا يعلنون رساليتهم، والتزامهم بإسلام رسول الله، من خلال إعلانهم الولاء لآل البيت، والدفاع عن كرامة الأمة المسلمة. وهذا الموقف كلف
هؤلاء الشعراء التأنيب والتقريع، والتشريد والتجويع، وعانوا من ألوان الظلم والاضطهاد والعذاب، صابرين صامدين، مؤكدين على تعاليهم عما يتهافت عليه الناس، من مال ومتاع، وعلى تفانيهم في سبيل مبدا آمنوا به إيماناً جعلهم يستحلون كلّ تعذيب، طلباً لأجر الآخرة.
ولا يمكن أن نعرف مدى استقامة هؤلاء الشعراء وصمودهم، إلاّ إذا عرفنا جو الإرهاب الذي عاشوا فيه ن والبطش الذي مارسه الحكام بحق الصامدين على المبدأ ويكفي أن نلقي نظرة على كتب التاريخ، لنعرف أن الأمويين والعباسيين مارسوا أفظع ألوان التقتيل والتنكيل، بحق كلّ من كانوا يشكون.. يشكون فقط.. في ولائه لآل بيت رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ (45).
يقول الكميت:
ألم تر ني من حب آل محمّد **** أروح وأغدو خائفاً أترقب
كأني جان محدث وكأنما **** بهم يتقى من خشية العر أجرب
على أي جرم أم بأية سيرة **** أعنف في تقريظهم وأؤنب(46)
هكذا كان شاعر أهل البيت..، فهو خائف مترقب، معنف مؤنب، لا لذنب اقترفة سوى حبه لآل البيت وهذا الصمود أمام ألوان التحديات، يؤكد رسالية المسلك الذي إلى الشاعر على نفسه أن يسلكه.
وواضح أن هذا الأدب يختلف تماماً عن أدب اللهى التي تنفتح باللهى (47)، وعن ذلك الأدب الذي يصدر عن عصبية حزبية أو عشائرية لا يقوى صاحبها على مواجهة أي تهديد.
إنّ المعيار الذي اتخذه الشاعر الشيعي في حياته، يسمو على كلّ ارتباط قبلي أو عشائري، فهو معيار رسالي نابع من التزامه بالإسلام وبسنة رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ، لا يبالي بسخط الساخطين أو لوم اللائمين يقول:
فيهم صرت للبعيد ابن عم **** واتهمت القريب أي اتهام
وتناولت من تناول بالغبة **** أعراضهم وقل اكتتامي
ورأيت الشريف في أعين الناس **** وضيعاً وقل فيه احتشامي
معلناً للمعلنين، مسراً **** للمسرين، غير دحض المقام
مبدياً صفحتي على المرقب المعلم **** بالله عزتي واعتصامي
ما أبالي إذا حفظت أبا القاسم **** فيهم ملامة اللوام
ما أبالي، ولن أبالي فيهم **** أبداً رغم ساخطين رغام
فهم شيعتي وقسمي من الأمة، **** حسبي من سائر الأقسام(48)
الخوارج كفروا الشاعر، والأمويون اعتبروه مسيئا مذنباً، ولم يسؤه ذلك، ولم يتراجع عن موقفه قط:
يشيرون بالأيدي إلي، وقولهم **** إلاّ خاب هذا والمشيرون أخيب
فطائفة قد كفرتني بحبكم **** وطائفة قالوا: مسيء ومذنب
فما ساءني تكفير هاتيك منهم **** ولا عيب هاتيك التي هي أعيب
يعيبونني من خبهم وضلالهم **** على حبكم، بل يسخرون وأعجب(49)
ولم يتعرض الشاعر الشيعي للسخط في عصر الأمويين فحسب، بل في عصر العباسيين أيضاً، لأن هذا الشعر قد أتجه إلى مقارعة الطواغيت، سواء كانوا من بني أمية، أم من بني هاشم من العباسيين، ولذلك كان الشاعر الشيعي دعبل في العصر العباسي
مطارداً، مهدداً بالقتل، ويعبر عن استعداده لهذه التضحية فيقول: "أنا أحمل خشبتي على كتفي منذ خمسين سنة، لست أجد أحداً يصلبني عليها" (50).
المنطق الإسلامي في المدح والهجاء
منطق المدح والهجاء في الشعر العربي جاهلياً كان أم بعد الإسلام ينحو منحى معيناً، فهو في المدح يتناول الكرم والشجاعة والقوة.. وأمثالها من الخصال الحميدة، وفي الهجاء يركز على البخل والجبن والضعف، قد يتناول الأعراض والمثالب التاريخية...، لكننا نجد في الشعر الشيعي منطلقا خاصاً في المدح والهجاء، يستمد محتواه من مضامين القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، ومن غيرة على الإسلام والأمة الإسلاميّة.
مرت بنا رسالية الشاعر الشيعي والتزامه الإسلامي في إبراز ولائه لآل البيت ونذكر هنا بعض نماذج المدح والهجاء في الشعر الشيعي، ليتبين لنا أن العواطف الشيعية إنّما هي عواطف إسلامية صادقة، لا تسمح للشاعر أن يحيد عن مسيرة الرسالة ومحتواها العقائدي.
أبدأ بذكر نموذج من دعبل الخزاعي في تائيته المعروفة(51).
ألم تر للأيام ما جر جورها **** على الناس من نقص وطول شتات
ومن دول المستهترين، ومن غدا **** بهم طالباً للنور في الظلمات
فكيف ؟ ومن أنى يطالب زلفة **** إلى الله بعد الصوم والصلوات
سوى حب أبناء النبي ورهطه **** وبغض بني الزرقاء والعبلات
وهند، وما أدت سمية وأبنها **** أولو الكفر في الإسلام، والفجرات
هم نقضوا عهد الكتاب وفرضه **** ومحكمه بالزور والشبهات
لا حظ، أن الشاعر يؤلمه ما نزل بالناس من ظلم، ويؤلمه ما حل بالمجتمع الإسلامي من تمزق، ثم يهجو أولئك الّذين أنزلوا بالأمة هذه المصائب، فيقول: إنهم المستهترون الذي تحكموا في رقاب الأمة ومن لف لفهم.
"دول المستهترين" ما أجمله من تعبير، ينم عن فهم رائع لخصائص الحكم والحاكم في نظر هذا المسلم المتعلم في مدرسة أهل البيت.
ثم يشيد الشاعر بذكر أهل البيت، باعتبار أن حبهم فريضة إلهية بعد الصوم والصلاة، ويعلن كرهه لبني مروان وبني أمية (بني الزرقاء، والعبلات، وهند) لأنهم"أولو الكفر في الإسلام والفجرات"، ولانهم "نقضوا عهد الكتاب وفرضه".
ثم انظر في الأبيات التالية ـ معياره ـ في مدح أهل البيت:
فيا وارثي علم النبي، وآله **** عليكم سلام دائم النفحات
قفا نسأل الدار التي خف أهلها **** متى عهدها بالصوم والصلوات
وأين الأولى شطت بهم غربة النوى **** افانين في الآفاق مفترقات
هم أهل ميراث النبي إذ اعتزوا **** وهم خير سادات وخير حماة
مطاعيم في الإعسار في كلّ مشهد**** لقد شرفوا بالفضل والبركات
وانظر كيف يهجو أعداءهم:
وما الناس إلاّ حاسد ومكذب **** ومضطعن ذو إحنة وترات
إذا ذكروا قتلى ببدر وخيبر **** ويوم حنين أسبلوا العبرات
وكيف يحبون الني ورهطه؟ **** وهم تركوا أحشاءهم وغرات ؟
لقد لا ينوه في المقال وأضمروا **** قلوباً على الأحقاد منطويات
أعداء أهل البيت ـ إذن ـ هم أعداء النبي وأعداء الرسالة الإسلاميّة ، من الذين هزمهم الإسلام في بدر وخيبر وحنين، فاستسلموا يوم الفتح وقلوبهم تنطوي على الأحقاد.
هذا المنطق الإسلامي في المدح والهجاء نراه على طول تاريخ الشعر الشيعي.
ولنذكر نموذجاً آخر من فارس بني حمدان، أبي فراس الحمداني يقول في ميميته(52)
العظيمة يهجو بني العباس ويمدح آل البيت، ويقارن بين البيتين العباسي والعلوي، (انظر بدقة إلى معياره في المقارنة):
يا باعة الخمر كفوا عن مفاخركم **** عن فتية بيعهم يوم الهياج دم
خلوا الفخار لعلامين إنّ سئلوا **** يوم الفخار وعمالين إنّ علموا
لا يغضبون لغير الله إنّ غضبوا **** ولا يضيعون حكم الله إنّ حكموا
تنشى التلاوة في أبياتهم أبداً **** ومن بيوتكم الأوتار والنغم
منكم علية أم منهم؟ وكان لكم **** شيخ المغنين إبراهيم أم لهم؟(53).
أم من تشاد له الألحان سائرة **** عليهم ذو المعالي أم عليكم؟
إذا تلو سورة غني مغنيكم **** "قف بالديار التي لم يعفها القدم"(54).
ما في ديارهم للخمر معتصر **** ولا بيوتهم للسوء معتصم
ولا تبيت لهم أنثى تنادمهم **** ولا يرى لهم قرد له حشم
الحجر والبيت والأستار منزلهم **** وزمزم والصفا والركن والحرم.
لاحظ، كيف يمدح آل البيت: إنهم مضحون في سبيل الله علاّمون، عمّالون، لا يغضبون لغير الله، لا يضيعون حكم الله، ترتفع تلاوة القرآن في بيوتهم دائماً.. بيوتهم مطهرة من الخمر والسوء والمنكر، ومنزلهم مكان الذكر والعبادة: الحجر والبيت، وزمزم والصفا، والركن والحرم.
أما أعداؤهم فهم: باعة الخمر، ونساؤهم مغنيات، ورجالهم مغنون، وبيوتهم مكان اعتصار الخمر والسوء والفسق والفجور.
مما تقدم نفهم أن الشعر الشيعي رسالي، لا طائفي ولا حزبي ولا عشائري في ولائه وتبريه، وفي مواقفه الدفاعية، وصموده وأسلوبه.
وهكذا التشيع لم ينشأ مقابل "التسنن" كما يوحي بذلك الانقسام الموجود اليوم بين المسلمين إلى شيعة وسنة، بل نشأ باعتباره الأطروحة الملتزمة بالإسلام كما جاء به رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ، والمدافعة عن الرسالة أمام محاولات المحرفين وكيد الكائدين. وبهذا الفهم الموضوعي الواقعي للتشيع تزول الحساسيات النفسية القائمة اليوم بدرجة وأخرى بين أبناء السنة والشيعة.
___________________
1 ـ الطبري 5: 98.
2 ـ مثل ابن الأثير 3: 94.
3 ـ انظر آراء المستشرقين في ابن سبأ في كتاب نظرية الإمامة لأحمد محمود: 37، وانظر أيضاً: طه حسين الفتنة الكبرى، فصل ابن سبأ.
4 ـ أدب الشيعة إلى نهاية القرن الثاني الهجري؛ الدكتور عبد الحسيب طه حميدة: 122 ط 3، وانظر أيضاً: حزب الشيعة في العصر الأموي، الدكتورة ثريا عبد الفتاح.
5 ـ الأغاني 7: 11، 11: 120، الأمالي للمرتضى 1: 293، وديوان أبي الأسود الدولي: 119 ـ 121. و"هويا" فانه لغة هذيل يقولونها في كلّ مقصور (الأمالي 1: 293).
6 ـ البيان والتبيين 1: 134، 339.
7 ـ انظر: الطبري 4: 108، والعقد الفريد 5: 96، والكامل لابن الأثير 3: 386، الأغاني 11: 115.
8 ـ الطبقات الكبرى لابن سعد 7: 99.
9 ـ أسد الغابة 3: 70، ابن خلكان 2: 535.
10 ـ الأغاني 11: 107.
11 ـ الطبقات الكبرى لابن سعد7: 99.
12 ـ ديوان أبي الأسود: 78.
13 ـ كثير عزة، احمد الربيعي: 123.
14 ـ كثير عزة، أحمد الربيعي: 123.
15 ـ الشعر والشعراء لابن قتيبة 1: 413، الأغاني 8: 153.
16 ـ الأغاني 8: 34.
17 ـ المصدر السابق 8: 40.
18 ـ خزانة الأدب، للبغدادي 1: 144.
19 ـ الأغاني 15: 127، خزانة الأدب 1: 145.
20 ـ الأبيات من 31 ـ 36 من قصيد مطلعها:
إني ومن أين ابك الطرب *من حيث لا صبوة و لا ريب.
شرح هاشميّات الكميت، أبو رياس القيسي، تحقيق داود سلوم ونوري حمودي
القيسي: 110 ـ 111.
21 ـ البيان والتبيين 2: 172.
22 ـ الأمالي 3: 166.
23 ـ العقد الفريد 2: 157، ابن أبي الحديد 20: 489.
24 ـ أدب الشيعة، عبد الحسيب طه حميدة، ط 3: 222 ـ 223.
25 ـ الأغاني 15: 125، ومروج الذهب 2: 153، وأمالي الشريف المرتضى 1: 47.
26 ـ الأبيات 29 و 30 من هاشميته.
طربت وما شوقاً إلى البيض أطرب *ولا لعباً مني وذو الشيب يلعب؟
انظر شرح الهاشميات: 55 ـ 56.
27 ـ الأبيات 89 ـ 93 من هاشميته: من لقلب متيم مستهام *غير ما صبوة ولا أحلام. شرح الهاشميات 37 ـ 38.
28 ـ الغااني 15 ـ 123.
29 ـ المصدر السابق، ومروج الذهب 2: 154.
30 ـ الأغاني 7: 3.
31 ـ الأغاني 7: 237، ويرد على الرواية أن ابن سيرين توفي حين كان الكميت في الخامسة من عمره.
32 ـ طبقات فحول الشعراء، لابن سلام 1: 195.ومعجم الشعراء للمرزباني: 347.
33 ـ الأغاني 7: 266.
34 ـ من الغديريات التي ذكرها العلامة الأميني في كتاب الغدير 2: 215، وانظر الأغاني 7: 17 ـ 18، وحديث الغدير متواتر لدى أهل السنة والشيعة، لكن بعض الباحثين المحدثين قال: إنه من الأحاديث الخاصة بالشيعة.
35 ـ الأغاني 7:7، وأهل الكساء هم: محمّد، وعلي، وفاطمة، والحسن، والحسين. وحديث الكساء هو أيضاً من الأحاديث المتواترة لدى كلّ المسلمين لكن الظروف التاريخية حولته إلى حديث خاص بطائفة معينة.
36 ـ الأغاني 7: 16.
37 ـ انظر: شرح هاشميات الكميت: 146 ـ 187 وهي 111 بيتاً.
38 ـ يقول: أمور الناس مهملة مبعثرة لا مدبر لها. فأمورهم كالإبل المهملة التي لا قيم لها ولا راعي يحفظها.
39 ـ راعيا سوء: يعني هشاماً بن عبد الملك الخليفة، وخالد بن عبدالله القسري والي العراق. ويقصد بالذئب هشاماً، والقرفاء: الضبع، ويقصد به خالداً. وقله جيال: أي كبير.
40 ـ أي أتت الضبع غنما لا راعي لها، ولا مانع يمنعها فعاثت فيها والفرعل: ولد الضبع.
41 ـ السوام الموبل: ما رعي من المال. يقول: أتصلح الدنيا والدين، وأنتم تمارسون الجور والفساد، وتضيعون الثروات؟
42 ـ الكودني: البليد كأنه كودن، أي برذون. والمركل: الذي لا يتحرك إلاّ بالركل لشدة تثاقله بوطئه.
43 ـ ديوان الأمير أبي فراس الحمداني، تحقيق الدكتور محمّد التونجي: 258.
44 ـ الأعراف: 128:
45 ـ بلغ الأمر بالشاعر الشيعي أن يتمنى بقاء جور بني مروان، فهو أفضل مما
نزل بالعلويين من ظلم بني العباس
يا اليت جوربني مروان عادَلنا ياليت ظلم بني العباس في النار.
46 ـ الأبيات 75 ـ 77 من هاشميته التي مطلعها:
طربت وما شوقاً إلى البيض أطرب *ولا لعباً مني وذو الشيب يلعب؟
47 ـ اللهي بفتح اللام هي اللهاة في مؤخر الفم، واللهى: هي لقم الطعام.
48 ـ شرح هاشميات الكميت: 35 ـ 37.
49 ـ المصدر السابق: 52 ـ 53.
50 ـ الأغاني 18: 30 ـ 34.
51 ـ انظر القصيدة التائية الخالدة في ديوان دعبل الخزاعي، تحقيق عبد الصاحب الدجيلي: 124 ـ 151.
52 ـ ديوان الأمير أبي فراس الحمداني: 257 ـ 262.
53 ـ علية: بنت المهدي، اخت الخليفة العباسي هارون الرشيد، قال القيرواني
في زهر الآداب 1: 43: "كانت علية لطيفه المعنى، رقيقة الشعر، حسنة مجاري
الكلام، ولها ألحان حسان، وعلقت بغلام اسمه (رشا) وفيه تقول:
أضحى الفؤاد بزينبا صباً كثيباً متعب*
فجعلت زينب سترة وكتمت أمراً معجب
قولها بزينب تريد برشا فنمي الأمر إلى أخيها الرشيد، فأبعده، وقيل: قتله.
وعلقت بغلام اسمه (طل) فقال لها الرشيد: والله لئن ذكرته لاقتلنك. فدخل
عليها يوماً على حين غفلة وهي تقرأ: فإن لم يصبها وابل فما نهى عنه أمير
المؤمنين فضحك، وقال: ولا كلّ هذا...
أما إبراهيم، فهو ابن المهدي عم المأمون، مغن موسيقار، يعرف بابن شكله.
حينما بايع المأمون الإمام الرضا بولاية العهد، نقم عليه العباسيون،
فاستغلوا وجود المأمون في (مرو)، فبايعوا إبراهيم خليفة للمسلمين وفي مدة
تربعه على كرسي الخلافة أصيبت الخزينة بالعجز، فألح عليه الجند وغيرهم في
أعطياتهم، فخرج إليهم رسول يقول: إنّه لا مال عند الخليفة، فطلب المتجمهرون
بدلاً من المال أن يخرج الخليفة فيغني لأهل هذا الجانب ثلاث أصوات، ولأهل
ذاك الجانب ثلاث اصوات (وفيات الأعيان 1: 8.)
وفي ذلك يقول دعبل:
يا معشر الأجناد لا تقنطوا وارضوا بما كان ولا تسخطوا ***فسوف تعطون (حنينية) يلتذها الأمرد والأشمط
و(المعبديات) لقوادكم لاتدخل الكيس ولا تربط ***وهكذا يرزق أصحابه خليفة مصحفه (البربط)
الديوان: 219.
54 ـ صدر البيت من مطلع قصيدة جاهلية لزهير، وعجزه: بلى وغيرها الأرواح والديم ـ يقصد أنكم مقابل تلاوتهم السور، تتغنون بأشعار الجاهلية.
الرسالية في الشعر الشيعي
الدكتور محمّد علي آذر شب
يطلق اسم الشعر الشيعي على ذلك الشعر، الذي قيل في علي وآل بيت رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ مدحاً ودفاعاً ورثاءً. ومنذ القرن الإسلامي الأول برز شعراء كرسوا جل اهتمامهم في هذا المجال، فسموا شعراء الشيعة.
وفي هذا المقال أهدف إلى إلقاء الضوء على هذا اللون من الشعر في الأدب العربي، لأعرض بعض ما تبين لي من حقائق عند دراسة الشعر الشيعي وتدريسه، وأحسب أنها مفيدة في إبعاد الصفة "الطائفية" و"الحزبية" عن هذا الشعر، وفي استجلاء حقيقة "الرسالية" و"الروح الإسلاميّة" فيه.
في البداية لابد من القول: إنّ الكشف عن حقيقة الشعر الشيعي ورساليته، يخدم هدف "التقريب" بين الأمة المسلمة الواحدة، فسيتبين أنّه يتحدث بلغة إسلامية لا طائفية، ويدافع عن أهداف الإسلام، ويعبر عن آمال الأمة وآلامها، دون أن يتحدد بإطار مذهبي ضيق، ودون أن تكون له أهداف حزبية دنيوية دنيئة.
ومن نافلة القول: إنّ ما أحيط به الشعر الشيعي من أحكام بعيدة عن الصواب، إنّما
هو ناشئ من نظرة "أموية" سادت في كتب القدماء والمحدثين عن الشيعة ونشأتهم وعقائدهم فأسطورة ابن سبأ نقلها الطبري في تاريخه(1)، وتناقلها عنه المؤرخون القدامى (2).
ووجد المستشرقون في هذه الأسطورة ما ينسجم مع رغبتهم في تركيز الخلافات التاريخية بين المسلمين، وتسليط الأضواء على ما ورد بشأن تشرذمهم وتمزقهم، مثل: (فلها وزن) و(دوزى) و(فان فلوتن) ثم راح تلامذة المستشرقين في العالم الإسلامي يحوكون على نفس المنوال (3) مع الأسف، تاركين في الأمة حساسيات وحزازات تثقل كاهل كلّ العاملين في حقل توحيد صفوف المسلمين.
لا أريد هنا أن أتعرض لنشأة الشيعة والتشيع، إنّما أردت الإشارة فقط إلى خلفية النظرات السلبية التي أحيط بها الشعر الشيعي، والتي جعلته في نظر الباحثين المحدثين شعراً حزبياً، وجعلت فواعله في نظرهم نفس فواعل الشعر الأموي ومصادره: تراث جاهلي، وإلهام إلهي، وتأثير أجنبي، وعصبية قبلية، وأهواء سياسية(4).
ولدراسة طبيعة الشعر الشيعي لابد أن نلقي نظرة على موضوعاته، لنتبين من خلالها طبيعته الرسالية:
الحب الرسالي
الإيمان بالمبدأ يقترن دائماً بعواطف حب وبغض، وهذه العواطف توجهها العقيدة وتقوى بقوتها.
ومن العقيدة الإسلاميّة تنشأ عواطف حب الله ورسوله والمؤمنين، وبغض أعداء
الله وأعداء الرسالة الإسلاميّة.
وإذا ترسخت هذه العقيدة في النفوس، ترتفع على كلّ وليجة وآصرة من قرابة، أو قوم، أو جنس، فيضحي الإنسان من أجل هذا الحب الرسالي ويتفاني من أجله.
ونحن نرى هذا الحب الرسالي بوضوح في الشعر الشيعي. يقول أبو الأسود الدولي:
أحب محمداً حباً شديداً**** وعباسا وحمزة والوصي
وجعفر إنّ جعفر خير سبط**** شهيد في الجنان مهاجري
أحـبـهـم كـحـب الله حتـّى**** أجيء إذا بعثت على هويا (5)
هوى أعطيـته منـذ اسـتـدارت**** رحى الإسلام لم يعدل سوي
لاحظ: إنّ هذا الهوى ينطلق من الإسلام، فالشاعر ألهمه منذ استدارت رحى الإسلام، وهو حب شديد لله أوّلاً، ثم لرسوله، والرهط الكريم من آل بيته: العباس والحمزة والوصي وجعفر...
ولنقف برهة عند الشاعر، لنتبين شخصيته، ومدى صدقه في التعبير عن عواطفه.
هو: ظالم بن عمرو القرشي البصري من التابعين، والفقهاء، والشعراء، والمحدثين، والأشراف، والفرسان...
قال عنه الجاحظ: إنه "من المتقدمين في العلم" (6).
عرف بتشدده في الالتزام بأحكام الدين، حتّى اختلف مع عبدالله بن عباس، ومع زياد ابن أبيه حين اعتقد أنهما استغلا منصبهما لمصالحهما الشخصية (7).
كان "ثقة في حديثة"(8).
وشهد مع الإمام علي ـ عليه السلام ـ وقعتي: الجمل وصفين (9).
واستعمله عمر وعثمان على البصرة(10).
ثم أصبح قاضياً على البصرة في زمن الإمام علي ـ عليه السلام ـ ، بعد أن ولى الإمام علي عبدالله بن عباس البصرة سنة(40 هجرية).
ثم أصبح والياً على البصرة حتّى مقتل الإمام علي ـ عليه السلام ـ (11).
وحاول معاوية إرشاءه بالهدايا، لكنه أبي أن يأخذها رغم ما كان يعانيه من ضنك في العيش، بسبب قلة عطائه. وحين سألته ابنته عن تلك الهدايا قال: "بعث بها معاوية يخدعنا عن ديننا"فقالت ابنته التي تحمل نفس عواطف أبيها وإبائه:
أبـا لشهد المزعفـر يـا ابـن حـرب**** *نبيـع عـليك أحـسابــاً وديــنــا؟
معاذ الـلـه كــيــف يـكــون هـذا*****ومولانا أميـر المـؤمـنـيـنــا ؟(12)
هذا شاعر من النصف الأول من القرن الهجري الأول (ت 69 هـ).
ولنقف عند شاعر آخر من النصف الثاني لهذا القرن، وهو كثير بن عبد الرحمن الخزاعي المعروف بكثير عزة (ت 105 هـ)، حيث يقول:
إنّ أمرأ كانت مساوِؤه****حب النبي لغير ذي ذنب
وبني أبي حسن ووالدهم ****من طاب في الأرحام والصلب
أترون ذنباً أن نحبهم ؟**** بل حبهم كفارة الذنب (13)
واضح، أن الشاعر يشير في هذه الأبيات إلى ما كان يتحمله من ضغوط أموية بسبب رساليته، أو بسبب حبه الرسالي للنبي، وعلي وآل علي، فليس هذا بذنب كما يرى بنو أمية، بل هو كفارة الذنب، وطريق الهدى والنجاة، وكيف لا يتحمل هذه الضغوط وهو يعيش في عصر يسب فيه علي على المنابر؟.
ويعبر الشاعر في أبيات أخرى عن أساه وألمه لهذا السب، بلغة تنطلق من عاطفة إسلامية رسالية، هي لغة كلّ المسلمين في عصره، اللهم إلاّ الشرذمة الضالعة في ركاب الحكام الظالمين:
لعن الله من يسب عليا****وبنيه من سوقه وإمام
أيسب المطهرون جـدوداَ****والكرام الأخوال والأعمام؟
يأمن الطير والحمام ولا****يأمن آل الرسول عند المقام
طبت بيتا، وطاب أهلك أهلا****أهل بيت النبي والإسلام
رحمة الله والسلام عليهم****كلما قام قائم بسلام (14)
هذا الولاء الذي يحمله الشاعر لآل بيت رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ لم يكن يعبر عن نظرة فئوية حزبية، بل عن نظرة إسلامية شعبية عامة، اتسعت لتستوعب حتّى الخليفة المرواني ـ عمر بن عبد العزيز ـ الذي استنكر هذا السّب ومنعه في نفس زمن حياة الشاعر كثير عزة. فطار الشاعر فرحا، وانشد قصيدته يثني على الخليفة موقفه هذا، وعدله بين الرعية، ورفعه الظلم عن الناس:
وليت فلم تشتم عليا ولم تخف**** بريا ولم تقبل إشارة مجرم
وصدقت بالفعل المقال مع الذي****أتيت فأمسى راضياً كلّ مسلم
وأظهرت نور الحق فاشتد نوره****على كلّ لبس بارق الحق مظلم(15)
ويكفي لمعرفة صدق ولاء الشاعر لآل بيت رسول الله، أنّه قال ما قال في مدحهم في أقسى ظروف الضغط الأموي على آل البيت. وفي أخباره ما يدل على شدة ولائه لأهل بيت رسول الله بما في ذلك أبناؤهم وذريتهم فكان يأتي إلى أبناء الحسن بن الحسن فينظر إليهم بعاطفة شديدة، تذكره بجدهم رسول الله وبنسبهم الطاهر، فتفيض عيناه دمعاً، ويقول: "بأبي انتم، هؤلاء الأنبياء الصغار"، ويريد بذلك: طهرهم وسمو منزلتهم.
وكان يهب لهؤلاء الصغار عطاءه، فيقول له محمّد بن عبدالله بن عمرو بن عثمان،
وهو أخوهم لأمهم: "يا عم هب لي، فيقول كثير: لا، لست من الشجرة"(16).
وله أخبار مع سكينة بنت الحسين ـ عليه السلام ـ منها: أنّه كان خارجا في الحاج، وقد أراد أن يبيع جمله، فساومته سكينه وهو لم يعرفها، وإنّما عرفته سكينة، فلم يرض إلاّ مائتي درهم، وحين عرفها استحيا وانصرف مهرولاً تاركاً لها الجمل وهو يقول: "هو لكم، هو لكم "(17) خجلاً وإجلالاً.
وإذا وقفنا عند الكميت لاستجلاء هذا الحب الرسالي في شعره، فأننا سنجد العجب العجاب. هذا الشاعر الذي عاش النصف الثاني من القرن الأول، والعقود الثلاثة الأولى من القرن الثاني (60 ـ 126 هـ) كان "خطيب بني أسد، وفقيه الشيعة، وحافظ القرآن، وثبت الجنان"(18).
وسئل معاذ الهراء: "من أشعر الناس ؟ فقال: من الجاهليين: امرؤ القيس، وزهير، وعبيد بن الأبرص. ومن الإسلاميين: الفرزدق، وجرير، والأخطل. فقيل له: يا أبا محمّد، ما رأيناك ذكرت الكميت ! فقال: ذاك اشعر الأولين والآخرين"(19).
ومدحه للنبي ـ صلى الله عليه وآله ـ معروف، وقف عنده النقاد كثيراً، ويحسن أن نتعرض له ولو قليلاً لأنه يكشف عن جانب هام من ولائه الرسالي وظروف عصره.
يقول الكميت:
فاعتتب الشوق في فؤادي والشعر****إلى من إليه معتتب
إلى السراج المنير أحمد لا**** يعدلني رغبة ولا رهب
وقيل أفرطت، بل قصدت، ولو**** عنفني القائلون، أو ثلبو
إليك يا خير من تضمنت الأرض**** وإن عاب قولي العيب
لج بتفضيلك اللسان، ولو****أكثر فيك الضجاج واللجب(20)
والعجيب في هذه الأبيات أنّه يتحدث عمّن يؤنبه ويعنفه لمدحه النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ، ويصر على هذا المدح وإن عاب العائبون، وعنف وثلب القائلون.
الجاحظ يرى: أن قول الكميت هذا هو "من غرائب الحمق"، ويتساءل مستغرباً: "فمن رأى شاعراً مدح النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ، فاعترض عليه واحد من جميع أصناف الناس!، حتّى يزعم أنّ أناساً يعيبونه ويثلبونه ويعنفونه"؟(21).
والشريف المرتضى رحمه الله يرى أن الكميت لم يرد في مدحه النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ، وإنّما أراد عليا ـ عليه السلام ـ فورى عنه بذكر النبي خوفاً من بني أمية(22).
وأجمل ما رأيت من تحليل لمدح الكميت المذكور، ورأي النقاد فيه، ما كتبه الأستاذ الدكتور عبد الحسيب طه حميدة، أنقله بنصه لأهميته، إذ يقول:
(ونحن نرى: أن الكميت كان أعلم بأخلاق عصره من هؤلاء، وأمس بسياسته...، كان يشعر بأنه يحيا وسط دولة ترى: أن هذا اللون من مدح الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ تزكية للهاشميين، ولفت للذهن إلى حق هؤلاء في الخلافة.
وإذا كانت السياسة قد أباحت لابن الزبير ـ على مكانته الدينية وبيته من الإسلام ـ أن يسقط ذكر النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ من خطبه، حتّى إذا ليم على ذلك، قال: والله ما يمنعني من ذكره علانية أني لا أذكره سراً، وأصلي عليه، ولكني رأيت هذا الحي من بني هاشم إذا سمعوا ذكره، اشرأبت أعناقهم، وأبغض الأشياء إلي ما يسرهم. وفي رواية: أن له أهيل سوء(23).
نقول: إذا كانت السياسة قد أباحت لابن الزبير هذا، فما بالك ببني أمية في عصر الكميت وقد تغيرت الأخلاق، وفسد الناس؟.
فالكميت يحدثنا عن عصر يحيا فيه، ويصطلي بسياسته، ويحس أن مدحه للرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ يعرضه للعيب والثلب والعنف.
والجاحظ يحكم في الرجل نظرة دينية، ويتناسى أن السياسة قد بدأت في هذا العصر تستقل عن الدين، فبغضت هذا اللون من المديح، لا لأنه مدح للرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ بل لأنه ضرب من التمرد والشغب، والخروج على السلطان، به تشرئب أعناق الهاشميين، ويلفت الناس إليهم... هذا إلى أن الجاحظ عثماني، فلا غرو أن اهتم بنفي هذه التهمة عن بني أمية، واحتشد لذلك، فعد مذهب الكميت حمقاً، بل من غرائب الحمق) (24). ويظهر من الروايات: أن الكميت جند نفسه منذ بداية انبثاق الشعر على لسانه للدفاع عن أهل البيت، ورواية صاحب الأغاني عن الحوار بين الكميت والفرزدق، تبين أيضاً اهتمام الشاعر بأن تكون كلمته في المدح قوية مؤثرة، تملك المشاعر والنفوس، حتّى جعلت شاعراً كبيراً مثل الفرزدق، يحار ويدهش أمام هذا الشاعر الناشئ.
انظر إلى هذا الحوار:
الكميت: يا أبا فراس، إنك شيخ مضر وشاعرها، وأنا ابن أخيك الكميت بن زيد. الفرزدق: صدقت، أنت ابن أخي، فما حاجتك؟
الكميت: نفث على لساني، فقلت شعراً، فأحببت أن أعرضه عليك، فأن كان حسناً، أمرتني بإذاعته، وإن كان قبيحاً، أمرتني بستره، وكنت أول من ستره علي.
فقال الفرزدق: أما عقلك فحسن، وإني لأرجو أن يكون شعرك على قدر عقلك، فأنشدني، فأنشده:
طربتُ وما شوقاً إلى البيض أطْرَبُ
فقال الفرزدق: ففيم تطرب يا ابن أخي ؟ فقال:
ولا لَعِباً منّي وذو الشّيبِ يَلعبُ؟
فقال الفرزدق: بلى يا ابن أخي، فالعب فأنك في أوان اللعب فقال:
ولم يلهني دار ولا رسم منزل **** ولم يتطربني بنان مخضب
فقال: وما يطربك يا ابن أخي ؟ فقال:
ولا أنا ممن يزجر الطير همه****أصاح غراب أم تعرض ثعلب
ولا السانحات البارحات عشية****أمرّ سليم القرن، أم مرّ أعضب.
فقال: أجل، لا تتطير فقال:
ولكن إلى أهل الفضائل والتقى ****وخير بني حواء، والخير يطلب
فقال: ومن هؤلاء ويحك؟ فقال:
إلى النفر البيض الّذين بحبهم**** إلى الله فيما نالني أتقرب
فقال: أرحني ويحك، من هؤلاء؟ فقال
بني هاشم رهط النبي فأنني**** بهم، ولهم أرضى مراراً وأغضب
فقال الفرزدق: يا ابن أخي، أذع ثم أذع، فأنت ـ والله ـ أشعر من مضى وأشعر من بقي(25).
ونجد في شعر الكميت تركيزاً على الدافع الديني في ولائه لأهل البيت، فحبه ينطلق من تربية قرآنية وطدت جذور هذا الحب في نفسه.
وجدنا لكم في آل حاميم آيةً****تأولها منا تقي ومعرب
وفي غيرها آياً، وآياً تتابعت****لكم نصب فيها لذي الشك منصب(26)
ويؤكد: أن حبه لأهل البيت، هو استمرار لحب رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ وأنه بدافع طلب مرضاة الله سبحانه وتعالى:
إنّ أمت لا أمت ونفسي نفسان****من الشك في عمى أو تعامي
عادلاً غيرهم من الناس طراً****بهم، لا همام بي، لا همام
لم أبع ديني المساوم بالوكس****ولا مقلياً من السوام
أخلص الله لي هواي، فما أغرق****نزعاً، ولا تطيش سهامي
ولهت نفسي الطروب إليهم****ولهاً، حال دون طعم الطعام(27)
ويظهر من سيرة الكميت أنّه كان هائماً في حب أهل البيت إلى درجة صوفية غارقة. وكان أحب شيء إليه أن يسمع منهم دعاء له، وأن يسموه شاعر أهل البيت، فيطير فرحاً ويبكي وجداً.
يروي صاحب الأغاني عن صاعد ـ مولى الكميت ـ قال: دخلنا على فاطمة بنت الحسين، فقالت: هذا شاعرنا ـ أهل البيت ـ وجاءت بقدح فيه سويق، فحركته بيدها ودفعته إليه فشربه، ثم أمرت له بثلاثين دينار ومركب، فهملت عيناه ثم قال: لا والله لا أقبلها، إني لم أحبكم للدنيا(28).
وروي عن محمّد بن سهل ـ صاحب الكميت ـ قال: دخلت مع الكميت على أبي عبدالله جعفر بن محمّد (الصادق) ـ عليه السلام ـ ، أيام التشريق بمنى، فقال: جعلت فداك، ألا أنشدك ؟ فقال يا كميت إنها أيام عظام، فقال: إنها فيكم، فقال: هات، وبعث الإمام إلى بعض أهل بيته فاجتمعوا ـ فأنشد لا ميته:
ألا هل عم في رأيه متأمل **** وهل مدبر بعد الإساءة مقبل
فكثر البكاء حوله... حتّى إذا قال:
يصيب به الرامون عن قوس غيرهم **** فيا آخراً أسدى له الغي أول
رفع الإمام الصادق يديه وقال: اللهم اغفر للكميت، ماقدم وما أخر، وما أسر وما أعلن، وأعطه حتّى يرضى(29).
وكانت هذه الدعوات أثمن هدية يتلقاها هذا العاشق الوله من أحبابه.
ثم نقف عند شاعر آخر عاش النصف الأول من القرن الثاني وردحاً من نصفه الثاني وهو السيد الحميري (105 ـ 173 هـ): إنه أبو هاشم إسماعيل بن محمّد بن يزيد بن مفرغ الحميري، ويكفي في رساليته أنّه ولد من أبوين خارجيين، يسبان علياً، لكنه هام في علي وآل بيته، وحينما علم أبواه بمذهبه هما بقتله، ففر من بيتهما وبقي بعيداً عنهما حتّى ماتا.
وحين سئل عن سبب ولائه لعلي وآل بيت رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ مع أن أبويه خارجيان، يقول: "غاصت علي الرحمة غوصاً"(30).
وتذكر الرواية أن السيد انفجر على لسانه الشعر، بسبب رؤيا مباركة، رأى فيها النبي يطلب منه أن يقلع أشجار نخل طوالاً لأمرئ القيس، ويغرسها في مكان آخر، وحين ذكر الرؤيا لابن سيرين قال له: "أما إنك ستقول شعراً مثل شعر امرئ القيس، إلاّ أنك تقول في بررة أطهار"(31). وهذه الرواية تبين أيضاً المنطلق الرسالي لهذا الشاعر.
أجمع الرواة أن للسيد شعراً كثيراً، وهو من أكثر الناس شعراً في الجاهلية والإسلام (32)، ولكن شعره تحومي بسبب إفراطه في ذكر الخلفاء الثلاثة بسوء وهنا أود أن أشير فقط إلى أن سبب الصحابة بدأ منذ زمن معاوية، حين أمر بسب أول الصحابة إسلاماً وأشدهم إيماناً وهو علي بن أبي طالب.
ولم يكتف أعداء علي بهذا السب، بل تستروا بالخلفاء الثلاثة لكي يطعنوا بالخليفة الرابع، فجعلوا بذلك علياً مقابل الخلفاء الثلاثة، وجعلوا مدح الخلفاء الثلاثة نوعاً من الطعن بعلي بينما لا نرى بين هؤلاء الأربعة نزاعاً في حياتهم قط ـ (وإن كانت لهم وجهات نظر متباينة)ـ، وإنّما هي السياسية الأموية، وسياسة كلّ أعداء علي، التي أرادت أن تطعن بعلي متسترة بالولاء للخلفاء الثلاثة، ولا تزال هذه السياسة المفرقة الاستفزازية
موجودة بشكل وآخر في عالمنا الإسلامي مع شديد الأسف.
وكان للموالين لعلي مواقف مختلفة من هذه الخطة الأموية. منهم من انتهج طريق فضح هذه الخطة، وتوضيح خلفية هذا اللون من الدفاع عن الخلفاء الثلاثة، مؤكداً أن هؤلاء لا يمدحونهم حباً بهم، بل بغضاً لعلي، وبعضهم اندفع لبيان أفضلية علي بين صحابة رسول الله، وبعضهم بلغ به رد الفعل إلى درجة ثلب الخلفاء الثلاثة هذه مسألة هامة نحتاج إلى الوقوف عندها طويلاً، وإنّما أشرت إليها لأذكر أن "السيد" كان يستفز أحياناً بمدح الخلفاء فيفهم من خلال الظروف التي كان يعيشها، أن هذا المدح يستهدف طعناً بعلي فينبري للدفاع عن الإمام وأهل بيته.
من ذلك أن أحدهم استفزه ببيت يقول:
محمّد خير من يمشي على قدم****وصاحباه، وعثمان بن عفان
فانتفض غاضباً يقول:
سائل قريشاً إذا ما كنت ذاعمه****من كان أبثتها في الدين أوتادا
من كان أعلمها علماً، وأحلمها****حلماً، وأصدقها قولاً وميعاد
إنّ يصدقوك فلن يعدوا أبا حسن****إنّ أنت لم تلق للأبرار حسادا(33)
ويركز السيد الحميري على المنطلق الرسالي في ولائه لعلي وآل بيت النبي، فيذكر تارة أنّه ينطلق في هذا الولاء من حديث رسول الله في غدير خم:
إذا أنا لم أحفظ وصاة محمّد****ولا عهده يوم الغدير المؤكد
فأني كمن يشري الضلالة بالهدى****تنصر من بعد التقى، وتهود
ومالي وتيم، أو عدي، وإنّما****أولوا نعمتي في الله من آل أحمد
تتم صلاتي بالصلاة عليهم****وليست صلاتي بعد أن أتشهد
بكاملة إنّ لم أصل عليهم****وأدع لهم رباً كريماً ممجد (34)
وتارة يذكر أن ولاءه له منطلق قرآني، لما جاء في حق آل البيت من آية التطهير:
إنّ يوم التطهير يوم عظيم****خص بالفضل فيه أهل الكساء(35)
وولع السيد الحميري بتصوير ما جاء في السيرة، من ارتباط عاطفي بين الرسول وأهل بيته، مشيراً إلى أن ولاءه لأهل البيت يستمد قوامه من السيرة، من ذلك أن السيد سمع محدثا يحدث أن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ كان ساجداً، فركب الحسن والحسين على ظهره، فقال عمر: "نعم المطي مطيكما" فقال النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ: ((نعم الراكبان هما))، فانفجرت قريحة السيد بالقول:
أتى حسناً والحسين النبي****وقد جلسا حجره يلعبان
ففداهما، ثم حياهما****وكان لديه بذاك المكان
فراحا وتحتهما عاتقاه****فنعم المطية، والراكبان
وليدان أمهما برة****حصان مطهرة للحصان
وشيخهما ابن أبي طالب****فنعم الوليدان والوالدان(36)
لأن وقفنا طويلاً عند هذا الولاء الرسالي، فلأن الشعر الشيعي متهم بالولاء الحزبي والطائفي وما هو كذلك، كما يرى بوضوح في النماذج المذكورة وسنمر سريعاً في ذكر الخصائص الأخرى التي تطبع الشعر الشيعي بالطابع الرسالي.
الدفاع عن مصالح الأمة
شعراء أهل البيت تصدوا للدفاع عن مصالح الأمة، وللحديث عما يحط بالمسلمين من ظلم الحكام وطغيانهم، وحث الناس على اليقظة والانتباه إلى تصرفات الحكام. وهذا الاتجاه في الشعر الشيعي يعني أنّه ابتعد عن المصالح الفئوية والحزبية، وحمل هموم الأمة، وارتفع إلى مستوى أهداف الإسلام في ردع الظلم، وإحقاق الحق، وإقامة المجتمع العادل.
ولعل خير مثال على هذا الاتجاه في الشعر الشيعي ـ لامية الكميت (37) ـ التي يبدؤها بتوعية الأمة وإيقاظها فيقول:
ألا هل عم في رأيه متأمل****وهل مدبر بعد الإساءة مقبل
وهل أمة مستيقظون لرشدهم****فيكشف عنه النعسة المتزمل
فقد طال هذا النوم واستخرج الكرى****مساويهم لو أن ذا الميل يعدل
ثم يذكر الشاعر منطلقه في ثورته على واقعه الاجتماعي المنحرف، موضحاً أن سبب ما يعج به المجتمع الإسلامي في عصره، من ظلم وفساد، إنّما هو الانحراف عن الكتاب والسنة، وتعطيل أحكام الإسلام.
وعطلت الأحكام حتّى كأننا****على ملة غير التي نتخل
كلام النبيين الهداة كلامنا****وأفعال أهل الجاهلية نفعل
أنظر إلى الشاعر كيف يحدد منطلقه في الدفاع عن الأمة، إنه يدين العودة إلى مظاهر الجاهلية، باعتبارها سبب كلّ انحراف ثم يندفع الشاعر في حث الأمة على استعادة كرامتها، وعدم الالتصاق بالأرض، والمتاع الدنيوي الرخيص، والارتفاع إلى مستوى التضحية في سبيل المبدأ يقول:
رضينا بدنياً لا نريد فراقها****على أننا فيها نموت ونقتل
ونحن بها المستمسكون كأنها****لنا جنة مما نخاف ومعقل
أرانا على حب الحياة وطولها****يجد بنا في كلّ يوم ونهزل
ثم يرفع صوته بوجه الظالمين، مندداً بما ينزلونه من عذاب بالأمة ومن استهانة بكرامتها وتضييع لحقوقها:
فتلك أمور الناس أضحت كأنها****أمور مضيع آثر النوم بهل (38)
فياساسة هاتوا لنا من جوابكم****ففيكم لعمري ذو أفانين مقول
أهل كتاب نحن فيه وأنتم****على الحق نقضي بالكتاب ونعدل
فكيف، ومن أنى، وإذ نحن خلفه****فريقان شتى تسمنون ونهزل
لنا راعيا سوء مضيعان منهما****أبو جعدة العادي وعرفاء جيال (39)
أتت غنماً ضاعت وغاب رعاؤها****لها فرعل، فيها شريك وفرعل(40)
ويؤكد الشاعر ثانية على منطلقه الرسالي في الدفاع عن الأمة، حين يعود ثانية إلى القول بأن هذه الأمة لا تصلح أوضاعها، إلاّ بأصلاح دينها، والعودة إلى هدى كتاب ربها وسنة نبيها، يقول:
أتصلح دنيانا جميعاً وديننا **** على ما به ضاع السوام الموبل (41)
كان كتاب الله يعنى بأمره **** وبالنهي فيه الكودني المركل(42)
ألم يتدبر آية فتدله **** على ترك ما يأتي، أم القلب مقفل
وكيف يمكن العودة إلى إسلام رسول الله، وهؤلاء الولاة الظلمة يسومون الأمة سوء العذاب؟:
فتلك ولاة السوء قد طال ملكهم **** فحتام حتام العناء المطول
رضوا بفعال السوء في أهل دينهم **** فقد أيتموا طوراً عداء وأثكلوا..
لهم كلّ عام بدعة يحدثونها **** أزلوا بها أتباعهم ثم أوحلوا
تحل دماء المسلمين لديهم **** ويحرم طلع النخلة المتهدل
ما أروع هذا البيت الأخير، الذي يصور وضع طواغيت العالم الإسلامي في كلّ زمان ومكان يستهينون بدماء المسلمين، وليست لنفس المسلم عندهم أية كرامة، لكنهم يطالبونه بأداء ما فرضوا عليه من ضرائب وخراج، ولا يحق له أن يمشي بين نخله، ويمسه حتّى يؤدي خراجه، فأن هو مسه قبل ذلك قتل.
ومثل هذا الدفاع عن حقوق الأمة المضيعة نجده عند جميع شعراء الشيعة.. دفاعاً ينطلق من إيمان بما أراده الله للإنسان المسلم، من عزة وكرامة وحقوق فردية واجتماعية.
وهذا التصدي للدفاع عن الأمة، عرضناه في شعر الكميت وهو يقارع الأمويين، ونعرض بعض أبيات شاعر شيعي آخر، هو أبو فراس الحمداني، وهو يدافع عن حقوق الأمة أمام ظلم حكام زمانه من العباسيين يقول:
الدين مخترم والحق مهتضم **** وفيء آل رسول الله مقتسم
والناس عندك لاناس فيحفظهم **** سوء الرعاء، ولا شاء ولا نعم...
وما السعيد بها إلاّ الذي ظلموا **** ولا الغني بها إلا الذي حرمو
للمتقين من الدنيا عواقبها **** وإن تعجل فيها الظالم الأثم(43)
وفي البيت الأخير، حث لأهل الإيمان أن لا ييأسوا من مطالبة حقهم، ومن مقارعة الظالمين.
(إنّ الأرض لله يروثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين)(44).
الصمود على المبدأ
مر بنا أن شعراء الشيعة كانوا يعلنون رساليتهم، والتزامهم بإسلام رسول الله، من خلال إعلانهم الولاء لآل البيت، والدفاع عن كرامة الأمة المسلمة. وهذا الموقف كلف
هؤلاء الشعراء التأنيب والتقريع، والتشريد والتجويع، وعانوا من ألوان الظلم والاضطهاد والعذاب، صابرين صامدين، مؤكدين على تعاليهم عما يتهافت عليه الناس، من مال ومتاع، وعلى تفانيهم في سبيل مبدا آمنوا به إيماناً جعلهم يستحلون كلّ تعذيب، طلباً لأجر الآخرة.
ولا يمكن أن نعرف مدى استقامة هؤلاء الشعراء وصمودهم، إلاّ إذا عرفنا جو الإرهاب الذي عاشوا فيه ن والبطش الذي مارسه الحكام بحق الصامدين على المبدأ ويكفي أن نلقي نظرة على كتب التاريخ، لنعرف أن الأمويين والعباسيين مارسوا أفظع ألوان التقتيل والتنكيل، بحق كلّ من كانوا يشكون.. يشكون فقط.. في ولائه لآل بيت رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ (45).
يقول الكميت:
ألم تر ني من حب آل محمّد **** أروح وأغدو خائفاً أترقب
كأني جان محدث وكأنما **** بهم يتقى من خشية العر أجرب
على أي جرم أم بأية سيرة **** أعنف في تقريظهم وأؤنب(46)
هكذا كان شاعر أهل البيت..، فهو خائف مترقب، معنف مؤنب، لا لذنب اقترفة سوى حبه لآل البيت وهذا الصمود أمام ألوان التحديات، يؤكد رسالية المسلك الذي إلى الشاعر على نفسه أن يسلكه.
وواضح أن هذا الأدب يختلف تماماً عن أدب اللهى التي تنفتح باللهى (47)، وعن ذلك الأدب الذي يصدر عن عصبية حزبية أو عشائرية لا يقوى صاحبها على مواجهة أي تهديد.
إنّ المعيار الذي اتخذه الشاعر الشيعي في حياته، يسمو على كلّ ارتباط قبلي أو عشائري، فهو معيار رسالي نابع من التزامه بالإسلام وبسنة رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ، لا يبالي بسخط الساخطين أو لوم اللائمين يقول:
فيهم صرت للبعيد ابن عم **** واتهمت القريب أي اتهام
وتناولت من تناول بالغبة **** أعراضهم وقل اكتتامي
ورأيت الشريف في أعين الناس **** وضيعاً وقل فيه احتشامي
معلناً للمعلنين، مسراً **** للمسرين، غير دحض المقام
مبدياً صفحتي على المرقب المعلم **** بالله عزتي واعتصامي
ما أبالي إذا حفظت أبا القاسم **** فيهم ملامة اللوام
ما أبالي، ولن أبالي فيهم **** أبداً رغم ساخطين رغام
فهم شيعتي وقسمي من الأمة، **** حسبي من سائر الأقسام(48)
الخوارج كفروا الشاعر، والأمويون اعتبروه مسيئا مذنباً، ولم يسؤه ذلك، ولم يتراجع عن موقفه قط:
يشيرون بالأيدي إلي، وقولهم **** إلاّ خاب هذا والمشيرون أخيب
فطائفة قد كفرتني بحبكم **** وطائفة قالوا: مسيء ومذنب
فما ساءني تكفير هاتيك منهم **** ولا عيب هاتيك التي هي أعيب
يعيبونني من خبهم وضلالهم **** على حبكم، بل يسخرون وأعجب(49)
ولم يتعرض الشاعر الشيعي للسخط في عصر الأمويين فحسب، بل في عصر العباسيين أيضاً، لأن هذا الشعر قد أتجه إلى مقارعة الطواغيت، سواء كانوا من بني أمية، أم من بني هاشم من العباسيين، ولذلك كان الشاعر الشيعي دعبل في العصر العباسي
مطارداً، مهدداً بالقتل، ويعبر عن استعداده لهذه التضحية فيقول: "أنا أحمل خشبتي على كتفي منذ خمسين سنة، لست أجد أحداً يصلبني عليها" (50).
المنطق الإسلامي في المدح والهجاء
منطق المدح والهجاء في الشعر العربي جاهلياً كان أم بعد الإسلام ينحو منحى معيناً، فهو في المدح يتناول الكرم والشجاعة والقوة.. وأمثالها من الخصال الحميدة، وفي الهجاء يركز على البخل والجبن والضعف، قد يتناول الأعراض والمثالب التاريخية...، لكننا نجد في الشعر الشيعي منطلقا خاصاً في المدح والهجاء، يستمد محتواه من مضامين القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، ومن غيرة على الإسلام والأمة الإسلاميّة.
مرت بنا رسالية الشاعر الشيعي والتزامه الإسلامي في إبراز ولائه لآل البيت ونذكر هنا بعض نماذج المدح والهجاء في الشعر الشيعي، ليتبين لنا أن العواطف الشيعية إنّما هي عواطف إسلامية صادقة، لا تسمح للشاعر أن يحيد عن مسيرة الرسالة ومحتواها العقائدي.
أبدأ بذكر نموذج من دعبل الخزاعي في تائيته المعروفة(51).
ألم تر للأيام ما جر جورها **** على الناس من نقص وطول شتات
ومن دول المستهترين، ومن غدا **** بهم طالباً للنور في الظلمات
فكيف ؟ ومن أنى يطالب زلفة **** إلى الله بعد الصوم والصلوات
سوى حب أبناء النبي ورهطه **** وبغض بني الزرقاء والعبلات
وهند، وما أدت سمية وأبنها **** أولو الكفر في الإسلام، والفجرات
هم نقضوا عهد الكتاب وفرضه **** ومحكمه بالزور والشبهات
لا حظ، أن الشاعر يؤلمه ما نزل بالناس من ظلم، ويؤلمه ما حل بالمجتمع الإسلامي من تمزق، ثم يهجو أولئك الّذين أنزلوا بالأمة هذه المصائب، فيقول: إنهم المستهترون الذي تحكموا في رقاب الأمة ومن لف لفهم.
"دول المستهترين" ما أجمله من تعبير، ينم عن فهم رائع لخصائص الحكم والحاكم في نظر هذا المسلم المتعلم في مدرسة أهل البيت.
ثم يشيد الشاعر بذكر أهل البيت، باعتبار أن حبهم فريضة إلهية بعد الصوم والصلاة، ويعلن كرهه لبني مروان وبني أمية (بني الزرقاء، والعبلات، وهند) لأنهم"أولو الكفر في الإسلام والفجرات"، ولانهم "نقضوا عهد الكتاب وفرضه".
ثم انظر في الأبيات التالية ـ معياره ـ في مدح أهل البيت:
فيا وارثي علم النبي، وآله **** عليكم سلام دائم النفحات
قفا نسأل الدار التي خف أهلها **** متى عهدها بالصوم والصلوات
وأين الأولى شطت بهم غربة النوى **** افانين في الآفاق مفترقات
هم أهل ميراث النبي إذ اعتزوا **** وهم خير سادات وخير حماة
مطاعيم في الإعسار في كلّ مشهد**** لقد شرفوا بالفضل والبركات
وانظر كيف يهجو أعداءهم:
وما الناس إلاّ حاسد ومكذب **** ومضطعن ذو إحنة وترات
إذا ذكروا قتلى ببدر وخيبر **** ويوم حنين أسبلوا العبرات
وكيف يحبون الني ورهطه؟ **** وهم تركوا أحشاءهم وغرات ؟
لقد لا ينوه في المقال وأضمروا **** قلوباً على الأحقاد منطويات
أعداء أهل البيت ـ إذن ـ هم أعداء النبي وأعداء الرسالة الإسلاميّة ، من الذين هزمهم الإسلام في بدر وخيبر وحنين، فاستسلموا يوم الفتح وقلوبهم تنطوي على الأحقاد.
هذا المنطق الإسلامي في المدح والهجاء نراه على طول تاريخ الشعر الشيعي.
ولنذكر نموذجاً آخر من فارس بني حمدان، أبي فراس الحمداني يقول في ميميته(52)
العظيمة يهجو بني العباس ويمدح آل البيت، ويقارن بين البيتين العباسي والعلوي، (انظر بدقة إلى معياره في المقارنة):
يا باعة الخمر كفوا عن مفاخركم **** عن فتية بيعهم يوم الهياج دم
خلوا الفخار لعلامين إنّ سئلوا **** يوم الفخار وعمالين إنّ علموا
لا يغضبون لغير الله إنّ غضبوا **** ولا يضيعون حكم الله إنّ حكموا
تنشى التلاوة في أبياتهم أبداً **** ومن بيوتكم الأوتار والنغم
منكم علية أم منهم؟ وكان لكم **** شيخ المغنين إبراهيم أم لهم؟(53).
أم من تشاد له الألحان سائرة **** عليهم ذو المعالي أم عليكم؟
إذا تلو سورة غني مغنيكم **** "قف بالديار التي لم يعفها القدم"(54).
ما في ديارهم للخمر معتصر **** ولا بيوتهم للسوء معتصم
ولا تبيت لهم أنثى تنادمهم **** ولا يرى لهم قرد له حشم
الحجر والبيت والأستار منزلهم **** وزمزم والصفا والركن والحرم.
لاحظ، كيف يمدح آل البيت: إنهم مضحون في سبيل الله علاّمون، عمّالون، لا يغضبون لغير الله، لا يضيعون حكم الله، ترتفع تلاوة القرآن في بيوتهم دائماً.. بيوتهم مطهرة من الخمر والسوء والمنكر، ومنزلهم مكان الذكر والعبادة: الحجر والبيت، وزمزم والصفا، والركن والحرم.
أما أعداؤهم فهم: باعة الخمر، ونساؤهم مغنيات، ورجالهم مغنون، وبيوتهم مكان اعتصار الخمر والسوء والفسق والفجور.
مما تقدم نفهم أن الشعر الشيعي رسالي، لا طائفي ولا حزبي ولا عشائري في ولائه وتبريه، وفي مواقفه الدفاعية، وصموده وأسلوبه.
وهكذا التشيع لم ينشأ مقابل "التسنن" كما يوحي بذلك الانقسام الموجود اليوم بين المسلمين إلى شيعة وسنة، بل نشأ باعتباره الأطروحة الملتزمة بالإسلام كما جاء به رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ، والمدافعة عن الرسالة أمام محاولات المحرفين وكيد الكائدين. وبهذا الفهم الموضوعي الواقعي للتشيع تزول الحساسيات النفسية القائمة اليوم بدرجة وأخرى بين أبناء السنة والشيعة.
___________________
1 ـ الطبري 5: 98.
2 ـ مثل ابن الأثير 3: 94.
3 ـ انظر آراء المستشرقين في ابن سبأ في كتاب نظرية الإمامة لأحمد محمود: 37، وانظر أيضاً: طه حسين الفتنة الكبرى، فصل ابن سبأ.
4 ـ أدب الشيعة إلى نهاية القرن الثاني الهجري؛ الدكتور عبد الحسيب طه حميدة: 122 ط 3، وانظر أيضاً: حزب الشيعة في العصر الأموي، الدكتورة ثريا عبد الفتاح.
5 ـ الأغاني 7: 11، 11: 120، الأمالي للمرتضى 1: 293، وديوان أبي الأسود الدولي: 119 ـ 121. و"هويا" فانه لغة هذيل يقولونها في كلّ مقصور (الأمالي 1: 293).
6 ـ البيان والتبيين 1: 134، 339.
7 ـ انظر: الطبري 4: 108، والعقد الفريد 5: 96، والكامل لابن الأثير 3: 386، الأغاني 11: 115.
8 ـ الطبقات الكبرى لابن سعد 7: 99.
9 ـ أسد الغابة 3: 70، ابن خلكان 2: 535.
10 ـ الأغاني 11: 107.
11 ـ الطبقات الكبرى لابن سعد7: 99.
12 ـ ديوان أبي الأسود: 78.
13 ـ كثير عزة، احمد الربيعي: 123.
14 ـ كثير عزة، أحمد الربيعي: 123.
15 ـ الشعر والشعراء لابن قتيبة 1: 413، الأغاني 8: 153.
16 ـ الأغاني 8: 34.
17 ـ المصدر السابق 8: 40.
18 ـ خزانة الأدب، للبغدادي 1: 144.
19 ـ الأغاني 15: 127، خزانة الأدب 1: 145.
20 ـ الأبيات من 31 ـ 36 من قصيد مطلعها:
إني ومن أين ابك الطرب *من حيث لا صبوة و لا ريب.
شرح هاشميّات الكميت، أبو رياس القيسي، تحقيق داود سلوم ونوري حمودي
القيسي: 110 ـ 111.
21 ـ البيان والتبيين 2: 172.
22 ـ الأمالي 3: 166.
23 ـ العقد الفريد 2: 157، ابن أبي الحديد 20: 489.
24 ـ أدب الشيعة، عبد الحسيب طه حميدة، ط 3: 222 ـ 223.
25 ـ الأغاني 15: 125، ومروج الذهب 2: 153، وأمالي الشريف المرتضى 1: 47.
26 ـ الأبيات 29 و 30 من هاشميته.
طربت وما شوقاً إلى البيض أطرب *ولا لعباً مني وذو الشيب يلعب؟
انظر شرح الهاشميات: 55 ـ 56.
27 ـ الأبيات 89 ـ 93 من هاشميته: من لقلب متيم مستهام *غير ما صبوة ولا أحلام. شرح الهاشميات 37 ـ 38.
28 ـ الغااني 15 ـ 123.
29 ـ المصدر السابق، ومروج الذهب 2: 154.
30 ـ الأغاني 7: 3.
31 ـ الأغاني 7: 237، ويرد على الرواية أن ابن سيرين توفي حين كان الكميت في الخامسة من عمره.
32 ـ طبقات فحول الشعراء، لابن سلام 1: 195.ومعجم الشعراء للمرزباني: 347.
33 ـ الأغاني 7: 266.
34 ـ من الغديريات التي ذكرها العلامة الأميني في كتاب الغدير 2: 215، وانظر الأغاني 7: 17 ـ 18، وحديث الغدير متواتر لدى أهل السنة والشيعة، لكن بعض الباحثين المحدثين قال: إنه من الأحاديث الخاصة بالشيعة.
35 ـ الأغاني 7:7، وأهل الكساء هم: محمّد، وعلي، وفاطمة، والحسن، والحسين. وحديث الكساء هو أيضاً من الأحاديث المتواترة لدى كلّ المسلمين لكن الظروف التاريخية حولته إلى حديث خاص بطائفة معينة.
36 ـ الأغاني 7: 16.
37 ـ انظر: شرح هاشميات الكميت: 146 ـ 187 وهي 111 بيتاً.
38 ـ يقول: أمور الناس مهملة مبعثرة لا مدبر لها. فأمورهم كالإبل المهملة التي لا قيم لها ولا راعي يحفظها.
39 ـ راعيا سوء: يعني هشاماً بن عبد الملك الخليفة، وخالد بن عبدالله القسري والي العراق. ويقصد بالذئب هشاماً، والقرفاء: الضبع، ويقصد به خالداً. وقله جيال: أي كبير.
40 ـ أي أتت الضبع غنما لا راعي لها، ولا مانع يمنعها فعاثت فيها والفرعل: ولد الضبع.
41 ـ السوام الموبل: ما رعي من المال. يقول: أتصلح الدنيا والدين، وأنتم تمارسون الجور والفساد، وتضيعون الثروات؟
42 ـ الكودني: البليد كأنه كودن، أي برذون. والمركل: الذي لا يتحرك إلاّ بالركل لشدة تثاقله بوطئه.
43 ـ ديوان الأمير أبي فراس الحمداني، تحقيق الدكتور محمّد التونجي: 258.
44 ـ الأعراف: 128:
45 ـ بلغ الأمر بالشاعر الشيعي أن يتمنى بقاء جور بني مروان، فهو أفضل مما
نزل بالعلويين من ظلم بني العباس
يا اليت جوربني مروان عادَلنا ياليت ظلم بني العباس في النار.
46 ـ الأبيات 75 ـ 77 من هاشميته التي مطلعها:
طربت وما شوقاً إلى البيض أطرب *ولا لعباً مني وذو الشيب يلعب؟
47 ـ اللهي بفتح اللام هي اللهاة في مؤخر الفم، واللهى: هي لقم الطعام.
48 ـ شرح هاشميات الكميت: 35 ـ 37.
49 ـ المصدر السابق: 52 ـ 53.
50 ـ الأغاني 18: 30 ـ 34.
51 ـ انظر القصيدة التائية الخالدة في ديوان دعبل الخزاعي، تحقيق عبد الصاحب الدجيلي: 124 ـ 151.
52 ـ ديوان الأمير أبي فراس الحمداني: 257 ـ 262.
53 ـ علية: بنت المهدي، اخت الخليفة العباسي هارون الرشيد، قال القيرواني
في زهر الآداب 1: 43: "كانت علية لطيفه المعنى، رقيقة الشعر، حسنة مجاري
الكلام، ولها ألحان حسان، وعلقت بغلام اسمه (رشا) وفيه تقول:
أضحى الفؤاد بزينبا صباً كثيباً متعب*
فجعلت زينب سترة وكتمت أمراً معجب
قولها بزينب تريد برشا فنمي الأمر إلى أخيها الرشيد، فأبعده، وقيل: قتله.
وعلقت بغلام اسمه (طل) فقال لها الرشيد: والله لئن ذكرته لاقتلنك. فدخل
عليها يوماً على حين غفلة وهي تقرأ: فإن لم يصبها وابل فما نهى عنه أمير
المؤمنين فضحك، وقال: ولا كلّ هذا...
أما إبراهيم، فهو ابن المهدي عم المأمون، مغن موسيقار، يعرف بابن شكله.
حينما بايع المأمون الإمام الرضا بولاية العهد، نقم عليه العباسيون،
فاستغلوا وجود المأمون في (مرو)، فبايعوا إبراهيم خليفة للمسلمين وفي مدة
تربعه على كرسي الخلافة أصيبت الخزينة بالعجز، فألح عليه الجند وغيرهم في
أعطياتهم، فخرج إليهم رسول يقول: إنّه لا مال عند الخليفة، فطلب المتجمهرون
بدلاً من المال أن يخرج الخليفة فيغني لأهل هذا الجانب ثلاث أصوات، ولأهل
ذاك الجانب ثلاث اصوات (وفيات الأعيان 1: 8.)
وفي ذلك يقول دعبل:
يا معشر الأجناد لا تقنطوا وارضوا بما كان ولا تسخطوا ***فسوف تعطون (حنينية) يلتذها الأمرد والأشمط
و(المعبديات) لقوادكم لاتدخل الكيس ولا تربط ***وهكذا يرزق أصحابه خليفة مصحفه (البربط)
الديوان: 219.
54 ـ صدر البيت من مطلع قصيدة جاهلية لزهير، وعجزه: بلى وغيرها الأرواح والديم ـ يقصد أنكم مقابل تلاوتهم السور، تتغنون بأشعار الجاهلية.
الرسالية في الشعر الشيعي
الدكتور محمّد علي آذر شب
يطلق اسم الشعر الشيعي على ذلك الشعر، الذي قيل في علي وآل بيت رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ مدحاً ودفاعاً ورثاءً. ومنذ القرن الإسلامي الأول برز شعراء كرسوا جل اهتمامهم في هذا المجال، فسموا شعراء الشيعة.
وفي هذا المقال أهدف إلى إلقاء الضوء على هذا اللون من الشعر في الأدب العربي، لأعرض بعض ما تبين لي من حقائق عند دراسة الشعر الشيعي وتدريسه، وأحسب أنها مفيدة في إبعاد الصفة "الطائفية" و"الحزبية" عن هذا الشعر، وفي استجلاء حقيقة "الرسالية" و"الروح الإسلاميّة" فيه.
في البداية لابد من القول: إنّ الكشف عن حقيقة الشعر الشيعي ورساليته، يخدم هدف "التقريب" بين الأمة المسلمة الواحدة، فسيتبين أنّه يتحدث بلغة إسلامية لا طائفية، ويدافع عن أهداف الإسلام، ويعبر عن آمال الأمة وآلامها، دون أن يتحدد بإطار مذهبي ضيق، ودون أن تكون له أهداف حزبية دنيوية دنيئة.
ومن نافلة القول: إنّ ما أحيط به الشعر الشيعي من أحكام بعيدة عن الصواب، إنّما
هو ناشئ من نظرة "أموية" سادت في كتب القدماء والمحدثين عن الشيعة ونشأتهم وعقائدهم فأسطورة ابن سبأ نقلها الطبري في تاريخه(1)، وتناقلها عنه المؤرخون القدامى (2).
ووجد المستشرقون في هذه الأسطورة ما ينسجم مع رغبتهم في تركيز الخلافات التاريخية بين المسلمين، وتسليط الأضواء على ما ورد بشأن تشرذمهم وتمزقهم، مثل: (فلها وزن) و(دوزى) و(فان فلوتن) ثم راح تلامذة المستشرقين في العالم الإسلامي يحوكون على نفس المنوال (3) مع الأسف، تاركين في الأمة حساسيات وحزازات تثقل كاهل كلّ العاملين في حقل توحيد صفوف المسلمين.
لا أريد هنا أن أتعرض لنشأة الشيعة والتشيع، إنّما أردت الإشارة فقط إلى خلفية النظرات السلبية التي أحيط بها الشعر الشيعي، والتي جعلته في نظر الباحثين المحدثين شعراً حزبياً، وجعلت فواعله في نظرهم نفس فواعل الشعر الأموي ومصادره: تراث جاهلي، وإلهام إلهي، وتأثير أجنبي، وعصبية قبلية، وأهواء سياسية(4).
ولدراسة طبيعة الشعر الشيعي لابد أن نلقي نظرة على موضوعاته، لنتبين من خلالها طبيعته الرسالية:
الحب الرسالي
الإيمان بالمبدأ يقترن دائماً بعواطف حب وبغض، وهذه العواطف توجهها العقيدة وتقوى بقوتها.
ومن العقيدة الإسلاميّة تنشأ عواطف حب الله ورسوله والمؤمنين، وبغض أعداء
الله وأعداء الرسالة الإسلاميّة.
وإذا ترسخت هذه العقيدة في النفوس، ترتفع على كلّ وليجة وآصرة من قرابة، أو قوم، أو جنس، فيضحي الإنسان من أجل هذا الحب الرسالي ويتفاني من أجله.
ونحن نرى هذا الحب الرسالي بوضوح في الشعر الشيعي. يقول أبو الأسود الدولي:
أحب محمداً حباً شديداً**** وعباسا وحمزة والوصي
وجعفر إنّ جعفر خير سبط**** شهيد في الجنان مهاجري
أحـبـهـم كـحـب الله حتـّى**** أجيء إذا بعثت على هويا (5)
هوى أعطيـته منـذ اسـتـدارت**** رحى الإسلام لم يعدل سوي
لاحظ: إنّ هذا الهوى ينطلق من الإسلام، فالشاعر ألهمه منذ استدارت رحى الإسلام، وهو حب شديد لله أوّلاً، ثم لرسوله، والرهط الكريم من آل بيته: العباس والحمزة والوصي وجعفر...
ولنقف برهة عند الشاعر، لنتبين شخصيته، ومدى صدقه في التعبير عن عواطفه.
هو: ظالم بن عمرو القرشي البصري من التابعين، والفقهاء، والشعراء، والمحدثين، والأشراف، والفرسان...
قال عنه الجاحظ: إنه "من المتقدمين في العلم" (6).
عرف بتشدده في الالتزام بأحكام الدين، حتّى اختلف مع عبدالله بن عباس، ومع زياد ابن أبيه حين اعتقد أنهما استغلا منصبهما لمصالحهما الشخصية (7).
كان "ثقة في حديثة"(8).
وشهد مع الإمام علي ـ عليه السلام ـ وقعتي: الجمل وصفين (9).
واستعمله عمر وعثمان على البصرة(10).
ثم أصبح قاضياً على البصرة في زمن الإمام علي ـ عليه السلام ـ ، بعد أن ولى الإمام علي عبدالله بن عباس البصرة سنة(40 هجرية).
ثم أصبح والياً على البصرة حتّى مقتل الإمام علي ـ عليه السلام ـ (11).
وحاول معاوية إرشاءه بالهدايا، لكنه أبي أن يأخذها رغم ما كان يعانيه من ضنك في العيش، بسبب قلة عطائه. وحين سألته ابنته عن تلك الهدايا قال: "بعث بها معاوية يخدعنا عن ديننا"فقالت ابنته التي تحمل نفس عواطف أبيها وإبائه:
أبـا لشهد المزعفـر يـا ابـن حـرب**** *نبيـع عـليك أحـسابــاً وديــنــا؟
معاذ الـلـه كــيــف يـكــون هـذا*****ومولانا أميـر المـؤمـنـيـنــا ؟(12)
هذا شاعر من النصف الأول من القرن الهجري الأول (ت 69 هـ).
ولنقف عند شاعر آخر من النصف الثاني لهذا القرن، وهو كثير بن عبد الرحمن الخزاعي المعروف بكثير عزة (ت 105 هـ)، حيث يقول:
إنّ أمرأ كانت مساوِؤه****حب النبي لغير ذي ذنب
وبني أبي حسن ووالدهم ****من طاب في الأرحام والصلب
أترون ذنباً أن نحبهم ؟**** بل حبهم كفارة الذنب (13)
واضح، أن الشاعر يشير في هذه الأبيات إلى ما كان يتحمله من ضغوط أموية بسبب رساليته، أو بسبب حبه الرسالي للنبي، وعلي وآل علي، فليس هذا بذنب كما يرى بنو أمية، بل هو كفارة الذنب، وطريق الهدى والنجاة، وكيف لا يتحمل هذه الضغوط وهو يعيش في عصر يسب فيه علي على المنابر؟.
ويعبر الشاعر في أبيات أخرى عن أساه وألمه لهذا السب، بلغة تنطلق من عاطفة إسلامية رسالية، هي لغة كلّ المسلمين في عصره، اللهم إلاّ الشرذمة الضالعة في ركاب الحكام الظالمين:
لعن الله من يسب عليا****وبنيه من سوقه وإمام
أيسب المطهرون جـدوداَ****والكرام الأخوال والأعمام؟
يأمن الطير والحمام ولا****يأمن آل الرسول عند المقام
طبت بيتا، وطاب أهلك أهلا****أهل بيت النبي والإسلام
رحمة الله والسلام عليهم****كلما قام قائم بسلام (14)
هذا الولاء الذي يحمله الشاعر لآل بيت رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ لم يكن يعبر عن نظرة فئوية حزبية، بل عن نظرة إسلامية شعبية عامة، اتسعت لتستوعب حتّى الخليفة المرواني ـ عمر بن عبد العزيز ـ الذي استنكر هذا السّب ومنعه في نفس زمن حياة الشاعر كثير عزة. فطار الشاعر فرحا، وانشد قصيدته يثني على الخليفة موقفه هذا، وعدله بين الرعية، ورفعه الظلم عن الناس:
وليت فلم تشتم عليا ولم تخف**** بريا ولم تقبل إشارة مجرم
وصدقت بالفعل المقال مع الذي****أتيت فأمسى راضياً كلّ مسلم
وأظهرت نور الحق فاشتد نوره****على كلّ لبس بارق الحق مظلم(15)
ويكفي لمعرفة صدق ولاء الشاعر لآل بيت رسول الله، أنّه قال ما قال في مدحهم في أقسى ظروف الضغط الأموي على آل البيت. وفي أخباره ما يدل على شدة ولائه لأهل بيت رسول الله بما في ذلك أبناؤهم وذريتهم فكان يأتي إلى أبناء الحسن بن الحسن فينظر إليهم بعاطفة شديدة، تذكره بجدهم رسول الله وبنسبهم الطاهر، فتفيض عيناه دمعاً، ويقول: "بأبي انتم، هؤلاء الأنبياء الصغار"، ويريد بذلك: طهرهم وسمو منزلتهم.
وكان يهب لهؤلاء الصغار عطاءه، فيقول له محمّد بن عبدالله بن عمرو بن عثمان،
وهو أخوهم لأمهم: "يا عم هب لي، فيقول كثير: لا، لست من الشجرة"(16).
وله أخبار مع سكينة بنت الحسين ـ عليه السلام ـ منها: أنّه كان خارجا في الحاج، وقد أراد أن يبيع جمله، فساومته سكينه وهو لم يعرفها، وإنّما عرفته سكينة، فلم يرض إلاّ مائتي درهم، وحين عرفها استحيا وانصرف مهرولاً تاركاً لها الجمل وهو يقول: "هو لكم، هو لكم "(17) خجلاً وإجلالاً.
وإذا وقفنا عند الكميت لاستجلاء هذا الحب الرسالي في شعره، فأننا سنجد العجب العجاب. هذا الشاعر الذي عاش النصف الثاني من القرن الأول، والعقود الثلاثة الأولى من القرن الثاني (60 ـ 126 هـ) كان "خطيب بني أسد، وفقيه الشيعة، وحافظ القرآن، وثبت الجنان"(18).
وسئل معاذ الهراء: "من أشعر الناس ؟ فقال: من الجاهليين: امرؤ القيس، وزهير، وعبيد بن الأبرص. ومن الإسلاميين: الفرزدق، وجرير، والأخطل. فقيل له: يا أبا محمّد، ما رأيناك ذكرت الكميت ! فقال: ذاك اشعر الأولين والآخرين"(19).
ومدحه للنبي ـ صلى الله عليه وآله ـ معروف، وقف عنده النقاد كثيراً، ويحسن أن نتعرض له ولو قليلاً لأنه يكشف عن جانب هام من ولائه الرسالي وظروف عصره.
يقول الكميت:
فاعتتب الشوق في فؤادي والشعر****إلى من إليه معتتب
إلى السراج المنير أحمد لا**** يعدلني رغبة ولا رهب
وقيل أفرطت، بل قصدت، ولو**** عنفني القائلون، أو ثلبو
إليك يا خير من تضمنت الأرض**** وإن عاب قولي العيب
لج بتفضيلك اللسان، ولو****أكثر فيك الضجاج واللجب(20)
والعجيب في هذه الأبيات أنّه يتحدث عمّن يؤنبه ويعنفه لمدحه النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ، ويصر على هذا المدح وإن عاب العائبون، وعنف وثلب القائلون.
الجاحظ يرى: أن قول الكميت هذا هو "من غرائب الحمق"، ويتساءل مستغرباً: "فمن رأى شاعراً مدح النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ، فاعترض عليه واحد من جميع أصناف الناس!، حتّى يزعم أنّ أناساً يعيبونه ويثلبونه ويعنفونه"؟(21).
والشريف المرتضى رحمه الله يرى أن الكميت لم يرد في مدحه النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ، وإنّما أراد عليا ـ عليه السلام ـ فورى عنه بذكر النبي خوفاً من بني أمية(22).
وأجمل ما رأيت من تحليل لمدح الكميت المذكور، ورأي النقاد فيه، ما كتبه الأستاذ الدكتور عبد الحسيب طه حميدة، أنقله بنصه لأهميته، إذ يقول:
(ونحن نرى: أن الكميت كان أعلم بأخلاق عصره من هؤلاء، وأمس بسياسته...، كان يشعر بأنه يحيا وسط دولة ترى: أن هذا اللون من مدح الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ تزكية للهاشميين، ولفت للذهن إلى حق هؤلاء في الخلافة.
وإذا كانت السياسة قد أباحت لابن الزبير ـ على مكانته الدينية وبيته من الإسلام ـ أن يسقط ذكر النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ من خطبه، حتّى إذا ليم على ذلك، قال: والله ما يمنعني من ذكره علانية أني لا أذكره سراً، وأصلي عليه، ولكني رأيت هذا الحي من بني هاشم إذا سمعوا ذكره، اشرأبت أعناقهم، وأبغض الأشياء إلي ما يسرهم. وفي رواية: أن له أهيل سوء(23).
نقول: إذا كانت السياسة قد أباحت لابن الزبير هذا، فما بالك ببني أمية في عصر الكميت وقد تغيرت الأخلاق، وفسد الناس؟.
فالكميت يحدثنا عن عصر يحيا فيه، ويصطلي بسياسته، ويحس أن مدحه للرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ يعرضه للعيب والثلب والعنف.
والجاحظ يحكم في الرجل نظرة دينية، ويتناسى أن السياسة قد بدأت في هذا العصر تستقل عن الدين، فبغضت هذا اللون من المديح، لا لأنه مدح للرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ بل لأنه ضرب من التمرد والشغب، والخروج على السلطان، به تشرئب أعناق الهاشميين، ويلفت الناس إليهم... هذا إلى أن الجاحظ عثماني، فلا غرو أن اهتم بنفي هذه التهمة عن بني أمية، واحتشد لذلك، فعد مذهب الكميت حمقاً، بل من غرائب الحمق) (24). ويظهر من الروايات: أن الكميت جند نفسه منذ بداية انبثاق الشعر على لسانه للدفاع عن أهل البيت، ورواية صاحب الأغاني عن الحوار بين الكميت والفرزدق، تبين أيضاً اهتمام الشاعر بأن تكون كلمته في المدح قوية مؤثرة، تملك المشاعر والنفوس، حتّى جعلت شاعراً كبيراً مثل الفرزدق، يحار ويدهش أمام هذا الشاعر الناشئ.
انظر إلى هذا الحوار:
الكميت: يا أبا فراس، إنك شيخ مضر وشاعرها، وأنا ابن أخيك الكميت بن زيد. الفرزدق: صدقت، أنت ابن أخي، فما حاجتك؟
الكميت: نفث على لساني، فقلت شعراً، فأحببت أن أعرضه عليك، فأن كان حسناً، أمرتني بإذاعته، وإن كان قبيحاً، أمرتني بستره، وكنت أول من ستره علي.
فقال الفرزدق: أما عقلك فحسن، وإني لأرجو أن يكون شعرك على قدر عقلك، فأنشدني، فأنشده:
طربتُ وما شوقاً إلى البيض أطْرَبُ
فقال الفرزدق: ففيم تطرب يا ابن أخي ؟ فقال:
ولا لَعِباً منّي وذو الشّيبِ يَلعبُ؟
فقال الفرزدق: بلى يا ابن أخي، فالعب فأنك في أوان اللعب فقال:
ولم يلهني دار ولا رسم منزل **** ولم يتطربني بنان مخضب
فقال: وما يطربك يا ابن أخي ؟ فقال:
ولا أنا ممن يزجر الطير همه****أصاح غراب أم تعرض ثعلب
ولا السانحات البارحات عشية****أمرّ سليم القرن، أم مرّ أعضب.
فقال: أجل، لا تتطير فقال:
ولكن إلى أهل الفضائل والتقى ****وخير بني حواء، والخير يطلب
فقال: ومن هؤلاء ويحك؟ فقال:
إلى النفر البيض الّذين بحبهم**** إلى الله فيما نالني أتقرب
فقال: أرحني ويحك، من هؤلاء؟ فقال
بني هاشم رهط النبي فأنني**** بهم، ولهم أرضى مراراً وأغضب
فقال الفرزدق: يا ابن أخي، أذع ثم أذع، فأنت ـ والله ـ أشعر من مضى وأشعر من بقي(25).
ونجد في شعر الكميت تركيزاً على الدافع الديني في ولائه لأهل البيت، فحبه ينطلق من تربية قرآنية وطدت جذور هذا الحب في نفسه.
وجدنا لكم في آل حاميم آيةً****تأولها منا تقي ومعرب
وفي غيرها آياً، وآياً تتابعت****لكم نصب فيها لذي الشك منصب(26)
ويؤكد: أن حبه لأهل البيت، هو استمرار لحب رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ وأنه بدافع طلب مرضاة الله سبحانه وتعالى:
إنّ أمت لا أمت ونفسي نفسان****من الشك في عمى أو تعامي
عادلاً غيرهم من الناس طراً****بهم، لا همام بي، لا همام
لم أبع ديني المساوم بالوكس****ولا مقلياً من السوام
أخلص الله لي هواي، فما أغرق****نزعاً، ولا تطيش سهامي
ولهت نفسي الطروب إليهم****ولهاً، حال دون طعم الطعام(27)
ويظهر من سيرة الكميت أنّه كان هائماً في حب أهل البيت إلى درجة صوفية غارقة. وكان أحب شيء إليه أن يسمع منهم دعاء له، وأن يسموه شاعر أهل البيت، فيطير فرحاً ويبكي وجداً.
يروي صاحب الأغاني عن صاعد ـ مولى الكميت ـ قال: دخلنا على فاطمة بنت الحسين، فقالت: هذا شاعرنا ـ أهل البيت ـ وجاءت بقدح فيه سويق، فحركته بيدها ودفعته إليه فشربه، ثم أمرت له بثلاثين دينار ومركب، فهملت عيناه ثم قال: لا والله لا أقبلها، إني لم أحبكم للدنيا(28).
وروي عن محمّد بن سهل ـ صاحب الكميت ـ قال: دخلت مع الكميت على أبي عبدالله جعفر بن محمّد (الصادق) ـ عليه السلام ـ ، أيام التشريق بمنى، فقال: جعلت فداك، ألا أنشدك ؟ فقال يا كميت إنها أيام عظام، فقال: إنها فيكم، فقال: هات، وبعث الإمام إلى بعض أهل بيته فاجتمعوا ـ فأنشد لا ميته:
ألا هل عم في رأيه متأمل **** وهل مدبر بعد الإساءة مقبل
فكثر البكاء حوله... حتّى إذا قال:
يصيب به الرامون عن قوس غيرهم **** فيا آخراً أسدى له الغي أول
رفع الإمام الصادق يديه وقال: اللهم اغفر للكميت، ماقدم وما أخر، وما أسر وما أعلن، وأعطه حتّى يرضى(29).
وكانت هذه الدعوات أثمن هدية يتلقاها هذا العاشق الوله من أحبابه.
ثم نقف عند شاعر آخر عاش النصف الأول من القرن الثاني وردحاً من نصفه الثاني وهو السيد الحميري (105 ـ 173 هـ): إنه أبو هاشم إسماعيل بن محمّد بن يزيد بن مفرغ الحميري، ويكفي في رساليته أنّه ولد من أبوين خارجيين، يسبان علياً، لكنه هام في علي وآل بيته، وحينما علم أبواه بمذهبه هما بقتله، ففر من بيتهما وبقي بعيداً عنهما حتّى ماتا.
وحين سئل عن سبب ولائه لعلي وآل بيت رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ مع أن أبويه خارجيان، يقول: "غاصت علي الرحمة غوصاً"(30).
وتذكر الرواية أن السيد انفجر على لسانه الشعر، بسبب رؤيا مباركة، رأى فيها النبي يطلب منه أن يقلع أشجار نخل طوالاً لأمرئ القيس، ويغرسها في مكان آخر، وحين ذكر الرؤيا لابن سيرين قال له: "أما إنك ستقول شعراً مثل شعر امرئ القيس، إلاّ أنك تقول في بررة أطهار"(31). وهذه الرواية تبين أيضاً المنطلق الرسالي لهذا الشاعر.
أجمع الرواة أن للسيد شعراً كثيراً، وهو من أكثر الناس شعراً في الجاهلية والإسلام (32)، ولكن شعره تحومي بسبب إفراطه في ذكر الخلفاء الثلاثة بسوء وهنا أود أن أشير فقط إلى أن سبب الصحابة بدأ منذ زمن معاوية، حين أمر بسب أول الصحابة إسلاماً وأشدهم إيماناً وهو علي بن أبي طالب.
ولم يكتف أعداء علي بهذا السب، بل تستروا بالخلفاء الثلاثة لكي يطعنوا بالخليفة الرابع، فجعلوا بذلك علياً مقابل الخلفاء الثلاثة، وجعلوا مدح الخلفاء الثلاثة نوعاً من الطعن بعلي بينما لا نرى بين هؤلاء الأربعة نزاعاً في حياتهم قط ـ (وإن كانت لهم وجهات نظر متباينة)ـ، وإنّما هي السياسية الأموية، وسياسة كلّ أعداء علي، التي أرادت أن تطعن بعلي متسترة بالولاء للخلفاء الثلاثة، ولا تزال هذه السياسة المفرقة الاستفزازية
موجودة بشكل وآخر في عالمنا الإسلامي مع شديد الأسف.
وكان للموالين لعلي مواقف مختلفة من هذه الخطة الأموية. منهم من انتهج طريق فضح هذه الخطة، وتوضيح خلفية هذا اللون من الدفاع عن الخلفاء الثلاثة، مؤكداً أن هؤلاء لا يمدحونهم حباً بهم، بل بغضاً لعلي، وبعضهم اندفع لبيان أفضلية علي بين صحابة رسول الله، وبعضهم بلغ به رد الفعل إلى درجة ثلب الخلفاء الثلاثة هذه مسألة هامة نحتاج إلى الوقوف عندها طويلاً، وإنّما أشرت إليها لأذكر أن "السيد" كان يستفز أحياناً بمدح الخلفاء فيفهم من خلال الظروف التي كان يعيشها، أن هذا المدح يستهدف طعناً بعلي فينبري للدفاع عن الإمام وأهل بيته.
من ذلك أن أحدهم استفزه ببيت يقول:
محمّد خير من يمشي على قدم****وصاحباه، وعثمان بن عفان
فانتفض غاضباً يقول:
سائل قريشاً إذا ما كنت ذاعمه****من كان أبثتها في الدين أوتادا
من كان أعلمها علماً، وأحلمها****حلماً، وأصدقها قولاً وميعاد
إنّ يصدقوك فلن يعدوا أبا حسن****إنّ أنت لم تلق للأبرار حسادا(33)
ويركز السيد الحميري على المنطلق الرسالي في ولائه لعلي وآل بيت النبي، فيذكر تارة أنّه ينطلق في هذا الولاء من حديث رسول الله في غدير خم:
إذا أنا لم أحفظ وصاة محمّد****ولا عهده يوم الغدير المؤكد
فأني كمن يشري الضلالة بالهدى****تنصر من بعد التقى، وتهود
ومالي وتيم، أو عدي، وإنّما****أولوا نعمتي في الله من آل أحمد
تتم صلاتي بالصلاة عليهم****وليست صلاتي بعد أن أتشهد
بكاملة إنّ لم أصل عليهم****وأدع لهم رباً كريماً ممجد (34)
وتارة يذكر أن ولاءه له منطلق قرآني، لما جاء في حق آل البيت من آية التطهير:
إنّ يوم التطهير يوم عظيم****خص بالفضل فيه أهل الكساء(35)
وولع السيد الحميري بتصوير ما جاء في السيرة، من ارتباط عاطفي بين الرسول وأهل بيته، مشيراً إلى أن ولاءه لأهل البيت يستمد قوامه من السيرة، من ذلك أن السيد سمع محدثا يحدث أن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ كان ساجداً، فركب الحسن والحسين على ظهره، فقال عمر: "نعم المطي مطيكما" فقال النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ: ((نعم الراكبان هما))، فانفجرت قريحة السيد بالقول:
أتى حسناً والحسين النبي****وقد جلسا حجره يلعبان
ففداهما، ثم حياهما****وكان لديه بذاك المكان
فراحا وتحتهما عاتقاه****فنعم المطية، والراكبان
وليدان أمهما برة****حصان مطهرة للحصان
وشيخهما ابن أبي طالب****فنعم الوليدان والوالدان(36)
لأن وقفنا طويلاً عند هذا الولاء الرسالي، فلأن الشعر الشيعي متهم بالولاء الحزبي والطائفي وما هو كذلك، كما يرى بوضوح في النماذج المذكورة وسنمر سريعاً في ذكر الخصائص الأخرى التي تطبع الشعر الشيعي بالطابع الرسالي.
الدفاع عن مصالح الأمة
شعراء أهل البيت تصدوا للدفاع عن مصالح الأمة، وللحديث عما يحط بالمسلمين من ظلم الحكام وطغيانهم، وحث الناس على اليقظة والانتباه إلى تصرفات الحكام. وهذا الاتجاه في الشعر الشيعي يعني أنّه ابتعد عن المصالح الفئوية والحزبية، وحمل هموم الأمة، وارتفع إلى مستوى أهداف الإسلام في ردع الظلم، وإحقاق الحق، وإقامة المجتمع العادل.
ولعل خير مثال على هذا الاتجاه في الشعر الشيعي ـ لامية الكميت (37) ـ التي يبدؤها بتوعية الأمة وإيقاظها فيقول:
ألا هل عم في رأيه متأمل****وهل مدبر بعد الإساءة مقبل
وهل أمة مستيقظون لرشدهم****فيكشف عنه النعسة المتزمل
فقد طال هذا النوم واستخرج الكرى****مساويهم لو أن ذا الميل يعدل
ثم يذكر الشاعر منطلقه في ثورته على واقعه الاجتماعي المنحرف، موضحاً أن سبب ما يعج به المجتمع الإسلامي في عصره، من ظلم وفساد، إنّما هو الانحراف عن الكتاب والسنة، وتعطيل أحكام الإسلام.
وعطلت الأحكام حتّى كأننا****على ملة غير التي نتخل
كلام النبيين الهداة كلامنا****وأفعال أهل الجاهلية نفعل
أنظر إلى الشاعر كيف يحدد منطلقه في الدفاع عن الأمة، إنه يدين العودة إلى مظاهر الجاهلية، باعتبارها سبب كلّ انحراف ثم يندفع الشاعر في حث الأمة على استعادة كرامتها، وعدم الالتصاق بالأرض، والمتاع الدنيوي الرخيص، والارتفاع إلى مستوى التضحية في سبيل المبدأ يقول:
رضينا بدنياً لا نريد فراقها****على أننا فيها نموت ونقتل
ونحن بها المستمسكون كأنها****لنا جنة مما نخاف ومعقل
أرانا على حب الحياة وطولها****يجد بنا في كلّ يوم ونهزل
ثم يرفع صوته بوجه الظالمين، مندداً بما ينزلونه من عذاب بالأمة ومن استهانة بكرامتها وتضييع لحقوقها:
فتلك أمور الناس أضحت كأنها****أمور مضيع آثر النوم بهل (38)
فياساسة هاتوا لنا من جوابكم****ففيكم لعمري ذو أفانين مقول
أهل كتاب نحن فيه وأنتم****على الحق نقضي بالكتاب ونعدل
فكيف، ومن أنى، وإذ نحن خلفه****فريقان شتى تسمنون ونهزل
لنا راعيا سوء مضيعان منهما****أبو جعدة العادي وعرفاء جيال (39)
أتت غنماً ضاعت وغاب رعاؤها****لها فرعل، فيها شريك وفرعل(40)
ويؤكد الشاعر ثانية على منطلقه الرسالي في الدفاع عن الأمة، حين يعود ثانية إلى القول بأن هذه الأمة لا تصلح أوضاعها، إلاّ بأصلاح دينها، والعودة إلى هدى كتاب ربها وسنة نبيها، يقول:
أتصلح دنيانا جميعاً وديننا **** على ما به ضاع السوام الموبل (41)
كان كتاب الله يعنى بأمره **** وبالنهي فيه الكودني المركل(42)
ألم يتدبر آية فتدله **** على ترك ما يأتي، أم القلب مقفل
وكيف يمكن العودة إلى إسلام رسول الله، وهؤلاء الولاة الظلمة يسومون الأمة سوء العذاب؟:
فتلك ولاة السوء قد طال ملكهم **** فحتام حتام العناء المطول
رضوا بفعال السوء في أهل دينهم **** فقد أيتموا طوراً عداء وأثكلوا..
لهم كلّ عام بدعة يحدثونها **** أزلوا بها أتباعهم ثم أوحلوا
تحل دماء المسلمين لديهم **** ويحرم طلع النخلة المتهدل
ما أروع هذا البيت الأخير، الذي يصور وضع طواغيت العالم الإسلامي في كلّ زمان ومكان يستهينون بدماء المسلمين، وليست لنفس المسلم عندهم أية كرامة، لكنهم يطالبونه بأداء ما فرضوا عليه من ضرائب وخراج، ولا يحق له أن يمشي بين نخله، ويمسه حتّى يؤدي خراجه، فأن هو مسه قبل ذلك قتل.
ومثل هذا الدفاع عن حقوق الأمة المضيعة نجده عند جميع شعراء الشيعة.. دفاعاً ينطلق من إيمان بما أراده الله للإنسان المسلم، من عزة وكرامة وحقوق فردية واجتماعية.
وهذا التصدي للدفاع عن الأمة، عرضناه في شعر الكميت وهو يقارع الأمويين، ونعرض بعض أبيات شاعر شيعي آخر، هو أبو فراس الحمداني، وهو يدافع عن حقوق الأمة أمام ظلم حكام زمانه من العباسيين يقول:
الدين مخترم والحق مهتضم **** وفيء آل رسول الله مقتسم
والناس عندك لاناس فيحفظهم **** سوء الرعاء، ولا شاء ولا نعم...
وما السعيد بها إلاّ الذي ظلموا **** ولا الغني بها إلا الذي حرمو
للمتقين من الدنيا عواقبها **** وإن تعجل فيها الظالم الأثم(43)
وفي البيت الأخير، حث لأهل الإيمان أن لا ييأسوا من مطالبة حقهم، ومن مقارعة الظالمين.
(إنّ الأرض لله يروثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين)(44).
الصمود على المبدأ
مر بنا أن شعراء الشيعة كانوا يعلنون رساليتهم، والتزامهم بإسلام رسول الله، من خلال إعلانهم الولاء لآل البيت، والدفاع عن كرامة الأمة المسلمة. وهذا الموقف كلف
هؤلاء الشعراء التأنيب والتقريع، والتشريد والتجويع، وعانوا من ألوان الظلم والاضطهاد والعذاب، صابرين صامدين، مؤكدين على تعاليهم عما يتهافت عليه الناس، من مال ومتاع، وعلى تفانيهم في سبيل مبدا آمنوا به إيماناً جعلهم يستحلون كلّ تعذيب، طلباً لأجر الآخرة.
ولا يمكن أن نعرف مدى استقامة هؤلاء الشعراء وصمودهم، إلاّ إذا عرفنا جو الإرهاب الذي عاشوا فيه ن والبطش الذي مارسه الحكام بحق الصامدين على المبدأ ويكفي أن نلقي نظرة على كتب التاريخ، لنعرف أن الأمويين والعباسيين مارسوا أفظع ألوان التقتيل والتنكيل، بحق كلّ من كانوا يشكون.. يشكون فقط.. في ولائه لآل بيت رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ (45).
يقول الكميت:
ألم تر ني من حب آل محمّد **** أروح وأغدو خائفاً أترقب
كأني جان محدث وكأنما **** بهم يتقى من خشية العر أجرب
على أي جرم أم بأية سيرة **** أعنف في تقريظهم وأؤنب(46)
هكذا كان شاعر أهل البيت..، فهو خائف مترقب، معنف مؤنب، لا لذنب اقترفة سوى حبه لآل البيت وهذا الصمود أمام ألوان التحديات، يؤكد رسالية المسلك الذي إلى الشاعر على نفسه أن يسلكه.
وواضح أن هذا الأدب يختلف تماماً عن أدب اللهى التي تنفتح باللهى (47)، وعن ذلك الأدب الذي يصدر عن عصبية حزبية أو عشائرية لا يقوى صاحبها على مواجهة أي تهديد.
إنّ المعيار الذي اتخذه الشاعر الشيعي في حياته، يسمو على كلّ ارتباط قبلي أو عشائري، فهو معيار رسالي نابع من التزامه بالإسلام وبسنة رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ، لا يبالي بسخط الساخطين أو لوم اللائمين يقول:
فيهم صرت للبعيد ابن عم **** واتهمت القريب أي اتهام
وتناولت من تناول بالغبة **** أعراضهم وقل اكتتامي
ورأيت الشريف في أعين الناس **** وضيعاً وقل فيه احتشامي
معلناً للمعلنين، مسراً **** للمسرين، غير دحض المقام
مبدياً صفحتي على المرقب المعلم **** بالله عزتي واعتصامي
ما أبالي إذا حفظت أبا القاسم **** فيهم ملامة اللوام
ما أبالي، ولن أبالي فيهم **** أبداً رغم ساخطين رغام
فهم شيعتي وقسمي من الأمة، **** حسبي من سائر الأقسام(48)
الخوارج كفروا الشاعر، والأمويون اعتبروه مسيئا مذنباً، ولم يسؤه ذلك، ولم يتراجع عن موقفه قط:
يشيرون بالأيدي إلي، وقولهم **** إلاّ خاب هذا والمشيرون أخيب
فطائفة قد كفرتني بحبكم **** وطائفة قالوا: مسيء ومذنب
فما ساءني تكفير هاتيك منهم **** ولا عيب هاتيك التي هي أعيب
يعيبونني من خبهم وضلالهم **** على حبكم، بل يسخرون وأعجب(49)
ولم يتعرض الشاعر الشيعي للسخط في عصر الأمويين فحسب، بل في عصر العباسيين أيضاً، لأن هذا الشعر قد أتجه إلى مقارعة الطواغيت، سواء كانوا من بني أمية، أم من بني هاشم من العباسيين، ولذلك كان الشاعر الشيعي دعبل في العصر العباسي
مطارداً، مهدداً بالقتل، ويعبر عن استعداده لهذه التضحية فيقول: "أنا أحمل خشبتي على كتفي منذ خمسين سنة، لست أجد أحداً يصلبني عليها" (50).
المنطق الإسلامي في المدح والهجاء
منطق المدح والهجاء في الشعر العربي جاهلياً كان أم بعد الإسلام ينحو منحى معيناً، فهو في المدح يتناول الكرم والشجاعة والقوة.. وأمثالها من الخصال الحميدة، وفي الهجاء يركز على البخل والجبن والضعف، قد يتناول الأعراض والمثالب التاريخية...، لكننا نجد في الشعر الشيعي منطلقا خاصاً في المدح والهجاء، يستمد محتواه من مضامين القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، ومن غيرة على الإسلام والأمة الإسلاميّة.
مرت بنا رسالية الشاعر الشيعي والتزامه الإسلامي في إبراز ولائه لآل البيت ونذكر هنا بعض نماذج المدح والهجاء في الشعر الشيعي، ليتبين لنا أن العواطف الشيعية إنّما هي عواطف إسلامية صادقة، لا تسمح للشاعر أن يحيد عن مسيرة الرسالة ومحتواها العقائدي.
أبدأ بذكر نموذج من دعبل الخزاعي في تائيته المعروفة(51).
ألم تر للأيام ما جر جورها **** على الناس من نقص وطول شتات
ومن دول المستهترين، ومن غدا **** بهم طالباً للنور في الظلمات
فكيف ؟ ومن أنى يطالب زلفة **** إلى الله بعد الصوم والصلوات
سوى حب أبناء النبي ورهطه **** وبغض بني الزرقاء والعبلات
وهند، وما أدت سمية وأبنها **** أولو الكفر في الإسلام، والفجرات
هم نقضوا عهد الكتاب وفرضه **** ومحكمه بالزور والشبهات
لا حظ، أن الشاعر يؤلمه ما نزل بالناس من ظلم، ويؤلمه ما حل بالمجتمع الإسلامي من تمزق، ثم يهجو أولئك الّذين أنزلوا بالأمة هذه المصائب، فيقول: إنهم المستهترون الذي تحكموا في رقاب الأمة ومن لف لفهم.
"دول المستهترين" ما أجمله من تعبير، ينم عن فهم رائع لخصائص الحكم والحاكم في نظر هذا المسلم المتعلم في مدرسة أهل البيت.
ثم يشيد الشاعر بذكر أهل البيت، باعتبار أن حبهم فريضة إلهية بعد الصوم والصلاة، ويعلن كرهه لبني مروان وبني أمية (بني الزرقاء، والعبلات، وهند) لأنهم"أولو الكفر في الإسلام والفجرات"، ولانهم "نقضوا عهد الكتاب وفرضه".
ثم انظر في الأبيات التالية ـ معياره ـ في مدح أهل البيت:
فيا وارثي علم النبي، وآله **** عليكم سلام دائم النفحات
قفا نسأل الدار التي خف أهلها **** متى عهدها بالصوم والصلوات
وأين الأولى شطت بهم غربة النوى **** افانين في الآفاق مفترقات
هم أهل ميراث النبي إذ اعتزوا **** وهم خير سادات وخير حماة
مطاعيم في الإعسار في كلّ مشهد**** لقد شرفوا بالفضل والبركات
وانظر كيف يهجو أعداءهم:
وما الناس إلاّ حاسد ومكذب **** ومضطعن ذو إحنة وترات
إذا ذكروا قتلى ببدر وخيبر **** ويوم حنين أسبلوا العبرات
وكيف يحبون الني ورهطه؟ **** وهم تركوا أحشاءهم وغرات ؟
لقد لا ينوه في المقال وأضمروا **** قلوباً على الأحقاد منطويات
أعداء أهل البيت ـ إذن ـ هم أعداء النبي وأعداء الرسالة الإسلاميّة ، من الذين هزمهم الإسلام في بدر وخيبر وحنين، فاستسلموا يوم الفتح وقلوبهم تنطوي على الأحقاد.
هذا المنطق الإسلامي في المدح والهجاء نراه على طول تاريخ الشعر الشيعي.
ولنذكر نموذجاً آخر من فارس بني حمدان، أبي فراس الحمداني يقول في ميميته(52)
العظيمة يهجو بني العباس ويمدح آل البيت، ويقارن بين البيتين العباسي والعلوي، (انظر بدقة إلى معياره في المقارنة):
يا باعة الخمر كفوا عن مفاخركم **** عن فتية بيعهم يوم الهياج دم
خلوا الفخار لعلامين إنّ سئلوا **** يوم الفخار وعمالين إنّ علموا
لا يغضبون لغير الله إنّ غضبوا **** ولا يضيعون حكم الله إنّ حكموا
تنشى التلاوة في أبياتهم أبداً **** ومن بيوتكم الأوتار والنغم
منكم علية أم منهم؟ وكان لكم **** شيخ المغنين إبراهيم أم لهم؟(53).
أم من تشاد له الألحان سائرة **** عليهم ذو المعالي أم عليكم؟
إذا تلو سورة غني مغنيكم **** "قف بالديار التي لم يعفها القدم"(54).
ما في ديارهم للخمر معتصر **** ولا بيوتهم للسوء معتصم
ولا تبيت لهم أنثى تنادمهم **** ولا يرى لهم قرد له حشم
الحجر والبيت والأستار منزلهم **** وزمزم والصفا والركن والحرم.
لاحظ، كيف يمدح آل البيت: إنهم مضحون في سبيل الله علاّمون، عمّالون، لا يغضبون لغير الله، لا يضيعون حكم الله، ترتفع تلاوة القرآن في بيوتهم دائماً.. بيوتهم مطهرة من الخمر والسوء والمنكر، ومنزلهم مكان الذكر والعبادة: الحجر والبيت، وزمزم والصفا، والركن والحرم.
أما أعداؤهم فهم: باعة الخمر، ونساؤهم مغنيات، ورجالهم مغنون، وبيوتهم مكان اعتصار الخمر والسوء والفسق والفجور.
مما تقدم نفهم أن الشعر الشيعي رسالي، لا طائفي ولا حزبي ولا عشائري في ولائه وتبريه، وفي مواقفه الدفاعية، وصموده وأسلوبه.
وهكذا التشيع لم ينشأ مقابل "التسنن" كما يوحي بذلك الانقسام الموجود اليوم بين المسلمين إلى شيعة وسنة، بل نشأ باعتباره الأطروحة الملتزمة بالإسلام كما جاء به رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ، والمدافعة عن الرسالة أمام محاولات المحرفين وكيد الكائدين. وبهذا الفهم الموضوعي الواقعي للتشيع تزول الحساسيات النفسية القائمة اليوم بدرجة وأخرى بين أبناء السنة والشيعة.
___________________
1 ـ الطبري 5: 98.
2 ـ مثل ابن الأثير 3: 94.
3 ـ انظر آراء المستشرقين في ابن سبأ في كتاب نظرية الإمامة لأحمد محمود: 37، وانظر أيضاً: طه حسين الفتنة الكبرى، فصل ابن سبأ.
4 ـ أدب الشيعة إلى نهاية القرن الثاني الهجري؛ الدكتور عبد الحسيب طه حميدة: 122 ط 3، وانظر أيضاً: حزب الشيعة في العصر الأموي، الدكتورة ثريا عبد الفتاح.
5 ـ الأغاني 7: 11، 11: 120، الأمالي للمرتضى 1: 293، وديوان أبي الأسود الدولي: 119 ـ 121. و"هويا" فانه لغة هذيل يقولونها في كلّ مقصور (الأمالي 1: 293).
6 ـ البيان والتبيين 1: 134، 339.
7 ـ انظر: الطبري 4: 108، والعقد الفريد 5: 96، والكامل لابن الأثير 3: 386، الأغاني 11: 115.
8 ـ الطبقات الكبرى لابن سعد 7: 99.
9 ـ أسد الغابة 3: 70، ابن خلكان 2: 535.
10 ـ الأغاني 11: 107.
11 ـ الطبقات الكبرى لابن سعد7: 99.
12 ـ ديوان أبي الأسود: 78.
13 ـ كثير عزة، احمد الربيعي: 123.
14 ـ كثير عزة، أحمد الربيعي: 123.
15 ـ الشعر والشعراء لابن قتيبة 1: 413، الأغاني 8: 153.
16 ـ الأغاني 8: 34.
17 ـ المصدر السابق 8: 40.
18 ـ خزانة الأدب، للبغدادي 1: 144.
19 ـ الأغاني 15: 127، خزانة الأدب 1: 145.
20 ـ الأبيات من 31 ـ 36 من قصيد مطلعها:
إني ومن أين ابك الطرب *من حيث لا صبوة و لا ريب.
شرح هاشميّات الكميت، أبو رياس القيسي، تحقيق داود سلوم ونوري حمودي
القيسي: 110 ـ 111.
21 ـ البيان والتبيين 2: 172.
22 ـ الأمالي 3: 166.
23 ـ العقد الفريد 2: 157، ابن أبي الحديد 20: 489.
24 ـ أدب الشيعة، عبد الحسيب طه حميدة، ط 3: 222 ـ 223.
25 ـ الأغاني 15: 125، ومروج الذهب 2: 153، وأمالي الشريف المرتضى 1: 47.
26 ـ الأبيات 29 و 30 من هاشميته.
طربت وما شوقاً إلى البيض أطرب *ولا لعباً مني وذو الشيب يلعب؟
انظر شرح الهاشميات: 55 ـ 56.
27 ـ الأبيات 89 ـ 93 من هاشميته: من لقلب متيم مستهام *غير ما صبوة ولا أحلام. شرح الهاشميات 37 ـ 38.
28 ـ الغااني 15 ـ 123.
29 ـ المصدر السابق، ومروج الذهب 2: 154.
30 ـ الأغاني 7: 3.
31 ـ الأغاني 7: 237، ويرد على الرواية أن ابن سيرين توفي حين كان الكميت في الخامسة من عمره.
32 ـ طبقات فحول الشعراء، لابن سلام 1: 195.ومعجم الشعراء للمرزباني: 347.
33 ـ الأغاني 7: 266.
34 ـ من الغديريات التي ذكرها العلامة الأميني في كتاب الغدير 2: 215، وانظر الأغاني 7: 17 ـ 18، وحديث الغدير متواتر لدى أهل السنة والشيعة، لكن بعض الباحثين المحدثين قال: إنه من الأحاديث الخاصة بالشيعة.
35 ـ الأغاني 7:7، وأهل الكساء هم: محمّد، وعلي، وفاطمة، والحسن، والحسين. وحديث الكساء هو أيضاً من الأحاديث المتواترة لدى كلّ المسلمين لكن الظروف التاريخية حولته إلى حديث خاص بطائفة معينة.
36 ـ الأغاني 7: 16.
37 ـ انظر: شرح هاشميات الكميت: 146 ـ 187 وهي 111 بيتاً.
38 ـ يقول: أمور الناس مهملة مبعثرة لا مدبر لها. فأمورهم كالإبل المهملة التي لا قيم لها ولا راعي يحفظها.
39 ـ راعيا سوء: يعني هشاماً بن عبد الملك الخليفة، وخالد بن عبدالله القسري والي العراق. ويقصد بالذئب هشاماً، والقرفاء: الضبع، ويقصد به خالداً. وقله جيال: أي كبير.
40 ـ أي أتت الضبع غنما لا راعي لها، ولا مانع يمنعها فعاثت فيها والفرعل: ولد الضبع.
41 ـ السوام الموبل: ما رعي من المال. يقول: أتصلح الدنيا والدين، وأنتم تمارسون الجور والفساد، وتضيعون الثروات؟
42 ـ الكودني: البليد كأنه كودن، أي برذون. والمركل: الذي لا يتحرك إلاّ بالركل لشدة تثاقله بوطئه.
43 ـ ديوان الأمير أبي فراس الحمداني، تحقيق الدكتور محمّد التونجي: 258.
44 ـ الأعراف: 128:
45 ـ بلغ الأمر بالشاعر الشيعي أن يتمنى بقاء جور بني مروان، فهو أفضل مما
نزل بالعلويين من ظلم بني العباس
يا اليت جوربني مروان عادَلنا ياليت ظلم بني العباس في النار.
46 ـ الأبيات 75 ـ 77 من هاشميته التي مطلعها:
طربت وما شوقاً إلى البيض أطرب *ولا لعباً مني وذو الشيب يلعب؟
47 ـ اللهي بفتح اللام هي اللهاة في مؤخر الفم، واللهى: هي لقم الطعام.
48 ـ شرح هاشميات الكميت: 35 ـ 37.
49 ـ المصدر السابق: 52 ـ 53.
50 ـ الأغاني 18: 30 ـ 34.
51 ـ انظر القصيدة التائية الخالدة في ديوان دعبل الخزاعي، تحقيق عبد الصاحب الدجيلي: 124 ـ 151.
52 ـ ديوان الأمير أبي فراس الحمداني: 257 ـ 262.
53 ـ علية: بنت المهدي، اخت الخليفة العباسي هارون الرشيد، قال القيرواني
في زهر الآداب 1: 43: "كانت علية لطيفه المعنى، رقيقة الشعر، حسنة مجاري
الكلام، ولها ألحان حسان، وعلقت بغلام اسمه (رشا) وفيه تقول:
أضحى الفؤاد بزينبا صباً كثيباً متعب*
فجعلت زينب سترة وكتمت أمراً معجب
قولها بزينب تريد برشا فنمي الأمر إلى أخيها الرشيد، فأبعده، وقيل: قتله.
وعلقت بغلام اسمه (طل) فقال لها الرشيد: والله لئن ذكرته لاقتلنك. فدخل
عليها يوماً على حين غفلة وهي تقرأ: فإن لم يصبها وابل فما نهى عنه أمير
المؤمنين فضحك، وقال: ولا كلّ هذا...
أما إبراهيم، فهو ابن المهدي عم المأمون، مغن موسيقار، يعرف بابن شكله.
حينما بايع المأمون الإمام الرضا بولاية العهد، نقم عليه العباسيون،
فاستغلوا وجود المأمون في (مرو)، فبايعوا إبراهيم خليفة للمسلمين وفي مدة
تربعه على كرسي الخلافة أصيبت الخزينة بالعجز، فألح عليه الجند وغيرهم في
أعطياتهم، فخرج إليهم رسول يقول: إنّه لا مال عند الخليفة، فطلب المتجمهرون
بدلاً من المال أن يخرج الخليفة فيغني لأهل هذا الجانب ثلاث أصوات، ولأهل
ذاك الجانب ثلاث اصوات (وفيات الأعيان 1: 8.)
وفي ذلك يقول دعبل:
يا معشر الأجناد لا تقنطوا وارضوا بما كان ولا تسخطوا ***فسوف تعطون (حنينية) يلتذها الأمرد والأشمط
و(المعبديات) لقوادكم لاتدخل الكيس ولا تربط ***وهكذا يرزق أصحابه خليفة مصحفه (البربط)
الديوان: 219.
54 ـ صدر البيت من مطلع قصيدة جاهلية لزهير، وعجزه: بلى وغيرها الأرواح والديم ـ يقصد أنكم مقابل تلاوتهم السور، تتغنون بأشعار الجاهلية.
الرسالية في الشعر الشيعي
الدكتور محمّد علي آذر شب
يطلق اسم الشعر الشيعي على ذلك الشعر، الذي قيل في علي وآل بيت رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ مدحاً ودفاعاً ورثاءً. ومنذ القرن الإسلامي الأول برز شعراء كرسوا جل اهتمامهم في هذا المجال، فسموا شعراء الشيعة.
وفي هذا المقال أهدف إلى إلقاء الضوء على هذا اللون من الشعر في الأدب العربي، لأعرض بعض ما تبين لي من حقائق عند دراسة الشعر الشيعي وتدريسه، وأحسب أنها مفيدة في إبعاد الصفة "الطائفية" و"الحزبية" عن هذا الشعر، وفي استجلاء حقيقة "الرسالية" و"الروح الإسلاميّة" فيه.
في البداية لابد من القول: إنّ الكشف عن حقيقة الشعر الشيعي ورساليته، يخدم هدف "التقريب" بين الأمة المسلمة الواحدة، فسيتبين أنّه يتحدث بلغة إسلامية لا طائفية، ويدافع عن أهداف الإسلام، ويعبر عن آمال الأمة وآلامها، دون أن يتحدد بإطار مذهبي ضيق، ودون أن تكون له أهداف حزبية دنيوية دنيئة.
ومن نافلة القول: إنّ ما أحيط به الشعر الشيعي من أحكام بعيدة عن الصواب، إنّما
هو ناشئ من نظرة "أموية" سادت في كتب القدماء والمحدثين عن الشيعة ونشأتهم وعقائدهم فأسطورة ابن سبأ نقلها الطبري في تاريخه(1)، وتناقلها عنه المؤرخون القدامى (2).
ووجد المستشرقون في هذه الأسطورة ما ينسجم مع رغبتهم في تركيز الخلافات التاريخية بين المسلمين، وتسليط الأضواء على ما ورد بشأن تشرذمهم وتمزقهم، مثل: (فلها وزن) و(دوزى) و(فان فلوتن) ثم راح تلامذة المستشرقين في العالم الإسلامي يحوكون على نفس المنوال (3) مع الأسف، تاركين في الأمة حساسيات وحزازات تثقل كاهل كلّ العاملين في حقل توحيد صفوف المسلمين.
لا أريد هنا أن أتعرض لنشأة الشيعة والتشيع، إنّما أردت الإشارة فقط إلى خلفية النظرات السلبية التي أحيط بها الشعر الشيعي، والتي جعلته في نظر الباحثين المحدثين شعراً حزبياً، وجعلت فواعله في نظرهم نفس فواعل الشعر الأموي ومصادره: تراث جاهلي، وإلهام إلهي، وتأثير أجنبي، وعصبية قبلية، وأهواء سياسية(4).
ولدراسة طبيعة الشعر الشيعي لابد أن نلقي نظرة على موضوعاته، لنتبين من خلالها طبيعته الرسالية:
الحب الرسالي
الإيمان بالمبدأ يقترن دائماً بعواطف حب وبغض، وهذه العواطف توجهها العقيدة وتقوى بقوتها.
ومن العقيدة الإسلاميّة تنشأ عواطف حب الله ورسوله والمؤمنين، وبغض أعداء
الله وأعداء الرسالة الإسلاميّة.
وإذا ترسخت هذه العقيدة في النفوس، ترتفع على كلّ وليجة وآصرة من قرابة، أو قوم، أو جنس، فيضحي الإنسان من أجل هذا الحب الرسالي ويتفاني من أجله.
ونحن نرى هذا الحب الرسالي بوضوح في الشعر الشيعي. يقول أبو الأسود الدولي:
أحب محمداً حباً شديداً**** وعباسا وحمزة والوصي
وجعفر إنّ جعفر خير سبط**** شهيد في الجنان مهاجري
أحـبـهـم كـحـب الله حتـّى**** أجيء إذا بعثت على هويا (5)
هوى أعطيـته منـذ اسـتـدارت**** رحى الإسلام لم يعدل سوي
لاحظ: إنّ هذا الهوى ينطلق من الإسلام، فالشاعر ألهمه منذ استدارت رحى الإسلام، وهو حب شديد لله أوّلاً، ثم لرسوله، والرهط الكريم من آل بيته: العباس والحمزة والوصي وجعفر...
ولنقف برهة عند الشاعر، لنتبين شخصيته، ومدى صدقه في التعبير عن عواطفه.
هو: ظالم بن عمرو القرشي البصري من التابعين، والفقهاء، والشعراء، والمحدثين، والأشراف، والفرسان...
قال عنه الجاحظ: إنه "من المتقدمين في العلم" (6).
عرف بتشدده في الالتزام بأحكام الدين، حتّى اختلف مع عبدالله بن عباس، ومع زياد ابن أبيه حين اعتقد أنهما استغلا منصبهما لمصالحهما الشخصية (7).
كان "ثقة في حديثة"(8).
وشهد مع الإمام علي ـ عليه السلام ـ وقعتي: الجمل وصفين (9).
واستعمله عمر وعثمان على البصرة(10).
ثم أصبح قاضياً على البصرة في زمن الإمام علي ـ عليه السلام ـ ، بعد أن ولى الإمام علي عبدالله بن عباس البصرة سنة(40 هجرية).
ثم أصبح والياً على البصرة حتّى مقتل الإمام علي ـ عليه السلام ـ (11).
وحاول معاوية إرشاءه بالهدايا، لكنه أبي أن يأخذها رغم ما كان يعانيه من ضنك في العيش، بسبب قلة عطائه. وحين سألته ابنته عن تلك الهدايا قال: "بعث بها معاوية يخدعنا عن ديننا"فقالت ابنته التي تحمل نفس عواطف أبيها وإبائه:
أبـا لشهد المزعفـر يـا ابـن حـرب**** *نبيـع عـليك أحـسابــاً وديــنــا؟
معاذ الـلـه كــيــف يـكــون هـذا*****ومولانا أميـر المـؤمـنـيـنــا ؟(12)
هذا شاعر من النصف الأول من القرن الهجري الأول (ت 69 هـ).
ولنقف عند شاعر آخر من النصف الثاني لهذا القرن، وهو كثير بن عبد الرحمن الخزاعي المعروف بكثير عزة (ت 105 هـ)، حيث يقول:
إنّ أمرأ كانت مساوِؤه****حب النبي لغير ذي ذنب
وبني أبي حسن ووالدهم ****من طاب في الأرحام والصلب
أترون ذنباً أن نحبهم ؟**** بل حبهم كفارة الذنب (13)
واضح، أن الشاعر يشير في هذه الأبيات إلى ما كان يتحمله من ضغوط أموية بسبب رساليته، أو بسبب حبه الرسالي للنبي، وعلي وآل علي، فليس هذا بذنب كما يرى بنو أمية، بل هو كفارة الذنب، وطريق الهدى والنجاة، وكيف لا يتحمل هذه الضغوط وهو يعيش في عصر يسب فيه علي على المنابر؟.
ويعبر الشاعر في أبيات أخرى عن أساه وألمه لهذا السب، بلغة تنطلق من عاطفة إسلامية رسالية، هي لغة كلّ المسلمين في عصره، اللهم إلاّ الشرذمة الضالعة في ركاب الحكام الظالمين:
لعن الله من يسب عليا****وبنيه من سوقه وإمام
أيسب المطهرون جـدوداَ****والكرام الأخوال والأعمام؟
يأمن الطير والحمام ولا****يأمن آل الرسول عند المقام
طبت بيتا، وطاب أهلك أهلا****أهل بيت النبي والإسلام
رحمة الله والسلام عليهم****كلما قام قائم بسلام (14)
هذا الولاء الذي يحمله الشاعر لآل بيت رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ لم يكن يعبر عن نظرة فئوية حزبية، بل عن نظرة إسلامية شعبية عامة، اتسعت لتستوعب حتّى الخليفة المرواني ـ عمر بن عبد العزيز ـ الذي استنكر هذا السّب ومنعه في نفس زمن حياة الشاعر كثير عزة. فطار الشاعر فرحا، وانشد قصيدته يثني على الخليفة موقفه هذا، وعدله بين الرعية، ورفعه الظلم عن الناس:
وليت فلم تشتم عليا ولم تخف**** بريا ولم تقبل إشارة مجرم
وصدقت بالفعل المقال مع الذي****أتيت فأمسى راضياً كلّ مسلم
وأظهرت نور الحق فاشتد نوره****على كلّ لبس بارق الحق مظلم(15)
ويكفي لمعرفة صدق ولاء الشاعر لآل بيت رسول الله، أنّه قال ما قال في مدحهم في أقسى ظروف الضغط الأموي على آل البيت. وفي أخباره ما يدل على شدة ولائه لأهل بيت رسول الله بما في ذلك أبناؤهم وذريتهم فكان يأتي إلى أبناء الحسن بن الحسن فينظر إليهم بعاطفة شديدة، تذكره بجدهم رسول الله وبنسبهم الطاهر، فتفيض عيناه دمعاً، ويقول: "بأبي انتم، هؤلاء الأنبياء الصغار"، ويريد بذلك: طهرهم وسمو منزلتهم.
وكان يهب لهؤلاء الصغار عطاءه، فيقول له محمّد بن عبدالله بن عمرو بن عثمان،
وهو أخوهم لأمهم: "يا عم هب لي، فيقول كثير: لا، لست من الشجرة"(16).
وله أخبار مع سكينة بنت الحسين ـ عليه السلام ـ منها: أنّه كان خارجا في الحاج، وقد أراد أن يبيع جمله، فساومته سكينه وهو لم يعرفها، وإنّما عرفته سكينة، فلم يرض إلاّ مائتي درهم، وحين عرفها استحيا وانصرف مهرولاً تاركاً لها الجمل وهو يقول: "هو لكم، هو لكم "(17) خجلاً وإجلالاً.
وإذا وقفنا عند الكميت لاستجلاء هذا الحب الرسالي في شعره، فأننا سنجد العجب العجاب. هذا الشاعر الذي عاش النصف الثاني من القرن الأول، والعقود الثلاثة الأولى من القرن الثاني (60 ـ 126 هـ) كان "خطيب بني أسد، وفقيه الشيعة، وحافظ القرآن، وثبت الجنان"(18).
وسئل معاذ الهراء: "من أشعر الناس ؟ فقال: من الجاهليين: امرؤ القيس، وزهير، وعبيد بن الأبرص. ومن الإسلاميين: الفرزدق، وجرير، والأخطل. فقيل له: يا أبا محمّد، ما رأيناك ذكرت الكميت ! فقال: ذاك اشعر الأولين والآخرين"(19).
ومدحه للنبي ـ صلى الله عليه وآله ـ معروف، وقف عنده النقاد كثيراً، ويحسن أن نتعرض له ولو قليلاً لأنه يكشف عن جانب هام من ولائه الرسالي وظروف عصره.
يقول الكميت:
فاعتتب الشوق في فؤادي والشعر****إلى من إليه معتتب
إلى السراج المنير أحمد لا**** يعدلني رغبة ولا رهب
وقيل أفرطت، بل قصدت، ولو**** عنفني القائلون، أو ثلبو
إليك يا خير من تضمنت الأرض**** وإن عاب قولي العيب
لج بتفضيلك اللسان، ولو****أكثر فيك الضجاج واللجب(20)
والعجيب في هذه الأبيات أنّه يتحدث عمّن يؤنبه ويعنفه لمدحه النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ، ويصر على هذا المدح وإن عاب العائبون، وعنف وثلب القائلون.
الجاحظ يرى: أن قول الكميت هذا هو "من غرائب الحمق"، ويتساءل مستغرباً: "فمن رأى شاعراً مدح النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ، فاعترض عليه واحد من جميع أصناف الناس!، حتّى يزعم أنّ أناساً يعيبونه ويثلبونه ويعنفونه"؟(21).
والشريف المرتضى رحمه الله يرى أن الكميت لم يرد في مدحه النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ، وإنّما أراد عليا ـ عليه السلام ـ فورى عنه بذكر النبي خوفاً من بني أمية(22).
وأجمل ما رأيت من تحليل لمدح الكميت المذكور، ورأي النقاد فيه، ما كتبه الأستاذ الدكتور عبد الحسيب طه حميدة، أنقله بنصه لأهميته، إذ يقول:
(ونحن نرى: أن الكميت كان أعلم بأخلاق عصره من هؤلاء، وأمس بسياسته...، كان يشعر بأنه يحيا وسط دولة ترى: أن هذا اللون من مدح الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ تزكية للهاشميين، ولفت للذهن إلى حق هؤلاء في الخلافة.
وإذا كانت السياسة قد أباحت لابن الزبير ـ على مكانته الدينية وبيته من الإسلام ـ أن يسقط ذكر النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ من خطبه، حتّى إذا ليم على ذلك، قال: والله ما يمنعني من ذكره علانية أني لا أذكره سراً، وأصلي عليه، ولكني رأيت هذا الحي من بني هاشم إذا سمعوا ذكره، اشرأبت أعناقهم، وأبغض الأشياء إلي ما يسرهم. وفي رواية: أن له أهيل سوء(23).
نقول: إذا كانت السياسة قد أباحت لابن الزبير هذا، فما بالك ببني أمية في عصر الكميت وقد تغيرت الأخلاق، وفسد الناس؟.
فالكميت يحدثنا عن عصر يحيا فيه، ويصطلي بسياسته، ويحس أن مدحه للرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ يعرضه للعيب والثلب والعنف.
والجاحظ يحكم في الرجل نظرة دينية، ويتناسى أن السياسة قد بدأت في هذا العصر تستقل عن الدين، فبغضت هذا اللون من المديح، لا لأنه مدح للرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ بل لأنه ضرب من التمرد والشغب، والخروج على السلطان، به تشرئب أعناق الهاشميين، ويلفت الناس إليهم... هذا إلى أن الجاحظ عثماني، فلا غرو أن اهتم بنفي هذه التهمة عن بني أمية، واحتشد لذلك، فعد مذهب الكميت حمقاً، بل من غرائب الحمق) (24). ويظهر من الروايات: أن الكميت جند نفسه منذ بداية انبثاق الشعر على لسانه للدفاع عن أهل البيت، ورواية صاحب الأغاني عن الحوار بين الكميت والفرزدق، تبين أيضاً اهتمام الشاعر بأن تكون كلمته في المدح قوية مؤثرة، تملك المشاعر والنفوس، حتّى جعلت شاعراً كبيراً مثل الفرزدق، يحار ويدهش أمام هذا الشاعر الناشئ.
انظر إلى هذا الحوار:
الكميت: يا أبا فراس، إنك شيخ مضر وشاعرها، وأنا ابن أخيك الكميت بن زيد. الفرزدق: صدقت، أنت ابن أخي، فما حاجتك؟
الكميت: نفث على لساني، فقلت شعراً، فأحببت أن أعرضه عليك، فأن كان حسناً، أمرتني بإذاعته، وإن كان قبيحاً، أمرتني بستره، وكنت أول من ستره علي.
فقال الفرزدق: أما عقلك فحسن، وإني لأرجو أن يكون شعرك على قدر عقلك، فأنشدني، فأنشده:
طربتُ وما شوقاً إلى البيض أطْرَبُ
فقال الفرزدق: ففيم تطرب يا ابن أخي ؟ فقال:
ولا لَعِباً منّي وذو الشّيبِ يَلعبُ؟
فقال الفرزدق: بلى يا ابن أخي، فالعب فأنك في أوان اللعب فقال:
ولم يلهني دار ولا رسم منزل **** ولم يتطربني بنان مخضب
فقال: وما يطربك يا ابن أخي ؟ فقال:
ولا أنا ممن يزجر الطير همه****أصاح غراب أم تعرض ثعلب
ولا السانحات البارحات عشية****أمرّ سليم القرن، أم مرّ أعضب.
فقال: أجل، لا تتطير فقال:
ولكن إلى أهل الفضائل والتقى ****وخير بني حواء، والخير يطلب
فقال: ومن هؤلاء ويحك؟ فقال:
إلى النفر البيض الّذين بحبهم**** إلى الله فيما نالني أتقرب
فقال: أرحني ويحك، من هؤلاء؟ فقال
بني هاشم رهط النبي فأنني**** بهم، ولهم أرضى مراراً وأغضب
فقال الفرزدق: يا ابن أخي، أذع ثم أذع، فأنت ـ والله ـ أشعر من مضى وأشعر من بقي(25).
ونجد في شعر الكميت تركيزاً على الدافع الديني في ولائه لأهل البيت، فحبه ينطلق من تربية قرآنية وطدت جذور هذا الحب في نفسه.
وجدنا لكم في آل حاميم آيةً****تأولها منا تقي ومعرب
وفي غيرها آياً، وآياً تتابعت****لكم نصب فيها لذي الشك منصب(26)
ويؤكد: أن حبه لأهل البيت، هو استمرار لحب رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ وأنه بدافع طلب مرضاة الله سبحانه وتعالى:
إنّ أمت لا أمت ونفسي نفسان****من الشك في عمى أو تعامي
عادلاً غيرهم من الناس طراً****بهم، لا همام بي، لا همام
لم أبع ديني المساوم بالوكس****ولا مقلياً من السوام
أخلص الله لي هواي، فما أغرق****نزعاً، ولا تطيش سهامي
ولهت نفسي الطروب إليهم****ولهاً، حال دون طعم الطعام(27)
ويظهر من سيرة الكميت أنّه كان هائماً في حب أهل البيت إلى درجة صوفية غارقة. وكان أحب شيء إليه أن يسمع منهم دعاء له، وأن يسموه شاعر أهل البيت، فيطير فرحاً ويبكي وجداً.
يروي صاحب الأغاني عن صاعد ـ مولى الكميت ـ قال: دخلنا على فاطمة بنت الحسين، فقالت: هذا شاعرنا ـ أهل البيت ـ وجاءت بقدح فيه سويق، فحركته بيدها ودفعته إليه فشربه، ثم أمرت له بثلاثين دينار ومركب، فهملت عيناه ثم قال: لا والله لا أقبلها، إني لم أحبكم للدنيا(28).
وروي عن محمّد بن سهل ـ صاحب الكميت ـ قال: دخلت مع الكميت على أبي عبدالله جعفر بن محمّد (الصادق) ـ عليه السلام ـ ، أيام التشريق بمنى، فقال: جعلت فداك، ألا أنشدك ؟ فقال يا كميت إنها أيام عظام، فقال: إنها فيكم، فقال: هات، وبعث الإمام إلى بعض أهل بيته فاجتمعوا ـ فأنشد لا ميته:
ألا هل عم في رأيه متأمل **** وهل مدبر بعد الإساءة مقبل
فكثر البكاء حوله... حتّى إذا قال:
يصيب به الرامون عن قوس غيرهم **** فيا آخراً أسدى له الغي أول
رفع الإمام الصادق يديه وقال: اللهم اغفر للكميت، ماقدم وما أخر، وما أسر وما أعلن، وأعطه حتّى يرضى(29).
وكانت هذه الدعوات أثمن هدية يتلقاها هذا العاشق الوله من أحبابه.
ثم نقف عند شاعر آخر عاش النصف الأول من القرن الثاني وردحاً من نصفه الثاني وهو السيد الحميري (105 ـ 173 هـ): إنه أبو هاشم إسماعيل بن محمّد بن يزيد بن مفرغ الحميري، ويكفي في رساليته أنّه ولد من أبوين خارجيين، يسبان علياً، لكنه هام في علي وآل بيته، وحينما علم أبواه بمذهبه هما بقتله، ففر من بيتهما وبقي بعيداً عنهما حتّى ماتا.
وحين سئل عن سبب ولائه لعلي وآل بيت رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ مع أن أبويه خارجيان، يقول: "غاصت علي الرحمة غوصاً"(30).
وتذكر الرواية أن السيد انفجر على لسانه الشعر، بسبب رؤيا مباركة، رأى فيها النبي يطلب منه أن يقلع أشجار نخل طوالاً لأمرئ القيس، ويغرسها في مكان آخر، وحين ذكر الرؤيا لابن سيرين قال له: "أما إنك ستقول شعراً مثل شعر امرئ القيس، إلاّ أنك تقول في بررة أطهار"(31). وهذه الرواية تبين أيضاً المنطلق الرسالي لهذا الشاعر.
أجمع الرواة أن للسيد شعراً كثيراً، وهو من أكثر الناس شعراً في الجاهلية والإسلام (32)، ولكن شعره تحومي بسبب إفراطه في ذكر الخلفاء الثلاثة بسوء وهنا أود أن أشير فقط إلى أن سبب الصحابة بدأ منذ زمن معاوية، حين أمر بسب أول الصحابة إسلاماً وأشدهم إيماناً وهو علي بن أبي طالب.
ولم يكتف أعداء علي بهذا السب، بل تستروا بالخلفاء الثلاثة لكي يطعنوا بالخليفة الرابع، فجعلوا بذلك علياً مقابل الخلفاء الثلاثة، وجعلوا مدح الخلفاء الثلاثة نوعاً من الطعن بعلي بينما لا نرى بين هؤلاء الأربعة نزاعاً في حياتهم قط ـ (وإن كانت لهم وجهات نظر متباينة)ـ، وإنّما هي السياسية الأموية، وسياسة كلّ أعداء علي، التي أرادت أن تطعن بعلي متسترة بالولاء للخلفاء الثلاثة، ولا تزال هذه السياسة المفرقة الاستفزازية
موجودة بشكل وآخر في عالمنا الإسلامي مع شديد الأسف.
وكان للموالين لعلي مواقف مختلفة من هذه الخطة الأموية. منهم من انتهج طريق فضح هذه الخطة، وتوضيح خلفية هذا اللون من الدفاع عن الخلفاء الثلاثة، مؤكداً أن هؤلاء لا يمدحونهم حباً بهم، بل بغضاً لعلي، وبعضهم اندفع لبيان أفضلية علي بين صحابة رسول الله، وبعضهم بلغ به رد الفعل إلى درجة ثلب الخلفاء الثلاثة هذه مسألة هامة نحتاج إلى الوقوف عندها طويلاً، وإنّما أشرت إليها لأذكر أن "السيد" كان يستفز أحياناً بمدح الخلفاء فيفهم من خلال الظروف التي كان يعيشها، أن هذا المدح يستهدف طعناً بعلي فينبري للدفاع عن الإمام وأهل بيته.
من ذلك أن أحدهم استفزه ببيت يقول:
محمّد خير من يمشي على قدم****وصاحباه، وعثمان بن عفان
فانتفض غاضباً يقول:
سائل قريشاً إذا ما كنت ذاعمه****من كان أبثتها في الدين أوتادا
من كان أعلمها علماً، وأحلمها****حلماً، وأصدقها قولاً وميعاد
إنّ يصدقوك فلن يعدوا أبا حسن****إنّ أنت لم تلق للأبرار حسادا(33)
ويركز السيد الحميري على المنطلق الرسالي في ولائه لعلي وآل بيت النبي، فيذكر تارة أنّه ينطلق في هذا الولاء من حديث رسول الله في غدير خم:
إذا أنا لم أحفظ وصاة محمّد****ولا عهده يوم الغدير المؤكد
فأني كمن يشري الضلالة بالهدى****تنصر من بعد التقى، وتهود
ومالي وتيم، أو عدي، وإنّما****أولوا نعمتي في الله من آل أحمد
تتم صلاتي بالصلاة عليهم****وليست صلاتي بعد أن أتشهد
بكاملة إنّ لم أصل عليهم****وأدع لهم رباً كريماً ممجد (34)
وتارة يذكر أن ولاءه له منطلق قرآني، لما جاء في حق آل البيت من آية التطهير:
إنّ يوم التطهير يوم عظيم****خص بالفضل فيه أهل الكساء(35)
وولع السيد الحميري بتصوير ما جاء في السيرة، من ارتباط عاطفي بين الرسول وأهل بيته، مشيراً إلى أن ولاءه لأهل البيت يستمد قوامه من السيرة، من ذلك أن السيد سمع محدثا يحدث أن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ كان ساجداً، فركب الحسن والحسين على ظهره، فقال عمر: "نعم المطي مطيكما" فقال النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ: ((نعم الراكبان هما))، فانفجرت قريحة السيد بالقول:
أتى حسناً والحسين النبي****وقد جلسا حجره يلعبان
ففداهما، ثم حياهما****وكان لديه بذاك المكان
فراحا وتحتهما عاتقاه****فنعم المطية، والراكبان
وليدان أمهما برة****حصان مطهرة للحصان
وشيخهما ابن أبي طالب****فنعم الوليدان والوالدان(36)
لأن وقفنا طويلاً عند هذا الولاء الرسالي، فلأن الشعر الشيعي متهم بالولاء الحزبي والطائفي وما هو كذلك، كما يرى بوضوح في النماذج المذكورة وسنمر سريعاً في ذكر الخصائص الأخرى التي تطبع الشعر الشيعي بالطابع الرسالي.
الدفاع عن مصالح الأمة
شعراء أهل البيت تصدوا للدفاع عن مصالح الأمة، وللحديث عما يحط بالمسلمين من ظلم الحكام وطغيانهم، وحث الناس على اليقظة والانتباه إلى تصرفات الحكام. وهذا الاتجاه في الشعر الشيعي يعني أنّه ابتعد عن المصالح الفئوية والحزبية، وحمل هموم الأمة، وارتفع إلى مستوى أهداف الإسلام في ردع الظلم، وإحقاق الحق، وإقامة المجتمع العادل.
ولعل خير مثال على هذا الاتجاه في الشعر الشيعي ـ لامية الكميت (37) ـ التي يبدؤها بتوعية الأمة وإيقاظها فيقول:
ألا هل عم في رأيه متأمل****وهل مدبر بعد الإساءة مقبل
وهل أمة مستيقظون لرشدهم****فيكشف عنه النعسة المتزمل
فقد طال هذا النوم واستخرج الكرى****مساويهم لو أن ذا الميل يعدل
ثم يذكر الشاعر منطلقه في ثورته على واقعه الاجتماعي المنحرف، موضحاً أن سبب ما يعج به المجتمع الإسلامي في عصره، من ظلم وفساد، إنّما هو الانحراف عن الكتاب والسنة، وتعطيل أحكام الإسلام.
وعطلت الأحكام حتّى كأننا****على ملة غير التي نتخل
كلام النبيين الهداة كلامنا****وأفعال أهل الجاهلية نفعل
أنظر إلى الشاعر كيف يحدد منطلقه في الدفاع عن الأمة، إنه يدين العودة إلى مظاهر الجاهلية، باعتبارها سبب كلّ انحراف ثم يندفع الشاعر في حث الأمة على استعادة كرامتها، وعدم الالتصاق بالأرض، والمتاع الدنيوي الرخيص، والارتفاع إلى مستوى التضحية في سبيل المبدأ يقول:
رضينا بدنياً لا نريد فراقها****على أننا فيها نموت ونقتل
ونحن بها المستمسكون كأنها****لنا جنة مما نخاف ومعقل
أرانا على حب الحياة وطولها****يجد بنا في كلّ يوم ونهزل
ثم يرفع صوته بوجه الظالمين، مندداً بما ينزلونه من عذاب بالأمة ومن استهانة بكرامتها وتضييع لحقوقها:
فتلك أمور الناس أضحت كأنها****أمور مضيع آثر النوم بهل (38)
فياساسة هاتوا لنا من جوابكم****ففيكم لعمري ذو أفانين مقول
أهل كتاب نحن فيه وأنتم****على الحق نقضي بالكتاب ونعدل
فكيف، ومن أنى، وإذ نحن خلفه****فريقان شتى تسمنون ونهزل
لنا راعيا سوء مضيعان منهما****أبو جعدة العادي وعرفاء جيال (39)
أتت غنماً ضاعت وغاب رعاؤها****لها فرعل، فيها شريك وفرعل(40)
ويؤكد الشاعر ثانية على منطلقه الرسالي في الدفاع عن الأمة، حين يعود ثانية إلى القول بأن هذه الأمة لا تصلح أوضاعها، إلاّ بأصلاح دينها، والعودة إلى هدى كتاب ربها وسنة نبيها، يقول:
أتصلح دنيانا جميعاً وديننا **** على ما به ضاع السوام الموبل (41)
كان كتاب الله يعنى بأمره **** وبالنهي فيه الكودني المركل(42)
ألم يتدبر آية فتدله **** على ترك ما يأتي، أم القلب مقفل
وكيف يمكن العودة إلى إسلام رسول الله، وهؤلاء الولاة الظلمة يسومون الأمة سوء العذاب؟:
فتلك ولاة السوء قد طال ملكهم **** فحتام حتام العناء المطول
رضوا بفعال السوء في أهل دينهم **** فقد أيتموا طوراً عداء وأثكلوا..
لهم كلّ عام بدعة يحدثونها **** أزلوا بها أتباعهم ثم أوحلوا
تحل دماء المسلمين لديهم **** ويحرم طلع النخلة المتهدل
ما أروع هذا البيت الأخير، الذي يصور وضع طواغيت العالم الإسلامي في كلّ زمان ومكان يستهينون بدماء المسلمين، وليست لنفس المسلم عندهم أية كرامة، لكنهم يطالبونه بأداء ما فرضوا عليه من ضرائب وخراج، ولا يحق له أن يمشي بين نخله، ويمسه حتّى يؤدي خراجه، فأن هو مسه قبل ذلك قتل.
ومثل هذا الدفاع عن حقوق الأمة المضيعة نجده عند جميع شعراء الشيعة.. دفاعاً ينطلق من إيمان بما أراده الله للإنسان المسلم، من عزة وكرامة وحقوق فردية واجتماعية.
وهذا التصدي للدفاع عن الأمة، عرضناه في شعر الكميت وهو يقارع الأمويين، ونعرض بعض أبيات شاعر شيعي آخر، هو أبو فراس الحمداني، وهو يدافع عن حقوق الأمة أمام ظلم حكام زمانه من العباسيين يقول:
الدين مخترم والحق مهتضم **** وفيء آل رسول الله مقتسم
والناس عندك لاناس فيحفظهم **** سوء الرعاء، ولا شاء ولا نعم...
وما السعيد بها إلاّ الذي ظلموا **** ولا الغني بها إلا الذي حرمو
للمتقين من الدنيا عواقبها **** وإن تعجل فيها الظالم الأثم(43)
وفي البيت الأخير، حث لأهل الإيمان أن لا ييأسوا من مطالبة حقهم، ومن مقارعة الظالمين.
(إنّ الأرض لله يروثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين)(44).
الصمود على المبدأ
مر بنا أن شعراء الشيعة كانوا يعلنون رساليتهم، والتزامهم بإسلام رسول الله، من خلال إعلانهم الولاء لآل البيت، والدفاع عن كرامة الأمة المسلمة. وهذا الموقف كلف
هؤلاء الشعراء التأنيب والتقريع، والتشريد والتجويع، وعانوا من ألوان الظلم والاضطهاد والعذاب، صابرين صامدين، مؤكدين على تعاليهم عما يتهافت عليه الناس، من مال ومتاع، وعلى تفانيهم في سبيل مبدا آمنوا به إيماناً جعلهم يستحلون كلّ تعذيب، طلباً لأجر الآخرة.
ولا يمكن أن نعرف مدى استقامة هؤلاء الشعراء وصمودهم، إلاّ إذا عرفنا جو الإرهاب الذي عاشوا فيه ن والبطش الذي مارسه الحكام بحق الصامدين على المبدأ ويكفي أن نلقي نظرة على كتب التاريخ، لنعرف أن الأمويين والعباسيين مارسوا أفظع ألوان التقتيل والتنكيل، بحق كلّ من كانوا يشكون.. يشكون فقط.. في ولائه لآل بيت رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ (45).
يقول الكميت:
ألم تر ني من حب آل محمّد **** أروح وأغدو خائفاً أترقب
كأني جان محدث وكأنما **** بهم يتقى من خشية العر أجرب
على أي جرم أم بأية سيرة **** أعنف في تقريظهم وأؤنب(46)
هكذا كان شاعر أهل البيت..، فهو خائف مترقب، معنف مؤنب، لا لذنب اقترفة سوى حبه لآل البيت وهذا الصمود أمام ألوان التحديات، يؤكد رسالية المسلك الذي إلى الشاعر على نفسه أن يسلكه.
وواضح أن هذا الأدب يختلف تماماً عن أدب اللهى التي تنفتح باللهى (47)، وعن ذلك الأدب الذي يصدر عن عصبية حزبية أو عشائرية لا يقوى صاحبها على مواجهة أي تهديد.
إنّ المعيار الذي اتخذه الشاعر الشيعي في حياته، يسمو على كلّ ارتباط قبلي أو عشائري، فهو معيار رسالي نابع من التزامه بالإسلام وبسنة رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ، لا يبالي بسخط الساخطين أو لوم اللائمين يقول:
فيهم صرت للبعيد ابن عم **** واتهمت القريب أي اتهام
وتناولت من تناول بالغبة **** أعراضهم وقل اكتتامي
ورأيت الشريف في أعين الناس **** وضيعاً وقل فيه احتشامي
معلناً للمعلنين، مسراً **** للمسرين، غير دحض المقام
مبدياً صفحتي على المرقب المعلم **** بالله عزتي واعتصامي
ما أبالي إذا حفظت أبا القاسم **** فيهم ملامة اللوام
ما أبالي، ولن أبالي فيهم **** أبداً رغم ساخطين رغام
فهم شيعتي وقسمي من الأمة، **** حسبي من سائر الأقسام(48)
الخوارج كفروا الشاعر، والأمويون اعتبروه مسيئا مذنباً، ولم يسؤه ذلك، ولم يتراجع عن موقفه قط:
يشيرون بالأيدي إلي، وقولهم **** إلاّ خاب هذا والمشيرون أخيب
فطائفة قد كفرتني بحبكم **** وطائفة قالوا: مسيء ومذنب
فما ساءني تكفير هاتيك منهم **** ولا عيب هاتيك التي هي أعيب
يعيبونني من خبهم وضلالهم **** على حبكم، بل يسخرون وأعجب(49)
ولم يتعرض الشاعر الشيعي للسخط في عصر الأمويين فحسب، بل في عصر العباسيين أيضاً، لأن هذا الشعر قد أتجه إلى مقارعة الطواغيت، سواء كانوا من بني أمية، أم من بني هاشم من العباسيين، ولذلك كان الشاعر الشيعي دعبل في العصر العباسي
مطارداً، مهدداً بالقتل، ويعبر عن استعداده لهذه التضحية فيقول: "أنا أحمل خشبتي على كتفي منذ خمسين سنة، لست أجد أحداً يصلبني عليها" (50).
المنطق الإسلامي في المدح والهجاء
منطق المدح والهجاء في الشعر العربي جاهلياً كان أم بعد الإسلام ينحو منحى معيناً، فهو في المدح يتناول الكرم والشجاعة والقوة.. وأمثالها من الخصال الحميدة، وفي الهجاء يركز على البخل والجبن والضعف، قد يتناول الأعراض والمثالب التاريخية...، لكننا نجد في الشعر الشيعي منطلقا خاصاً في المدح والهجاء، يستمد محتواه من مضامين القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، ومن غيرة على الإسلام والأمة الإسلاميّة.
مرت بنا رسالية الشاعر الشيعي والتزامه الإسلامي في إبراز ولائه لآل البيت ونذكر هنا بعض نماذج المدح والهجاء في الشعر الشيعي، ليتبين لنا أن العواطف الشيعية إنّما هي عواطف إسلامية صادقة، لا تسمح للشاعر أن يحيد عن مسيرة الرسالة ومحتواها العقائدي.
أبدأ بذكر نموذج من دعبل الخزاعي في تائيته المعروفة(51).
ألم تر للأيام ما جر جورها **** على الناس من نقص وطول شتات
ومن دول المستهترين، ومن غدا **** بهم طالباً للنور في الظلمات
فكيف ؟ ومن أنى يطالب زلفة **** إلى الله بعد الصوم والصلوات
سوى حب أبناء النبي ورهطه **** وبغض بني الزرقاء والعبلات
وهند، وما أدت سمية وأبنها **** أولو الكفر في الإسلام، والفجرات
هم نقضوا عهد الكتاب وفرضه **** ومحكمه بالزور والشبهات
لا حظ، أن الشاعر يؤلمه ما نزل بالناس من ظلم، ويؤلمه ما حل بالمجتمع الإسلامي من تمزق، ثم يهجو أولئك الّذين أنزلوا بالأمة هذه المصائب، فيقول: إنهم المستهترون الذي تحكموا في رقاب الأمة ومن لف لفهم.
"دول المستهترين" ما أجمله من تعبير، ينم عن فهم رائع لخصائص الحكم والحاكم في نظر هذا المسلم المتعلم في مدرسة أهل البيت.
ثم يشيد الشاعر بذكر أهل البيت، باعتبار أن حبهم فريضة إلهية بعد الصوم والصلاة، ويعلن كرهه لبني مروان وبني أمية (بني الزرقاء، والعبلات، وهند) لأنهم"أولو الكفر في الإسلام والفجرات"، ولانهم "نقضوا عهد الكتاب وفرضه".
ثم انظر في الأبيات التالية ـ معياره ـ في مدح أهل البيت:
فيا وارثي علم النبي، وآله **** عليكم سلام دائم النفحات
قفا نسأل الدار التي خف أهلها **** متى عهدها بالصوم والصلوات
وأين الأولى شطت بهم غربة النوى **** افانين في الآفاق مفترقات
هم أهل ميراث النبي إذ اعتزوا **** وهم خير سادات وخير حماة
مطاعيم في الإعسار في كلّ مشهد**** لقد شرفوا بالفضل والبركات
وانظر كيف يهجو أعداءهم:
وما الناس إلاّ حاسد ومكذب **** ومضطعن ذو إحنة وترات
إذا ذكروا قتلى ببدر وخيبر **** ويوم حنين أسبلوا العبرات
وكيف يحبون الني ورهطه؟ **** وهم تركوا أحشاءهم وغرات ؟
لقد لا ينوه في المقال وأضمروا **** قلوباً على الأحقاد منطويات
أعداء أهل البيت ـ إذن ـ هم أعداء النبي وأعداء الرسالة الإسلاميّة ، من الذين هزمهم الإسلام في بدر وخيبر وحنين، فاستسلموا يوم الفتح وقلوبهم تنطوي على الأحقاد.
هذا المنطق الإسلامي في المدح والهجاء نراه على طول تاريخ الشعر الشيعي.
ولنذكر نموذجاً آخر من فارس بني حمدان، أبي فراس الحمداني يقول في ميميته(52)
العظيمة يهجو بني العباس ويمدح آل البيت، ويقارن بين البيتين العباسي والعلوي، (انظر بدقة إلى معياره في المقارنة):
يا باعة الخمر كفوا عن مفاخركم **** عن فتية بيعهم يوم الهياج دم
خلوا الفخار لعلامين إنّ سئلوا **** يوم الفخار وعمالين إنّ علموا
لا يغضبون لغير الله إنّ غضبوا **** ولا يضيعون حكم الله إنّ حكموا
تنشى التلاوة في أبياتهم أبداً **** ومن بيوتكم الأوتار والنغم
منكم علية أم منهم؟ وكان لكم **** شيخ المغنين إبراهيم أم لهم؟(53).
أم من تشاد له الألحان سائرة **** عليهم ذو المعالي أم عليكم؟
إذا تلو سورة غني مغنيكم **** "قف بالديار التي لم يعفها القدم"(54).
ما في ديارهم للخمر معتصر **** ولا بيوتهم للسوء معتصم
ولا تبيت لهم أنثى تنادمهم **** ولا يرى لهم قرد له حشم
الحجر والبيت والأستار منزلهم **** وزمزم والصفا والركن والحرم.
لاحظ، كيف يمدح آل البيت: إنهم مضحون في سبيل الله علاّمون، عمّالون، لا يغضبون لغير الله، لا يضيعون حكم الله، ترتفع تلاوة القرآن في بيوتهم دائماً.. بيوتهم مطهرة من الخمر والسوء والمنكر، ومنزلهم مكان الذكر والعبادة: الحجر والبيت، وزمزم والصفا، والركن والحرم.
أما أعداؤهم فهم: باعة الخمر، ونساؤهم مغنيات، ورجالهم مغنون، وبيوتهم مكان اعتصار الخمر والسوء والفسق والفجور.
مما تقدم نفهم أن الشعر الشيعي رسالي، لا طائفي ولا حزبي ولا عشائري في ولائه وتبريه، وفي مواقفه الدفاعية، وصموده وأسلوبه.
وهكذا التشيع لم ينشأ مقابل "التسنن" كما يوحي بذلك الانقسام الموجود اليوم بين المسلمين إلى شيعة وسنة، بل نشأ باعتباره الأطروحة الملتزمة بالإسلام كما جاء به رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ، والمدافعة عن الرسالة أمام محاولات المحرفين وكيد الكائدين. وبهذا الفهم الموضوعي الواقعي للتشيع تزول الحساسيات النفسية القائمة اليوم بدرجة وأخرى بين أبناء السنة والشيعة.
___________________
1 ـ الطبري 5: 98.
2 ـ مثل ابن الأثير 3: 94.
3 ـ انظر آراء المستشرقين في ابن سبأ في كتاب نظرية الإمامة لأحمد محمود: 37، وانظر أيضاً: طه حسين الفتنة الكبرى، فصل ابن سبأ.
4 ـ أدب الشيعة إلى نهاية القرن الثاني الهجري؛ الدكتور عبد الحسيب طه حميدة: 122 ط 3، وانظر أيضاً: حزب الشيعة في العصر الأموي، الدكتورة ثريا عبد الفتاح.
5 ـ الأغاني 7: 11، 11: 120، الأمالي للمرتضى 1: 293، وديوان أبي الأسود الدولي: 119 ـ 121. و"هويا" فانه لغة هذيل يقولونها في كلّ مقصور (الأمالي 1: 293).
6 ـ البيان والتبيين 1: 134، 339.
7 ـ انظر: الطبري 4: 108، والعقد الفريد 5: 96، والكامل لابن الأثير 3: 386، الأغاني 11: 115.
8 ـ الطبقات الكبرى لابن سعد 7: 99.
9 ـ أسد الغابة 3: 70، ابن خلكان 2: 535.
10 ـ الأغاني 11: 107.
11 ـ الطبقات الكبرى لابن سعد7: 99.
12 ـ ديوان أبي الأسود: 78.
13 ـ كثير عزة، احمد الربيعي: 123.
14 ـ كثير عزة، أحمد الربيعي: 123.
15 ـ الشعر والشعراء لابن قتيبة 1: 413، الأغاني 8: 153.
16 ـ الأغاني 8: 34.
17 ـ المصدر السابق 8: 40.
18 ـ خزانة الأدب، للبغدادي 1: 144.
19 ـ الأغاني 15: 127، خزانة الأدب 1: 145.
20 ـ الأبيات من 31 ـ 36 من قصيد مطلعها:
إني ومن أين ابك الطرب *من حيث لا صبوة و لا ريب.
شرح هاشميّات الكميت، أبو رياس القيسي، تحقيق داود سلوم ونوري حمودي
القيسي: 110 ـ 111.
21 ـ البيان والتبيين 2: 172.
22 ـ الأمالي 3: 166.
23 ـ العقد الفريد 2: 157، ابن أبي الحديد 20: 489.
24 ـ أدب الشيعة، عبد الحسيب طه حميدة، ط 3: 222 ـ 223.
25 ـ الأغاني 15: 125، ومروج الذهب 2: 153، وأمالي الشريف المرتضى 1: 47.
26 ـ الأبيات 29 و 30 من هاشميته.
طربت وما شوقاً إلى البيض أطرب *ولا لعباً مني وذو الشيب يلعب؟
انظر شرح الهاشميات: 55 ـ 56.
27 ـ الأبيات 89 ـ 93 من هاشميته: من لقلب متيم مستهام *غير ما صبوة ولا أحلام. شرح الهاشميات 37 ـ 38.
28 ـ الغااني 15 ـ 123.
29 ـ المصدر السابق، ومروج الذهب 2: 154.
30 ـ الأغاني 7: 3.
31 ـ الأغاني 7: 237، ويرد على الرواية أن ابن سيرين توفي حين كان الكميت في الخامسة من عمره.
32 ـ طبقات فحول الشعراء، لابن سلام 1: 195.ومعجم الشعراء للمرزباني: 347.
33 ـ الأغاني 7: 266.
34 ـ من الغديريات التي ذكرها العلامة الأميني في كتاب الغدير 2: 215، وانظر الأغاني 7: 17 ـ 18، وحديث الغدير متواتر لدى أهل السنة والشيعة، لكن بعض الباحثين المحدثين قال: إنه من الأحاديث الخاصة بالشيعة.
35 ـ الأغاني 7:7، وأهل الكساء هم: محمّد، وعلي، وفاطمة، والحسن، والحسين. وحديث الكساء هو أيضاً من الأحاديث المتواترة لدى كلّ المسلمين لكن الظروف التاريخية حولته إلى حديث خاص بطائفة معينة.
36 ـ الأغاني 7: 16.
37 ـ انظر: شرح هاشميات الكميت: 146 ـ 187 وهي 111 بيتاً.
38 ـ يقول: أمور الناس مهملة مبعثرة لا مدبر لها. فأمورهم كالإبل المهملة التي لا قيم لها ولا راعي يحفظها.
39 ـ راعيا سوء: يعني هشاماً بن عبد الملك الخليفة، وخالد بن عبدالله القسري والي العراق. ويقصد بالذئب هشاماً، والقرفاء: الضبع، ويقصد به خالداً. وقله جيال: أي كبير.
40 ـ أي أتت الضبع غنما لا راعي لها، ولا مانع يمنعها فعاثت فيها والفرعل: ولد الضبع.
41 ـ السوام الموبل: ما رعي من المال. يقول: أتصلح الدنيا والدين، وأنتم تمارسون الجور والفساد، وتضيعون الثروات؟
42 ـ الكودني: البليد كأنه كودن، أي برذون. والمركل: الذي لا يتحرك إلاّ بالركل لشدة تثاقله بوطئه.
43 ـ ديوان الأمير أبي فراس الحمداني، تحقيق الدكتور محمّد التونجي: 258.
44 ـ الأعراف: 128:
45 ـ بلغ الأمر بالشاعر الشيعي أن يتمنى بقاء جور بني مروان، فهو أفضل مما
نزل بالعلويين من ظلم بني العباس
يا اليت جوربني مروان عادَلنا ياليت ظلم بني العباس في النار.
46 ـ الأبيات 75 ـ 77 من هاشميته التي مطلعها:
طربت وما شوقاً إلى البيض أطرب *ولا لعباً مني وذو الشيب يلعب؟
47 ـ اللهي بفتح اللام هي اللهاة في مؤخر الفم، واللهى: هي لقم الطعام.
48 ـ شرح هاشميات الكميت: 35 ـ 37.
49 ـ المصدر السابق: 52 ـ 53.
50 ـ الأغاني 18: 30 ـ 34.
51 ـ انظر القصيدة التائية الخالدة في ديوان دعبل الخزاعي، تحقيق عبد الصاحب الدجيلي: 124 ـ 151.
52 ـ ديوان الأمير أبي فراس الحمداني: 257 ـ 262.
53 ـ علية: بنت المهدي، اخت الخليفة العباسي هارون الرشيد، قال القيرواني
في زهر الآداب 1: 43: "كانت علية لطيفه المعنى، رقيقة الشعر، حسنة مجاري
الكلام، ولها ألحان حسان، وعلقت بغلام اسمه (رشا) وفيه تقول:
أضحى الفؤاد بزينبا صباً كثيباً متعب*
فجعلت زينب سترة وكتمت أمراً معجب
قولها بزينب تريد برشا فنمي الأمر إلى أخيها الرشيد، فأبعده، وقيل: قتله.
وعلقت بغلام اسمه (طل) فقال لها الرشيد: والله لئن ذكرته لاقتلنك. فدخل
عليها يوماً على حين غفلة وهي تقرأ: فإن لم يصبها وابل فما نهى عنه أمير
المؤمنين فضحك، وقال: ولا كلّ هذا...
أما إبراهيم، فهو ابن المهدي عم المأمون، مغن موسيقار، يعرف بابن شكله.
حينما بايع المأمون الإمام الرضا بولاية العهد، نقم عليه العباسيون،
فاستغلوا وجود المأمون في (مرو)، فبايعوا إبراهيم خليفة للمسلمين وفي مدة
تربعه على كرسي الخلافة أصيبت الخزينة بالعجز، فألح عليه الجند وغيرهم في
أعطياتهم، فخرج إليهم رسول يقول: إنّه لا مال عند الخليفة، فطلب المتجمهرون
بدلاً من المال أن يخرج الخليفة فيغني لأهل هذا الجانب ثلاث أصوات، ولأهل
ذاك الجانب ثلاث اصوات (وفيات الأعيان 1: 8.)
وفي ذلك يقول دعبل:
يا معشر الأجناد لا تقنطوا وارضوا بما كان ولا تسخطوا ***فسوف تعطون (حنينية) يلتذها الأمرد والأشمط
و(المعبديات) لقوادكم لاتدخل الكيس ولا تربط ***وهكذا يرزق أصحابه خليفة مصحفه (البربط)
الديوان: 219.
54 ـ صدر البيت من مطلع قصيدة جاهلية لزهير، وعجزه: بلى وغيرها الأرواح والديم ـ يقصد أنكم مقابل تلاوتهم السور، تتغنون بأشعار الجاهلية.
الرسالية في الشعر الشيعي
الدكتور محمّد علي آذر شب
يطلق اسم الشعر الشيعي على ذلك الشعر، الذي قيل في علي وآل بيت رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ مدحاً ودفاعاً ورثاءً. ومنذ القرن الإسلامي الأول برز شعراء كرسوا جل اهتمامهم في هذا المجال، فسموا شعراء الشيعة.
وفي هذا المقال أهدف إلى إلقاء الضوء على هذا اللون من الشعر في الأدب العربي، لأعرض بعض ما تبين لي من حقائق عند دراسة الشعر الشيعي وتدريسه، وأحسب أنها مفيدة في إبعاد الصفة "الطائفية" و"الحزبية" عن هذا الشعر، وفي استجلاء حقيقة "الرسالية" و"الروح الإسلاميّة" فيه.
في البداية لابد من القول: إنّ الكشف عن حقيقة الشعر الشيعي ورساليته، يخدم هدف "التقريب" بين الأمة المسلمة الواحدة، فسيتبين أنّه يتحدث بلغة إسلامية لا طائفية، ويدافع عن أهداف الإسلام، ويعبر عن آمال الأمة وآلامها، دون أن يتحدد بإطار مذهبي ضيق، ودون أن تكون له أهداف حزبية دنيوية دنيئة.
ومن نافلة القول: إنّ ما أحيط به الشعر الشيعي من أحكام بعيدة عن الصواب، إنّما
هو ناشئ من نظرة "أموية" سادت في كتب القدماء والمحدثين عن الشيعة ونشأتهم وعقائدهم فأسطورة ابن سبأ نقلها الطبري في تاريخه(1)، وتناقلها عنه المؤرخون القدامى (2).
ووجد المستشرقون في هذه الأسطورة ما ينسجم مع رغبتهم في تركيز الخلافات التاريخية بين المسلمين، وتسليط الأضواء على ما ورد بشأن تشرذمهم وتمزقهم، مثل: (فلها وزن) و(دوزى) و(فان فلوتن) ثم راح تلامذة المستشرقين في العالم الإسلامي يحوكون على نفس المنوال (3) مع الأسف، تاركين في الأمة حساسيات وحزازات تثقل كاهل كلّ العاملين في حقل توحيد صفوف المسلمين.
لا أريد هنا أن أتعرض لنشأة الشيعة والتشيع، إنّما أردت الإشارة فقط إلى خلفية النظرات السلبية التي أحيط بها الشعر الشيعي، والتي جعلته في نظر الباحثين المحدثين شعراً حزبياً، وجعلت فواعله في نظرهم نفس فواعل الشعر الأموي ومصادره: تراث جاهلي، وإلهام إلهي، وتأثير أجنبي، وعصبية قبلية، وأهواء سياسية(4).
ولدراسة طبيعة الشعر الشيعي لابد أن نلقي نظرة على موضوعاته، لنتبين من خلالها طبيعته الرسالية:
الحب الرسالي
الإيمان بالمبدأ يقترن دائماً بعواطف حب وبغض، وهذه العواطف توجهها العقيدة وتقوى بقوتها.
ومن العقيدة الإسلاميّة تنشأ عواطف حب الله ورسوله والمؤمنين، وبغض أعداء
الله وأعداء الرسالة الإسلاميّة.
وإذا ترسخت هذه العقيدة في النفوس، ترتفع على كلّ وليجة وآصرة من قرابة، أو قوم، أو جنس، فيضحي الإنسان من أجل هذا الحب الرسالي ويتفاني من أجله.
ونحن نرى هذا الحب الرسالي بوضوح في الشعر الشيعي. يقول أبو الأسود الدولي:
أحب محمداً حباً شديداً**** وعباسا وحمزة والوصي
وجعفر إنّ جعفر خير سبط**** شهيد في الجنان مهاجري
أحـبـهـم كـحـب الله حتـّى**** أجيء إذا بعثت على هويا (5)
هوى أعطيـته منـذ اسـتـدارت**** رحى الإسلام لم يعدل سوي
لاحظ: إنّ هذا الهوى ينطلق من الإسلام، فالشاعر ألهمه منذ استدارت رحى الإسلام، وهو حب شديد لله أوّلاً، ثم لرسوله، والرهط الكريم من آل بيته: العباس والحمزة والوصي وجعفر...
ولنقف برهة عند الشاعر، لنتبين شخصيته، ومدى صدقه في التعبير عن عواطفه.
هو: ظالم بن عمرو القرشي البصري من التابعين، والفقهاء، والشعراء، والمحدثين، والأشراف، والفرسان...
قال عنه الجاحظ: إنه "من المتقدمين في العلم" (6).
عرف بتشدده في الالتزام بأحكام الدين، حتّى اختلف مع عبدالله بن عباس، ومع زياد ابن أبيه حين اعتقد أنهما استغلا منصبهما لمصالحهما الشخصية (7).
كان "ثقة في حديثة"(8).
وشهد مع الإمام علي ـ عليه السلام ـ وقعتي: الجمل وصفين (9).
واستعمله عمر وعثمان على البصرة(10).
ثم أصبح قاضياً على البصرة في زمن الإمام علي ـ عليه السلام ـ ، بعد أن ولى الإمام علي عبدالله بن عباس البصرة سنة(40 هجرية).
ثم أصبح والياً على البصرة حتّى مقتل الإمام علي ـ عليه السلام ـ (11).
وحاول معاوية إرشاءه بالهدايا، لكنه أبي أن يأخذها رغم ما كان يعانيه من ضنك في العيش، بسبب قلة عطائه. وحين سألته ابنته عن تلك الهدايا قال: "بعث بها معاوية يخدعنا عن ديننا"فقالت ابنته التي تحمل نفس عواطف أبيها وإبائه:
أبـا لشهد المزعفـر يـا ابـن حـرب**** *نبيـع عـليك أحـسابــاً وديــنــا؟
معاذ الـلـه كــيــف يـكــون هـذا*****ومولانا أميـر المـؤمـنـيـنــا ؟(12)
هذا شاعر من النصف الأول من القرن الهجري الأول (ت 69 هـ).
ولنقف عند شاعر آخر من النصف الثاني لهذا القرن، وهو كثير بن عبد الرحمن الخزاعي المعروف بكثير عزة (ت 105 هـ)، حيث يقول:
إنّ أمرأ كانت مساوِؤه****حب النبي لغير ذي ذنب
وبني أبي حسن ووالدهم ****من طاب في الأرحام والصلب
أترون ذنباً أن نحبهم ؟**** بل حبهم كفارة الذنب (13)
واضح، أن الشاعر يشير في هذه الأبيات إلى ما كان يتحمله من ضغوط أموية بسبب رساليته، أو بسبب حبه الرسالي للنبي، وعلي وآل علي، فليس هذا بذنب كما يرى بنو أمية، بل هو كفارة الذنب، وطريق الهدى والنجاة، وكيف لا يتحمل هذه الضغوط وهو يعيش في عصر يسب فيه علي على المنابر؟.
ويعبر الشاعر في أبيات أخرى عن أساه وألمه لهذا السب، بلغة تنطلق من عاطفة إسلامية رسالية، هي لغة كلّ المسلمين في عصره، اللهم إلاّ الشرذمة الضالعة في ركاب الحكام الظالمين:
لعن الله من يسب عليا****وبنيه من سوقه وإمام
أيسب المطهرون جـدوداَ****والكرام الأخوال والأعمام؟
يأمن الطير والحمام ولا****يأمن آل الرسول عند المقام
طبت بيتا، وطاب أهلك أهلا****أهل بيت النبي والإسلام
رحمة الله والسلام عليهم****كلما قام قائم بسلام (14)
هذا الولاء الذي يحمله الشاعر لآل بيت رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ لم يكن يعبر عن نظرة فئوية حزبية، بل عن نظرة إسلامية شعبية عامة، اتسعت لتستوعب حتّى الخليفة المرواني ـ عمر بن عبد العزيز ـ الذي استنكر هذا السّب ومنعه في نفس زمن حياة الشاعر كثير عزة. فطار الشاعر فرحا، وانشد قصيدته يثني على الخليفة موقفه هذا، وعدله بين الرعية، ورفعه الظلم عن الناس:
وليت فلم تشتم عليا ولم تخف**** بريا ولم تقبل إشارة مجرم
وصدقت بالفعل المقال مع الذي****أتيت فأمسى راضياً كلّ مسلم
وأظهرت نور الحق فاشتد نوره****على كلّ لبس بارق الحق مظلم(15)
ويكفي لمعرفة صدق ولاء الشاعر لآل بيت رسول الله، أنّه قال ما قال في مدحهم في أقسى ظروف الضغط الأموي على آل البيت. وفي أخباره ما يدل على شدة ولائه لأهل بيت رسول الله بما في ذلك أبناؤهم وذريتهم فكان يأتي إلى أبناء الحسن بن الحسن فينظر إليهم بعاطفة شديدة، تذكره بجدهم رسول الله وبنسبهم الطاهر، فتفيض عيناه دمعاً، ويقول: "بأبي انتم، هؤلاء الأنبياء الصغار"، ويريد بذلك: طهرهم وسمو منزلتهم.
وكان يهب لهؤلاء الصغار عطاءه، فيقول له محمّد بن عبدالله بن عمرو بن عثمان،
وهو أخوهم لأمهم: "يا عم هب لي، فيقول كثير: لا، لست من الشجرة"(16).
وله أخبار مع سكينة بنت الحسين ـ عليه السلام ـ منها: أنّه كان خارجا في الحاج، وقد أراد أن يبيع جمله، فساومته سكينه وهو لم يعرفها، وإنّما عرفته سكينة، فلم يرض إلاّ مائتي درهم، وحين عرفها استحيا وانصرف مهرولاً تاركاً لها الجمل وهو يقول: "هو لكم، هو لكم "(17) خجلاً وإجلالاً.
وإذا وقفنا عند الكميت لاستجلاء هذا الحب الرسالي في شعره، فأننا سنجد العجب العجاب. هذا الشاعر الذي عاش النصف الثاني من القرن الأول، والعقود الثلاثة الأولى من القرن الثاني (60 ـ 126 هـ) كان "خطيب بني أسد، وفقيه الشيعة، وحافظ القرآن، وثبت الجنان"(18).
وسئل معاذ الهراء: "من أشعر الناس ؟ فقال: من الجاهليين: امرؤ القيس، وزهير، وعبيد بن الأبرص. ومن الإسلاميين: الفرزدق، وجرير، والأخطل. فقيل له: يا أبا محمّد، ما رأيناك ذكرت الكميت ! فقال: ذاك اشعر الأولين والآخرين"(19).
ومدحه للنبي ـ صلى الله عليه وآله ـ معروف، وقف عنده النقاد كثيراً، ويحسن أن نتعرض له ولو قليلاً لأنه يكشف عن جانب هام من ولائه الرسالي وظروف عصره.
يقول الكميت:
فاعتتب الشوق في فؤادي والشعر****إلى من إليه معتتب
إلى السراج المنير أحمد لا**** يعدلني رغبة ولا رهب
وقيل أفرطت، بل قصدت، ولو**** عنفني القائلون، أو ثلبو
إليك يا خير من تضمنت الأرض**** وإن عاب قولي العيب
لج بتفضيلك اللسان، ولو****أكثر فيك الضجاج واللجب(20)
والعجيب في هذه الأبيات أنّه يتحدث عمّن يؤنبه ويعنفه لمدحه النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ، ويصر على هذا المدح وإن عاب العائبون، وعنف وثلب القائلون.
الجاحظ يرى: أن قول الكميت هذا هو "من غرائب الحمق"، ويتساءل مستغرباً: "فمن رأى شاعراً مدح النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ، فاعترض عليه واحد من جميع أصناف الناس!، حتّى يزعم أنّ أناساً يعيبونه ويثلبونه ويعنفونه"؟(21).
والشريف المرتضى رحمه الله يرى أن الكميت لم يرد في مدحه النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ، وإنّما أراد عليا ـ عليه السلام ـ فورى عنه بذكر النبي خوفاً من بني أمية(22).
وأجمل ما رأيت من تحليل لمدح الكميت المذكور، ورأي النقاد فيه، ما كتبه الأستاذ الدكتور عبد الحسيب طه حميدة، أنقله بنصه لأهميته، إذ يقول:
(ونحن نرى: أن الكميت كان أعلم بأخلاق عصره من هؤلاء، وأمس بسياسته...، كان يشعر بأنه يحيا وسط دولة ترى: أن هذا اللون من مدح الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ تزكية للهاشميين، ولفت للذهن إلى حق هؤلاء في الخلافة.
وإذا كانت السياسة قد أباحت لابن الزبير ـ على مكانته الدينية وبيته من الإسلام ـ أن يسقط ذكر النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ من خطبه، حتّى إذا ليم على ذلك، قال: والله ما يمنعني من ذكره علانية أني لا أذكره سراً، وأصلي عليه، ولكني رأيت هذا الحي من بني هاشم إذا سمعوا ذكره، اشرأبت أعناقهم، وأبغض الأشياء إلي ما يسرهم. وفي رواية: أن له أهيل سوء(23).
نقول: إذا كانت السياسة قد أباحت لابن الزبير هذا، فما بالك ببني أمية في عصر الكميت وقد تغيرت الأخلاق، وفسد الناس؟.
فالكميت يحدثنا عن عصر يحيا فيه، ويصطلي بسياسته، ويحس أن مدحه للرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ يعرضه للعيب والثلب والعنف.
والجاحظ يحكم في الرجل نظرة دينية، ويتناسى أن السياسة قد بدأت في هذا العصر تستقل عن الدين، فبغضت هذا اللون من المديح، لا لأنه مدح للرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ بل لأنه ضرب من التمرد والشغب، والخروج على السلطان، به تشرئب أعناق الهاشميين، ويلفت الناس إليهم... هذا إلى أن الجاحظ عثماني، فلا غرو أن اهتم بنفي هذه التهمة عن بني أمية، واحتشد لذلك، فعد مذهب الكميت حمقاً، بل من غرائب الحمق) (24). ويظهر من الروايات: أن الكميت جند نفسه منذ بداية انبثاق الشعر على لسانه للدفاع عن أهل البيت، ورواية صاحب الأغاني عن الحوار بين الكميت والفرزدق، تبين أيضاً اهتمام الشاعر بأن تكون كلمته في المدح قوية مؤثرة، تملك المشاعر والنفوس، حتّى جعلت شاعراً كبيراً مثل الفرزدق، يحار ويدهش أمام هذا الشاعر الناشئ.
انظر إلى هذا الحوار:
الكميت: يا أبا فراس، إنك شيخ مضر وشاعرها، وأنا ابن أخيك الكميت بن زيد. الفرزدق: صدقت، أنت ابن أخي، فما حاجتك؟
الكميت: نفث على لساني، فقلت شعراً، فأحببت أن أعرضه عليك، فأن كان حسناً، أمرتني بإذاعته، وإن كان قبيحاً، أمرتني بستره، وكنت أول من ستره علي.
فقال الفرزدق: أما عقلك فحسن، وإني لأرجو أن يكون شعرك على قدر عقلك، فأنشدني، فأنشده:
طربتُ وما شوقاً إلى البيض أطْرَبُ
فقال الفرزدق: ففيم تطرب يا ابن أخي ؟ فقال:
ولا لَعِباً منّي وذو الشّيبِ يَلعبُ؟
فقال الفرزدق: بلى يا ابن أخي، فالعب فأنك في أوان اللعب فقال:
ولم يلهني دار ولا رسم منزل **** ولم يتطربني بنان مخضب
فقال: وما يطربك يا ابن أخي ؟ فقال:
ولا أنا ممن يزجر الطير همه****أصاح غراب أم تعرض ثعلب
ولا السانحات البارحات عشية****أمرّ سليم القرن، أم مرّ أعضب.
فقال: أجل، لا تتطير فقال:
ولكن إلى أهل الفضائل والتقى ****وخير بني حواء، والخير يطلب
فقال: ومن هؤلاء ويحك؟ فقال:
إلى النفر البيض الّذين بحبهم**** إلى الله فيما نالني أتقرب
فقال: أرحني ويحك، من هؤلاء؟ فقال
بني هاشم رهط النبي فأنني**** بهم، ولهم أرضى مراراً وأغضب
فقال الفرزدق: يا ابن أخي، أذع ثم أذع، فأنت ـ والله ـ أشعر من مضى وأشعر من بقي(25).
ونجد في شعر الكميت تركيزاً على الدافع الديني في ولائه لأهل البيت، فحبه ينطلق من تربية قرآنية وطدت جذور هذا الحب في نفسه.
وجدنا لكم في آل حاميم آيةً****تأولها منا تقي ومعرب
وفي غيرها آياً، وآياً تتابعت****لكم نصب فيها لذي الشك منصب(26)
ويؤكد: أن حبه لأهل البيت، هو استمرار لحب رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ وأنه بدافع طلب مرضاة الله سبحانه وتعالى:
إنّ أمت لا أمت ونفسي نفسان****من الشك في عمى أو تعامي
عادلاً غيرهم من الناس طراً****بهم، لا همام بي، لا همام
لم أبع ديني المساوم بالوكس****ولا مقلياً من السوام
أخلص الله لي هواي، فما أغرق****نزعاً، ولا تطيش سهامي
ولهت نفسي الطروب إليهم****ولهاً، حال دون طعم الطعام(27)
ويظهر من سيرة الكميت أنّه كان هائماً في حب أهل البيت إلى درجة صوفية غارقة. وكان أحب شيء إليه أن يسمع منهم دعاء له، وأن يسموه شاعر أهل البيت، فيطير فرحاً ويبكي وجداً.
يروي صاحب الأغاني عن صاعد ـ مولى الكميت ـ قال: دخلنا على فاطمة بنت الحسين، فقالت: هذا شاعرنا ـ أهل البيت ـ وجاءت بقدح فيه سويق، فحركته بيدها ودفعته إليه فشربه، ثم أمرت له بثلاثين دينار ومركب، فهملت عيناه ثم قال: لا والله لا أقبلها، إني لم أحبكم للدنيا(28).
وروي عن محمّد بن سهل ـ صاحب الكميت ـ قال: دخلت مع الكميت على أبي عبدالله جعفر بن محمّد (الصادق) ـ عليه السلام ـ ، أيام التشريق بمنى، فقال: جعلت فداك، ألا أنشدك ؟ فقال يا كميت إنها أيام عظام، فقال: إنها فيكم، فقال: هات، وبعث الإمام إلى بعض أهل بيته فاجتمعوا ـ فأنشد لا ميته:
ألا هل عم في رأيه متأمل **** وهل مدبر بعد الإساءة مقبل
فكثر البكاء حوله... حتّى إذا قال:
يصيب به الرامون عن قوس غيرهم **** فيا آخراً أسدى له الغي أول
رفع الإمام الصادق يديه وقال: اللهم اغفر للكميت، ماقدم وما أخر، وما أسر وما أعلن، وأعطه حتّى يرضى(29).
وكانت هذه الدعوات أثمن هدية يتلقاها هذا العاشق الوله من أحبابه.
ثم نقف عند شاعر آخر عاش النصف الأول من القرن الثاني وردحاً من نصفه الثاني وهو السيد الحميري (105 ـ 173 هـ): إنه أبو هاشم إسماعيل بن محمّد بن يزيد بن مفرغ الحميري، ويكفي في رساليته أنّه ولد من أبوين خارجيين، يسبان علياً، لكنه هام في علي وآل بيته، وحينما علم أبواه بمذهبه هما بقتله، ففر من بيتهما وبقي بعيداً عنهما حتّى ماتا.
وحين سئل عن سبب ولائه لعلي وآل بيت رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ مع أن أبويه خارجيان، يقول: "غاصت علي الرحمة غوصاً"(30).
وتذكر الرواية أن السيد انفجر على لسانه الشعر، بسبب رؤيا مباركة، رأى فيها النبي يطلب منه أن يقلع أشجار نخل طوالاً لأمرئ القيس، ويغرسها في مكان آخر، وحين ذكر الرؤيا لابن سيرين قال له: "أما إنك ستقول شعراً مثل شعر امرئ القيس، إلاّ أنك تقول في بررة أطهار"(31). وهذه الرواية تبين أيضاً المنطلق الرسالي لهذا الشاعر.
أجمع الرواة أن للسيد شعراً كثيراً، وهو من أكثر الناس شعراً في الجاهلية والإسلام (32)، ولكن شعره تحومي بسبب إفراطه في ذكر الخلفاء الثلاثة بسوء وهنا أود أن أشير فقط إلى أن سبب الصحابة بدأ منذ زمن معاوية، حين أمر بسب أول الصحابة إسلاماً وأشدهم إيماناً وهو علي بن أبي طالب.
ولم يكتف أعداء علي بهذا السب، بل تستروا بالخلفاء الثلاثة لكي يطعنوا بالخليفة الرابع، فجعلوا بذلك علياً مقابل الخلفاء الثلاثة، وجعلوا مدح الخلفاء الثلاثة نوعاً من الطعن بعلي بينما لا نرى بين هؤلاء الأربعة نزاعاً في حياتهم قط ـ (وإن كانت لهم وجهات نظر متباينة)ـ، وإنّما هي السياسية الأموية، وسياسة كلّ أعداء علي، التي أرادت أن تطعن بعلي متسترة بالولاء للخلفاء الثلاثة، ولا تزال هذه السياسة المفرقة الاستفزازية
موجودة بشكل وآخر في عالمنا الإسلامي مع شديد الأسف.
وكان للموالين لعلي مواقف مختلفة من هذه الخطة الأموية. منهم من انتهج طريق فضح هذه الخطة، وتوضيح خلفية هذا اللون من الدفاع عن الخلفاء الثلاثة، مؤكداً أن هؤلاء لا يمدحونهم حباً بهم، بل بغضاً لعلي، وبعضهم اندفع لبيان أفضلية علي بين صحابة رسول الله، وبعضهم بلغ به رد الفعل إلى درجة ثلب الخلفاء الثلاثة هذه مسألة هامة نحتاج إلى الوقوف عندها طويلاً، وإنّما أشرت إليها لأذكر أن "السيد" كان يستفز أحياناً بمدح الخلفاء فيفهم من خلال الظروف التي كان يعيشها، أن هذا المدح يستهدف طعناً بعلي فينبري للدفاع عن الإمام وأهل بيته.
من ذلك أن أحدهم استفزه ببيت يقول:
محمّد خير من يمشي على قدم****وصاحباه، وعثمان بن عفان
فانتفض غاضباً يقول:
سائل قريشاً إذا ما كنت ذاعمه****من كان أبثتها في الدين أوتادا
من كان أعلمها علماً، وأحلمها****حلماً، وأصدقها قولاً وميعاد
إنّ يصدقوك فلن يعدوا أبا حسن****إنّ أنت لم تلق للأبرار حسادا(33)
ويركز السيد الحميري على المنطلق الرسالي في ولائه لعلي وآل بيت النبي، فيذكر تارة أنّه ينطلق في هذا الولاء من حديث رسول الله في غدير خم:
إذا أنا لم أحفظ وصاة محمّد****ولا عهده يوم الغدير المؤكد
فأني كمن يشري الضلالة بالهدى****تنصر من بعد التقى، وتهود
ومالي وتيم، أو عدي، وإنّما****أولوا نعمتي في الله من آل أحمد
تتم صلاتي بالصلاة عليهم****وليست صلاتي بعد أن أتشهد
بكاملة إنّ لم أصل عليهم****وأدع لهم رباً كريماً ممجد (34)
وتارة يذكر أن ولاءه له منطلق قرآني، لما جاء في حق آل البيت من آية التطهير:
إنّ يوم التطهير يوم عظيم****خص بالفضل فيه أهل الكساء(35)
وولع السيد الحميري بتصوير ما جاء في السيرة، من ارتباط عاطفي بين الرسول وأهل بيته، مشيراً إلى أن ولاءه لأهل البيت يستمد قوامه من السيرة، من ذلك أن السيد سمع محدثا يحدث أن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ كان ساجداً، فركب الحسن والحسين على ظهره، فقال عمر: "نعم المطي مطيكما" فقال النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ: ((نعم الراكبان هما))، فانفجرت قريحة السيد بالقول:
أتى حسناً والحسين النبي****وقد جلسا حجره يلعبان
ففداهما، ثم حياهما****وكان لديه بذاك المكان
فراحا وتحتهما عاتقاه****فنعم المطية، والراكبان
وليدان أمهما برة****حصان مطهرة للحصان
وشيخهما ابن أبي طالب****فنعم الوليدان والوالدان(36)
لأن وقفنا طويلاً عند هذا الولاء الرسالي، فلأن الشعر الشيعي متهم بالولاء الحزبي والطائفي وما هو كذلك، كما يرى بوضوح في النماذج المذكورة وسنمر سريعاً في ذكر الخصائص الأخرى التي تطبع الشعر الشيعي بالطابع الرسالي.
الدفاع عن مصالح الأمة
شعراء أهل البيت تصدوا للدفاع عن مصالح الأمة، وللحديث عما يحط بالمسلمين من ظلم الحكام وطغيانهم، وحث الناس على اليقظة والانتباه إلى تصرفات الحكام. وهذا الاتجاه في الشعر الشيعي يعني أنّه ابتعد عن المصالح الفئوية والحزبية، وحمل هموم الأمة، وارتفع إلى مستوى أهداف الإسلام في ردع الظلم، وإحقاق الحق، وإقامة المجتمع العادل.
ولعل خير مثال على هذا الاتجاه في الشعر الشيعي ـ لامية الكميت (37) ـ التي يبدؤها بتوعية الأمة وإيقاظها فيقول:
ألا هل عم في رأيه متأمل****وهل مدبر بعد الإساءة مقبل
وهل أمة مستيقظون لرشدهم****فيكشف عنه النعسة المتزمل
فقد طال هذا النوم واستخرج الكرى****مساويهم لو أن ذا الميل يعدل
ثم يذكر الشاعر منطلقه في ثورته على واقعه الاجتماعي المنحرف، موضحاً أن سبب ما يعج به المجتمع الإسلامي في عصره، من ظلم وفساد، إنّما هو الانحراف عن الكتاب والسنة، وتعطيل أحكام الإسلام.
وعطلت الأحكام حتّى كأننا****على ملة غير التي نتخل
كلام النبيين الهداة كلامنا****وأفعال أهل الجاهلية نفعل
أنظر إلى الشاعر كيف يحدد منطلقه في الدفاع عن الأمة، إنه يدين العودة إلى مظاهر الجاهلية، باعتبارها سبب كلّ انحراف ثم يندفع الشاعر في حث الأمة على استعادة كرامتها، وعدم الالتصاق بالأرض، والمتاع الدنيوي الرخيص، والارتفاع إلى مستوى التضحية في سبيل المبدأ يقول:
رضينا بدنياً لا نريد فراقها****على أننا فيها نموت ونقتل
ونحن بها المستمسكون كأنها****لنا جنة مما نخاف ومعقل
أرانا على حب الحياة وطولها****يجد بنا في كلّ يوم ونهزل
ثم يرفع صوته بوجه الظالمين، مندداً بما ينزلونه من عذاب بالأمة ومن استهانة بكرامتها وتضييع لحقوقها:
فتلك أمور الناس أضحت كأنها****أمور مضيع آثر النوم بهل (38)
فياساسة هاتوا لنا من جوابكم****ففيكم لعمري ذو أفانين مقول
أهل كتاب نحن فيه وأنتم****على الحق نقضي بالكتاب ونعدل
فكيف، ومن أنى، وإذ نحن خلفه****فريقان شتى تسمنون ونهزل
لنا راعيا سوء مضيعان منهما****أبو جعدة العادي وعرفاء جيال (39)
أتت غنماً ضاعت وغاب رعاؤها****لها فرعل، فيها شريك وفرعل(40)
ويؤكد الشاعر ثانية على منطلقه الرسالي في الدفاع عن الأمة، حين يعود ثانية إلى القول بأن هذه الأمة لا تصلح أوضاعها، إلاّ بأصلاح دينها، والعودة إلى هدى كتاب ربها وسنة نبيها، يقول:
أتصلح دنيانا جميعاً وديننا **** على ما به ضاع السوام الموبل (41)
كان كتاب الله يعنى بأمره **** وبالنهي فيه الكودني المركل(42)
ألم يتدبر آية فتدله **** على ترك ما يأتي، أم القلب مقفل
وكيف يمكن العودة إلى إسلام رسول الله، وهؤلاء الولاة الظلمة يسومون الأمة سوء العذاب؟:
فتلك ولاة السوء قد طال ملكهم **** فحتام حتام العناء المطول
رضوا بفعال السوء في أهل دينهم **** فقد أيتموا طوراً عداء وأثكلوا..
لهم كلّ عام بدعة يحدثونها **** أزلوا بها أتباعهم ثم أوحلوا
تحل دماء المسلمين لديهم **** ويحرم طلع النخلة المتهدل
ما أروع هذا البيت الأخير، الذي يصور وضع طواغيت العالم الإسلامي في كلّ زمان ومكان يستهينون بدماء المسلمين، وليست لنفس المسلم عندهم أية كرامة، لكنهم يطالبونه بأداء ما فرضوا عليه من ضرائب وخراج، ولا يحق له أن يمشي بين نخله، ويمسه حتّى يؤدي خراجه، فأن هو مسه قبل ذلك قتل.
ومثل هذا الدفاع عن حقوق الأمة المضيعة نجده عند جميع شعراء الشيعة.. دفاعاً ينطلق من إيمان بما أراده الله للإنسان المسلم، من عزة وكرامة وحقوق فردية واجتماعية.
وهذا التصدي للدفاع عن الأمة، عرضناه في شعر الكميت وهو يقارع الأمويين، ونعرض بعض أبيات شاعر شيعي آخر، هو أبو فراس الحمداني، وهو يدافع عن حقوق الأمة أمام ظلم حكام زمانه من العباسيين يقول:
الدين مخترم والحق مهتضم **** وفيء آل رسول الله مقتسم
والناس عندك لاناس فيحفظهم **** سوء الرعاء، ولا شاء ولا نعم...
وما السعيد بها إلاّ الذي ظلموا **** ولا الغني بها إلا الذي حرمو
للمتقين من الدنيا عواقبها **** وإن تعجل فيها الظالم الأثم(43)
وفي البيت الأخير، حث لأهل الإيمان أن لا ييأسوا من مطالبة حقهم، ومن مقارعة الظالمين.
(إنّ الأرض لله يروثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين)(44).
الصمود على المبدأ
مر بنا أن شعراء الشيعة كانوا يعلنون رساليتهم، والتزامهم بإسلام رسول الله، من خلال إعلانهم الولاء لآل البيت، والدفاع عن كرامة الأمة المسلمة. وهذا الموقف كلف
هؤلاء الشعراء التأنيب والتقريع، والتشريد والتجويع، وعانوا من ألوان الظلم والاضطهاد والعذاب، صابرين صامدين، مؤكدين على تعاليهم عما يتهافت عليه الناس، من مال ومتاع، وعلى تفانيهم في سبيل مبدا آمنوا به إيماناً جعلهم يستحلون كلّ تعذيب، طلباً لأجر الآخرة.
ولا يمكن أن نعرف مدى استقامة هؤلاء الشعراء وصمودهم، إلاّ إذا عرفنا جو الإرهاب الذي عاشوا فيه ن والبطش الذي مارسه الحكام بحق الصامدين على المبدأ ويكفي أن نلقي نظرة على كتب التاريخ، لنعرف أن الأمويين والعباسيين مارسوا أفظع ألوان التقتيل والتنكيل، بحق كلّ من كانوا يشكون.. يشكون فقط.. في ولائه لآل بيت رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ (45).
يقول الكميت:
ألم تر ني من حب آل محمّد **** أروح وأغدو خائفاً أترقب
كأني جان محدث وكأنما **** بهم يتقى من خشية العر أجرب
على أي جرم أم بأية سيرة **** أعنف في تقريظهم وأؤنب(46)
هكذا كان شاعر أهل البيت..، فهو خائف مترقب، معنف مؤنب، لا لذنب اقترفة سوى حبه لآل البيت وهذا الصمود أمام ألوان التحديات، يؤكد رسالية المسلك الذي إلى الشاعر على نفسه أن يسلكه.
وواضح أن هذا الأدب يختلف تماماً عن أدب اللهى التي تنفتح باللهى (47)، وعن ذلك الأدب الذي يصدر عن عصبية حزبية أو عشائرية لا يقوى صاحبها على مواجهة أي تهديد.
إنّ المعيار الذي اتخذه الشاعر الشيعي في حياته، يسمو على كلّ ارتباط قبلي أو عشائري، فهو معيار رسالي نابع من التزامه بالإسلام وبسنة رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ، لا يبالي بسخط الساخطين أو لوم اللائمين يقول:
فيهم صرت للبعيد ابن عم **** واتهمت القريب أي اتهام
وتناولت من تناول بالغبة **** أعراضهم وقل اكتتامي
ورأيت الشريف في أعين الناس **** وضيعاً وقل فيه احتشامي
معلناً للمعلنين، مسراً **** للمسرين، غير دحض المقام
مبدياً صفحتي على المرقب المعلم **** بالله عزتي واعتصامي
ما أبالي إذا حفظت أبا القاسم **** فيهم ملامة اللوام
ما أبالي، ولن أبالي فيهم **** أبداً رغم ساخطين رغام
فهم شيعتي وقسمي من الأمة، **** حسبي من سائر الأقسام(48)
الخوارج كفروا الشاعر، والأمويون اعتبروه مسيئا مذنباً، ولم يسؤه ذلك، ولم يتراجع عن موقفه قط:
يشيرون بالأيدي إلي، وقولهم **** إلاّ خاب هذا والمشيرون أخيب
فطائفة قد كفرتني بحبكم **** وطائفة قالوا: مسيء ومذنب
فما ساءني تكفير هاتيك منهم **** ولا عيب هاتيك التي هي أعيب
يعيبونني من خبهم وضلالهم **** على حبكم، بل يسخرون وأعجب(49)
ولم يتعرض الشاعر الشيعي للسخط في عصر الأمويين فحسب، بل في عصر العباسيين أيضاً، لأن هذا الشعر قد أتجه إلى مقارعة الطواغيت، سواء كانوا من بني أمية، أم من بني هاشم من العباسيين، ولذلك كان الشاعر الشيعي دعبل في العصر العباسي
مطارداً، مهدداً بالقتل، ويعبر عن استعداده لهذه التضحية فيقول: "أنا أحمل خشبتي على كتفي منذ خمسين سنة، لست أجد أحداً يصلبني عليها" (50).
المنطق الإسلامي في المدح والهجاء
منطق المدح والهجاء في الشعر العربي جاهلياً كان أم بعد الإسلام ينحو منحى معيناً، فهو في المدح يتناول الكرم والشجاعة والقوة.. وأمثالها من الخصال الحميدة، وفي الهجاء يركز على البخل والجبن والضعف، قد يتناول الأعراض والمثالب التاريخية...، لكننا نجد في الشعر الشيعي منطلقا خاصاً في المدح والهجاء، يستمد محتواه من مضامين القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، ومن غيرة على الإسلام والأمة الإسلاميّة.
مرت بنا رسالية الشاعر الشيعي والتزامه الإسلامي في إبراز ولائه لآل البيت ونذكر هنا بعض نماذج المدح والهجاء في الشعر الشيعي، ليتبين لنا أن العواطف الشيعية إنّما هي عواطف إسلامية صادقة، لا تسمح للشاعر أن يحيد عن مسيرة الرسالة ومحتواها العقائدي.
أبدأ بذكر نموذج من دعبل الخزاعي في تائيته المعروفة(51).
ألم تر للأيام ما جر جورها **** على الناس من نقص وطول شتات
ومن دول المستهترين، ومن غدا **** بهم طالباً للنور في الظلمات
فكيف ؟ ومن أنى يطالب زلفة **** إلى الله بعد الصوم والصلوات
سوى حب أبناء النبي ورهطه **** وبغض بني الزرقاء والعبلات
وهند، وما أدت سمية وأبنها **** أولو الكفر في الإسلام، والفجرات
هم نقضوا عهد الكتاب وفرضه **** ومحكمه بالزور والشبهات
لا حظ، أن الشاعر يؤلمه ما نزل بالناس من ظلم، ويؤلمه ما حل بالمجتمع الإسلامي من تمزق، ثم يهجو أولئك الّذين أنزلوا بالأمة هذه المصائب، فيقول: إنهم المستهترون الذي تحكموا في رقاب الأمة ومن لف لفهم.
"دول المستهترين" ما أجمله من تعبير، ينم عن فهم رائع لخصائص الحكم والحاكم في نظر هذا المسلم المتعلم في مدرسة أهل البيت.
ثم يشيد الشاعر بذكر أهل البيت، باعتبار أن حبهم فريضة إلهية بعد الصوم والصلاة، ويعلن كرهه لبني مروان وبني أمية (بني الزرقاء، والعبلات، وهند) لأنهم"أولو الكفر في الإسلام والفجرات"، ولانهم "نقضوا عهد الكتاب وفرضه".
ثم انظر في الأبيات التالية ـ معياره ـ في مدح أهل البيت:
فيا وارثي علم النبي، وآله **** عليكم سلام دائم النفحات
قفا نسأل الدار التي خف أهلها **** متى عهدها بالصوم والصلوات
وأين الأولى شطت بهم غربة النوى **** افانين في الآفاق مفترقات
هم أهل ميراث النبي إذ اعتزوا **** وهم خير سادات وخير حماة
مطاعيم في الإعسار في كلّ مشهد**** لقد شرفوا بالفضل والبركات
وانظر كيف يهجو أعداءهم:
وما الناس إلاّ حاسد ومكذب **** ومضطعن ذو إحنة وترات
إذا ذكروا قتلى ببدر وخيبر **** ويوم حنين أسبلوا العبرات
وكيف يحبون الني ورهطه؟ **** وهم تركوا أحشاءهم وغرات ؟
لقد لا ينوه في المقال وأضمروا **** قلوباً على الأحقاد منطويات
أعداء أهل البيت ـ إذن ـ هم أعداء النبي وأعداء الرسالة الإسلاميّة ، من الذين هزمهم الإسلام في بدر وخيبر وحنين، فاستسلموا يوم الفتح وقلوبهم تنطوي على الأحقاد.
هذا المنطق الإسلامي في المدح والهجاء نراه على طول تاريخ الشعر الشيعي.
ولنذكر نموذجاً آخر من فارس بني حمدان، أبي فراس الحمداني يقول في ميميته(52)
العظيمة يهجو بني العباس ويمدح آل البيت، ويقارن بين البيتين العباسي والعلوي، (انظر بدقة إلى معياره في المقارنة):
يا باعة الخمر كفوا عن مفاخركم **** عن فتية بيعهم يوم الهياج دم
خلوا الفخار لعلامين إنّ سئلوا **** يوم الفخار وعمالين إنّ علموا
لا يغضبون لغير الله إنّ غضبوا **** ولا يضيعون حكم الله إنّ حكموا
تنشى التلاوة في أبياتهم أبداً **** ومن بيوتكم الأوتار والنغم
منكم علية أم منهم؟ وكان لكم **** شيخ المغنين إبراهيم أم لهم؟(53).
أم من تشاد له الألحان سائرة **** عليهم ذو المعالي أم عليكم؟
إذا تلو سورة غني مغنيكم **** "قف بالديار التي لم يعفها القدم"(54).
ما في ديارهم للخمر معتصر **** ولا بيوتهم للسوء معتصم
ولا تبيت لهم أنثى تنادمهم **** ولا يرى لهم قرد له حشم
الحجر والبيت والأستار منزلهم **** وزمزم والصفا والركن والحرم.
لاحظ، كيف يمدح آل البيت: إنهم مضحون في سبيل الله علاّمون، عمّالون، لا يغضبون لغير الله، لا يضيعون حكم الله، ترتفع تلاوة القرآن في بيوتهم دائماً.. بيوتهم مطهرة من الخمر والسوء والمنكر، ومنزلهم مكان الذكر والعبادة: الحجر والبيت، وزمزم والصفا، والركن والحرم.
أما أعداؤهم فهم: باعة الخمر، ونساؤهم مغنيات، ورجالهم مغنون، وبيوتهم مكان اعتصار الخمر والسوء والفسق والفجور.
مما تقدم نفهم أن الشعر الشيعي رسالي، لا طائفي ولا حزبي ولا عشائري في ولائه وتبريه، وفي مواقفه الدفاعية، وصموده وأسلوبه.
وهكذا التشيع لم ينشأ مقابل "التسنن" كما يوحي بذلك الانقسام الموجود اليوم بين المسلمين إلى شيعة وسنة، بل نشأ باعتباره الأطروحة الملتزمة بالإسلام كما جاء به رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ، والمدافعة عن الرسالة أمام محاولات المحرفين وكيد الكائدين. وبهذا الفهم الموضوعي الواقعي للتشيع تزول الحساسيات النفسية القائمة اليوم بدرجة وأخرى بين أبناء السنة والشيعة.
___________________
1 ـ الطبري 5: 98.
2 ـ مثل ابن الأثير 3: 94.
3 ـ انظر آراء المستشرقين في ابن سبأ في كتاب نظرية الإمامة لأحمد محمود: 37، وانظر أيضاً: طه حسين الفتنة الكبرى، فصل ابن سبأ.
4 ـ أدب الشيعة إلى نهاية القرن الثاني الهجري؛ الدكتور عبد الحسيب طه حميدة: 122 ط 3، وانظر أيضاً: حزب الشيعة في العصر الأموي، الدكتورة ثريا عبد الفتاح.
5 ـ الأغاني 7: 11، 11: 120، الأمالي للمرتضى 1: 293، وديوان أبي الأسود الدولي: 119 ـ 121. و"هويا" فانه لغة هذيل يقولونها في كلّ مقصور (الأمالي 1: 293).
6 ـ البيان والتبيين 1: 134، 339.
7 ـ انظر: الطبري 4: 108، والعقد الفريد 5: 96، والكامل لابن الأثير 3: 386، الأغاني 11: 115.
8 ـ الطبقات الكبرى لابن سعد 7: 99.
9 ـ أسد الغابة 3: 70، ابن خلكان 2: 535.
10 ـ الأغاني 11: 107.
11 ـ الطبقات الكبرى لابن سعد7: 99.
12 ـ ديوان أبي الأسود: 78.
13 ـ كثير عزة، احمد الربيعي: 123.
14 ـ كثير عزة، أحمد الربيعي: 123.
15 ـ الشعر والشعراء لابن قتيبة 1: 413، الأغاني 8: 153.
16 ـ الأغاني 8: 34.
17 ـ المصدر السابق 8: 40.
18 ـ خزانة الأدب، للبغدادي 1: 144.
19 ـ الأغاني 15: 127، خزانة الأدب 1: 145.
20 ـ الأبيات من 31 ـ 36 من قصيد مطلعها:
إني ومن أين ابك الطرب *من حيث لا صبوة و لا ريب.
شرح هاشميّات الكميت، أبو رياس القيسي، تحقيق داود سلوم ونوري حمودي
القيسي: 110 ـ 111.
21 ـ البيان والتبيين 2: 172.
22 ـ الأمالي 3: 166.
23 ـ العقد الفريد 2: 157، ابن أبي الحديد 20: 489.
24 ـ أدب الشيعة، عبد الحسيب طه حميدة، ط 3: 222 ـ 223.
25 ـ الأغاني 15: 125، ومروج الذهب 2: 153، وأمالي الشريف المرتضى 1: 47.
26 ـ الأبيات 29 و 30 من هاشميته.
طربت وما شوقاً إلى البيض أطرب *ولا لعباً مني وذو الشيب يلعب؟
انظر شرح الهاشميات: 55 ـ 56.
27 ـ الأبيات 89 ـ 93 من هاشميته: من لقلب متيم مستهام *غير ما صبوة ولا أحلام. شرح الهاشميات 37 ـ 38.
28 ـ الغااني 15 ـ 123.
29 ـ المصدر السابق، ومروج الذهب 2: 154.
30 ـ الأغاني 7: 3.
31 ـ الأغاني 7: 237، ويرد على الرواية أن ابن سيرين توفي حين كان الكميت في الخامسة من عمره.
32 ـ طبقات فحول الشعراء، لابن سلام 1: 195.ومعجم الشعراء للمرزباني: 347.
33 ـ الأغاني 7: 266.
34 ـ من الغديريات التي ذكرها العلامة الأميني في كتاب الغدير 2: 215، وانظر الأغاني 7: 17 ـ 18، وحديث الغدير متواتر لدى أهل السنة والشيعة، لكن بعض الباحثين المحدثين قال: إنه من الأحاديث الخاصة بالشيعة.
35 ـ الأغاني 7:7، وأهل الكساء هم: محمّد، وعلي، وفاطمة، والحسن، والحسين. وحديث الكساء هو أيضاً من الأحاديث المتواترة لدى كلّ المسلمين لكن الظروف التاريخية حولته إلى حديث خاص بطائفة معينة.
36 ـ الأغاني 7: 16.
37 ـ انظر: شرح هاشميات الكميت: 146 ـ 187 وهي 111 بيتاً.
38 ـ يقول: أمور الناس مهملة مبعثرة لا مدبر لها. فأمورهم كالإبل المهملة التي لا قيم لها ولا راعي يحفظها.
39 ـ راعيا سوء: يعني هشاماً بن عبد الملك الخليفة، وخالد بن عبدالله القسري والي العراق. ويقصد بالذئب هشاماً، والقرفاء: الضبع، ويقصد به خالداً. وقله جيال: أي كبير.
40 ـ أي أتت الضبع غنما لا راعي لها، ولا مانع يمنعها فعاثت فيها والفرعل: ولد الضبع.
41 ـ السوام الموبل: ما رعي من المال. يقول: أتصلح الدنيا والدين، وأنتم تمارسون الجور والفساد، وتضيعون الثروات؟
42 ـ الكودني: البليد كأنه كودن، أي برذون. والمركل: الذي لا يتحرك إلاّ بالركل لشدة تثاقله بوطئه.
43 ـ ديوان الأمير أبي فراس الحمداني، تحقيق الدكتور محمّد التونجي: 258.
44 ـ الأعراف: 128:
45 ـ بلغ الأمر بالشاعر الشيعي أن يتمنى بقاء جور بني مروان، فهو أفضل مما
نزل بالعلويين من ظلم بني العباس
يا اليت جوربني مروان عادَلنا ياليت ظلم بني العباس في النار.
46 ـ الأبيات 75 ـ 77 من هاشميته التي مطلعها:
طربت وما شوقاً إلى البيض أطرب *ولا لعباً مني وذو الشيب يلعب؟
47 ـ اللهي بفتح اللام هي اللهاة في مؤخر الفم، واللهى: هي لقم الطعام.
48 ـ شرح هاشميات الكميت: 35 ـ 37.
49 ـ المصدر السابق: 52 ـ 53.
50 ـ الأغاني 18: 30 ـ 34.
51 ـ انظر القصيدة التائية الخالدة في ديوان دعبل الخزاعي، تحقيق عبد الصاحب الدجيلي: 124 ـ 151.
52 ـ ديوان الأمير أبي فراس الحمداني: 257 ـ 262.
53 ـ علية: بنت المهدي، اخت الخليفة العباسي هارون الرشيد، قال القيرواني
في زهر الآداب 1: 43: "كانت علية لطيفه المعنى، رقيقة الشعر، حسنة مجاري
الكلام، ولها ألحان حسان، وعلقت بغلام اسمه (رشا) وفيه تقول:
أضحى الفؤاد بزينبا صباً كثيباً متعب*
فجعلت زينب سترة وكتمت أمراً معجب
قولها بزينب تريد برشا فنمي الأمر إلى أخيها الرشيد، فأبعده، وقيل: قتله.
وعلقت بغلام اسمه (طل) فقال لها الرشيد: والله لئن ذكرته لاقتلنك. فدخل
عليها يوماً على حين غفلة وهي تقرأ: فإن لم يصبها وابل فما نهى عنه أمير
المؤمنين فضحك، وقال: ولا كلّ هذا...
أما إبراهيم، فهو ابن المهدي عم المأمون، مغن موسيقار، يعرف بابن شكله.
حينما بايع المأمون الإمام الرضا بولاية العهد، نقم عليه العباسيون،
فاستغلوا وجود المأمون في (مرو)، فبايعوا إبراهيم خليفة للمسلمين وفي مدة
تربعه على كرسي الخلافة أصيبت الخزينة بالعجز، فألح عليه الجند وغيرهم في
أعطياتهم، فخرج إليهم رسول يقول: إنّه لا مال عند الخليفة، فطلب المتجمهرون
بدلاً من المال أن يخرج الخليفة فيغني لأهل هذا الجانب ثلاث أصوات، ولأهل
ذاك الجانب ثلاث اصوات (وفيات الأعيان 1: 8.)
وفي ذلك يقول دعبل:
يا معشر الأجناد لا تقنطوا وارضوا بما كان ولا تسخطوا ***فسوف تعطون (حنينية) يلتذها الأمرد والأشمط
و(المعبديات) لقوادكم لاتدخل الكيس ولا تربط ***وهكذا يرزق أصحابه خليفة مصحفه (البربط)
الديوان: 219.
54 ـ صدر البيت من مطلع قصيدة جاهلية لزهير، وعجزه: بلى وغيرها الأرواح والديم ـ يقصد أنكم مقابل تلاوتهم السور، تتغنون بأشعار الجاهلية.
الرسالية في الشعر الشيعي
الدكتور محمّد علي آذر شب
يطلق اسم الشعر الشيعي على ذلك الشعر، الذي قيل في علي وآل بيت رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ مدحاً ودفاعاً ورثاءً. ومنذ القرن الإسلامي الأول برز شعراء كرسوا جل اهتمامهم في هذا المجال، فسموا شعراء الشيعة.
وفي هذا المقال أهدف إلى إلقاء الضوء على هذا اللون من الشعر في الأدب العربي، لأعرض بعض ما تبين لي من حقائق عند دراسة الشعر الشيعي وتدريسه، وأحسب أنها مفيدة في إبعاد الصفة "الطائفية" و"الحزبية" عن هذا الشعر، وفي استجلاء حقيقة "الرسالية" و"الروح الإسلاميّة" فيه.
في البداية لابد من القول: إنّ الكشف عن حقيقة الشعر الشيعي ورساليته، يخدم هدف "التقريب" بين الأمة المسلمة الواحدة، فسيتبين أنّه يتحدث بلغة إسلامية لا طائفية، ويدافع عن أهداف الإسلام، ويعبر عن آمال الأمة وآلامها، دون أن يتحدد بإطار مذهبي ضيق، ودون أن تكون له أهداف حزبية دنيوية دنيئة.
ومن نافلة القول: إنّ ما أحيط به الشعر الشيعي من أحكام بعيدة عن الصواب، إنّما
هو ناشئ من نظرة "أموية" سادت في كتب القدماء والمحدثين عن الشيعة ونشأتهم وعقائدهم فأسطورة ابن سبأ نقلها الطبري في تاريخه(1)، وتناقلها عنه المؤرخون القدامى (2).
ووجد المستشرقون في هذه الأسطورة ما ينسجم مع رغبتهم في تركيز الخلافات التاريخية بين المسلمين، وتسليط الأضواء على ما ورد بشأن تشرذمهم وتمزقهم، مثل: (فلها وزن) و(دوزى) و(فان فلوتن) ثم راح تلامذة المستشرقين في العالم الإسلامي يحوكون على نفس المنوال (3) مع الأسف، تاركين في الأمة حساسيات وحزازات تثقل كاهل كلّ العاملين في حقل توحيد صفوف المسلمين.
لا أريد هنا أن أتعرض لنشأة الشيعة والتشيع، إنّما أردت الإشارة فقط إلى خلفية النظرات السلبية التي أحيط بها الشعر الشيعي، والتي جعلته في نظر الباحثين المحدثين شعراً حزبياً، وجعلت فواعله في نظرهم نفس فواعل الشعر الأموي ومصادره: تراث جاهلي، وإلهام إلهي، وتأثير أجنبي، وعصبية قبلية، وأهواء سياسية(4).
ولدراسة طبيعة الشعر الشيعي لابد أن نلقي نظرة على موضوعاته، لنتبين من خلالها طبيعته الرسالية:
الحب الرسالي
الإيمان بالمبدأ يقترن دائماً بعواطف حب وبغض، وهذه العواطف توجهها العقيدة وتقوى بقوتها.
ومن العقيدة الإسلاميّة تنشأ عواطف حب الله ورسوله والمؤمنين، وبغض أعداء
الله وأعداء الرسالة الإسلاميّة.
وإذا ترسخت هذه العقيدة في النفوس، ترتفع على كلّ وليجة وآصرة من قرابة، أو قوم، أو جنس، فيضحي الإنسان من أجل هذا الحب الرسالي ويتفاني من أجله.
ونحن نرى هذا الحب الرسالي بوضوح في الشعر الشيعي. يقول أبو الأسود الدولي:
أحب محمداً حباً شديداً**** وعباسا وحمزة والوصي
وجعفر إنّ جعفر خير سبط**** شهيد في الجنان مهاجري
أحـبـهـم كـحـب الله حتـّى**** أجيء إذا بعثت على هويا (5)
هوى أعطيـته منـذ اسـتـدارت**** رحى الإسلام لم يعدل سوي
لاحظ: إنّ هذا الهوى ينطلق من الإسلام، فالشاعر ألهمه منذ استدارت رحى الإسلام، وهو حب شديد لله أوّلاً، ثم لرسوله، والرهط الكريم من آل بيته: العباس والحمزة والوصي وجعفر...
ولنقف برهة عند الشاعر، لنتبين شخصيته، ومدى صدقه في التعبير عن عواطفه.
هو: ظالم بن عمرو القرشي البصري من التابعين، والفقهاء، والشعراء، والمحدثين، والأشراف، والفرسان...
قال عنه الجاحظ: إنه "من المتقدمين في العلم" (6).
عرف بتشدده في الالتزام بأحكام الدين، حتّى اختلف مع عبدالله بن عباس، ومع زياد ابن أبيه حين اعتقد أنهما استغلا منصبهما لمصالحهما الشخصية (7).
كان "ثقة في حديثة"(8).
وشهد مع الإمام علي ـ عليه السلام ـ وقعتي: الجمل وصفين (9).
واستعمله عمر وعثمان على البصرة(10).
ثم أصبح قاضياً على البصرة في زمن الإمام علي ـ عليه السلام ـ ، بعد أن ولى الإمام علي عبدالله بن عباس البصرة سنة(40 هجرية).
ثم أصبح والياً على البصرة حتّى مقتل الإمام علي ـ عليه السلام ـ (11).
وحاول معاوية إرشاءه بالهدايا، لكنه أبي أن يأخذها رغم ما كان يعانيه من ضنك في العيش، بسبب قلة عطائه. وحين سألته ابنته عن تلك الهدايا قال: "بعث بها معاوية يخدعنا عن ديننا"فقالت ابنته التي تحمل نفس عواطف أبيها وإبائه:
أبـا لشهد المزعفـر يـا ابـن حـرب**** *نبيـع عـليك أحـسابــاً وديــنــا؟
معاذ الـلـه كــيــف يـكــون هـذا*****ومولانا أميـر المـؤمـنـيـنــا ؟(12)
هذا شاعر من النصف الأول من القرن الهجري الأول (ت 69 هـ).
ولنقف عند شاعر آخر من النصف الثاني لهذا القرن، وهو كثير بن عبد الرحمن الخزاعي المعروف بكثير عزة (ت 105 هـ)، حيث يقول:
إنّ أمرأ كانت مساوِؤه****حب النبي لغير ذي ذنب
وبني أبي حسن ووالدهم ****من طاب في الأرحام والصلب
أترون ذنباً أن نحبهم ؟**** بل حبهم كفارة الذنب (13)
واضح، أن الشاعر يشير في هذه الأبيات إلى ما كان يتحمله من ضغوط أموية بسبب رساليته، أو بسبب حبه الرسالي للنبي، وعلي وآل علي، فليس هذا بذنب كما يرى بنو أمية، بل هو كفارة الذنب، وطريق الهدى والنجاة، وكيف لا يتحمل هذه الضغوط وهو يعيش في عصر يسب فيه علي على المنابر؟.
ويعبر الشاعر في أبيات أخرى عن أساه وألمه لهذا السب، بلغة تنطلق من عاطفة إسلامية رسالية، هي لغة كلّ المسلمين في عصره، اللهم إلاّ الشرذمة الضالعة في ركاب الحكام الظالمين:
لعن الله من يسب عليا****وبنيه من سوقه وإمام
أيسب المطهرون جـدوداَ****والكرام الأخوال والأعمام؟
يأمن الطير والحمام ولا****يأمن آل الرسول عند المقام
طبت بيتا، وطاب أهلك أهلا****أهل بيت النبي والإسلام
رحمة الله والسلام عليهم****كلما قام قائم بسلام (14)
هذا الولاء الذي يحمله الشاعر لآل بيت رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ لم يكن يعبر عن نظرة فئوية حزبية، بل عن نظرة إسلامية شعبية عامة، اتسعت لتستوعب حتّى الخليفة المرواني ـ عمر بن عبد العزيز ـ الذي استنكر هذا السّب ومنعه في نفس زمن حياة الشاعر كثير عزة. فطار الشاعر فرحا، وانشد قصيدته يثني على الخليفة موقفه هذا، وعدله بين الرعية، ورفعه الظلم عن الناس:
وليت فلم تشتم عليا ولم تخف**** بريا ولم تقبل إشارة مجرم
وصدقت بالفعل المقال مع الذي****أتيت فأمسى راضياً كلّ مسلم
وأظهرت نور الحق فاشتد نوره****على كلّ لبس بارق الحق مظلم(15)
ويكفي لمعرفة صدق ولاء الشاعر لآل بيت رسول الله، أنّه قال ما قال في مدحهم في أقسى ظروف الضغط الأموي على آل البيت. وفي أخباره ما يدل على شدة ولائه لأهل بيت رسول الله بما في ذلك أبناؤهم وذريتهم فكان يأتي إلى أبناء الحسن بن الحسن فينظر إليهم بعاطفة شديدة، تذكره بجدهم رسول الله وبنسبهم الطاهر، فتفيض عيناه دمعاً، ويقول: "بأبي انتم، هؤلاء الأنبياء الصغار"، ويريد بذلك: طهرهم وسمو منزلتهم.
وكان يهب لهؤلاء الصغار عطاءه، فيقول له محمّد بن عبدالله بن عمرو بن عثمان،
وهو أخوهم لأمهم: "يا عم هب لي، فيقول كثير: لا، لست من الشجرة"(16).
وله أخبار مع سكينة بنت الحسين ـ عليه السلام ـ منها: أنّه كان خارجا في الحاج، وقد أراد أن يبيع جمله، فساومته سكينه وهو لم يعرفها، وإنّما عرفته سكينة، فلم يرض إلاّ مائتي درهم، وحين عرفها استحيا وانصرف مهرولاً تاركاً لها الجمل وهو يقول: "هو لكم، هو لكم "(17) خجلاً وإجلالاً.
وإذا وقفنا عند الكميت لاستجلاء هذا الحب الرسالي في شعره، فأننا سنجد العجب العجاب. هذا الشاعر الذي عاش النصف الثاني من القرن الأول، والعقود الثلاثة الأولى من القرن الثاني (60 ـ 126 هـ) كان "خطيب بني أسد، وفقيه الشيعة، وحافظ القرآن، وثبت الجنان"(18).
وسئل معاذ الهراء: "من أشعر الناس ؟ فقال: من الجاهليين: امرؤ القيس، وزهير، وعبيد بن الأبرص. ومن الإسلاميين: الفرزدق، وجرير، والأخطل. فقيل له: يا أبا محمّد، ما رأيناك ذكرت الكميت ! فقال: ذاك اشعر الأولين والآخرين"(19).
ومدحه للنبي ـ صلى الله عليه وآله ـ معروف، وقف عنده النقاد كثيراً، ويحسن أن نتعرض له ولو قليلاً لأنه يكشف عن جانب هام من ولائه الرسالي وظروف عصره.
يقول الكميت:
فاعتتب الشوق في فؤادي والشعر****إلى من إليه معتتب
إلى السراج المنير أحمد لا**** يعدلني رغبة ولا رهب
وقيل أفرطت، بل قصدت، ولو**** عنفني القائلون، أو ثلبو
إليك يا خير من تضمنت الأرض**** وإن عاب قولي العيب
لج بتفضيلك اللسان، ولو****أكثر فيك الضجاج واللجب(20)
والعجيب في هذه الأبيات أنّه يتحدث عمّن يؤنبه ويعنفه لمدحه النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ، ويصر على هذا المدح وإن عاب العائبون، وعنف وثلب القائلون.
الجاحظ يرى: أن قول الكميت هذا هو "من غرائب الحمق"، ويتساءل مستغرباً: "فمن رأى شاعراً مدح النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ، فاعترض عليه واحد من جميع أصناف الناس!، حتّى يزعم أنّ أناساً يعيبونه ويثلبونه ويعنفونه"؟(21).
والشريف المرتضى رحمه الله يرى أن الكميت لم يرد في مدحه النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ، وإنّما أراد عليا ـ عليه السلام ـ فورى عنه بذكر النبي خوفاً من بني أمية(22).
وأجمل ما رأيت من تحليل لمدح الكميت المذكور، ورأي النقاد فيه، ما كتبه الأستاذ الدكتور عبد الحسيب طه حميدة، أنقله بنصه لأهميته، إذ يقول:
(ونحن نرى: أن الكميت كان أعلم بأخلاق عصره من هؤلاء، وأمس بسياسته...، كان يشعر بأنه يحيا وسط دولة ترى: أن هذا اللون من مدح الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ تزكية للهاشميين، ولفت للذهن إلى حق هؤلاء في الخلافة.
وإذا كانت السياسة قد أباحت لابن الزبير ـ على مكانته الدينية وبيته من الإسلام ـ أن يسقط ذكر النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ من خطبه، حتّى إذا ليم على ذلك، قال: والله ما يمنعني من ذكره علانية أني لا أذكره سراً، وأصلي عليه، ولكني رأيت هذا الحي من بني هاشم إذا سمعوا ذكره، اشرأبت أعناقهم، وأبغض الأشياء إلي ما يسرهم. وفي رواية: أن له أهيل سوء(23).
نقول: إذا كانت السياسة قد أباحت لابن الزبير هذا، فما بالك ببني أمية في عصر الكميت وقد تغيرت الأخلاق، وفسد الناس؟.
فالكميت يحدثنا عن عصر يحيا فيه، ويصطلي بسياسته، ويحس أن مدحه للرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ يعرضه للعيب والثلب والعنف.
والجاحظ يحكم في الرجل نظرة دينية، ويتناسى أن السياسة قد بدأت في هذا العصر تستقل عن الدين، فبغضت هذا اللون من المديح، لا لأنه مدح للرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ بل لأنه ضرب من التمرد والشغب، والخروج على السلطان، به تشرئب أعناق الهاشميين، ويلفت الناس إليهم... هذا إلى أن الجاحظ عثماني، فلا غرو أن اهتم بنفي هذه التهمة عن بني أمية، واحتشد لذلك، فعد مذهب الكميت حمقاً، بل من غرائب الحمق) (24). ويظهر من الروايات: أن الكميت جند نفسه منذ بداية انبثاق الشعر على لسانه للدفاع عن أهل البيت، ورواية صاحب الأغاني عن الحوار بين الكميت والفرزدق، تبين أيضاً اهتمام الشاعر بأن تكون كلمته في المدح قوية مؤثرة، تملك المشاعر والنفوس، حتّى جعلت شاعراً كبيراً مثل الفرزدق، يحار ويدهش أمام هذا الشاعر الناشئ.
انظر إلى هذا الحوار:
الكميت: يا أبا فراس، إنك شيخ مضر وشاعرها، وأنا ابن أخيك الكميت بن زيد. الفرزدق: صدقت، أنت ابن أخي، فما حاجتك؟
الكميت: نفث على لساني، فقلت شعراً، فأحببت أن أعرضه عليك، فأن كان حسناً، أمرتني بإذاعته، وإن كان قبيحاً، أمرتني بستره، وكنت أول من ستره علي.
فقال الفرزدق: أما عقلك فحسن، وإني لأرجو أن يكون شعرك على قدر عقلك، فأنشدني، فأنشده:
طربتُ وما شوقاً إلى البيض أطْرَبُ
فقال الفرزدق: ففيم تطرب يا ابن أخي ؟ فقال:
ولا لَعِباً منّي وذو الشّيبِ يَلعبُ؟
فقال الفرزدق: بلى يا ابن أخي، فالعب فأنك في أوان اللعب فقال:
ولم يلهني دار ولا رسم منزل **** ولم يتطربني بنان مخضب
فقال: وما يطربك يا ابن أخي ؟ فقال:
ولا أنا ممن يزجر الطير همه****أصاح غراب أم تعرض ثعلب
ولا السانحات البارحات عشية****أمرّ سليم القرن، أم مرّ أعضب.
فقال: أجل، لا تتطير فقال:
ولكن إلى أهل الفضائل والتقى ****وخير بني حواء، والخير يطلب
فقال: ومن هؤلاء ويحك؟ فقال:
إلى النفر البيض الّذين بحبهم**** إلى الله فيما نالني أتقرب
فقال: أرحني ويحك، من هؤلاء؟ فقال
بني هاشم رهط النبي فأنني**** بهم، ولهم أرضى مراراً وأغضب
فقال الفرزدق: يا ابن أخي، أذع ثم أذع، فأنت ـ والله ـ أشعر من مضى وأشعر من بقي(25).
ونجد في شعر الكميت تركيزاً على الدافع الديني في ولائه لأهل البيت، فحبه ينطلق من تربية قرآنية وطدت جذور هذا الحب في نفسه.
وجدنا لكم في آل حاميم آيةً****تأولها منا تقي ومعرب
وفي غيرها آياً، وآياً تتابعت****لكم نصب فيها لذي الشك منصب(26)
ويؤكد: أن حبه لأهل البيت، هو استمرار لحب رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ وأنه بدافع طلب مرضاة الله سبحانه وتعالى:
إنّ أمت لا أمت ونفسي نفسان****من الشك في عمى أو تعامي
عادلاً غيرهم من الناس طراً****بهم، لا همام بي، لا همام
لم أبع ديني المساوم بالوكس****ولا مقلياً من السوام
أخلص الله لي هواي، فما أغرق****نزعاً، ولا تطيش سهامي
ولهت نفسي الطروب إليهم****ولهاً، حال دون طعم الطعام(27)
ويظهر من سيرة الكميت أنّه كان هائماً في حب أهل البيت إلى درجة صوفية غارقة. وكان أحب شيء إليه أن يسمع منهم دعاء له، وأن يسموه شاعر أهل البيت، فيطير فرحاً ويبكي وجداً.
يروي صاحب الأغاني عن صاعد ـ مولى الكميت ـ قال: دخلنا على فاطمة بنت الحسين، فقالت: هذا شاعرنا ـ أهل البيت ـ وجاءت بقدح فيه سويق، فحركته بيدها ودفعته إليه فشربه، ثم أمرت له بثلاثين دينار ومركب، فهملت عيناه ثم قال: لا والله لا أقبلها، إني لم أحبكم للدنيا(28).
وروي عن محمّد بن سهل ـ صاحب الكميت ـ قال: دخلت مع الكميت على أبي عبدالله جعفر بن محمّد (الصادق) ـ عليه السلام ـ ، أيام التشريق بمنى، فقال: جعلت فداك، ألا أنشدك ؟ فقال يا كميت إنها أيام عظام، فقال: إنها فيكم، فقال: هات، وبعث الإمام إلى بعض أهل بيته فاجتمعوا ـ فأنشد لا ميته:
ألا هل عم في رأيه متأمل **** وهل مدبر بعد الإساءة مقبل
فكثر البكاء حوله... حتّى إذا قال:
يصيب به الرامون عن قوس غيرهم **** فيا آخراً أسدى له الغي أول
رفع الإمام الصادق يديه وقال: اللهم اغفر للكميت، ماقدم وما أخر، وما أسر وما أعلن، وأعطه حتّى يرضى(29).
وكانت هذه الدعوات أثمن هدية يتلقاها هذا العاشق الوله من أحبابه.
ثم نقف عند شاعر آخر عاش النصف الأول من القرن الثاني وردحاً من نصفه الثاني وهو السيد الحميري (105 ـ 173 هـ): إنه أبو هاشم إسماعيل بن محمّد بن يزيد بن مفرغ الحميري، ويكفي في رساليته أنّه ولد من أبوين خارجيين، يسبان علياً، لكنه هام في علي وآل بيته، وحينما علم أبواه بمذهبه هما بقتله، ففر من بيتهما وبقي بعيداً عنهما حتّى ماتا.
وحين سئل عن سبب ولائه لعلي وآل بيت رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ مع أن أبويه خارجيان، يقول: "غاصت علي الرحمة غوصاً"(30).
وتذكر الرواية أن السيد انفجر على لسانه الشعر، بسبب رؤيا مباركة، رأى فيها النبي يطلب منه أن يقلع أشجار نخل طوالاً لأمرئ القيس، ويغرسها في مكان آخر، وحين ذكر الرؤيا لابن سيرين قال له: "أما إنك ستقول شعراً مثل شعر امرئ القيس، إلاّ أنك تقول في بررة أطهار"(31). وهذه الرواية تبين أيضاً المنطلق الرسالي لهذا الشاعر.
أجمع الرواة أن للسيد شعراً كثيراً، وهو من أكثر الناس شعراً في الجاهلية والإسلام (32)، ولكن شعره تحومي بسبب إفراطه في ذكر الخلفاء الثلاثة بسوء وهنا أود أن أشير فقط إلى أن سبب الصحابة بدأ منذ زمن معاوية، حين أمر بسب أول الصحابة إسلاماً وأشدهم إيماناً وهو علي بن أبي طالب.
ولم يكتف أعداء علي بهذا السب، بل تستروا بالخلفاء الثلاثة لكي يطعنوا بالخليفة الرابع، فجعلوا بذلك علياً مقابل الخلفاء الثلاثة، وجعلوا مدح الخلفاء الثلاثة نوعاً من الطعن بعلي بينما لا نرى بين هؤلاء الأربعة نزاعاً في حياتهم قط ـ (وإن كانت لهم وجهات نظر متباينة)ـ، وإنّما هي السياسية الأموية، وسياسة كلّ أعداء علي، التي أرادت أن تطعن بعلي متسترة بالولاء للخلفاء الثلاثة، ولا تزال هذه السياسة المفرقة الاستفزازية
موجودة بشكل وآخر في عالمنا الإسلامي مع شديد الأسف.
وكان للموالين لعلي مواقف مختلفة من هذه الخطة الأموية. منهم من انتهج طريق فضح هذه الخطة، وتوضيح خلفية هذا اللون من الدفاع عن الخلفاء الثلاثة، مؤكداً أن هؤلاء لا يمدحونهم حباً بهم، بل بغضاً لعلي، وبعضهم اندفع لبيان أفضلية علي بين صحابة رسول الله، وبعضهم بلغ به رد الفعل إلى درجة ثلب الخلفاء الثلاثة هذه مسألة هامة نحتاج إلى الوقوف عندها طويلاً، وإنّما أشرت إليها لأذكر أن "السيد" كان يستفز أحياناً بمدح الخلفاء فيفهم من خلال الظروف التي كان يعيشها، أن هذا المدح يستهدف طعناً بعلي فينبري للدفاع عن الإمام وأهل بيته.
من ذلك أن أحدهم استفزه ببيت يقول:
محمّد خير من يمشي على قدم****وصاحباه، وعثمان بن عفان
فانتفض غاضباً يقول:
سائل قريشاً إذا ما كنت ذاعمه****من كان أبثتها في الدين أوتادا
من كان أعلمها علماً، وأحلمها****حلماً، وأصدقها قولاً وميعاد
إنّ يصدقوك فلن يعدوا أبا حسن****إنّ أنت لم تلق للأبرار حسادا(33)
ويركز السيد الحميري على المنطلق الرسالي في ولائه لعلي وآل بيت النبي، فيذكر تارة أنّه ينطلق في هذا الولاء من حديث رسول الله في غدير خم:
إذا أنا لم أحفظ وصاة محمّد****ولا عهده يوم الغدير المؤكد
فأني كمن يشري الضلالة بالهدى****تنصر من بعد التقى، وتهود
ومالي وتيم، أو عدي، وإنّما****أولوا نعمتي في الله من آل أحمد
تتم صلاتي بالصلاة عليهم****وليست صلاتي بعد أن أتشهد
بكاملة إنّ لم أصل عليهم****وأدع لهم رباً كريماً ممجد (34)
وتارة يذكر أن ولاءه له منطلق قرآني، لما جاء في حق آل البيت من آية التطهير:
إنّ يوم التطهير يوم عظيم****خص بالفضل فيه أهل الكساء(35)
وولع السيد الحميري بتصوير ما جاء في السيرة، من ارتباط عاطفي بين الرسول وأهل بيته، مشيراً إلى أن ولاءه لأهل البيت يستمد قوامه من السيرة، من ذلك أن السيد سمع محدثا يحدث أن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ كان ساجداً، فركب الحسن والحسين على ظهره، فقال عمر: "نعم المطي مطيكما" فقال النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ: ((نعم الراكبان هما))، فانفجرت قريحة السيد بالقول:
أتى حسناً والحسين النبي****وقد جلسا حجره يلعبان
ففداهما، ثم حياهما****وكان لديه بذاك المكان
فراحا وتحتهما عاتقاه****فنعم المطية، والراكبان
وليدان أمهما برة****حصان مطهرة للحصان
وشيخهما ابن أبي طالب****فنعم الوليدان والوالدان(36)
لأن وقفنا طويلاً عند هذا الولاء الرسالي، فلأن الشعر الشيعي متهم بالولاء الحزبي والطائفي وما هو كذلك، كما يرى بوضوح في النماذج المذكورة وسنمر سريعاً في ذكر الخصائص الأخرى التي تطبع الشعر الشيعي بالطابع الرسالي.
الدفاع عن مصالح الأمة
شعراء أهل البيت تصدوا للدفاع عن مصالح الأمة، وللحديث عما يحط بالمسلمين من ظلم الحكام وطغيانهم، وحث الناس على اليقظة والانتباه إلى تصرفات الحكام. وهذا الاتجاه في الشعر الشيعي يعني أنّه ابتعد عن المصالح الفئوية والحزبية، وحمل هموم الأمة، وارتفع إلى مستوى أهداف الإسلام في ردع الظلم، وإحقاق الحق، وإقامة المجتمع العادل.
ولعل خير مثال على هذا الاتجاه في الشعر الشيعي ـ لامية الكميت (37) ـ التي يبدؤها بتوعية الأمة وإيقاظها فيقول:
ألا هل عم في رأيه متأمل****وهل مدبر بعد الإساءة مقبل
وهل أمة مستيقظون لرشدهم****فيكشف عنه النعسة المتزمل
فقد طال هذا النوم واستخرج الكرى****مساويهم لو أن ذا الميل يعدل
ثم يذكر الشاعر منطلقه في ثورته على واقعه الاجتماعي المنحرف، موضحاً أن سبب ما يعج به المجتمع الإسلامي في عصره، من ظلم وفساد، إنّما هو الانحراف عن الكتاب والسنة، وتعطيل أحكام الإسلام.
وعطلت الأحكام حتّى كأننا****على ملة غير التي نتخل
كلام النبيين الهداة كلامنا****وأفعال أهل الجاهلية نفعل
أنظر إلى الشاعر كيف يحدد منطلقه في الدفاع عن الأمة، إنه يدين العودة إلى مظاهر الجاهلية، باعتبارها سبب كلّ انحراف ثم يندفع الشاعر في حث الأمة على استعادة كرامتها، وعدم الالتصاق بالأرض، والمتاع الدنيوي الرخيص، والارتفاع إلى مستوى التضحية في سبيل المبدأ يقول:
رضينا بدنياً لا نريد فراقها****على أننا فيها نموت ونقتل
ونحن بها المستمسكون كأنها****لنا جنة مما نخاف ومعقل
أرانا على حب الحياة وطولها****يجد بنا في كلّ يوم ونهزل
ثم يرفع صوته بوجه الظالمين، مندداً بما ينزلونه من عذاب بالأمة ومن استهانة بكرامتها وتضييع لحقوقها:
فتلك أمور الناس أضحت كأنها****أمور مضيع آثر النوم بهل (38)
فياساسة هاتوا لنا من جوابكم****ففيكم لعمري ذو أفانين مقول
أهل كتاب نحن فيه وأنتم****على الحق نقضي بالكتاب ونعدل
فكيف، ومن أنى، وإذ نحن خلفه****فريقان شتى تسمنون ونهزل
لنا راعيا سوء مضيعان منهما****أبو جعدة العادي وعرفاء جيال (39)
أتت غنماً ضاعت وغاب رعاؤها****لها فرعل، فيها شريك وفرعل(40)
ويؤكد الشاعر ثانية على منطلقه الرسالي في الدفاع عن الأمة، حين يعود ثانية إلى القول بأن هذه الأمة لا تصلح أوضاعها، إلاّ بأصلاح دينها، والعودة إلى هدى كتاب ربها وسنة نبيها، يقول:
أتصلح دنيانا جميعاً وديننا **** على ما به ضاع السوام الموبل (41)
كان كتاب الله يعنى بأمره **** وبالنهي فيه الكودني المركل(42)
ألم يتدبر آية فتدله **** على ترك ما يأتي، أم القلب مقفل
وكيف يمكن العودة إلى إسلام رسول الله، وهؤلاء الولاة الظلمة يسومون الأمة سوء العذاب؟:
فتلك ولاة السوء قد طال ملكهم **** فحتام حتام العناء المطول
رضوا بفعال السوء في أهل دينهم **** فقد أيتموا طوراً عداء وأثكلوا..
لهم كلّ عام بدعة يحدثونها **** أزلوا بها أتباعهم ثم أوحلوا
تحل دماء المسلمين لديهم **** ويحرم طلع النخلة المتهدل
ما أروع هذا البيت الأخير، الذي يصور وضع طواغيت العالم الإسلامي في كلّ زمان ومكان يستهينون بدماء المسلمين، وليست لنفس المسلم عندهم أية كرامة، لكنهم يطالبونه بأداء ما فرضوا عليه من ضرائب وخراج، ولا يحق له أن يمشي بين نخله، ويمسه حتّى يؤدي خراجه، فأن هو مسه قبل ذلك قتل.
ومثل هذا الدفاع عن حقوق الأمة المضيعة نجده عند جميع شعراء الشيعة.. دفاعاً ينطلق من إيمان بما أراده الله للإنسان المسلم، من عزة وكرامة وحقوق فردية واجتماعية.
وهذا التصدي للدفاع عن الأمة، عرضناه في شعر الكميت وهو يقارع الأمويين، ونعرض بعض أبيات شاعر شيعي آخر، هو أبو فراس الحمداني، وهو يدافع عن حقوق الأمة أمام ظلم حكام زمانه من العباسيين يقول:
الدين مخترم والحق مهتضم **** وفيء آل رسول الله مقتسم
والناس عندك لاناس فيحفظهم **** سوء الرعاء، ولا شاء ولا نعم...
وما السعيد بها إلاّ الذي ظلموا **** ولا الغني بها إلا الذي حرمو
للمتقين من الدنيا عواقبها **** وإن تعجل فيها الظالم الأثم(43)
وفي البيت الأخير، حث لأهل الإيمان أن لا ييأسوا من مطالبة حقهم، ومن مقارعة الظالمين.
(إنّ الأرض لله يروثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين)(44).
الصمود على المبدأ
مر بنا أن شعراء الشيعة كانوا يعلنون رساليتهم، والتزامهم بإسلام رسول الله، من خلال إعلانهم الولاء لآل البيت، والدفاع عن كرامة الأمة المسلمة. وهذا الموقف كلف
هؤلاء الشعراء التأنيب والتقريع، والتشريد والتجويع، وعانوا من ألوان الظلم والاضطهاد والعذاب، صابرين صامدين، مؤكدين على تعاليهم عما يتهافت عليه الناس، من مال ومتاع، وعلى تفانيهم في سبيل مبدا آمنوا به إيماناً جعلهم يستحلون كلّ تعذيب، طلباً لأجر الآخرة.
ولا يمكن أن نعرف مدى استقامة هؤلاء الشعراء وصمودهم، إلاّ إذا عرفنا جو الإرهاب الذي عاشوا فيه ن والبطش الذي مارسه الحكام بحق الصامدين على المبدأ ويكفي أن نلقي نظرة على كتب التاريخ، لنعرف أن الأمويين والعباسيين مارسوا أفظع ألوان التقتيل والتنكيل، بحق كلّ من كانوا يشكون.. يشكون فقط.. في ولائه لآل بيت رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ (45).
يقول الكميت:
ألم تر ني من حب آل محمّد **** أروح وأغدو خائفاً أترقب
كأني جان محدث وكأنما **** بهم يتقى من خشية العر أجرب
على أي جرم أم بأية سيرة **** أعنف في تقريظهم وأؤنب(46)
هكذا كان شاعر أهل البيت..، فهو خائف مترقب، معنف مؤنب، لا لذنب اقترفة سوى حبه لآل البيت وهذا الصمود أمام ألوان التحديات، يؤكد رسالية المسلك الذي إلى الشاعر على نفسه أن يسلكه.
وواضح أن هذا الأدب يختلف تماماً عن أدب اللهى التي تنفتح باللهى (47)، وعن ذلك الأدب الذي يصدر عن عصبية حزبية أو عشائرية لا يقوى صاحبها على مواجهة أي تهديد.
إنّ المعيار الذي اتخذه الشاعر الشيعي في حياته، يسمو على كلّ ارتباط قبلي أو عشائري، فهو معيار رسالي نابع من التزامه بالإسلام وبسنة رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ، لا يبالي بسخط الساخطين أو لوم اللائمين يقول:
فيهم صرت للبعيد ابن عم **** واتهمت القريب أي اتهام
وتناولت من تناول بالغبة **** أعراضهم وقل اكتتامي
ورأيت الشريف في أعين الناس **** وضيعاً وقل فيه احتشامي
معلناً للمعلنين، مسراً **** للمسرين، غير دحض المقام
مبدياً صفحتي على المرقب المعلم **** بالله عزتي واعتصامي
ما أبالي إذا حفظت أبا القاسم **** فيهم ملامة اللوام
ما أبالي، ولن أبالي فيهم **** أبداً رغم ساخطين رغام
فهم شيعتي وقسمي من الأمة، **** حسبي من سائر الأقسام(48)
الخوارج كفروا الشاعر، والأمويون اعتبروه مسيئا مذنباً، ولم يسؤه ذلك، ولم يتراجع عن موقفه قط:
يشيرون بالأيدي إلي، وقولهم **** إلاّ خاب هذا والمشيرون أخيب
فطائفة قد كفرتني بحبكم **** وطائفة قالوا: مسيء ومذنب
فما ساءني تكفير هاتيك منهم **** ولا عيب هاتيك التي هي أعيب
يعيبونني من خبهم وضلالهم **** على حبكم، بل يسخرون وأعجب(49)
ولم يتعرض الشاعر الشيعي للسخط في عصر الأمويين فحسب، بل في عصر العباسيين أيضاً، لأن هذا الشعر قد أتجه إلى مقارعة الطواغيت، سواء كانوا من بني أمية، أم من بني هاشم من العباسيين، ولذلك كان الشاعر الشيعي دعبل في العصر العباسي
مطارداً، مهدداً بالقتل، ويعبر عن استعداده لهذه التضحية فيقول: "أنا أحمل خشبتي على كتفي منذ خمسين سنة، لست أجد أحداً يصلبني عليها" (50).
المنطق الإسلامي في المدح والهجاء
منطق المدح والهجاء في الشعر العربي جاهلياً كان أم بعد الإسلام ينحو منحى معيناً، فهو في المدح يتناول الكرم والشجاعة والقوة.. وأمثالها من الخصال الحميدة، وفي الهجاء يركز على البخل والجبن والضعف، قد يتناول الأعراض والمثالب التاريخية...، لكننا نجد في الشعر الشيعي منطلقا خاصاً في المدح والهجاء، يستمد محتواه من مضامين القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، ومن غيرة على الإسلام والأمة الإسلاميّة.
مرت بنا رسالية الشاعر الشيعي والتزامه الإسلامي في إبراز ولائه لآل البيت ونذكر هنا بعض نماذج المدح والهجاء في الشعر الشيعي، ليتبين لنا أن العواطف الشيعية إنّما هي عواطف إسلامية صادقة، لا تسمح للشاعر أن يحيد عن مسيرة الرسالة ومحتواها العقائدي.
أبدأ بذكر نموذج من دعبل الخزاعي في تائيته المعروفة(51).
ألم تر للأيام ما جر جورها **** على الناس من نقص وطول شتات
ومن دول المستهترين، ومن غدا **** بهم طالباً للنور في الظلمات
فكيف ؟ ومن أنى يطالب زلفة **** إلى الله بعد الصوم والصلوات
سوى حب أبناء النبي ورهطه **** وبغض بني الزرقاء والعبلات
وهند، وما أدت سمية وأبنها **** أولو الكفر في الإسلام، والفجرات
هم نقضوا عهد الكتاب وفرضه **** ومحكمه بالزور والشبهات
لا حظ، أن الشاعر يؤلمه ما نزل بالناس من ظلم، ويؤلمه ما حل بالمجتمع الإسلامي من تمزق، ثم يهجو أولئك الّذين أنزلوا بالأمة هذه المصائب، فيقول: إنهم المستهترون الذي تحكموا في رقاب الأمة ومن لف لفهم.
"دول المستهترين" ما أجمله من تعبير، ينم عن فهم رائع لخصائص الحكم والحاكم في نظر هذا المسلم المتعلم في مدرسة أهل البيت.
ثم يشيد الشاعر بذكر أهل البيت، باعتبار أن حبهم فريضة إلهية بعد الصوم والصلاة، ويعلن كرهه لبني مروان وبني أمية (بني الزرقاء، والعبلات، وهند) لأنهم"أولو الكفر في الإسلام والفجرات"، ولانهم "نقضوا عهد الكتاب وفرضه".
ثم انظر في الأبيات التالية ـ معياره ـ في مدح أهل البيت:
فيا وارثي علم النبي، وآله **** عليكم سلام دائم النفحات
قفا نسأل الدار التي خف أهلها **** متى عهدها بالصوم والصلوات
وأين الأولى شطت بهم غربة النوى **** افانين في الآفاق مفترقات
هم أهل ميراث النبي إذ اعتزوا **** وهم خير سادات وخير حماة
مطاعيم في الإعسار في كلّ مشهد**** لقد شرفوا بالفضل والبركات
وانظر كيف يهجو أعداءهم:
وما الناس إلاّ حاسد ومكذب **** ومضطعن ذو إحنة وترات
إذا ذكروا قتلى ببدر وخيبر **** ويوم حنين أسبلوا العبرات
وكيف يحبون الني ورهطه؟ **** وهم تركوا أحشاءهم وغرات ؟
لقد لا ينوه في المقال وأضمروا **** قلوباً على الأحقاد منطويات
أعداء أهل البيت ـ إذن ـ هم أعداء النبي وأعداء الرسالة الإسلاميّة ، من الذين هزمهم الإسلام في بدر وخيبر وحنين، فاستسلموا يوم الفتح وقلوبهم تنطوي على الأحقاد.
هذا المنطق الإسلامي في المدح والهجاء نراه على طول تاريخ الشعر الشيعي.
ولنذكر نموذجاً آخر من فارس بني حمدان، أبي فراس الحمداني يقول في ميميته(52)
العظيمة يهجو بني العباس ويمدح آل البيت، ويقارن بين البيتين العباسي والعلوي، (انظر بدقة إلى معياره في المقارنة):
يا باعة الخمر كفوا عن مفاخركم **** عن فتية بيعهم يوم الهياج دم
خلوا الفخار لعلامين إنّ سئلوا **** يوم الفخار وعمالين إنّ علموا
لا يغضبون لغير الله إنّ غضبوا **** ولا يضيعون حكم الله إنّ حكموا
تنشى التلاوة في أبياتهم أبداً **** ومن بيوتكم الأوتار والنغم
منكم علية أم منهم؟ وكان لكم **** شيخ المغنين إبراهيم أم لهم؟(53).
أم من تشاد له الألحان سائرة **** عليهم ذو المعالي أم عليكم؟
إذا تلو سورة غني مغنيكم **** "قف بالديار التي لم يعفها القدم"(54).
ما في ديارهم للخمر معتصر **** ولا بيوتهم للسوء معتصم
ولا تبيت لهم أنثى تنادمهم **** ولا يرى لهم قرد له حشم
الحجر والبيت والأستار منزلهم **** وزمزم والصفا والركن والحرم.
لاحظ، كيف يمدح آل البيت: إنهم مضحون في سبيل الله علاّمون، عمّالون، لا يغضبون لغير الله، لا يضيعون حكم الله، ترتفع تلاوة القرآن في بيوتهم دائماً.. بيوتهم مطهرة من الخمر والسوء والمنكر، ومنزلهم مكان الذكر والعبادة: الحجر والبيت، وزمزم والصفا، والركن والحرم.
أما أعداؤهم فهم: باعة الخمر، ونساؤهم مغنيات، ورجالهم مغنون، وبيوتهم مكان اعتصار الخمر والسوء والفسق والفجور.
مما تقدم نفهم أن الشعر الشيعي رسالي، لا طائفي ولا حزبي ولا عشائري في ولائه وتبريه، وفي مواقفه الدفاعية، وصموده وأسلوبه.
وهكذا التشيع لم ينشأ مقابل "التسنن" كما يوحي بذلك الانقسام الموجود اليوم بين المسلمين إلى شيعة وسنة، بل نشأ باعتباره الأطروحة الملتزمة بالإسلام كما جاء به رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ، والمدافعة عن الرسالة أمام محاولات المحرفين وكيد الكائدين. وبهذا الفهم الموضوعي الواقعي للتشيع تزول الحساسيات النفسية القائمة اليوم بدرجة وأخرى بين أبناء السنة والشيعة.
___________________
1 ـ الطبري 5: 98.
2 ـ مثل ابن الأثير 3: 94.
3 ـ انظر آراء المستشرقين في ابن سبأ في كتاب نظرية الإمامة لأحمد محمود: 37، وانظر أيضاً: طه حسين الفتنة الكبرى، فصل ابن سبأ.
4 ـ أدب الشيعة إلى نهاية القرن الثاني الهجري؛ الدكتور عبد الحسيب طه حميدة: 122 ط 3، وانظر أيضاً: حزب الشيعة في العصر الأموي، الدكتورة ثريا عبد الفتاح.
5 ـ الأغاني 7: 11، 11: 120، الأمالي للمرتضى 1: 293، وديوان أبي الأسود الدولي: 119 ـ 121. و"هويا" فانه لغة هذيل يقولونها في كلّ مقصور (الأمالي 1: 293).
6 ـ البيان والتبيين 1: 134، 339.
7 ـ انظر: الطبري 4: 108، والعقد الفريد 5: 96، والكامل لابن الأثير 3: 386، الأغاني 11: 115.
8 ـ الطبقات الكبرى لابن سعد 7: 99.
9 ـ أسد الغابة 3: 70، ابن خلكان 2: 535.
10 ـ الأغاني 11: 107.
11 ـ الطبقات الكبرى لابن سعد7: 99.
12 ـ ديوان أبي الأسود: 78.
13 ـ كثير عزة، احمد الربيعي: 123.
14 ـ كثير عزة، أحمد الربيعي: 123.
15 ـ الشعر والشعراء لابن قتيبة 1: 413، الأغاني 8: 153.
16 ـ الأغاني 8: 34.
17 ـ المصدر السابق 8: 40.
18 ـ خزانة الأدب، للبغدادي 1: 144.
19 ـ الأغاني 15: 127، خزانة الأدب 1: 145.
20 ـ الأبيات من 31 ـ 36 من قصيد مطلعها:
إني ومن أين ابك الطرب *من حيث لا صبوة و لا ريب.
شرح هاشميّات الكميت، أبو رياس القيسي، تحقيق داود سلوم ونوري حمودي
القيسي: 110 ـ 111.
21 ـ البيان والتبيين 2: 172.
22 ـ الأمالي 3: 166.
23 ـ العقد الفريد 2: 157، ابن أبي الحديد 20: 489.
24 ـ أدب الشيعة، عبد الحسيب طه حميدة، ط 3: 222 ـ 223.
25 ـ الأغاني 15: 125، ومروج الذهب 2: 153، وأمالي الشريف المرتضى 1: 47.
26 ـ الأبيات 29 و 30 من هاشميته.
طربت وما شوقاً إلى البيض أطرب *ولا لعباً مني وذو الشيب يلعب؟
انظر شرح الهاشميات: 55 ـ 56.
27 ـ الأبيات 89 ـ 93 من هاشميته: من لقلب متيم مستهام *غير ما صبوة ولا أحلام. شرح الهاشميات 37 ـ 38.
28 ـ الغااني 15 ـ 123.
29 ـ المصدر السابق، ومروج الذهب 2: 154.
30 ـ الأغاني 7: 3.
31 ـ الأغاني 7: 237، ويرد على الرواية أن ابن سيرين توفي حين كان الكميت في الخامسة من عمره.
32 ـ طبقات فحول الشعراء، لابن سلام 1: 195.ومعجم الشعراء للمرزباني: 347.
33 ـ الأغاني 7: 266.
34 ـ من الغديريات التي ذكرها العلامة الأميني في كتاب الغدير 2: 215، وانظر الأغاني 7: 17 ـ 18، وحديث الغدير متواتر لدى أهل السنة والشيعة، لكن بعض الباحثين المحدثين قال: إنه من الأحاديث الخاصة بالشيعة.
35 ـ الأغاني 7:7، وأهل الكساء هم: محمّد، وعلي، وفاطمة، والحسن، والحسين. وحديث الكساء هو أيضاً من الأحاديث المتواترة لدى كلّ المسلمين لكن الظروف التاريخية حولته إلى حديث خاص بطائفة معينة.
36 ـ الأغاني 7: 16.
37 ـ انظر: شرح هاشميات الكميت: 146 ـ 187 وهي 111 بيتاً.
38 ـ يقول: أمور الناس مهملة مبعثرة لا مدبر لها. فأمورهم كالإبل المهملة التي لا قيم لها ولا راعي يحفظها.
39 ـ راعيا سوء: يعني هشاماً بن عبد الملك الخليفة، وخالد بن عبدالله القسري والي العراق. ويقصد بالذئب هشاماً، والقرفاء: الضبع، ويقصد به خالداً. وقله جيال: أي كبير.
40 ـ أي أتت الضبع غنما لا راعي لها، ولا مانع يمنعها فعاثت فيها والفرعل: ولد الضبع.
41 ـ السوام الموبل: ما رعي من المال. يقول: أتصلح الدنيا والدين، وأنتم تمارسون الجور والفساد، وتضيعون الثروات؟
42 ـ الكودني: البليد كأنه كودن، أي برذون. والمركل: الذي لا يتحرك إلاّ بالركل لشدة تثاقله بوطئه.
43 ـ ديوان الأمير أبي فراس الحمداني، تحقيق الدكتور محمّد التونجي: 258.
44 ـ الأعراف: 128:
45 ـ بلغ الأمر بالشاعر الشيعي أن يتمنى بقاء جور بني مروان، فهو أفضل مما
نزل بالعلويين من ظلم بني العباس
يا اليت جوربني مروان عادَلنا ياليت ظلم بني العباس في النار.
46 ـ الأبيات 75 ـ 77 من هاشميته التي مطلعها:
طربت وما شوقاً إلى البيض أطرب *ولا لعباً مني وذو الشيب يلعب؟
47 ـ اللهي بفتح اللام هي اللهاة في مؤخر الفم، واللهى: هي لقم الطعام.
48 ـ شرح هاشميات الكميت: 35 ـ 37.
49 ـ المصدر السابق: 52 ـ 53.
50 ـ الأغاني 18: 30 ـ 34.
51 ـ انظر القصيدة التائية الخالدة في ديوان دعبل الخزاعي، تحقيق عبد الصاحب الدجيلي: 124 ـ 151.
52 ـ ديوان الأمير أبي فراس الحمداني: 257 ـ 262.
53 ـ علية: بنت المهدي، اخت الخليفة العباسي هارون الرشيد، قال القيرواني
في زهر الآداب 1: 43: "كانت علية لطيفه المعنى، رقيقة الشعر، حسنة مجاري
الكلام، ولها ألحان حسان، وعلقت بغلام اسمه (رشا) وفيه تقول:
أضحى الفؤاد بزينبا صباً كثيباً متعب*
فجعلت زينب سترة وكتمت أمراً معجب
قولها بزينب تريد برشا فنمي الأمر إلى أخيها الرشيد، فأبعده، وقيل: قتله.
وعلقت بغلام اسمه (طل) فقال لها الرشيد: والله لئن ذكرته لاقتلنك. فدخل
عليها يوماً على حين غفلة وهي تقرأ: فإن لم يصبها وابل فما نهى عنه أمير
المؤمنين فضحك، وقال: ولا كلّ هذا...
أما إبراهيم، فهو ابن المهدي عم المأمون، مغن موسيقار، يعرف بابن شكله.
حينما بايع المأمون الإمام الرضا بولاية العهد، نقم عليه العباسيون،
فاستغلوا وجود المأمون في (مرو)، فبايعوا إبراهيم خليفة للمسلمين وفي مدة
تربعه على كرسي الخلافة أصيبت الخزينة بالعجز، فألح عليه الجند وغيرهم في
أعطياتهم، فخرج إليهم رسول يقول: إنّه لا مال عند الخليفة، فطلب المتجمهرون
بدلاً من المال أن يخرج الخليفة فيغني لأهل هذا الجانب ثلاث أصوات، ولأهل
ذاك الجانب ثلاث اصوات (وفيات الأعيان 1: 8.)
وفي ذلك يقول دعبل:
يا معشر الأجناد لا تقنطوا وارضوا بما كان ولا تسخطوا ***فسوف تعطون (حنينية) يلتذها الأمرد والأشمط
و(المعبديات) لقوادكم لاتدخل الكيس ولا تربط ***وهكذا يرزق أصحابه خليفة مصحفه (البربط)
الديوان: 219.
54 ـ صدر البيت من مطلع قصيدة جاهلية لزهير، وعجزه: بلى وغيرها الأرواح والديم ـ يقصد أنكم مقابل تلاوتهم السور، تتغنون بأشعار الجاهلية.
الرسالية في الشعر الشيعي
الدكتور محمّد علي آذر شب
يطلق اسم الشعر الشيعي على ذلك الشعر، الذي قيل في علي وآل بيت رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ مدحاً ودفاعاً ورثاءً. ومنذ القرن الإسلامي الأول برز شعراء كرسوا جل اهتمامهم في هذا المجال، فسموا شعراء الشيعة.
وفي هذا المقال أهدف إلى إلقاء الضوء على هذا اللون من الشعر في الأدب العربي، لأعرض بعض ما تبين لي من حقائق عند دراسة الشعر الشيعي وتدريسه، وأحسب أنها مفيدة في إبعاد الصفة "الطائفية" و"الحزبية" عن هذا الشعر، وفي استجلاء حقيقة "الرسالية" و"الروح الإسلاميّة" فيه.
في البداية لابد من القول: إنّ الكشف عن حقيقة الشعر الشيعي ورساليته، يخدم هدف "التقريب" بين الأمة المسلمة الواحدة، فسيتبين أنّه يتحدث بلغة إسلامية لا طائفية، ويدافع عن أهداف الإسلام، ويعبر عن آمال الأمة وآلامها، دون أن يتحدد بإطار مذهبي ضيق، ودون أن تكون له أهداف حزبية دنيوية دنيئة.
ومن نافلة القول: إنّ ما أحيط به الشعر الشيعي من أحكام بعيدة عن الصواب، إنّما
هو ناشئ من نظرة "أموية" سادت في كتب القدماء والمحدثين عن الشيعة ونشأتهم وعقائدهم فأسطورة ابن سبأ نقلها الطبري في تاريخه(1)، وتناقلها عنه المؤرخون القدامى (2).
ووجد المستشرقون في هذه الأسطورة ما ينسجم مع رغبتهم في تركيز الخلافات التاريخية بين المسلمين، وتسليط الأضواء على ما ورد بشأن تشرذمهم وتمزقهم، مثل: (فلها وزن) و(دوزى) و(فان فلوتن) ثم راح تلامذة المستشرقين في العالم الإسلامي يحوكون على نفس المنوال (3) مع الأسف، تاركين في الأمة حساسيات وحزازات تثقل كاهل كلّ العاملين في حقل توحيد صفوف المسلمين.
لا أريد هنا أن أتعرض لنشأة الشيعة والتشيع، إنّما أردت الإشارة فقط إلى خلفية النظرات السلبية التي أحيط بها الشعر الشيعي، والتي جعلته في نظر الباحثين المحدثين شعراً حزبياً، وجعلت فواعله في نظرهم نفس فواعل الشعر الأموي ومصادره: تراث جاهلي، وإلهام إلهي، وتأثير أجنبي، وعصبية قبلية، وأهواء سياسية(4).
ولدراسة طبيعة الشعر الشيعي لابد أن نلقي نظرة على موضوعاته، لنتبين من خلالها طبيعته الرسالية:
الحب الرسالي
الإيمان بالمبدأ يقترن دائماً بعواطف حب وبغض، وهذه العواطف توجهها العقيدة وتقوى بقوتها.
ومن العقيدة الإسلاميّة تنشأ عواطف حب الله ورسوله والمؤمنين، وبغض أعداء
الله وأعداء الرسالة الإسلاميّة.
وإذا ترسخت هذه العقيدة في النفوس، ترتفع على كلّ وليجة وآصرة من قرابة، أو قوم، أو جنس، فيضحي الإنسان من أجل هذا الحب الرسالي ويتفاني من أجله.
ونحن نرى هذا الحب الرسالي بوضوح في الشعر الشيعي. يقول أبو الأسود الدولي:
أحب محمداً حباً شديداً**** وعباسا وحمزة والوصي
وجعفر إنّ جعفر خير سبط**** شهيد في الجنان مهاجري
أحـبـهـم كـحـب الله حتـّى**** أجيء إذا بعثت على هويا (5)
هوى أعطيـته منـذ اسـتـدارت**** رحى الإسلام لم يعدل سوي
لاحظ: إنّ هذا الهوى ينطلق من الإسلام، فالشاعر ألهمه منذ استدارت رحى الإسلام، وهو حب شديد لله أوّلاً، ثم لرسوله، والرهط الكريم من آل بيته: العباس والحمزة والوصي وجعفر...
ولنقف برهة عند الشاعر، لنتبين شخصيته، ومدى صدقه في التعبير عن عواطفه.
هو: ظالم بن عمرو القرشي البصري من التابعين، والفقهاء، والشعراء، والمحدثين، والأشراف، والفرسان...
قال عنه الجاحظ: إنه "من المتقدمين في العلم" (6).
عرف بتشدده في الالتزام بأحكام الدين، حتّى اختلف مع عبدالله بن عباس، ومع زياد ابن أبيه حين اعتقد أنهما استغلا منصبهما لمصالحهما الشخصية (7).
كان "ثقة في حديثة"(8).
وشهد مع الإمام علي ـ عليه السلام ـ وقعتي: الجمل وصفين (9).
واستعمله عمر وعثمان على البصرة(10).
ثم أصبح قاضياً على البصرة في زمن الإمام علي ـ عليه السلام ـ ، بعد أن ولى الإمام علي عبدالله بن عباس البصرة سنة(40 هجرية).
ثم أصبح والياً على البصرة حتّى مقتل الإمام علي ـ عليه السلام ـ (11).
وحاول معاوية إرشاءه بالهدايا، لكنه أبي أن يأخذها رغم ما كان يعانيه من ضنك في العيش، بسبب قلة عطائه. وحين سألته ابنته عن تلك الهدايا قال: "بعث بها معاوية يخدعنا عن ديننا"فقالت ابنته التي تحمل نفس عواطف أبيها وإبائه:
أبـا لشهد المزعفـر يـا ابـن حـرب**** *نبيـع عـليك أحـسابــاً وديــنــا؟
معاذ الـلـه كــيــف يـكــون هـذا*****ومولانا أميـر المـؤمـنـيـنــا ؟(12)
هذا شاعر من النصف الأول من القرن الهجري الأول (ت 69 هـ).
ولنقف عند شاعر آخر من النصف الثاني لهذا القرن، وهو كثير بن عبد الرحمن الخزاعي المعروف بكثير عزة (ت 105 هـ)، حيث يقول:
إنّ أمرأ كانت مساوِؤه****حب النبي لغير ذي ذنب
وبني أبي حسن ووالدهم ****من طاب في الأرحام والصلب
أترون ذنباً أن نحبهم ؟**** بل حبهم كفارة الذنب (13)
واضح، أن الشاعر يشير في هذه الأبيات إلى ما كان يتحمله من ضغوط أموية بسبب رساليته، أو بسبب حبه الرسالي للنبي، وعلي وآل علي، فليس هذا بذنب كما يرى بنو أمية، بل هو كفارة الذنب، وطريق الهدى والنجاة، وكيف لا يتحمل هذه الضغوط وهو يعيش في عصر يسب فيه علي على المنابر؟.
ويعبر الشاعر في أبيات أخرى عن أساه وألمه لهذا السب، بلغة تنطلق من عاطفة إسلامية رسالية، هي لغة كلّ المسلمين في عصره، اللهم إلاّ الشرذمة الضالعة في ركاب الحكام الظالمين:
لعن الله من يسب عليا****وبنيه من سوقه وإمام
أيسب المطهرون جـدوداَ****والكرام الأخوال والأعمام؟
يأمن الطير والحمام ولا****يأمن آل الرسول عند المقام
طبت بيتا، وطاب أهلك أهلا****أهل بيت النبي والإسلام
رحمة الله والسلام عليهم****كلما قام قائم بسلام (14)
هذا الولاء الذي يحمله الشاعر لآل بيت رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ لم يكن يعبر عن نظرة فئوية حزبية، بل عن نظرة إسلامية شعبية عامة، اتسعت لتستوعب حتّى الخليفة المرواني ـ عمر بن عبد العزيز ـ الذي استنكر هذا السّب ومنعه في نفس زمن حياة الشاعر كثير عزة. فطار الشاعر فرحا، وانشد قصيدته يثني على الخليفة موقفه هذا، وعدله بين الرعية، ورفعه الظلم عن الناس:
وليت فلم تشتم عليا ولم تخف**** بريا ولم تقبل إشارة مجرم
وصدقت بالفعل المقال مع الذي****أتيت فأمسى راضياً كلّ مسلم
وأظهرت نور الحق فاشتد نوره****على كلّ لبس بارق الحق مظلم(15)
ويكفي لمعرفة صدق ولاء الشاعر لآل بيت رسول الله، أنّه قال ما قال في مدحهم في أقسى ظروف الضغط الأموي على آل البيت. وفي أخباره ما يدل على شدة ولائه لأهل بيت رسول الله بما في ذلك أبناؤهم وذريتهم فكان يأتي إلى أبناء الحسن بن الحسن فينظر إليهم بعاطفة شديدة، تذكره بجدهم رسول الله وبنسبهم الطاهر، فتفيض عيناه دمعاً، ويقول: "بأبي انتم، هؤلاء الأنبياء الصغار"، ويريد بذلك: طهرهم وسمو منزلتهم.
وكان يهب لهؤلاء الصغار عطاءه، فيقول له محمّد بن عبدالله بن عمرو بن عثمان،
وهو أخوهم لأمهم: "يا عم هب لي، فيقول كثير: لا، لست من الشجرة"(16).
وله أخبار مع سكينة بنت الحسين ـ عليه السلام ـ منها: أنّه كان خارجا في الحاج، وقد أراد أن يبيع جمله، فساومته سكينه وهو لم يعرفها، وإنّما عرفته سكينة، فلم يرض إلاّ مائتي درهم، وحين عرفها استحيا وانصرف مهرولاً تاركاً لها الجمل وهو يقول: "هو لكم، هو لكم "(17) خجلاً وإجلالاً.
وإذا وقفنا عند الكميت لاستجلاء هذا الحب الرسالي في شعره، فأننا سنجد العجب العجاب. هذا الشاعر الذي عاش النصف الثاني من القرن الأول، والعقود الثلاثة الأولى من القرن الثاني (60 ـ 126 هـ) كان "خطيب بني أسد، وفقيه الشيعة، وحافظ القرآن، وثبت الجنان"(18).
وسئل معاذ الهراء: "من أشعر الناس ؟ فقال: من الجاهليين: امرؤ القيس، وزهير، وعبيد بن الأبرص. ومن الإسلاميين: الفرزدق، وجرير، والأخطل. فقيل له: يا أبا محمّد، ما رأيناك ذكرت الكميت ! فقال: ذاك اشعر الأولين والآخرين"(19).
ومدحه للنبي ـ صلى الله عليه وآله ـ معروف، وقف عنده النقاد كثيراً، ويحسن أن نتعرض له ولو قليلاً لأنه يكشف عن جانب هام من ولائه الرسالي وظروف عصره.
يقول الكميت:
فاعتتب الشوق في فؤادي والشعر****إلى من إليه معتتب
إلى السراج المنير أحمد لا**** يعدلني رغبة ولا رهب
وقيل أفرطت، بل قصدت، ولو**** عنفني القائلون، أو ثلبو
إليك يا خير من تضمنت الأرض**** وإن عاب قولي العيب
لج بتفضيلك اللسان، ولو****أكثر فيك الضجاج واللجب(20)
والعجيب في هذه الأبيات أنّه يتحدث عمّن يؤنبه ويعنفه لمدحه النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ، ويصر على هذا المدح وإن عاب العائبون، وعنف وثلب القائلون.
الجاحظ يرى: أن قول الكميت هذا هو "من غرائب الحمق"، ويتساءل مستغرباً: "فمن رأى شاعراً مدح النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ، فاعترض عليه واحد من جميع أصناف الناس!، حتّى يزعم أنّ أناساً يعيبونه ويثلبونه ويعنفونه"؟(21).
والشريف المرتضى رحمه الله يرى أن الكميت لم يرد في مدحه النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ، وإنّما أراد عليا ـ عليه السلام ـ فورى عنه بذكر النبي خوفاً من بني أمية(22).
وأجمل ما رأيت من تحليل لمدح الكميت المذكور، ورأي النقاد فيه، ما كتبه الأستاذ الدكتور عبد الحسيب طه حميدة، أنقله بنصه لأهميته، إذ يقول:
(ونحن نرى: أن الكميت كان أعلم بأخلاق عصره من هؤلاء، وأمس بسياسته...، كان يشعر بأنه يحيا وسط دولة ترى: أن هذا اللون من مدح الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ تزكية للهاشميين، ولفت للذهن إلى حق هؤلاء في الخلافة.
وإذا كانت السياسة قد أباحت لابن الزبير ـ على مكانته الدينية وبيته من الإسلام ـ أن يسقط ذكر النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ من خطبه، حتّى إذا ليم على ذلك، قال: والله ما يمنعني من ذكره علانية أني لا أذكره سراً، وأصلي عليه، ولكني رأيت هذا الحي من بني هاشم إذا سمعوا ذكره، اشرأبت أعناقهم، وأبغض الأشياء إلي ما يسرهم. وفي رواية: أن له أهيل سوء(23).
نقول: إذا كانت السياسة قد أباحت لابن الزبير هذا، فما بالك ببني أمية في عصر الكميت وقد تغيرت الأخلاق، وفسد الناس؟.
فالكميت يحدثنا عن عصر يحيا فيه، ويصطلي بسياسته، ويحس أن مدحه للرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ يعرضه للعيب والثلب والعنف.
والجاحظ يحكم في الرجل نظرة دينية، ويتناسى أن السياسة قد بدأت في هذا العصر تستقل عن الدين، فبغضت هذا اللون من المديح، لا لأنه مدح للرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ بل لأنه ضرب من التمرد والشغب، والخروج على السلطان، به تشرئب أعناق الهاشميين، ويلفت الناس إليهم... هذا إلى أن الجاحظ عثماني، فلا غرو أن اهتم بنفي هذه التهمة عن بني أمية، واحتشد لذلك، فعد مذهب الكميت حمقاً، بل من غرائب الحمق) (24). ويظهر من الروايات: أن الكميت جند نفسه منذ بداية انبثاق الشعر على لسانه للدفاع عن أهل البيت، ورواية صاحب الأغاني عن الحوار بين الكميت والفرزدق، تبين أيضاً اهتمام الشاعر بأن تكون كلمته في المدح قوية مؤثرة، تملك المشاعر والنفوس، حتّى جعلت شاعراً كبيراً مثل الفرزدق، يحار ويدهش أمام هذا الشاعر الناشئ.
انظر إلى هذا الحوار:
الكميت: يا أبا فراس، إنك شيخ مضر وشاعرها، وأنا ابن أخيك الكميت بن زيد. الفرزدق: صدقت، أنت ابن أخي، فما حاجتك؟
الكميت: نفث على لساني، فقلت شعراً، فأحببت أن أعرضه عليك، فأن كان حسناً، أمرتني بإذاعته، وإن كان قبيحاً، أمرتني بستره، وكنت أول من ستره علي.
فقال الفرزدق: أما عقلك فحسن، وإني لأرجو أن يكون شعرك على قدر عقلك، فأنشدني، فأنشده:
طربتُ وما شوقاً إلى البيض أطْرَبُ
فقال الفرزدق: ففيم تطرب يا ابن أخي ؟ فقال:
ولا لَعِباً منّي وذو الشّيبِ يَلعبُ؟
فقال الفرزدق: بلى يا ابن أخي، فالعب فأنك في أوان اللعب فقال:
ولم يلهني دار ولا رسم منزل **** ولم يتطربني بنان مخضب
فقال: وما يطربك يا ابن أخي ؟ فقال:
ولا أنا ممن يزجر الطير همه****أصاح غراب أم تعرض ثعلب
ولا السانحات البارحات عشية****أمرّ سليم القرن، أم مرّ أعضب.
فقال: أجل، لا تتطير فقال:
ولكن إلى أهل الفضائل والتقى ****وخير بني حواء، والخير يطلب
فقال: ومن هؤلاء ويحك؟ فقال:
إلى النفر البيض الّذين بحبهم**** إلى الله فيما نالني أتقرب
فقال: أرحني ويحك، من هؤلاء؟ فقال
بني هاشم رهط النبي فأنني**** بهم، ولهم أرضى مراراً وأغضب
فقال الفرزدق: يا ابن أخي، أذع ثم أذع، فأنت ـ والله ـ أشعر من مضى وأشعر من بقي(25).
ونجد في شعر الكميت تركيزاً على الدافع الديني في ولائه لأهل البيت، فحبه ينطلق من تربية قرآنية وطدت جذور هذا الحب في نفسه.
وجدنا لكم في آل حاميم آيةً****تأولها منا تقي ومعرب
وفي غيرها آياً، وآياً تتابعت****لكم نصب فيها لذي الشك منصب(26)
ويؤكد: أن حبه لأهل البيت، هو استمرار لحب رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ وأنه بدافع طلب مرضاة الله سبحانه وتعالى:
إنّ أمت لا أمت ونفسي نفسان****من الشك في عمى أو تعامي
عادلاً غيرهم من الناس طراً****بهم، لا همام بي، لا همام
لم أبع ديني المساوم بالوكس****ولا مقلياً من السوام
أخلص الله لي هواي، فما أغرق****نزعاً، ولا تطيش سهامي
ولهت نفسي الطروب إليهم****ولهاً، حال دون طعم الطعام(27)
ويظهر من سيرة الكميت أنّه كان هائماً في حب أهل البيت إلى درجة صوفية غارقة. وكان أحب شيء إليه أن يسمع منهم دعاء له، وأن يسموه شاعر أهل البيت، فيطير فرحاً ويبكي وجداً.
يروي صاحب الأغاني عن صاعد ـ مولى الكميت ـ قال: دخلنا على فاطمة بنت الحسين، فقالت: هذا شاعرنا ـ أهل البيت ـ وجاءت بقدح فيه سويق، فحركته بيدها ودفعته إليه فشربه، ثم أمرت له بثلاثين دينار ومركب، فهملت عيناه ثم قال: لا والله لا أقبلها، إني لم أحبكم للدنيا(28).
وروي عن محمّد بن سهل ـ صاحب الكميت ـ قال: دخلت مع الكميت على أبي عبدالله جعفر بن محمّد (الصادق) ـ عليه السلام ـ ، أيام التشريق بمنى، فقال: جعلت فداك، ألا أنشدك ؟ فقال يا كميت إنها أيام عظام، فقال: إنها فيكم، فقال: هات، وبعث الإمام إلى بعض أهل بيته فاجتمعوا ـ فأنشد لا ميته:
ألا هل عم في رأيه متأمل **** وهل مدبر بعد الإساءة مقبل
فكثر البكاء حوله... حتّى إذا قال:
يصيب به الرامون عن قوس غيرهم **** فيا آخراً أسدى له الغي أول
رفع الإمام الصادق يديه وقال: اللهم اغفر للكميت، ماقدم وما أخر، وما أسر وما أعلن، وأعطه حتّى يرضى(29).
وكانت هذه الدعوات أثمن هدية يتلقاها هذا العاشق الوله من أحبابه.
ثم نقف عند شاعر آخر عاش النصف الأول من القرن الثاني وردحاً من نصفه الثاني وهو السيد الحميري (105 ـ 173 هـ): إنه أبو هاشم إسماعيل بن محمّد بن يزيد بن مفرغ الحميري، ويكفي في رساليته أنّه ولد من أبوين خارجيين، يسبان علياً، لكنه هام في علي وآل بيته، وحينما علم أبواه بمذهبه هما بقتله، ففر من بيتهما وبقي بعيداً عنهما حتّى ماتا.
وحين سئل عن سبب ولائه لعلي وآل بيت رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ مع أن أبويه خارجيان، يقول: "غاصت علي الرحمة غوصاً"(30).
وتذكر الرواية أن السيد انفجر على لسانه الشعر، بسبب رؤيا مباركة، رأى فيها النبي يطلب منه أن يقلع أشجار نخل طوالاً لأمرئ القيس، ويغرسها في مكان آخر، وحين ذكر الرؤيا لابن سيرين قال له: "أما إنك ستقول شعراً مثل شعر امرئ القيس، إلاّ أنك تقول في بررة أطهار"(31). وهذه الرواية تبين أيضاً المنطلق الرسالي لهذا الشاعر.
أجمع الرواة أن للسيد شعراً كثيراً، وهو من أكثر الناس شعراً في الجاهلية والإسلام (32)، ولكن شعره تحومي بسبب إفراطه في ذكر الخلفاء الثلاثة بسوء وهنا أود أن أشير فقط إلى أن سبب الصحابة بدأ منذ زمن معاوية، حين أمر بسب أول الصحابة إسلاماً وأشدهم إيماناً وهو علي بن أبي طالب.
ولم يكتف أعداء علي بهذا السب، بل تستروا بالخلفاء الثلاثة لكي يطعنوا بالخليفة الرابع، فجعلوا بذلك علياً مقابل الخلفاء الثلاثة، وجعلوا مدح الخلفاء الثلاثة نوعاً من الطعن بعلي بينما لا نرى بين هؤلاء الأربعة نزاعاً في حياتهم قط ـ (وإن كانت لهم وجهات نظر متباينة)ـ، وإنّما هي السياسية الأموية، وسياسة كلّ أعداء علي، التي أرادت أن تطعن بعلي متسترة بالولاء للخلفاء الثلاثة، ولا تزال هذه السياسة المفرقة الاستفزازية
موجودة بشكل وآخر في عالمنا الإسلامي مع شديد الأسف.
وكان للموالين لعلي مواقف مختلفة من هذه الخطة الأموية. منهم من انتهج طريق فضح هذه الخطة، وتوضيح خلفية هذا اللون من الدفاع عن الخلفاء الثلاثة، مؤكداً أن هؤلاء لا يمدحونهم حباً بهم، بل بغضاً لعلي، وبعضهم اندفع لبيان أفضلية علي بين صحابة رسول الله، وبعضهم بلغ به رد الفعل إلى درجة ثلب الخلفاء الثلاثة هذه مسألة هامة نحتاج إلى الوقوف عندها طويلاً، وإنّما أشرت إليها لأذكر أن "السيد" كان يستفز أحياناً بمدح الخلفاء فيفهم من خلال الظروف التي كان يعيشها، أن هذا المدح يستهدف طعناً بعلي فينبري للدفاع عن الإمام وأهل بيته.
من ذلك أن أحدهم استفزه ببيت يقول:
محمّد خير من يمشي على قدم****وصاحباه، وعثمان بن عفان
فانتفض غاضباً يقول:
سائل قريشاً إذا ما كنت ذاعمه****من كان أبثتها في الدين أوتادا
من كان أعلمها علماً، وأحلمها****حلماً، وأصدقها قولاً وميعاد
إنّ يصدقوك فلن يعدوا أبا حسن****إنّ أنت لم تلق للأبرار حسادا(33)
ويركز السيد الحميري على المنطلق الرسالي في ولائه لعلي وآل بيت النبي، فيذكر تارة أنّه ينطلق في هذا الولاء من حديث رسول الله في غدير خم:
إذا أنا لم أحفظ وصاة محمّد****ولا عهده يوم الغدير المؤكد
فأني كمن يشري الضلالة بالهدى****تنصر من بعد التقى، وتهود
ومالي وتيم، أو عدي، وإنّما****أولوا نعمتي في الله من آل أحمد
تتم صلاتي بالصلاة عليهم****وليست صلاتي بعد أن أتشهد
بكاملة إنّ لم أصل عليهم****وأدع لهم رباً كريماً ممجد (34)
وتارة يذكر أن ولاءه له منطلق قرآني، لما جاء في حق آل البيت من آية التطهير:
إنّ يوم التطهير يوم عظيم****خص بالفضل فيه أهل الكساء(35)
وولع السيد الحميري بتصوير ما جاء في السيرة، من ارتباط عاطفي بين الرسول وأهل بيته، مشيراً إلى أن ولاءه لأهل البيت يستمد قوامه من السيرة، من ذلك أن السيد سمع محدثا يحدث أن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ كان ساجداً، فركب الحسن والحسين على ظهره، فقال عمر: "نعم المطي مطيكما" فقال النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ: ((نعم الراكبان هما))، فانفجرت قريحة السيد بالقول:
أتى حسناً والحسين النبي****وقد جلسا حجره يلعبان
ففداهما، ثم حياهما****وكان لديه بذاك المكان
فراحا وتحتهما عاتقاه****فنعم المطية، والراكبان
وليدان أمهما برة****حصان مطهرة للحصان
وشيخهما ابن أبي طالب****فنعم الوليدان والوالدان(36)
لأن وقفنا طويلاً عند هذا الولاء الرسالي، فلأن الشعر الشيعي متهم بالولاء الحزبي والطائفي وما هو كذلك، كما يرى بوضوح في النماذج المذكورة وسنمر سريعاً في ذكر الخصائص الأخرى التي تطبع الشعر الشيعي بالطابع الرسالي.
الدفاع عن مصالح الأمة
شعراء أهل البيت تصدوا للدفاع عن مصالح الأمة، وللحديث عما يحط بالمسلمين من ظلم الحكام وطغيانهم، وحث الناس على اليقظة والانتباه إلى تصرفات الحكام. وهذا الاتجاه في الشعر الشيعي يعني أنّه ابتعد عن المصالح الفئوية والحزبية، وحمل هموم الأمة، وارتفع إلى مستوى أهداف الإسلام في ردع الظلم، وإحقاق الحق، وإقامة المجتمع العادل.
ولعل خير مثال على هذا الاتجاه في الشعر الشيعي ـ لامية الكميت (37) ـ التي يبدؤها بتوعية الأمة وإيقاظها فيقول:
ألا هل عم في رأيه متأمل****وهل مدبر بعد الإساءة مقبل
وهل أمة مستيقظون لرشدهم****فيكشف عنه النعسة المتزمل
فقد طال هذا النوم واستخرج الكرى****مساويهم لو أن ذا الميل يعدل
ثم يذكر الشاعر منطلقه في ثورته على واقعه الاجتماعي المنحرف، موضحاً أن سبب ما يعج به المجتمع الإسلامي في عصره، من ظلم وفساد، إنّما هو الانحراف عن الكتاب والسنة، وتعطيل أحكام الإسلام.
وعطلت الأحكام حتّى كأننا****على ملة غير التي نتخل
كلام النبيين الهداة كلامنا****وأفعال أهل الجاهلية نفعل
أنظر إلى الشاعر كيف يحدد منطلقه في الدفاع عن الأمة، إنه يدين العودة إلى مظاهر الجاهلية، باعتبارها سبب كلّ انحراف ثم يندفع الشاعر في حث الأمة على استعادة كرامتها، وعدم الالتصاق بالأرض، والمتاع الدنيوي الرخيص، والارتفاع إلى مستوى التضحية في سبيل المبدأ يقول:
رضينا بدنياً لا نريد فراقها****على أننا فيها نموت ونقتل
ونحن بها المستمسكون كأنها****لنا جنة مما نخاف ومعقل
أرانا على حب الحياة وطولها****يجد بنا في كلّ يوم ونهزل
ثم يرفع صوته بوجه الظالمين، مندداً بما ينزلونه من عذاب بالأمة ومن استهانة بكرامتها وتضييع لحقوقها:
فتلك أمور الناس أضحت كأنها****أمور مضيع آثر النوم بهل (38)
فياساسة هاتوا لنا من جوابكم****ففيكم لعمري ذو أفانين مقول
أهل كتاب نحن فيه وأنتم****على الحق نقضي بالكتاب ونعدل
فكيف، ومن أنى، وإذ نحن خلفه****فريقان شتى تسمنون ونهزل
لنا راعيا سوء مضيعان منهما****أبو جعدة العادي وعرفاء جيال (39)
أتت غنماً ضاعت وغاب رعاؤها****لها فرعل، فيها شريك وفرعل(40)
ويؤكد الشاعر ثانية على منطلقه الرسالي في الدفاع عن الأمة، حين يعود ثانية إلى القول بأن هذه الأمة لا تصلح أوضاعها، إلاّ بأصلاح دينها، والعودة إلى هدى كتاب ربها وسنة نبيها، يقول:
أتصلح دنيانا جميعاً وديننا **** على ما به ضاع السوام الموبل (41)
كان كتاب الله يعنى بأمره **** وبالنهي فيه الكودني المركل(42)
ألم يتدبر آية فتدله **** على ترك ما يأتي، أم القلب مقفل
وكيف يمكن العودة إلى إسلام رسول الله، وهؤلاء الولاة الظلمة يسومون الأمة سوء العذاب؟:
فتلك ولاة السوء قد طال ملكهم **** فحتام حتام العناء المطول
رضوا بفعال السوء في أهل دينهم **** فقد أيتموا طوراً عداء وأثكلوا..
لهم كلّ عام بدعة يحدثونها **** أزلوا بها أتباعهم ثم أوحلوا
تحل دماء المسلمين لديهم **** ويحرم طلع النخلة المتهدل
ما أروع هذا البيت الأخير، الذي يصور وضع طواغيت العالم الإسلامي في كلّ زمان ومكان يستهينون بدماء المسلمين، وليست لنفس المسلم عندهم أية كرامة، لكنهم يطالبونه بأداء ما فرضوا عليه من ضرائب وخراج، ولا يحق له أن يمشي بين نخله، ويمسه حتّى يؤدي خراجه، فأن هو مسه قبل ذلك قتل.
ومثل هذا الدفاع عن حقوق الأمة المضيعة نجده عند جميع شعراء الشيعة.. دفاعاً ينطلق من إيمان بما أراده الله للإنسان المسلم، من عزة وكرامة وحقوق فردية واجتماعية.
وهذا التصدي للدفاع عن الأمة، عرضناه في شعر الكميت وهو يقارع الأمويين، ونعرض بعض أبيات شاعر شيعي آخر، هو أبو فراس الحمداني، وهو يدافع عن حقوق الأمة أمام ظلم حكام زمانه من العباسيين يقول:
الدين مخترم والحق مهتضم **** وفيء آل رسول الله مقتسم
والناس عندك لاناس فيحفظهم **** سوء الرعاء، ولا شاء ولا نعم...
وما السعيد بها إلاّ الذي ظلموا **** ولا الغني بها إلا الذي حرمو
للمتقين من الدنيا عواقبها **** وإن تعجل فيها الظالم الأثم(43)
وفي البيت الأخير، حث لأهل الإيمان أن لا ييأسوا من مطالبة حقهم، ومن مقارعة الظالمين.
(إنّ الأرض لله يروثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين)(44).
الصمود على المبدأ
مر بنا أن شعراء الشيعة كانوا يعلنون رساليتهم، والتزامهم بإسلام رسول الله، من خلال إعلانهم الولاء لآل البيت، والدفاع عن كرامة الأمة المسلمة. وهذا الموقف كلف
هؤلاء الشعراء التأنيب والتقريع، والتشريد والتجويع، وعانوا من ألوان الظلم والاضطهاد والعذاب، صابرين صامدين، مؤكدين على تعاليهم عما يتهافت عليه الناس، من مال ومتاع، وعلى تفانيهم في سبيل مبدا آمنوا به إيماناً جعلهم يستحلون كلّ تعذيب، طلباً لأجر الآخرة.
ولا يمكن أن نعرف مدى استقامة هؤلاء الشعراء وصمودهم، إلاّ إذا عرفنا جو الإرهاب الذي عاشوا فيه ن والبطش الذي مارسه الحكام بحق الصامدين على المبدأ ويكفي أن نلقي نظرة على كتب التاريخ، لنعرف أن الأمويين والعباسيين مارسوا أفظع ألوان التقتيل والتنكيل، بحق كلّ من كانوا يشكون.. يشكون فقط.. في ولائه لآل بيت رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ (45).
يقول الكميت:
ألم تر ني من حب آل محمّد **** أروح وأغدو خائفاً أترقب
كأني جان محدث وكأنما **** بهم يتقى من خشية العر أجرب
على أي جرم أم بأية سيرة **** أعنف في تقريظهم وأؤنب(46)
هكذا كان شاعر أهل البيت..، فهو خائف مترقب، معنف مؤنب، لا لذنب اقترفة سوى حبه لآل البيت وهذا الصمود أمام ألوان التحديات، يؤكد رسالية المسلك الذي إلى الشاعر على نفسه أن يسلكه.
وواضح أن هذا الأدب يختلف تماماً عن أدب اللهى التي تنفتح باللهى (47)، وعن ذلك الأدب الذي يصدر عن عصبية حزبية أو عشائرية لا يقوى صاحبها على مواجهة أي تهديد.
إنّ المعيار الذي اتخذه الشاعر الشيعي في حياته، يسمو على كلّ ارتباط قبلي أو عشائري، فهو معيار رسالي نابع من التزامه بالإسلام وبسنة رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ، لا يبالي بسخط الساخطين أو لوم اللائمين يقول:
فيهم صرت للبعيد ابن عم **** واتهمت القريب أي اتهام
وتناولت من تناول بالغبة **** أعراضهم وقل اكتتامي
ورأيت الشريف في أعين الناس **** وضيعاً وقل فيه احتشامي
معلناً للمعلنين، مسراً **** للمسرين، غير دحض المقام
مبدياً صفحتي على المرقب المعلم **** بالله عزتي واعتصامي
ما أبالي إذا حفظت أبا القاسم **** فيهم ملامة اللوام
ما أبالي، ولن أبالي فيهم **** أبداً رغم ساخطين رغام
فهم شيعتي وقسمي من الأمة، **** حسبي من سائر الأقسام(48)
الخوارج كفروا الشاعر، والأمويون اعتبروه مسيئا مذنباً، ولم يسؤه ذلك، ولم يتراجع عن موقفه قط:
يشيرون بالأيدي إلي، وقولهم **** إلاّ خاب هذا والمشيرون أخيب
فطائفة قد كفرتني بحبكم **** وطائفة قالوا: مسيء ومذنب
فما ساءني تكفير هاتيك منهم **** ولا عيب هاتيك التي هي أعيب
يعيبونني من خبهم وضلالهم **** على حبكم، بل يسخرون وأعجب(49)
ولم يتعرض الشاعر الشيعي للسخط في عصر الأمويين فحسب، بل في عصر العباسيين أيضاً، لأن هذا الشعر قد أتجه إلى مقارعة الطواغيت، سواء كانوا من بني أمية، أم من بني هاشم من العباسيين، ولذلك كان الشاعر الشيعي دعبل في العصر العباسي
مطارداً، مهدداً بالقتل، ويعبر عن استعداده لهذه التضحية فيقول: "أنا أحمل خشبتي على كتفي منذ خمسين سنة، لست أجد أحداً يصلبني عليها" (50).
المنطق الإسلامي في المدح والهجاء
منطق المدح والهجاء في الشعر العربي جاهلياً كان أم بعد الإسلام ينحو منحى معيناً، فهو في المدح يتناول الكرم والشجاعة والقوة.. وأمثالها من الخصال الحميدة، وفي الهجاء يركز على البخل والجبن والضعف، قد يتناول الأعراض والمثالب التاريخية...، لكننا نجد في الشعر الشيعي منطلقا خاصاً في المدح والهجاء، يستمد محتواه من مضامين القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، ومن غيرة على الإسلام والأمة الإسلاميّة.
مرت بنا رسالية الشاعر الشيعي والتزامه الإسلامي في إبراز ولائه لآل البيت ونذكر هنا بعض نماذج المدح والهجاء في الشعر الشيعي، ليتبين لنا أن العواطف الشيعية إنّما هي عواطف إسلامية صادقة، لا تسمح للشاعر أن يحيد عن مسيرة الرسالة ومحتواها العقائدي.
أبدأ بذكر نموذج من دعبل الخزاعي في تائيته المعروفة(51).
ألم تر للأيام ما جر جورها **** على الناس من نقص وطول شتات
ومن دول المستهترين، ومن غدا **** بهم طالباً للنور في الظلمات
فكيف ؟ ومن أنى يطالب زلفة **** إلى الله بعد الصوم والصلوات
سوى حب أبناء النبي ورهطه **** وبغض بني الزرقاء والعبلات
وهند، وما أدت سمية وأبنها **** أولو الكفر في الإسلام، والفجرات
هم نقضوا عهد الكتاب وفرضه **** ومحكمه بالزور والشبهات
لا حظ، أن الشاعر يؤلمه ما نزل بالناس من ظلم، ويؤلمه ما حل بالمجتمع الإسلامي من تمزق، ثم يهجو أولئك الّذين أنزلوا بالأمة هذه المصائب، فيقول: إنهم المستهترون الذي تحكموا في رقاب الأمة ومن لف لفهم.
"دول المستهترين" ما أجمله من تعبير، ينم عن فهم رائع لخصائص الحكم والحاكم في نظر هذا المسلم المتعلم في مدرسة أهل البيت.
ثم يشيد الشاعر بذكر أهل البيت، باعتبار أن حبهم فريضة إلهية بعد الصوم والصلاة، ويعلن كرهه لبني مروان وبني أمية (بني الزرقاء، والعبلات، وهند) لأنهم"أولو الكفر في الإسلام والفجرات"، ولانهم "نقضوا عهد الكتاب وفرضه".
ثم انظر في الأبيات التالية ـ معياره ـ في مدح أهل البيت:
فيا وارثي علم النبي، وآله **** عليكم سلام دائم النفحات
قفا نسأل الدار التي خف أهلها **** متى عهدها بالصوم والصلوات
وأين الأولى شطت بهم غربة النوى **** افانين في الآفاق مفترقات
هم أهل ميراث النبي إذ اعتزوا **** وهم خير سادات وخير حماة
مطاعيم في الإعسار في كلّ مشهد**** لقد شرفوا بالفضل والبركات
وانظر كيف يهجو أعداءهم:
وما الناس إلاّ حاسد ومكذب **** ومضطعن ذو إحنة وترات
إذا ذكروا قتلى ببدر وخيبر **** ويوم حنين أسبلوا العبرات
وكيف يحبون الني ورهطه؟ **** وهم تركوا أحشاءهم وغرات ؟
لقد لا ينوه في المقال وأضمروا **** قلوباً على الأحقاد منطويات
أعداء أهل البيت ـ إذن ـ هم أعداء النبي وأعداء الرسالة الإسلاميّة ، من الذين هزمهم الإسلام في بدر وخيبر وحنين، فاستسلموا يوم الفتح وقلوبهم تنطوي على الأحقاد.
هذا المنطق الإسلامي في المدح والهجاء نراه على طول تاريخ الشعر الشيعي.
ولنذكر نموذجاً آخر من فارس بني حمدان، أبي فراس الحمداني يقول في ميميته(52)
العظيمة يهجو بني العباس ويمدح آل البيت، ويقارن بين البيتين العباسي والعلوي، (انظر بدقة إلى معياره في المقارنة):
يا باعة الخمر كفوا عن مفاخركم **** عن فتية بيعهم يوم الهياج دم
خلوا الفخار لعلامين إنّ سئلوا **** يوم الفخار وعمالين إنّ علموا
لا يغضبون لغير الله إنّ غضبوا **** ولا يضيعون حكم الله إنّ حكموا
تنشى التلاوة في أبياتهم أبداً **** ومن بيوتكم الأوتار والنغم
منكم علية أم منهم؟ وكان لكم **** شيخ المغنين إبراهيم أم لهم؟(53).
أم من تشاد له الألحان سائرة **** عليهم ذو المعالي أم عليكم؟
إذا تلو سورة غني مغنيكم **** "قف بالديار التي لم يعفها القدم"(54).
ما في ديارهم للخمر معتصر **** ولا بيوتهم للسوء معتصم
ولا تبيت لهم أنثى تنادمهم **** ولا يرى لهم قرد له حشم
الحجر والبيت والأستار منزلهم **** وزمزم والصفا والركن والحرم.
لاحظ، كيف يمدح آل البيت: إنهم مضحون في سبيل الله علاّمون، عمّالون، لا يغضبون لغير الله، لا يضيعون حكم الله، ترتفع تلاوة القرآن في بيوتهم دائماً.. بيوتهم مطهرة من الخمر والسوء والمنكر، ومنزلهم مكان الذكر والعبادة: الحجر والبيت، وزمزم والصفا، والركن والحرم.
أما أعداؤهم فهم: باعة الخمر، ونساؤهم مغنيات، ورجالهم مغنون، وبيوتهم مكان اعتصار الخمر والسوء والفسق والفجور.
مما تقدم نفهم أن الشعر الشيعي رسالي، لا طائفي ولا حزبي ولا عشائري في ولائه وتبريه، وفي مواقفه الدفاعية، وصموده وأسلوبه.
وهكذا التشيع لم ينشأ مقابل "التسنن" كما يوحي بذلك الانقسام الموجود اليوم بين المسلمين إلى شيعة وسنة، بل نشأ باعتباره الأطروحة الملتزمة بالإسلام كما جاء به رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ، والمدافعة عن الرسالة أمام محاولات المحرفين وكيد الكائدين. وبهذا الفهم الموضوعي الواقعي للتشيع تزول الحساسيات النفسية القائمة اليوم بدرجة وأخرى بين أبناء السنة والشيعة.
___________________
1 ـ الطبري 5: 98.
2 ـ مثل ابن الأثير 3: 94.
3 ـ انظر آراء المستشرقين في ابن سبأ في كتاب نظرية الإمامة لأحمد محمود: 37، وانظر أيضاً: طه حسين الفتنة الكبرى، فصل ابن سبأ.
4 ـ أدب الشيعة إلى نهاية القرن الثاني الهجري؛ الدكتور عبد الحسيب طه حميدة: 122 ط 3، وانظر أيضاً: حزب الشيعة في العصر الأموي، الدكتورة ثريا عبد الفتاح.
5 ـ الأغاني 7: 11، 11: 120، الأمالي للمرتضى 1: 293، وديوان أبي الأسود الدولي: 119 ـ 121. و"هويا" فانه لغة هذيل يقولونها في كلّ مقصور (الأمالي 1: 293).
6 ـ البيان والتبيين 1: 134، 339.
7 ـ انظر: الطبري 4: 108، والعقد الفريد 5: 96، والكامل لابن الأثير 3: 386، الأغاني 11: 115.
8 ـ الطبقات الكبرى لابن سعد 7: 99.
9 ـ أسد الغابة 3: 70، ابن خلكان 2: 535.
10 ـ الأغاني 11: 107.
11 ـ الطبقات الكبرى لابن سعد7: 99.
12 ـ ديوان أبي الأسود: 78.
13 ـ كثير عزة، احمد الربيعي: 123.
14 ـ كثير عزة، أحمد الربيعي: 123.
15 ـ الشعر والشعراء لابن قتيبة 1: 413، الأغاني 8: 153.
16 ـ الأغاني 8: 34.
17 ـ المصدر السابق 8: 40.
18 ـ خزانة الأدب، للبغدادي 1: 144.
19 ـ الأغاني 15: 127، خزانة الأدب 1: 145.
20 ـ الأبيات من 31 ـ 36 من قصيد مطلعها:
إني ومن أين ابك الطرب *من حيث لا صبوة و لا ريب.
شرح هاشميّات الكميت، أبو رياس القيسي، تحقيق داود سلوم ونوري حمودي
القيسي: 110 ـ 111.
21 ـ البيان والتبيين 2: 172.
22 ـ الأمالي 3: 166.
23 ـ العقد الفريد 2: 157، ابن أبي الحديد 20: 489.
24 ـ أدب الشيعة، عبد الحسيب طه حميدة، ط 3: 222 ـ 223.
25 ـ الأغاني 15: 125، ومروج الذهب 2: 153، وأمالي الشريف المرتضى 1: 47.
26 ـ الأبيات 29 و 30 من هاشميته.
طربت وما شوقاً إلى البيض أطرب *ولا لعباً مني وذو الشيب يلعب؟
انظر شرح الهاشميات: 55 ـ 56.
27 ـ الأبيات 89 ـ 93 من هاشميته: من لقلب متيم مستهام *غير ما صبوة ولا أحلام. شرح الهاشميات 37 ـ 38.
28 ـ الغااني 15 ـ 123.
29 ـ المصدر السابق، ومروج الذهب 2: 154.
30 ـ الأغاني 7: 3.
31 ـ الأغاني 7: 237، ويرد على الرواية أن ابن سيرين توفي حين كان الكميت في الخامسة من عمره.
32 ـ طبقات فحول الشعراء، لابن سلام 1: 195.ومعجم الشعراء للمرزباني: 347.
33 ـ الأغاني 7: 266.
34 ـ من الغديريات التي ذكرها العلامة الأميني في كتاب الغدير 2: 215، وانظر الأغاني 7: 17 ـ 18، وحديث الغدير متواتر لدى أهل السنة والشيعة، لكن بعض الباحثين المحدثين قال: إنه من الأحاديث الخاصة بالشيعة.
35 ـ الأغاني 7:7، وأهل الكساء هم: محمّد، وعلي، وفاطمة، والحسن، والحسين. وحديث الكساء هو أيضاً من الأحاديث المتواترة لدى كلّ المسلمين لكن الظروف التاريخية حولته إلى حديث خاص بطائفة معينة.
36 ـ الأغاني 7: 16.
37 ـ انظر: شرح هاشميات الكميت: 146 ـ 187 وهي 111 بيتاً.
38 ـ يقول: أمور الناس مهملة مبعثرة لا مدبر لها. فأمورهم كالإبل المهملة التي لا قيم لها ولا راعي يحفظها.
39 ـ راعيا سوء: يعني هشاماً بن عبد الملك الخليفة، وخالد بن عبدالله القسري والي العراق. ويقصد بالذئب هشاماً، والقرفاء: الضبع، ويقصد به خالداً. وقله جيال: أي كبير.
40 ـ أي أتت الضبع غنما لا راعي لها، ولا مانع يمنعها فعاثت فيها والفرعل: ولد الضبع.
41 ـ السوام الموبل: ما رعي من المال. يقول: أتصلح الدنيا والدين، وأنتم تمارسون الجور والفساد، وتضيعون الثروات؟
42 ـ الكودني: البليد كأنه كودن، أي برذون. والمركل: الذي لا يتحرك إلاّ بالركل لشدة تثاقله بوطئه.
43 ـ ديوان الأمير أبي فراس الحمداني، تحقيق الدكتور محمّد التونجي: 258.
44 ـ الأعراف: 128:
45 ـ بلغ الأمر بالشاعر الشيعي أن يتمنى بقاء جور بني مروان، فهو أفضل مما
نزل بالعلويين من ظلم بني العباس
يا اليت جوربني مروان عادَلنا ياليت ظلم بني العباس في النار.
46 ـ الأبيات 75 ـ 77 من هاشميته التي مطلعها:
طربت وما شوقاً إلى البيض أطرب *ولا لعباً مني وذو الشيب يلعب؟
47 ـ اللهي بفتح اللام هي اللهاة في مؤخر الفم، واللهى: هي لقم الطعام.
48 ـ شرح هاشميات الكميت: 35 ـ 37.
49 ـ المصدر السابق: 52 ـ 53.
50 ـ الأغاني 18: 30 ـ 34.
51 ـ انظر القصيدة التائية الخالدة في ديوان دعبل الخزاعي، تحقيق عبد الصاحب الدجيلي: 124 ـ 151.
52 ـ ديوان الأمير أبي فراس الحمداني: 257 ـ 262.
53 ـ علية: بنت المهدي، اخت الخليفة العباسي هارون الرشيد، قال القيرواني
في زهر الآداب 1: 43: "كانت علية لطيفه المعنى، رقيقة الشعر، حسنة مجاري
الكلام، ولها ألحان حسان، وعلقت بغلام اسمه (رشا) وفيه تقول:
أضحى الفؤاد بزينبا صباً كثيباً متعب*
فجعلت زينب سترة وكتمت أمراً معجب
قولها بزينب تريد برشا فنمي الأمر إلى أخيها الرشيد، فأبعده، وقيل: قتله.
وعلقت بغلام اسمه (طل) فقال لها الرشيد: والله لئن ذكرته لاقتلنك. فدخل
عليها يوماً على حين غفلة وهي تقرأ: فإن لم يصبها وابل فما نهى عنه أمير
المؤمنين فضحك، وقال: ولا كلّ هذا...
أما إبراهيم، فهو ابن المهدي عم المأمون، مغن موسيقار، يعرف بابن شكله.
حينما بايع المأمون الإمام الرضا بولاية العهد، نقم عليه العباسيون،
فاستغلوا وجود المأمون في (مرو)، فبايعوا إبراهيم خليفة للمسلمين وفي مدة
تربعه على كرسي الخلافة أصيبت الخزينة بالعجز، فألح عليه الجند وغيرهم في
أعطياتهم، فخرج إليهم رسول يقول: إنّه لا مال عند الخليفة، فطلب المتجمهرون
بدلاً من المال أن يخرج الخليفة فيغني لأهل هذا الجانب ثلاث أصوات، ولأهل
ذاك الجانب ثلاث اصوات (وفيات الأعيان 1: 8.)
وفي ذلك يقول دعبل:
يا معشر الأجناد لا تقنطوا وارضوا بما كان ولا تسخطوا ***فسوف تعطون (حنينية) يلتذها الأمرد والأشمط
و(المعبديات) لقوادكم لاتدخل الكيس ولا تربط ***وهكذا يرزق أصحابه خليفة مصحفه (البربط)
الديوان: 219.
54 ـ صدر البيت من مطلع قصيدة جاهلية لزهير، وعجزه: بلى وغيرها الأرواح والديم ـ يقصد أنكم مقابل تلاوتهم السور، تتغنون بأشعار الجاهلية.
الرسالية في الشعر الشيعي
الدكتور محمّد علي آذر شب
يطلق اسم الشعر الشيعي على ذلك الشعر، الذي قيل في علي وآل بيت رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ مدحاً ودفاعاً ورثاءً. ومنذ القرن الإسلامي الأول برز شعراء كرسوا جل اهتمامهم في هذا المجال، فسموا شعراء الشيعة.
وفي هذا المقال أهدف إلى إلقاء الضوء على هذا اللون من الشعر في الأدب العربي، لأعرض بعض ما تبين لي من حقائق عند دراسة الشعر الشيعي وتدريسه، وأحسب أنها مفيدة في إبعاد الصفة "الطائفية" و"الحزبية" عن هذا الشعر، وفي استجلاء حقيقة "الرسالية" و"الروح الإسلاميّة" فيه.
في البداية لابد من القول: إنّ الكشف عن حقيقة الشعر الشيعي ورساليته، يخدم هدف "التقريب" بين الأمة المسلمة الواحدة، فسيتبين أنّه يتحدث بلغة إسلامية لا طائفية، ويدافع عن أهداف الإسلام، ويعبر عن آمال الأمة وآلامها، دون أن يتحدد بإطار مذهبي ضيق، ودون أن تكون له أهداف حزبية دنيوية دنيئة.
ومن نافلة القول: إنّ ما أحيط به الشعر الشيعي من أحكام بعيدة عن الصواب، إنّما
هو ناشئ من نظرة "أموية" سادت في كتب القدماء والمحدثين عن الشيعة ونشأتهم وعقائدهم فأسطورة ابن سبأ نقلها الطبري في تاريخه(1)، وتناقلها عنه المؤرخون القدامى (2).
ووجد المستشرقون في هذه الأسطورة ما ينسجم مع رغبتهم في تركيز الخلافات التاريخية بين المسلمين، وتسليط الأضواء على ما ورد بشأن تشرذمهم وتمزقهم، مثل: (فلها وزن) و(دوزى) و(فان فلوتن) ثم راح تلامذة المستشرقين في العالم الإسلامي يحوكون على نفس المنوال (3) مع الأسف، تاركين في الأمة حساسيات وحزازات تثقل كاهل كلّ العاملين في حقل توحيد صفوف المسلمين.
لا أريد هنا أن أتعرض لنشأة الشيعة والتشيع، إنّما أردت الإشارة فقط إلى خلفية النظرات السلبية التي أحيط بها الشعر الشيعي، والتي جعلته في نظر الباحثين المحدثين شعراً حزبياً، وجعلت فواعله في نظرهم نفس فواعل الشعر الأموي ومصادره: تراث جاهلي، وإلهام إلهي، وتأثير أجنبي، وعصبية قبلية، وأهواء سياسية(4).
ولدراسة طبيعة الشعر الشيعي لابد أن نلقي نظرة على موضوعاته، لنتبين من خلالها طبيعته الرسالية:
الحب الرسالي
الإيمان بالمبدأ يقترن دائماً بعواطف حب وبغض، وهذه العواطف توجهها العقيدة وتقوى بقوتها.
ومن العقيدة الإسلاميّة تنشأ عواطف حب الله ورسوله والمؤمنين، وبغض أعداء
الله وأعداء الرسالة الإسلاميّة.
وإذا ترسخت هذه العقيدة في النفوس، ترتفع على كلّ وليجة وآصرة من قرابة، أو قوم، أو جنس، فيضحي الإنسان من أجل هذا الحب الرسالي ويتفاني من أجله.
ونحن نرى هذا الحب الرسالي بوضوح في الشعر الشيعي. يقول أبو الأسود الدولي:
أحب محمداً حباً شديداً**** وعباسا وحمزة والوصي
وجعفر إنّ جعفر خير سبط**** شهيد في الجنان مهاجري
أحـبـهـم كـحـب الله حتـّى**** أجيء إذا بعثت على هويا (5)
هوى أعطيـته منـذ اسـتـدارت**** رحى الإسلام لم يعدل سوي
لاحظ: إنّ هذا الهوى ينطلق من الإسلام، فالشاعر ألهمه منذ استدارت رحى الإسلام، وهو حب شديد لله أوّلاً، ثم لرسوله، والرهط الكريم من آل بيته: العباس والحمزة والوصي وجعفر...
ولنقف برهة عند الشاعر، لنتبين شخصيته، ومدى صدقه في التعبير عن عواطفه.
هو: ظالم بن عمرو القرشي البصري من التابعين، والفقهاء، والشعراء، والمحدثين، والأشراف، والفرسان...
قال عنه الجاحظ: إنه "من المتقدمين في العلم" (6).
عرف بتشدده في الالتزام بأحكام الدين، حتّى اختلف مع عبدالله بن عباس، ومع زياد ابن أبيه حين اعتقد أنهما استغلا منصبهما لمصالحهما الشخصية (7).
كان "ثقة في حديثة"(8).
وشهد مع الإمام علي ـ عليه السلام ـ وقعتي: الجمل وصفين (9).
واستعمله عمر وعثمان على البصرة(10).
ثم أصبح قاضياً على البصرة في زمن الإمام علي ـ عليه السلام ـ ، بعد أن ولى الإمام علي عبدالله بن عباس البصرة سنة(40 هجرية).
ثم أصبح والياً على البصرة حتّى مقتل الإمام علي ـ عليه السلام ـ (11).
وحاول معاوية إرشاءه بالهدايا، لكنه أبي أن يأخذها رغم ما كان يعانيه من ضنك في العيش، بسبب قلة عطائه. وحين سألته ابنته عن تلك الهدايا قال: "بعث بها معاوية يخدعنا عن ديننا"فقالت ابنته التي تحمل نفس عواطف أبيها وإبائه:
أبـا لشهد المزعفـر يـا ابـن حـرب**** *نبيـع عـليك أحـسابــاً وديــنــا؟
معاذ الـلـه كــيــف يـكــون هـذا*****ومولانا أميـر المـؤمـنـيـنــا ؟(12)
هذا شاعر من النصف الأول من القرن الهجري الأول (ت 69 هـ).
ولنقف عند شاعر آخر من النصف الثاني لهذا القرن، وهو كثير بن عبد الرحمن الخزاعي المعروف بكثير عزة (ت 105 هـ)، حيث يقول:
إنّ أمرأ كانت مساوِؤه****حب النبي لغير ذي ذنب
وبني أبي حسن ووالدهم ****من طاب في الأرحام والصلب
أترون ذنباً أن نحبهم ؟**** بل حبهم كفارة الذنب (13)
واضح، أن الشاعر يشير في هذه الأبيات إلى ما كان يتحمله من ضغوط أموية بسبب رساليته، أو بسبب حبه الرسالي للنبي، وعلي وآل علي، فليس هذا بذنب كما يرى بنو أمية، بل هو كفارة الذنب، وطريق الهدى والنجاة، وكيف لا يتحمل هذه الضغوط وهو يعيش في عصر يسب فيه علي على المنابر؟.
ويعبر الشاعر في أبيات أخرى عن أساه وألمه لهذا السب، بلغة تنطلق من عاطفة إسلامية رسالية، هي لغة كلّ المسلمين في عصره، اللهم إلاّ الشرذمة الضالعة في ركاب الحكام الظالمين:
لعن الله من يسب عليا****وبنيه من سوقه وإمام
أيسب المطهرون جـدوداَ****والكرام الأخوال والأعمام؟
يأمن الطير والحمام ولا****يأمن آل الرسول عند المقام
طبت بيتا، وطاب أهلك أهلا****أهل بيت النبي والإسلام
رحمة الله والسلام عليهم****كلما قام قائم بسلام (14)
هذا الولاء الذي يحمله الشاعر لآل بيت رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ لم يكن يعبر عن نظرة فئوية حزبية، بل عن نظرة إسلامية شعبية عامة، اتسعت لتستوعب حتّى الخليفة المرواني ـ عمر بن عبد العزيز ـ الذي استنكر هذا السّب ومنعه في نفس زمن حياة الشاعر كثير عزة. فطار الشاعر فرحا، وانشد قصيدته يثني على الخليفة موقفه هذا، وعدله بين الرعية، ورفعه الظلم عن الناس:
وليت فلم تشتم عليا ولم تخف**** بريا ولم تقبل إشارة مجرم
وصدقت بالفعل المقال مع الذي****أتيت فأمسى راضياً كلّ مسلم
وأظهرت نور الحق فاشتد نوره****على كلّ لبس بارق الحق مظلم(15)
ويكفي لمعرفة صدق ولاء الشاعر لآل بيت رسول الله، أنّه قال ما قال في مدحهم في أقسى ظروف الضغط الأموي على آل البيت. وفي أخباره ما يدل على شدة ولائه لأهل بيت رسول الله بما في ذلك أبناؤهم وذريتهم فكان يأتي إلى أبناء الحسن بن الحسن فينظر إليهم بعاطفة شديدة، تذكره بجدهم رسول الله وبنسبهم الطاهر، فتفيض عيناه دمعاً، ويقول: "بأبي انتم، هؤلاء الأنبياء الصغار"، ويريد بذلك: طهرهم وسمو منزلتهم.
وكان يهب لهؤلاء الصغار عطاءه، فيقول له محمّد بن عبدالله بن عمرو بن عثمان،
وهو أخوهم لأمهم: "يا عم هب لي، فيقول كثير: لا، لست من الشجرة"(16).
وله أخبار مع سكينة بنت الحسين ـ عليه السلام ـ منها: أنّه كان خارجا في الحاج، وقد أراد أن يبيع جمله، فساومته سكينه وهو لم يعرفها، وإنّما عرفته سكينة، فلم يرض إلاّ مائتي درهم، وحين عرفها استحيا وانصرف مهرولاً تاركاً لها الجمل وهو يقول: "هو لكم، هو لكم "(17) خجلاً وإجلالاً.
وإذا وقفنا عند الكميت لاستجلاء هذا الحب الرسالي في شعره، فأننا سنجد العجب العجاب. هذا الشاعر الذي عاش النصف الثاني من القرن الأول، والعقود الثلاثة الأولى من القرن الثاني (60 ـ 126 هـ) كان "خطيب بني أسد، وفقيه الشيعة، وحافظ القرآن، وثبت الجنان"(18).
وسئل معاذ الهراء: "من أشعر الناس ؟ فقال: من الجاهليين: امرؤ القيس، وزهير، وعبيد بن الأبرص. ومن الإسلاميين: الفرزدق، وجرير، والأخطل. فقيل له: يا أبا محمّد، ما رأيناك ذكرت الكميت ! فقال: ذاك اشعر الأولين والآخرين"(19).
ومدحه للنبي ـ صلى الله عليه وآله ـ معروف، وقف عنده النقاد كثيراً، ويحسن أن نتعرض له ولو قليلاً لأنه يكشف عن جانب هام من ولائه الرسالي وظروف عصره.
يقول الكميت:
فاعتتب الشوق في فؤادي والشعر****إلى من إليه معتتب
إلى السراج المنير أحمد لا**** يعدلني رغبة ولا رهب
وقيل أفرطت، بل قصدت، ولو**** عنفني القائلون، أو ثلبو
إليك يا خير من تضمنت الأرض**** وإن عاب قولي العيب
لج بتفضيلك اللسان، ولو****أكثر فيك الضجاج واللجب(20)
والعجيب في هذه الأبيات أنّه يتحدث عمّن يؤنبه ويعنفه لمدحه النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ، ويصر على هذا المدح وإن عاب العائبون، وعنف وثلب القائلون.
الجاحظ يرى: أن قول الكميت هذا هو "من غرائب الحمق"، ويتساءل مستغرباً: "فمن رأى شاعراً مدح النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ، فاعترض عليه واحد من جميع أصناف الناس!، حتّى يزعم أنّ أناساً يعيبونه ويثلبونه ويعنفونه"؟(21).
والشريف المرتضى رحمه الله يرى أن الكميت لم يرد في مدحه النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ، وإنّما أراد عليا ـ عليه السلام ـ فورى عنه بذكر النبي خوفاً من بني أمية(22).
وأجمل ما رأيت من تحليل لمدح الكميت المذكور، ورأي النقاد فيه، ما كتبه الأستاذ الدكتور عبد الحسيب طه حميدة، أنقله بنصه لأهميته، إذ يقول:
(ونحن نرى: أن الكميت كان أعلم بأخلاق عصره من هؤلاء، وأمس بسياسته...، كان يشعر بأنه يحيا وسط دولة ترى: أن هذا اللون من مدح الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ تزكية للهاشميين، ولفت للذهن إلى حق هؤلاء في الخلافة.
وإذا كانت السياسة قد أباحت لابن الزبير ـ على مكانته الدينية وبيته من الإسلام ـ أن يسقط ذكر النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ من خطبه، حتّى إذا ليم على ذلك، قال: والله ما يمنعني من ذكره علانية أني لا أذكره سراً، وأصلي عليه، ولكني رأيت هذا الحي من بني هاشم إذا سمعوا ذكره، اشرأبت أعناقهم، وأبغض الأشياء إلي ما يسرهم. وفي رواية: أن له أهيل سوء(23).
نقول: إذا كانت السياسة قد أباحت لابن الزبير هذا، فما بالك ببني أمية في عصر الكميت وقد تغيرت الأخلاق، وفسد الناس؟.
فالكميت يحدثنا عن عصر يحيا فيه، ويصطلي بسياسته، ويحس أن مدحه للرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ يعرضه للعيب والثلب والعنف.
والجاحظ يحكم في الرجل نظرة دينية، ويتناسى أن السياسة قد بدأت في هذا العصر تستقل عن الدين، فبغضت هذا اللون من المديح، لا لأنه مدح للرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ بل لأنه ضرب من التمرد والشغب، والخروج على السلطان، به تشرئب أعناق الهاشميين، ويلفت الناس إليهم... هذا إلى أن الجاحظ عثماني، فلا غرو أن اهتم بنفي هذه التهمة عن بني أمية، واحتشد لذلك، فعد مذهب الكميت حمقاً، بل من غرائب الحمق) (24). ويظهر من الروايات: أن الكميت جند نفسه منذ بداية انبثاق الشعر على لسانه للدفاع عن أهل البيت، ورواية صاحب الأغاني عن الحوار بين الكميت والفرزدق، تبين أيضاً اهتمام الشاعر بأن تكون كلمته في المدح قوية مؤثرة، تملك المشاعر والنفوس، حتّى جعلت شاعراً كبيراً مثل الفرزدق، يحار ويدهش أمام هذا الشاعر الناشئ.
انظر إلى هذا الحوار:
الكميت: يا أبا فراس، إنك شيخ مضر وشاعرها، وأنا ابن أخيك الكميت بن زيد. الفرزدق: صدقت، أنت ابن أخي، فما حاجتك؟
الكميت: نفث على لساني، فقلت شعراً، فأحببت أن أعرضه عليك، فأن كان حسناً، أمرتني بإذاعته، وإن كان قبيحاً، أمرتني بستره، وكنت أول من ستره علي.
فقال الفرزدق: أما عقلك فحسن، وإني لأرجو أن يكون شعرك على قدر عقلك، فأنشدني، فأنشده:
طربتُ وما شوقاً إلى البيض أطْرَبُ
فقال الفرزدق: ففيم تطرب يا ابن أخي ؟ فقال:
ولا لَعِباً منّي وذو الشّيبِ يَلعبُ؟
فقال الفرزدق: بلى يا ابن أخي، فالعب فأنك في أوان اللعب فقال:
ولم يلهني دار ولا رسم منزل **** ولم يتطربني بنان مخضب
فقال: وما يطربك يا ابن أخي ؟ فقال:
ولا أنا ممن يزجر الطير همه****أصاح غراب أم تعرض ثعلب
ولا السانحات البارحات عشية****أمرّ سليم القرن، أم مرّ أعضب.
فقال: أجل، لا تتطير فقال:
ولكن إلى أهل الفضائل والتقى ****وخير بني حواء، والخير يطلب
فقال: ومن هؤلاء ويحك؟ فقال:
إلى النفر البيض الّذين بحبهم**** إلى الله فيما نالني أتقرب
فقال: أرحني ويحك، من هؤلاء؟ فقال
بني هاشم رهط النبي فأنني**** بهم، ولهم أرضى مراراً وأغضب
فقال الفرزدق: يا ابن أخي، أذع ثم أذع، فأنت ـ والله ـ أشعر من مضى وأشعر من بقي(25).
ونجد في شعر الكميت تركيزاً على الدافع الديني في ولائه لأهل البيت، فحبه ينطلق من تربية قرآنية وطدت جذور هذا الحب في نفسه.
وجدنا لكم في آل حاميم آيةً****تأولها منا تقي ومعرب
وفي غيرها آياً، وآياً تتابعت****لكم نصب فيها لذي الشك منصب(26)
ويؤكد: أن حبه لأهل البيت، هو استمرار لحب رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ وأنه بدافع طلب مرضاة الله سبحانه وتعالى:
إنّ أمت لا أمت ونفسي نفسان****من الشك في عمى أو تعامي
عادلاً غيرهم من الناس طراً****بهم، لا همام بي، لا همام
لم أبع ديني المساوم بالوكس****ولا مقلياً من السوام
أخلص الله لي هواي، فما أغرق****نزعاً، ولا تطيش سهامي
ولهت نفسي الطروب إليهم****ولهاً، حال دون طعم الطعام(27)
ويظهر من سيرة الكميت أنّه كان هائماً في حب أهل البيت إلى درجة صوفية غارقة. وكان أحب شيء إليه أن يسمع منهم دعاء له، وأن يسموه شاعر أهل البيت، فيطير فرحاً ويبكي وجداً.
يروي صاحب الأغاني عن صاعد ـ مولى الكميت ـ قال: دخلنا على فاطمة بنت الحسين، فقالت: هذا شاعرنا ـ أهل البيت ـ وجاءت بقدح فيه سويق، فحركته بيدها ودفعته إليه فشربه، ثم أمرت له بثلاثين دينار ومركب، فهملت عيناه ثم قال: لا والله لا أقبلها، إني لم أحبكم للدنيا(28).
وروي عن محمّد بن سهل ـ صاحب الكميت ـ قال: دخلت مع الكميت على أبي عبدالله جعفر بن محمّد (الصادق) ـ عليه السلام ـ ، أيام التشريق بمنى، فقال: جعلت فداك، ألا أنشدك ؟ فقال يا كميت إنها أيام عظام، فقال: إنها فيكم، فقال: هات، وبعث الإمام إلى بعض أهل بيته فاجتمعوا ـ فأنشد لا ميته:
ألا هل عم في رأيه متأمل **** وهل مدبر بعد الإساءة مقبل
فكثر البكاء حوله... حتّى إذا قال:
يصيب به الرامون عن قوس غيرهم **** فيا آخراً أسدى له الغي أول
رفع الإمام الصادق يديه وقال: اللهم اغفر للكميت، ماقدم وما أخر، وما أسر وما أعلن، وأعطه حتّى يرضى(29).
وكانت هذه الدعوات أثمن هدية يتلقاها هذا العاشق الوله من أحبابه.
ثم نقف عند شاعر آخر عاش النصف الأول من القرن الثاني وردحاً من نصفه الثاني وهو السيد الحميري (105 ـ 173 هـ): إنه أبو هاشم إسماعيل بن محمّد بن يزيد بن مفرغ الحميري، ويكفي في رساليته أنّه ولد من أبوين خارجيين، يسبان علياً، لكنه هام في علي وآل بيته، وحينما علم أبواه بمذهبه هما بقتله، ففر من بيتهما وبقي بعيداً عنهما حتّى ماتا.
وحين سئل عن سبب ولائه لعلي وآل بيت رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ مع أن أبويه خارجيان، يقول: "غاصت علي الرحمة غوصاً"(30).
وتذكر الرواية أن السيد انفجر على لسانه الشعر، بسبب رؤيا مباركة، رأى فيها النبي يطلب منه أن يقلع أشجار نخل طوالاً لأمرئ القيس، ويغرسها في مكان آخر، وحين ذكر الرؤيا لابن سيرين قال له: "أما إنك ستقول شعراً مثل شعر امرئ القيس، إلاّ أنك تقول في بررة أطهار"(31). وهذه الرواية تبين أيضاً المنطلق الرسالي لهذا الشاعر.
أجمع الرواة أن للسيد شعراً كثيراً، وهو من أكثر الناس شعراً في الجاهلية والإسلام (32)، ولكن شعره تحومي بسبب إفراطه في ذكر الخلفاء الثلاثة بسوء وهنا أود أن أشير فقط إلى أن سبب الصحابة بدأ منذ زمن معاوية، حين أمر بسب أول الصحابة إسلاماً وأشدهم إيماناً وهو علي بن أبي طالب.
ولم يكتف أعداء علي بهذا السب، بل تستروا بالخلفاء الثلاثة لكي يطعنوا بالخليفة الرابع، فجعلوا بذلك علياً مقابل الخلفاء الثلاثة، وجعلوا مدح الخلفاء الثلاثة نوعاً من الطعن بعلي بينما لا نرى بين هؤلاء الأربعة نزاعاً في حياتهم قط ـ (وإن كانت لهم وجهات نظر متباينة)ـ، وإنّما هي السياسية الأموية، وسياسة كلّ أعداء علي، التي أرادت أن تطعن بعلي متسترة بالولاء للخلفاء الثلاثة، ولا تزال هذه السياسة المفرقة الاستفزازية
موجودة بشكل وآخر في عالمنا الإسلامي مع شديد الأسف.
وكان للموالين لعلي مواقف مختلفة من هذه الخطة الأموية. منهم من انتهج طريق فضح هذه الخطة، وتوضيح خلفية هذا اللون من الدفاع عن الخلفاء الثلاثة، مؤكداً أن هؤلاء لا يمدحونهم حباً بهم، بل بغضاً لعلي، وبعضهم اندفع لبيان أفضلية علي بين صحابة رسول الله، وبعضهم بلغ به رد الفعل إلى درجة ثلب الخلفاء الثلاثة هذه مسألة هامة نحتاج إلى الوقوف عندها طويلاً، وإنّما أشرت إليها لأذكر أن "السيد" كان يستفز أحياناً بمدح الخلفاء فيفهم من خلال الظروف التي كان يعيشها، أن هذا المدح يستهدف طعناً بعلي فينبري للدفاع عن الإمام وأهل بيته.
من ذلك أن أحدهم استفزه ببيت يقول:
محمّد خير من يمشي على قدم****وصاحباه، وعثمان بن عفان
فانتفض غاضباً يقول:
سائل قريشاً إذا ما كنت ذاعمه****من كان أبثتها في الدين أوتادا
من كان أعلمها علماً، وأحلمها****حلماً، وأصدقها قولاً وميعاد
إنّ يصدقوك فلن يعدوا أبا حسن****إنّ أنت لم تلق للأبرار حسادا(33)
ويركز السيد الحميري على المنطلق الرسالي في ولائه لعلي وآل بيت النبي، فيذكر تارة أنّه ينطلق في هذا الولاء من حديث رسول الله في غدير خم:
إذا أنا لم أحفظ وصاة محمّد****ولا عهده يوم الغدير المؤكد
فأني كمن يشري الضلالة بالهدى****تنصر من بعد التقى، وتهود
ومالي وتيم، أو عدي، وإنّما****أولوا نعمتي في الله من آل أحمد
تتم صلاتي بالصلاة عليهم****وليست صلاتي بعد أن أتشهد
بكاملة إنّ لم أصل عليهم****وأدع لهم رباً كريماً ممجد (34)
وتارة يذكر أن ولاءه له منطلق قرآني، لما جاء في حق آل البيت من آية التطهير:
إنّ يوم التطهير يوم عظيم****خص بالفضل فيه أهل الكساء(35)
وولع السيد الحميري بتصوير ما جاء في السيرة، من ارتباط عاطفي بين الرسول وأهل بيته، مشيراً إلى أن ولاءه لأهل البيت يستمد قوامه من السيرة، من ذلك أن السيد سمع محدثا يحدث أن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ كان ساجداً، فركب الحسن والحسين على ظهره، فقال عمر: "نعم المطي مطيكما" فقال النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ: ((نعم الراكبان هما))، فانفجرت قريحة السيد بالقول:
أتى حسناً والحسين النبي****وقد جلسا حجره يلعبان
ففداهما، ثم حياهما****وكان لديه بذاك المكان
فراحا وتحتهما عاتقاه****فنعم المطية، والراكبان
وليدان أمهما برة****حصان مطهرة للحصان
وشيخهما ابن أبي طالب****فنعم الوليدان والوالدان(36)
لأن وقفنا طويلاً عند هذا الولاء الرسالي، فلأن الشعر الشيعي متهم بالولاء الحزبي والطائفي وما هو كذلك، كما يرى بوضوح في النماذج المذكورة وسنمر سريعاً في ذكر الخصائص الأخرى التي تطبع الشعر الشيعي بالطابع الرسالي.
الدفاع عن مصالح الأمة
شعراء أهل البيت تصدوا للدفاع عن مصالح الأمة، وللحديث عما يحط بالمسلمين من ظلم الحكام وطغيانهم، وحث الناس على اليقظة والانتباه إلى تصرفات الحكام. وهذا الاتجاه في الشعر الشيعي يعني أنّه ابتعد عن المصالح الفئوية والحزبية، وحمل هموم الأمة، وارتفع إلى مستوى أهداف الإسلام في ردع الظلم، وإحقاق الحق، وإقامة المجتمع العادل.
ولعل خير مثال على هذا الاتجاه في الشعر الشيعي ـ لامية الكميت (37) ـ التي يبدؤها بتوعية الأمة وإيقاظها فيقول:
ألا هل عم في رأيه متأمل****وهل مدبر بعد الإساءة مقبل
وهل أمة مستيقظون لرشدهم****فيكشف عنه النعسة المتزمل
فقد طال هذا النوم واستخرج الكرى****مساويهم لو أن ذا الميل يعدل
ثم يذكر الشاعر منطلقه في ثورته على واقعه الاجتماعي المنحرف، موضحاً أن سبب ما يعج به المجتمع الإسلامي في عصره، من ظلم وفساد، إنّما هو الانحراف عن الكتاب والسنة، وتعطيل أحكام الإسلام.
وعطلت الأحكام حتّى كأننا****على ملة غير التي نتخل
كلام النبيين الهداة كلامنا****وأفعال أهل الجاهلية نفعل
أنظر إلى الشاعر كيف يحدد منطلقه في الدفاع عن الأمة، إنه يدين العودة إلى مظاهر الجاهلية، باعتبارها سبب كلّ انحراف ثم يندفع الشاعر في حث الأمة على استعادة كرامتها، وعدم الالتصاق بالأرض، والمتاع الدنيوي الرخيص، والارتفاع إلى مستوى التضحية في سبيل المبدأ يقول:
رضينا بدنياً لا نريد فراقها****على أننا فيها نموت ونقتل
ونحن بها المستمسكون كأنها****لنا جنة مما نخاف ومعقل
أرانا على حب الحياة وطولها****يجد بنا في كلّ يوم ونهزل
ثم يرفع صوته بوجه الظالمين، مندداً بما ينزلونه من عذاب بالأمة ومن استهانة بكرامتها وتضييع لحقوقها:
فتلك أمور الناس أضحت كأنها****أمور مضيع آثر النوم بهل (38)
فياساسة هاتوا لنا من جوابكم****ففيكم لعمري ذو أفانين مقول
أهل كتاب نحن فيه وأنتم****على الحق نقضي بالكتاب ونعدل
فكيف، ومن أنى، وإذ نحن خلفه****فريقان شتى تسمنون ونهزل
لنا راعيا سوء مضيعان منهما****أبو جعدة العادي وعرفاء جيال (39)
أتت غنماً ضاعت وغاب رعاؤها****لها فرعل، فيها شريك وفرعل(40)
ويؤكد الشاعر ثانية على منطلقه الرسالي في الدفاع عن الأمة، حين يعود ثانية إلى القول بأن هذه الأمة لا تصلح أوضاعها، إلاّ بأصلاح دينها، والعودة إلى هدى كتاب ربها وسنة نبيها، يقول:
أتصلح دنيانا جميعاً وديننا **** على ما به ضاع السوام الموبل (41)
كان كتاب الله يعنى بأمره **** وبالنهي فيه الكودني المركل(42)
ألم يتدبر آية فتدله **** على ترك ما يأتي، أم القلب مقفل
وكيف يمكن العودة إلى إسلام رسول الله، وهؤلاء الولاة الظلمة يسومون الأمة سوء العذاب؟:
فتلك ولاة السوء قد طال ملكهم **** فحتام حتام العناء المطول
رضوا بفعال السوء في أهل دينهم **** فقد أيتموا طوراً عداء وأثكلوا..
لهم كلّ عام بدعة يحدثونها **** أزلوا بها أتباعهم ثم أوحلوا
تحل دماء المسلمين لديهم **** ويحرم طلع النخلة المتهدل
ما أروع هذا البيت الأخير، الذي يصور وضع طواغيت العالم الإسلامي في كلّ زمان ومكان يستهينون بدماء المسلمين، وليست لنفس المسلم عندهم أية كرامة، لكنهم يطالبونه بأداء ما فرضوا عليه من ضرائب وخراج، ولا يحق له أن يمشي بين نخله، ويمسه حتّى يؤدي خراجه، فأن هو مسه قبل ذلك قتل.
ومثل هذا الدفاع عن حقوق الأمة المضيعة نجده عند جميع شعراء الشيعة.. دفاعاً ينطلق من إيمان بما أراده الله للإنسان المسلم، من عزة وكرامة وحقوق فردية واجتماعية.
وهذا التصدي للدفاع عن الأمة، عرضناه في شعر الكميت وهو يقارع الأمويين، ونعرض بعض أبيات شاعر شيعي آخر، هو أبو فراس الحمداني، وهو يدافع عن حقوق الأمة أمام ظلم حكام زمانه من العباسيين يقول:
الدين مخترم والحق مهتضم **** وفيء آل رسول الله مقتسم
والناس عندك لاناس فيحفظهم **** سوء الرعاء، ولا شاء ولا نعم...
وما السعيد بها إلاّ الذي ظلموا **** ولا الغني بها إلا الذي حرمو
للمتقين من الدنيا عواقبها **** وإن تعجل فيها الظالم الأثم(43)
وفي البيت الأخير، حث لأهل الإيمان أن لا ييأسوا من مطالبة حقهم، ومن مقارعة الظالمين.
(إنّ الأرض لله يروثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين)(44).
الصمود على المبدأ
مر بنا أن شعراء الشيعة كانوا يعلنون رساليتهم، والتزامهم بإسلام رسول الله، من خلال إعلانهم الولاء لآل البيت، والدفاع عن كرامة الأمة المسلمة. وهذا الموقف كلف
هؤلاء الشعراء التأنيب والتقريع، والتشريد والتجويع، وعانوا من ألوان الظلم والاضطهاد والعذاب، صابرين صامدين، مؤكدين على تعاليهم عما يتهافت عليه الناس، من مال ومتاع، وعلى تفانيهم في سبيل مبدا آمنوا به إيماناً جعلهم يستحلون كلّ تعذيب، طلباً لأجر الآخرة.
ولا يمكن أن نعرف مدى استقامة هؤلاء الشعراء وصمودهم، إلاّ إذا عرفنا جو الإرهاب الذي عاشوا فيه ن والبطش الذي مارسه الحكام بحق الصامدين على المبدأ ويكفي أن نلقي نظرة على كتب التاريخ، لنعرف أن الأمويين والعباسيين مارسوا أفظع ألوان التقتيل والتنكيل، بحق كلّ من كانوا يشكون.. يشكون فقط.. في ولائه لآل بيت رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ (45).
يقول الكميت:
ألم تر ني من حب آل محمّد **** أروح وأغدو خائفاً أترقب
كأني جان محدث وكأنما **** بهم يتقى من خشية العر أجرب
على أي جرم أم بأية سيرة **** أعنف في تقريظهم وأؤنب(46)
هكذا كان شاعر أهل البيت..، فهو خائف مترقب، معنف مؤنب، لا لذنب اقترفة سوى حبه لآل البيت وهذا الصمود أمام ألوان التحديات، يؤكد رسالية المسلك الذي إلى الشاعر على نفسه أن يسلكه.
وواضح أن هذا الأدب يختلف تماماً عن أدب اللهى التي تنفتح باللهى (47)، وعن ذلك الأدب الذي يصدر عن عصبية حزبية أو عشائرية لا يقوى صاحبها على مواجهة أي تهديد.
إنّ المعيار الذي اتخذه الشاعر الشيعي في حياته، يسمو على كلّ ارتباط قبلي أو عشائري، فهو معيار رسالي نابع من التزامه بالإسلام وبسنة رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ، لا يبالي بسخط الساخطين أو لوم اللائمين يقول:
فيهم صرت للبعيد ابن عم **** واتهمت القريب أي اتهام
وتناولت من تناول بالغبة **** أعراضهم وقل اكتتامي
ورأيت الشريف في أعين الناس **** وضيعاً وقل فيه احتشامي
معلناً للمعلنين، مسراً **** للمسرين، غير دحض المقام
مبدياً صفحتي على المرقب المعلم **** بالله عزتي واعتصامي
ما أبالي إذا حفظت أبا القاسم **** فيهم ملامة اللوام
ما أبالي، ولن أبالي فيهم **** أبداً رغم ساخطين رغام
فهم شيعتي وقسمي من الأمة، **** حسبي من سائر الأقسام(48)
الخوارج كفروا الشاعر، والأمويون اعتبروه مسيئا مذنباً، ولم يسؤه ذلك، ولم يتراجع عن موقفه قط:
يشيرون بالأيدي إلي، وقولهم **** إلاّ خاب هذا والمشيرون أخيب
فطائفة قد كفرتني بحبكم **** وطائفة قالوا: مسيء ومذنب
فما ساءني تكفير هاتيك منهم **** ولا عيب هاتيك التي هي أعيب
يعيبونني من خبهم وضلالهم **** على حبكم، بل يسخرون وأعجب(49)
ولم يتعرض الشاعر الشيعي للسخط في عصر الأمويين فحسب، بل في عصر العباسيين أيضاً، لأن هذا الشعر قد أتجه إلى مقارعة الطواغيت، سواء كانوا من بني أمية، أم من بني هاشم من العباسيين، ولذلك كان الشاعر الشيعي دعبل في العصر العباسي
مطارداً، مهدداً بالقتل، ويعبر عن استعداده لهذه التضحية فيقول: "أنا أحمل خشبتي على كتفي منذ خمسين سنة، لست أجد أحداً يصلبني عليها" (50).
المنطق الإسلامي في المدح والهجاء
منطق المدح والهجاء في الشعر العربي جاهلياً كان أم بعد الإسلام ينحو منحى معيناً، فهو في المدح يتناول الكرم والشجاعة والقوة.. وأمثالها من الخصال الحميدة، وفي الهجاء يركز على البخل والجبن والضعف، قد يتناول الأعراض والمثالب التاريخية...، لكننا نجد في الشعر الشيعي منطلقا خاصاً في المدح والهجاء، يستمد محتواه من مضامين القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، ومن غيرة على الإسلام والأمة الإسلاميّة.
مرت بنا رسالية الشاعر الشيعي والتزامه الإسلامي في إبراز ولائه لآل البيت ونذكر هنا بعض نماذج المدح والهجاء في الشعر الشيعي، ليتبين لنا أن العواطف الشيعية إنّما هي عواطف إسلامية صادقة، لا تسمح للشاعر أن يحيد عن مسيرة الرسالة ومحتواها العقائدي.
أبدأ بذكر نموذج من دعبل الخزاعي في تائيته المعروفة(51).
ألم تر للأيام ما جر جورها **** على الناس من نقص وطول شتات
ومن دول المستهترين، ومن غدا **** بهم طالباً للنور في الظلمات
فكيف ؟ ومن أنى يطالب زلفة **** إلى الله بعد الصوم والصلوات
سوى حب أبناء النبي ورهطه **** وبغض بني الزرقاء والعبلات
وهند، وما أدت سمية وأبنها **** أولو الكفر في الإسلام، والفجرات
هم نقضوا عهد الكتاب وفرضه **** ومحكمه بالزور والشبهات
لا حظ، أن الشاعر يؤلمه ما نزل بالناس من ظلم، ويؤلمه ما حل بالمجتمع الإسلامي من تمزق، ثم يهجو أولئك الّذين أنزلوا بالأمة هذه المصائب، فيقول: إنهم المستهترون الذي تحكموا في رقاب الأمة ومن لف لفهم.
"دول المستهترين" ما أجمله من تعبير، ينم عن فهم رائع لخصائص الحكم والحاكم في نظر هذا المسلم المتعلم في مدرسة أهل البيت.
ثم يشيد الشاعر بذكر أهل البيت، باعتبار أن حبهم فريضة إلهية بعد الصوم والصلاة، ويعلن كرهه لبني مروان وبني أمية (بني الزرقاء، والعبلات، وهند) لأنهم"أولو الكفر في الإسلام والفجرات"، ولانهم "نقضوا عهد الكتاب وفرضه".
ثم انظر في الأبيات التالية ـ معياره ـ في مدح أهل البيت:
فيا وارثي علم النبي، وآله **** عليكم سلام دائم النفحات
قفا نسأل الدار التي خف أهلها **** متى عهدها بالصوم والصلوات
وأين الأولى شطت بهم غربة النوى **** افانين في الآفاق مفترقات
هم أهل ميراث النبي إذ اعتزوا **** وهم خير سادات وخير حماة
مطاعيم في الإعسار في كلّ مشهد**** لقد شرفوا بالفضل والبركات
وانظر كيف يهجو أعداءهم:
وما الناس إلاّ حاسد ومكذب **** ومضطعن ذو إحنة وترات
إذا ذكروا قتلى ببدر وخيبر **** ويوم حنين أسبلوا العبرات
وكيف يحبون الني ورهطه؟ **** وهم تركوا أحشاءهم وغرات ؟
لقد لا ينوه في المقال وأضمروا **** قلوباً على الأحقاد منطويات
أعداء أهل البيت ـ إذن ـ هم أعداء النبي وأعداء الرسالة الإسلاميّة ، من الذين هزمهم الإسلام في بدر وخيبر وحنين، فاستسلموا يوم الفتح وقلوبهم تنطوي على الأحقاد.
هذا المنطق الإسلامي في المدح والهجاء نراه على طول تاريخ الشعر الشيعي.
ولنذكر نموذجاً آخر من فارس بني حمدان، أبي فراس الحمداني يقول في ميميته(52)
العظيمة يهجو بني العباس ويمدح آل البيت، ويقارن بين البيتين العباسي والعلوي، (انظر بدقة إلى معياره في المقارنة):
يا باعة الخمر كفوا عن مفاخركم **** عن فتية بيعهم يوم الهياج دم
خلوا الفخار لعلامين إنّ سئلوا **** يوم الفخار وعمالين إنّ علموا
لا يغضبون لغير الله إنّ غضبوا **** ولا يضيعون حكم الله إنّ حكموا
تنشى التلاوة في أبياتهم أبداً **** ومن بيوتكم الأوتار والنغم
منكم علية أم منهم؟ وكان لكم **** شيخ المغنين إبراهيم أم لهم؟(53).
أم من تشاد له الألحان سائرة **** عليهم ذو المعالي أم عليكم؟
إذا تلو سورة غني مغنيكم **** "قف بالديار التي لم يعفها القدم"(54).
ما في ديارهم للخمر معتصر **** ولا بيوتهم للسوء معتصم
ولا تبيت لهم أنثى تنادمهم **** ولا يرى لهم قرد له حشم
الحجر والبيت والأستار منزلهم **** وزمزم والصفا والركن والحرم.
لاحظ، كيف يمدح آل البيت: إنهم مضحون في سبيل الله علاّمون، عمّالون، لا يغضبون لغير الله، لا يضيعون حكم الله، ترتفع تلاوة القرآن في بيوتهم دائماً.. بيوتهم مطهرة من الخمر والسوء والمنكر، ومنزلهم مكان الذكر والعبادة: الحجر والبيت، وزمزم والصفا، والركن والحرم.
أما أعداؤهم فهم: باعة الخمر، ونساؤهم مغنيات، ورجالهم مغنون، وبيوتهم مكان اعتصار الخمر والسوء والفسق والفجور.
مما تقدم نفهم أن الشعر الشيعي رسالي، لا طائفي ولا حزبي ولا عشائري في ولائه وتبريه، وفي مواقفه الدفاعية، وصموده وأسلوبه.
وهكذا التشيع لم ينشأ مقابل "التسنن" كما يوحي بذلك الانقسام الموجود اليوم بين المسلمين إلى شيعة وسنة، بل نشأ باعتباره الأطروحة الملتزمة بالإسلام كما جاء به رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ، والمدافعة عن الرسالة أمام محاولات المحرفين وكيد الكائدين. وبهذا الفهم الموضوعي الواقعي للتشيع تزول الحساسيات النفسية القائمة اليوم بدرجة وأخرى بين أبناء السنة والشيعة.
___________________
1 ـ الطبري 5: 98.
2 ـ مثل ابن الأثير 3: 94.
3 ـ انظر آراء المستشرقين في ابن سبأ في كتاب نظرية الإمامة لأحمد محمود: 37، وانظر أيضاً: طه حسين الفتنة الكبرى، فصل ابن سبأ.
4 ـ أدب الشيعة إلى نهاية القرن الثاني الهجري؛ الدكتور عبد الحسيب طه حميدة: 122 ط 3، وانظر أيضاً: حزب الشيعة في العصر الأموي، الدكتورة ثريا عبد الفتاح.
5 ـ الأغاني 7: 11، 11: 120، الأمالي للمرتضى 1: 293، وديوان أبي الأسود الدولي: 119 ـ 121. و"هويا" فانه لغة هذيل يقولونها في كلّ مقصور (الأمالي 1: 293).
6 ـ البيان والتبيين 1: 134، 339.
7 ـ انظر: الطبري 4: 108، والعقد الفريد 5: 96، والكامل لابن الأثير 3: 386، الأغاني 11: 115.
8 ـ الطبقات الكبرى لابن سعد 7: 99.
9 ـ أسد الغابة 3: 70، ابن خلكان 2: 535.
10 ـ الأغاني 11: 107.
11 ـ الطبقات الكبرى لابن سعد7: 99.
12 ـ ديوان أبي الأسود: 78.
13 ـ كثير عزة، احمد الربيعي: 123.
14 ـ كثير عزة، أحمد الربيعي: 123.
15 ـ الشعر والشعراء لابن قتيبة 1: 413، الأغاني 8: 153.
16 ـ الأغاني 8: 34.
17 ـ المصدر السابق 8: 40.
18 ـ خزانة الأدب، للبغدادي 1: 144.
19 ـ الأغاني 15: 127، خزانة الأدب 1: 145.
20 ـ الأبيات من 31 ـ 36 من قصيد مطلعها:
إني ومن أين ابك الطرب *من حيث لا صبوة و لا ريب.
شرح هاشميّات الكميت، أبو رياس القيسي، تحقيق داود سلوم ونوري حمودي
القيسي: 110 ـ 111.
21 ـ البيان والتبيين 2: 172.
22 ـ الأمالي 3: 166.
23 ـ العقد الفريد 2: 157، ابن أبي الحديد 20: 489.
24 ـ أدب الشيعة، عبد الحسيب طه حميدة، ط 3: 222 ـ 223.
25 ـ الأغاني 15: 125، ومروج الذهب 2: 153، وأمالي الشريف المرتضى 1: 47.
26 ـ الأبيات 29 و 30 من هاشميته.
طربت وما شوقاً إلى البيض أطرب *ولا لعباً مني وذو الشيب يلعب؟
انظر شرح الهاشميات: 55 ـ 56.
27 ـ الأبيات 89 ـ 93 من هاشميته: من لقلب متيم مستهام *غير ما صبوة ولا أحلام. شرح الهاشميات 37 ـ 38.
28 ـ الغااني 15 ـ 123.
29 ـ المصدر السابق، ومروج الذهب 2: 154.
30 ـ الأغاني 7: 3.
31 ـ الأغاني 7: 237، ويرد على الرواية أن ابن سيرين توفي حين كان الكميت في الخامسة من عمره.
32 ـ طبقات فحول الشعراء، لابن سلام 1: 195.ومعجم الشعراء للمرزباني: 347.
33 ـ الأغاني 7: 266.
34 ـ من الغديريات التي ذكرها العلامة الأميني في كتاب الغدير 2: 215، وانظر الأغاني 7: 17 ـ 18، وحديث الغدير متواتر لدى أهل السنة والشيعة، لكن بعض الباحثين المحدثين قال: إنه من الأحاديث الخاصة بالشيعة.
35 ـ الأغاني 7:7، وأهل الكساء هم: محمّد، وعلي، وفاطمة، والحسن، والحسين. وحديث الكساء هو أيضاً من الأحاديث المتواترة لدى كلّ المسلمين لكن الظروف التاريخية حولته إلى حديث خاص بطائفة معينة.
36 ـ الأغاني 7: 16.
37 ـ انظر: شرح هاشميات الكميت: 146 ـ 187 وهي 111 بيتاً.
38 ـ يقول: أمور الناس مهملة مبعثرة لا مدبر لها. فأمورهم كالإبل المهملة التي لا قيم لها ولا راعي يحفظها.
39 ـ راعيا سوء: يعني هشاماً بن عبد الملك الخليفة، وخالد بن عبدالله القسري والي العراق. ويقصد بالذئب هشاماً، والقرفاء: الضبع، ويقصد به خالداً. وقله جيال: أي كبير.
40 ـ أي أتت الضبع غنما لا راعي لها، ولا مانع يمنعها فعاثت فيها والفرعل: ولد الضبع.
41 ـ السوام الموبل: ما رعي من المال. يقول: أتصلح الدنيا والدين، وأنتم تمارسون الجور والفساد، وتضيعون الثروات؟
42 ـ الكودني: البليد كأنه كودن، أي برذون. والمركل: الذي لا يتحرك إلاّ بالركل لشدة تثاقله بوطئه.
43 ـ ديوان الأمير أبي فراس الحمداني، تحقيق الدكتور محمّد التونجي: 258.
44 ـ الأعراف: 128:
45 ـ بلغ الأمر بالشاعر الشيعي أن يتمنى بقاء جور بني مروان، فهو أفضل مما
نزل بالعلويين من ظلم بني العباس
يا اليت جوربني مروان عادَلنا ياليت ظلم بني العباس في النار.
46 ـ الأبيات 75 ـ 77 من هاشميته التي مطلعها:
طربت وما شوقاً إلى البيض أطرب *ولا لعباً مني وذو الشيب يلعب؟
47 ـ اللهي بفتح اللام هي اللهاة في مؤخر الفم، واللهى: هي لقم الطعام.
48 ـ شرح هاشميات الكميت: 35 ـ 37.
49 ـ المصدر السابق: 52 ـ 53.
50 ـ الأغاني 18: 30 ـ 34.
51 ـ انظر القصيدة التائية الخالدة في ديوان دعبل الخزاعي، تحقيق عبد الصاحب الدجيلي: 124 ـ 151.
52 ـ ديوان الأمير أبي فراس الحمداني: 257 ـ 262.
53 ـ علية: بنت المهدي، اخت الخليفة العباسي هارون الرشيد، قال القيرواني
في زهر الآداب 1: 43: "كانت علية لطيفه المعنى، رقيقة الشعر، حسنة مجاري
الكلام، ولها ألحان حسان، وعلقت بغلام اسمه (رشا) وفيه تقول:
أضحى الفؤاد بزينبا صباً كثيباً متعب*
فجعلت زينب سترة وكتمت أمراً معجب
قولها بزينب تريد برشا فنمي الأمر إلى أخيها الرشيد، فأبعده، وقيل: قتله.
وعلقت بغلام اسمه (طل) فقال لها الرشيد: والله لئن ذكرته لاقتلنك. فدخل
عليها يوماً على حين غفلة وهي تقرأ: فإن لم يصبها وابل فما نهى عنه أمير
المؤمنين فضحك، وقال: ولا كلّ هذا...
أما إبراهيم، فهو ابن المهدي عم المأمون، مغن موسيقار، يعرف بابن شكله.
حينما بايع المأمون الإمام الرضا بولاية العهد، نقم عليه العباسيون،
فاستغلوا وجود المأمون في (مرو)، فبايعوا إبراهيم خليفة للمسلمين وفي مدة
تربعه على كرسي الخلافة أصيبت الخزينة بالعجز، فألح عليه الجند وغيرهم في
أعطياتهم، فخرج إليهم رسول يقول: إنّه لا مال عند الخليفة، فطلب المتجمهرون
بدلاً من المال أن يخرج الخليفة فيغني لأهل هذا الجانب ثلاث أصوات، ولأهل
ذاك الجانب ثلاث اصوات (وفيات الأعيان 1: 8.)
وفي ذلك يقول دعبل:
يا معشر الأجناد لا تقنطوا وارضوا بما كان ولا تسخطوا ***فسوف تعطون (حنينية) يلتذها الأمرد والأشمط
و(المعبديات) لقوادكم لاتدخل الكيس ولا تربط ***وهكذا يرزق أصحابه خليفة مصحفه (البربط)
الديوان: 219.
54 ـ صدر البيت من مطلع قصيدة جاهلية لزهير، وعجزه: بلى وغيرها الأرواح والديم ـ يقصد أنكم مقابل تلاوتهم السور، تتغنون بأشعار الجاهلية.
الرسالية في الشعر الشيعي
الدكتور محمّد علي آذر شب
يطلق اسم الشعر الشيعي على ذلك الشعر، الذي قيل في علي وآل بيت رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ مدحاً ودفاعاً ورثاءً. ومنذ القرن الإسلامي الأول برز شعراء كرسوا جل اهتمامهم في هذا المجال، فسموا شعراء الشيعة.
وفي هذا المقال أهدف إلى إلقاء الضوء على هذا اللون من الشعر في الأدب العربي، لأعرض بعض ما تبين لي من حقائق عند دراسة الشعر الشيعي وتدريسه، وأحسب أنها مفيدة في إبعاد الصفة "الطائفية" و"الحزبية" عن هذا الشعر، وفي استجلاء حقيقة "الرسالية" و"الروح الإسلاميّة" فيه.
في البداية لابد من القول: إنّ الكشف عن حقيقة الشعر الشيعي ورساليته، يخدم هدف "التقريب" بين الأمة المسلمة الواحدة، فسيتبين أنّه يتحدث بلغة إسلامية لا طائفية، ويدافع عن أهداف الإسلام، ويعبر عن آمال الأمة وآلامها، دون أن يتحدد بإطار مذهبي ضيق، ودون أن تكون له أهداف حزبية دنيوية دنيئة.
ومن نافلة القول: إنّ ما أحيط به الشعر الشيعي من أحكام بعيدة عن الصواب، إنّما
هو ناشئ من نظرة "أموية" سادت في كتب القدماء والمحدثين عن الشيعة ونشأتهم وعقائدهم فأسطورة ابن سبأ نقلها الطبري في تاريخه(1)، وتناقلها عنه المؤرخون القدامى (2).
ووجد المستشرقون في هذه الأسطورة ما ينسجم مع رغبتهم في تركيز الخلافات التاريخية بين المسلمين، وتسليط الأضواء على ما ورد بشأن تشرذمهم وتمزقهم، مثل: (فلها وزن) و(دوزى) و(فان فلوتن) ثم راح تلامذة المستشرقين في العالم الإسلامي يحوكون على نفس المنوال (3) مع الأسف، تاركين في الأمة حساسيات وحزازات تثقل كاهل كلّ العاملين في حقل توحيد صفوف المسلمين.
لا أريد هنا أن أتعرض لنشأة الشيعة والتشيع، إنّما أردت الإشارة فقط إلى خلفية النظرات السلبية التي أحيط بها الشعر الشيعي، والتي جعلته في نظر الباحثين المحدثين شعراً حزبياً، وجعلت فواعله في نظرهم نفس فواعل الشعر الأموي ومصادره: تراث جاهلي، وإلهام إلهي، وتأثير أجنبي، وعصبية قبلية، وأهواء سياسية(4).
ولدراسة طبيعة الشعر الشيعي لابد أن نلقي نظرة على موضوعاته، لنتبين من خلالها طبيعته الرسالية:
الحب الرسالي
الإيمان بالمبدأ يقترن دائماً بعواطف حب وبغض، وهذه العواطف توجهها العقيدة وتقوى بقوتها.
ومن العقيدة الإسلاميّة تنشأ عواطف حب الله ورسوله والمؤمنين، وبغض أعداء
الله وأعداء الرسالة الإسلاميّة.
وإذا ترسخت هذه العقيدة في النفوس، ترتفع على كلّ وليجة وآصرة من قرابة، أو قوم، أو جنس، فيضحي الإنسان من أجل هذا الحب الرسالي ويتفاني من أجله.
ونحن نرى هذا الحب الرسالي بوضوح في الشعر الشيعي. يقول أبو الأسود الدولي:
أحب محمداً حباً شديداً**** وعباسا وحمزة والوصي
وجعفر إنّ جعفر خير سبط**** شهيد في الجنان مهاجري
أحـبـهـم كـحـب الله حتـّى**** أجيء إذا بعثت على هويا (5)
هوى أعطيـته منـذ اسـتـدارت**** رحى الإسلام لم يعدل سوي
لاحظ: إنّ هذا الهوى ينطلق من الإسلام، فالشاعر ألهمه منذ استدارت رحى الإسلام، وهو حب شديد لله أوّلاً، ثم لرسوله، والرهط الكريم من آل بيته: العباس والحمزة والوصي وجعفر...
ولنقف برهة عند الشاعر، لنتبين شخصيته، ومدى صدقه في التعبير عن عواطفه.
هو: ظالم بن عمرو القرشي البصري من التابعين، والفقهاء، والشعراء، والمحدثين، والأشراف، والفرسان...
قال عنه الجاحظ: إنه "من المتقدمين في العلم" (6).
عرف بتشدده في الالتزام بأحكام الدين، حتّى اختلف مع عبدالله بن عباس، ومع زياد ابن أبيه حين اعتقد أنهما استغلا منصبهما لمصالحهما الشخصية (7).
كان "ثقة في حديثة"(8).
وشهد مع الإمام علي ـ عليه السلام ـ وقعتي: الجمل وصفين (9).
واستعمله عمر وعثمان على البصرة(10).
ثم أصبح قاضياً على البصرة في زمن الإمام علي ـ عليه السلام ـ ، بعد أن ولى الإمام علي عبدالله بن عباس البصرة سنة(40 هجرية).
ثم أصبح والياً على البصرة حتّى مقتل الإمام علي ـ عليه السلام ـ (11).
وحاول معاوية إرشاءه بالهدايا، لكنه أبي أن يأخذها رغم ما كان يعانيه من ضنك في العيش، بسبب قلة عطائه. وحين سألته ابنته عن تلك الهدايا قال: "بعث بها معاوية يخدعنا عن ديننا"فقالت ابنته التي تحمل نفس عواطف أبيها وإبائه:
أبـا لشهد المزعفـر يـا ابـن حـرب**** *نبيـع عـليك أحـسابــاً وديــنــا؟
معاذ الـلـه كــيــف يـكــون هـذا*****ومولانا أميـر المـؤمـنـيـنــا ؟(12)
هذا شاعر من النصف الأول من القرن الهجري الأول (ت 69 هـ).
ولنقف عند شاعر آخر من النصف الثاني لهذا القرن، وهو كثير بن عبد الرحمن الخزاعي المعروف بكثير عزة (ت 105 هـ)، حيث يقول:
إنّ أمرأ كانت مساوِؤه****حب النبي لغير ذي ذنب
وبني أبي حسن ووالدهم ****من طاب في الأرحام والصلب
أترون ذنباً أن نحبهم ؟**** بل حبهم كفارة الذنب (13)
واضح، أن الشاعر يشير في هذه الأبيات إلى ما كان يتحمله من ضغوط أموية بسبب رساليته، أو بسبب حبه الرسالي للنبي، وعلي وآل علي، فليس هذا بذنب كما يرى بنو أمية، بل هو كفارة الذنب، وطريق الهدى والنجاة، وكيف لا يتحمل هذه الضغوط وهو يعيش في عصر يسب فيه علي على المنابر؟.
ويعبر الشاعر في أبيات أخرى عن أساه وألمه لهذا السب، بلغة تنطلق من عاطفة إسلامية رسالية، هي لغة كلّ المسلمين في عصره، اللهم إلاّ الشرذمة الضالعة في ركاب الحكام الظالمين:
لعن الله من يسب عليا****وبنيه من سوقه وإمام
أيسب المطهرون جـدوداَ****والكرام الأخوال والأعمام؟
يأمن الطير والحمام ولا****يأمن آل الرسول عند المقام
طبت بيتا، وطاب أهلك أهلا****أهل بيت النبي والإسلام
رحمة الله والسلام عليهم****كلما قام قائم بسلام (14)
هذا الولاء الذي يحمله الشاعر لآل بيت رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ لم يكن يعبر عن نظرة فئوية حزبية، بل عن نظرة إسلامية شعبية عامة، اتسعت لتستوعب حتّى الخليفة المرواني ـ عمر بن عبد العزيز ـ الذي استنكر هذا السّب ومنعه في نفس زمن حياة الشاعر كثير عزة. فطار الشاعر فرحا، وانشد قصيدته يثني على الخليفة موقفه هذا، وعدله بين الرعية، ورفعه الظلم عن الناس:
وليت فلم تشتم عليا ولم تخف**** بريا ولم تقبل إشارة مجرم
وصدقت بالفعل المقال مع الذي****أتيت فأمسى راضياً كلّ مسلم
وأظهرت نور الحق فاشتد نوره****على كلّ لبس بارق الحق مظلم(15)
ويكفي لمعرفة صدق ولاء الشاعر لآل بيت رسول الله، أنّه قال ما قال في مدحهم في أقسى ظروف الضغط الأموي على آل البيت. وفي أخباره ما يدل على شدة ولائه لأهل بيت رسول الله بما في ذلك أبناؤهم وذريتهم فكان يأتي إلى أبناء الحسن بن الحسن فينظر إليهم بعاطفة شديدة، تذكره بجدهم رسول الله وبنسبهم الطاهر، فتفيض عيناه دمعاً، ويقول: "بأبي انتم، هؤلاء الأنبياء الصغار"، ويريد بذلك: طهرهم وسمو منزلتهم.
وكان يهب لهؤلاء الصغار عطاءه، فيقول له محمّد بن عبدالله بن عمرو بن عثمان،
وهو أخوهم لأمهم: "يا عم هب لي، فيقول كثير: لا، لست من الشجرة"(16).
وله أخبار مع سكينة بنت الحسين ـ عليه السلام ـ منها: أنّه كان خارجا في الحاج، وقد أراد أن يبيع جمله، فساومته سكينه وهو لم يعرفها، وإنّما عرفته سكينة، فلم يرض إلاّ مائتي درهم، وحين عرفها استحيا وانصرف مهرولاً تاركاً لها الجمل وهو يقول: "هو لكم، هو لكم "(17) خجلاً وإجلالاً.
وإذا وقفنا عند الكميت لاستجلاء هذا الحب الرسالي في شعره، فأننا سنجد العجب العجاب. هذا الشاعر الذي عاش النصف الثاني من القرن الأول، والعقود الثلاثة الأولى من القرن الثاني (60 ـ 126 هـ) كان "خطيب بني أسد، وفقيه الشيعة، وحافظ القرآن، وثبت الجنان"(18).
وسئل معاذ الهراء: "من أشعر الناس ؟ فقال: من الجاهليين: امرؤ القيس، وزهير، وعبيد بن الأبرص. ومن الإسلاميين: الفرزدق، وجرير، والأخطل. فقيل له: يا أبا محمّد، ما رأيناك ذكرت الكميت ! فقال: ذاك اشعر الأولين والآخرين"(19).
ومدحه للنبي ـ صلى الله عليه وآله ـ معروف، وقف عنده النقاد كثيراً، ويحسن أن نتعرض له ولو قليلاً لأنه يكشف عن جانب هام من ولائه الرسالي وظروف عصره.
يقول الكميت:
فاعتتب الشوق في فؤادي والشعر****إلى من إليه معتتب
إلى السراج المنير أحمد لا**** يعدلني رغبة ولا رهب
وقيل أفرطت، بل قصدت، ولو**** عنفني القائلون، أو ثلبو
إليك يا خير من تضمنت الأرض**** وإن عاب قولي العيب
لج بتفضيلك اللسان، ولو****أكثر فيك الضجاج واللجب(20)
والعجيب في هذه الأبيات أنّه يتحدث عمّن يؤنبه ويعنفه لمدحه النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ، ويصر على هذا المدح وإن عاب العائبون، وعنف وثلب القائلون.
الجاحظ يرى: أن قول الكميت هذا هو "من غرائب الحمق"، ويتساءل مستغرباً: "فمن رأى شاعراً مدح النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ، فاعترض عليه واحد من جميع أصناف الناس!، حتّى يزعم أنّ أناساً يعيبونه ويثلبونه ويعنفونه"؟(21).
والشريف المرتضى رحمه الله يرى أن الكميت لم يرد في مدحه النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ، وإنّما أراد عليا ـ عليه السلام ـ فورى عنه بذكر النبي خوفاً من بني أمية(22).
وأجمل ما رأيت من تحليل لمدح الكميت المذكور، ورأي النقاد فيه، ما كتبه الأستاذ الدكتور عبد الحسيب طه حميدة، أنقله بنصه لأهميته، إذ يقول:
(ونحن نرى: أن الكميت كان أعلم بأخلاق عصره من هؤلاء، وأمس بسياسته...، كان يشعر بأنه يحيا وسط دولة ترى: أن هذا اللون من مدح الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ تزكية للهاشميين، ولفت للذهن إلى حق هؤلاء في الخلافة.
وإذا كانت السياسة قد أباحت لابن الزبير ـ على مكانته الدينية وبيته من الإسلام ـ أن يسقط ذكر النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ من خطبه، حتّى إذا ليم على ذلك، قال: والله ما يمنعني من ذكره علانية أني لا أذكره سراً، وأصلي عليه، ولكني رأيت هذا الحي من بني هاشم إذا سمعوا ذكره، اشرأبت أعناقهم، وأبغض الأشياء إلي ما يسرهم. وفي رواية: أن له أهيل سوء(23).
نقول: إذا كانت السياسة قد أباحت لابن الزبير هذا، فما بالك ببني أمية في عصر الكميت وقد تغيرت الأخلاق، وفسد الناس؟.
فالكميت يحدثنا عن عصر يحيا فيه، ويصطلي بسياسته، ويحس أن مدحه للرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ يعرضه للعيب والثلب والعنف.
والجاحظ يحكم في الرجل نظرة دينية، ويتناسى أن السياسة قد بدأت في هذا العصر تستقل عن الدين، فبغضت هذا اللون من المديح، لا لأنه مدح للرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ بل لأنه ضرب من التمرد والشغب، والخروج على السلطان، به تشرئب أعناق الهاشميين، ويلفت الناس إليهم... هذا إلى أن الجاحظ عثماني، فلا غرو أن اهتم بنفي هذه التهمة عن بني أمية، واحتشد لذلك، فعد مذهب الكميت حمقاً، بل من غرائب الحمق) (24). ويظهر من الروايات: أن الكميت جند نفسه منذ بداية انبثاق الشعر على لسانه للدفاع عن أهل البيت، ورواية صاحب الأغاني عن الحوار بين الكميت والفرزدق، تبين أيضاً اهتمام الشاعر بأن تكون كلمته في المدح قوية مؤثرة، تملك المشاعر والنفوس، حتّى جعلت شاعراً كبيراً مثل الفرزدق، يحار ويدهش أمام هذا الشاعر الناشئ.
انظر إلى هذا الحوار:
الكميت: يا أبا فراس، إنك شيخ مضر وشاعرها، وأنا ابن أخيك الكميت بن زيد. الفرزدق: صدقت، أنت ابن أخي، فما حاجتك؟
الكميت: نفث على لساني، فقلت شعراً، فأحببت أن أعرضه عليك، فأن كان حسناً، أمرتني بإذاعته، وإن كان قبيحاً، أمرتني بستره، وكنت أول من ستره علي.
فقال الفرزدق: أما عقلك فحسن، وإني لأرجو أن يكون شعرك على قدر عقلك، فأنشدني، فأنشده:
طربتُ وما شوقاً إلى البيض أطْرَبُ
فقال الفرزدق: ففيم تطرب يا ابن أخي ؟ فقال:
ولا لَعِباً منّي وذو الشّيبِ يَلعبُ؟
فقال الفرزدق: بلى يا ابن أخي، فالعب فأنك في أوان اللعب فقال:
ولم يلهني دار ولا رسم منزل **** ولم يتطربني بنان مخضب
فقال: وما يطربك يا ابن أخي ؟ فقال:
ولا أنا ممن يزجر الطير همه****أصاح غراب أم تعرض ثعلب
ولا السانحات البارحات عشية****أمرّ سليم القرن، أم مرّ أعضب.
فقال: أجل، لا تتطير فقال:
ولكن إلى أهل الفضائل والتقى ****وخير بني حواء، والخير يطلب
فقال: ومن هؤلاء ويحك؟ فقال:
إلى النفر البيض الّذين بحبهم**** إلى الله فيما نالني أتقرب
فقال: أرحني ويحك، من هؤلاء؟ فقال
بني هاشم رهط النبي فأنني**** بهم، ولهم أرضى مراراً وأغضب
فقال الفرزدق: يا ابن أخي، أذع ثم أذع، فأنت ـ والله ـ أشعر من مضى وأشعر من بقي(25).
ونجد في شعر الكميت تركيزاً على الدافع الديني في ولائه لأهل البيت، فحبه ينطلق من تربية قرآنية وطدت جذور هذا الحب في نفسه.
وجدنا لكم في آل حاميم آيةً****تأولها منا تقي ومعرب
وفي غيرها آياً، وآياً تتابعت****لكم نصب فيها لذي الشك منصب(26)
ويؤكد: أن حبه لأهل البيت، هو استمرار لحب رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ وأنه بدافع طلب مرضاة الله سبحانه وتعالى:
إنّ أمت لا أمت ونفسي نفسان****من الشك في عمى أو تعامي
عادلاً غيرهم من الناس طراً****بهم، لا همام بي، لا همام
لم أبع ديني المساوم بالوكس****ولا مقلياً من السوام
أخلص الله لي هواي، فما أغرق****نزعاً، ولا تطيش سهامي
ولهت نفسي الطروب إليهم****ولهاً، حال دون طعم الطعام(27)
ويظهر من سيرة الكميت أنّه كان هائماً في حب أهل البيت إلى درجة صوفية غارقة. وكان أحب شيء إليه أن يسمع منهم دعاء له، وأن يسموه شاعر أهل البيت، فيطير فرحاً ويبكي وجداً.
يروي صاحب الأغاني عن صاعد ـ مولى الكميت ـ قال: دخلنا على فاطمة بنت الحسين، فقالت: هذا شاعرنا ـ أهل البيت ـ وجاءت بقدح فيه سويق، فحركته بيدها ودفعته إليه فشربه، ثم أمرت له بثلاثين دينار ومركب، فهملت عيناه ثم قال: لا والله لا أقبلها، إني لم أحبكم للدنيا(28).
وروي عن محمّد بن سهل ـ صاحب الكميت ـ قال: دخلت مع الكميت على أبي عبدالله جعفر بن محمّد (الصادق) ـ عليه السلام ـ ، أيام التشريق بمنى، فقال: جعلت فداك، ألا أنشدك ؟ فقال يا كميت إنها أيام عظام، فقال: إنها فيكم، فقال: هات، وبعث الإمام إلى بعض أهل بيته فاجتمعوا ـ فأنشد لا ميته:
ألا هل عم في رأيه متأمل **** وهل مدبر بعد الإساءة مقبل
فكثر البكاء حوله... حتّى إذا قال:
يصيب به الرامون عن قوس غيرهم **** فيا آخراً أسدى له الغي أول
رفع الإمام الصادق يديه وقال: اللهم اغفر للكميت، ماقدم وما أخر، وما أسر وما أعلن، وأعطه حتّى يرضى(29).
وكانت هذه الدعوات أثمن هدية يتلقاها هذا العاشق الوله من أحبابه.
ثم نقف عند شاعر آخر عاش النصف الأول من القرن الثاني وردحاً من نصفه الثاني وهو السيد الحميري (105 ـ 173 هـ): إنه أبو هاشم إسماعيل بن محمّد بن يزيد بن مفرغ الحميري، ويكفي في رساليته أنّه ولد من أبوين خارجيين، يسبان علياً، لكنه هام في علي وآل بيته، وحينما علم أبواه بمذهبه هما بقتله، ففر من بيتهما وبقي بعيداً عنهما حتّى ماتا.
وحين سئل عن سبب ولائه لعلي وآل بيت رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ مع أن أبويه خارجيان، يقول: "غاصت علي الرحمة غوصاً"(30).
وتذكر الرواية أن السيد انفجر على لسانه الشعر، بسبب رؤيا مباركة، رأى فيها النبي يطلب منه أن يقلع أشجار نخل طوالاً لأمرئ القيس، ويغرسها في مكان آخر، وحين ذكر الرؤيا لابن سيرين قال له: "أما إنك ستقول شعراً مثل شعر امرئ القيس، إلاّ أنك تقول في بررة أطهار"(31). وهذه الرواية تبين أيضاً المنطلق الرسالي لهذا الشاعر.
أجمع الرواة أن للسيد شعراً كثيراً، وهو من أكثر الناس شعراً في الجاهلية والإسلام (32)، ولكن شعره تحومي بسبب إفراطه في ذكر الخلفاء الثلاثة بسوء وهنا أود أن أشير فقط إلى أن سبب الصحابة بدأ منذ زمن معاوية، حين أمر بسب أول الصحابة إسلاماً وأشدهم إيماناً وهو علي بن أبي طالب.
ولم يكتف أعداء علي بهذا السب، بل تستروا بالخلفاء الثلاثة لكي يطعنوا بالخليفة الرابع، فجعلوا بذلك علياً مقابل الخلفاء الثلاثة، وجعلوا مدح الخلفاء الثلاثة نوعاً من الطعن بعلي بينما لا نرى بين هؤلاء الأربعة نزاعاً في حياتهم قط ـ (وإن كانت لهم وجهات نظر متباينة)ـ، وإنّما هي السياسية الأموية، وسياسة كلّ أعداء علي، التي أرادت أن تطعن بعلي متسترة بالولاء للخلفاء الثلاثة، ولا تزال هذه السياسة المفرقة الاستفزازية
موجودة بشكل وآخر في عالمنا الإسلامي مع شديد الأسف.
وكان للموالين لعلي مواقف مختلفة من هذه الخطة الأموية. منهم من انتهج طريق فضح هذه الخطة، وتوضيح خلفية هذا اللون من الدفاع عن الخلفاء الثلاثة، مؤكداً أن هؤلاء لا يمدحونهم حباً بهم، بل بغضاً لعلي، وبعضهم اندفع لبيان أفضلية علي بين صحابة رسول الله، وبعضهم بلغ به رد الفعل إلى درجة ثلب الخلفاء الثلاثة هذه مسألة هامة نحتاج إلى الوقوف عندها طويلاً، وإنّما أشرت إليها لأذكر أن "السيد" كان يستفز أحياناً بمدح الخلفاء فيفهم من خلال الظروف التي كان يعيشها، أن هذا المدح يستهدف طعناً بعلي فينبري للدفاع عن الإمام وأهل بيته.
من ذلك أن أحدهم استفزه ببيت يقول:
محمّد خير من يمشي على قدم****وصاحباه، وعثمان بن عفان
فانتفض غاضباً يقول:
سائل قريشاً إذا ما كنت ذاعمه****من كان أبثتها في الدين أوتادا
من كان أعلمها علماً، وأحلمها****حلماً، وأصدقها قولاً وميعاد
إنّ يصدقوك فلن يعدوا أبا حسن****إنّ أنت لم تلق للأبرار حسادا(33)
ويركز السيد الحميري على المنطلق الرسالي في ولائه لعلي وآل بيت النبي، فيذكر تارة أنّه ينطلق في هذا الولاء من حديث رسول الله في غدير خم:
إذا أنا لم أحفظ وصاة محمّد****ولا عهده يوم الغدير المؤكد
فأني كمن يشري الضلالة بالهدى****تنصر من بعد التقى، وتهود
ومالي وتيم، أو عدي، وإنّما****أولوا نعمتي في الله من آل أحمد
تتم صلاتي بالصلاة عليهم****وليست صلاتي بعد أن أتشهد
بكاملة إنّ لم أصل عليهم****وأدع لهم رباً كريماً ممجد (34)
وتارة يذكر أن ولاءه له منطلق قرآني، لما جاء في حق آل البيت من آية التطهير:
إنّ يوم التطهير يوم عظيم****خص بالفضل فيه أهل الكساء(35)
وولع السيد الحميري بتصوير ما جاء في السيرة، من ارتباط عاطفي بين الرسول وأهل بيته، مشيراً إلى أن ولاءه لأهل البيت يستمد قوامه من السيرة، من ذلك أن السيد سمع محدثا يحدث أن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ كان ساجداً، فركب الحسن والحسين على ظهره، فقال عمر: "نعم المطي مطيكما" فقال النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ: ((نعم الراكبان هما))، فانفجرت قريحة السيد بالقول:
أتى حسناً والحسين النبي****وقد جلسا حجره يلعبان
ففداهما، ثم حياهما****وكان لديه بذاك المكان
فراحا وتحتهما عاتقاه****فنعم المطية، والراكبان
وليدان أمهما برة****حصان مطهرة للحصان
وشيخهما ابن أبي طالب****فنعم الوليدان والوالدان(36)
لأن وقفنا طويلاً عند هذا الولاء الرسالي، فلأن الشعر الشيعي متهم بالولاء الحزبي والطائفي وما هو كذلك، كما يرى بوضوح في النماذج المذكورة وسنمر سريعاً في ذكر الخصائص الأخرى التي تطبع الشعر الشيعي بالطابع الرسالي.
الدفاع عن مصالح الأمة
شعراء أهل البيت تصدوا للدفاع عن مصالح الأمة، وللحديث عما يحط بالمسلمين من ظلم الحكام وطغيانهم، وحث الناس على اليقظة والانتباه إلى تصرفات الحكام. وهذا الاتجاه في الشعر الشيعي يعني أنّه ابتعد عن المصالح الفئوية والحزبية، وحمل هموم الأمة، وارتفع إلى مستوى أهداف الإسلام في ردع الظلم، وإحقاق الحق، وإقامة المجتمع العادل.
ولعل خير مثال على هذا الاتجاه في الشعر الشيعي ـ لامية الكميت (37) ـ التي يبدؤها بتوعية الأمة وإيقاظها فيقول:
ألا هل عم في رأيه متأمل****وهل مدبر بعد الإساءة مقبل
وهل أمة مستيقظون لرشدهم****فيكشف عنه النعسة المتزمل
فقد طال هذا النوم واستخرج الكرى****مساويهم لو أن ذا الميل يعدل
ثم يذكر الشاعر منطلقه في ثورته على واقعه الاجتماعي المنحرف، موضحاً أن سبب ما يعج به المجتمع الإسلامي في عصره، من ظلم وفساد، إنّما هو الانحراف عن الكتاب والسنة، وتعطيل أحكام الإسلام.
وعطلت الأحكام حتّى كأننا****على ملة غير التي نتخل
كلام النبيين الهداة كلامنا****وأفعال أهل الجاهلية نفعل
أنظر إلى الشاعر كيف يحدد منطلقه في الدفاع عن الأمة، إنه يدين العودة إلى مظاهر الجاهلية، باعتبارها سبب كلّ انحراف ثم يندفع الشاعر في حث الأمة على استعادة كرامتها، وعدم الالتصاق بالأرض، والمتاع الدنيوي الرخيص، والارتفاع إلى مستوى التضحية في سبيل المبدأ يقول:
رضينا بدنياً لا نريد فراقها****على أننا فيها نموت ونقتل
ونحن بها المستمسكون كأنها****لنا جنة مما نخاف ومعقل
أرانا على حب الحياة وطولها****يجد بنا في كلّ يوم ونهزل
ثم يرفع صوته بوجه الظالمين، مندداً بما ينزلونه من عذاب بالأمة ومن استهانة بكرامتها وتضييع لحقوقها:
فتلك أمور الناس أضحت كأنها****أمور مضيع آثر النوم بهل (38)
فياساسة هاتوا لنا من جوابكم****ففيكم لعمري ذو أفانين مقول
أهل كتاب نحن فيه وأنتم****على الحق نقضي بالكتاب ونعدل
فكيف، ومن أنى، وإذ نحن خلفه****فريقان شتى تسمنون ونهزل
لنا راعيا سوء مضيعان منهما****أبو جعدة العادي وعرفاء جيال (39)
أتت غنماً ضاعت وغاب رعاؤها****لها فرعل، فيها شريك وفرعل(40)
ويؤكد الشاعر ثانية على منطلقه الرسالي في الدفاع عن الأمة، حين يعود ثانية إلى القول بأن هذه الأمة لا تصلح أوضاعها، إلاّ بأصلاح دينها، والعودة إلى هدى كتاب ربها وسنة نبيها، يقول:
أتصلح دنيانا جميعاً وديننا **** على ما به ضاع السوام الموبل (41)
كان كتاب الله يعنى بأمره **** وبالنهي فيه الكودني المركل(42)
ألم يتدبر آية فتدله **** على ترك ما يأتي، أم القلب مقفل
وكيف يمكن العودة إلى إسلام رسول الله، وهؤلاء الولاة الظلمة يسومون الأمة سوء العذاب؟:
فتلك ولاة السوء قد طال ملكهم **** فحتام حتام العناء المطول
رضوا بفعال السوء في أهل دينهم **** فقد أيتموا طوراً عداء وأثكلوا..
لهم كلّ عام بدعة يحدثونها **** أزلوا بها أتباعهم ثم أوحلوا
تحل دماء المسلمين لديهم **** ويحرم طلع النخلة المتهدل
ما أروع هذا البيت الأخير، الذي يصور وضع طواغيت العالم الإسلامي في كلّ زمان ومكان يستهينون بدماء المسلمين، وليست لنفس المسلم عندهم أية كرامة، لكنهم يطالبونه بأداء ما فرضوا عليه من ضرائب وخراج، ولا يحق له أن يمشي بين نخله، ويمسه حتّى يؤدي خراجه، فأن هو مسه قبل ذلك قتل.
ومثل هذا الدفاع عن حقوق الأمة المضيعة نجده عند جميع شعراء الشيعة.. دفاعاً ينطلق من إيمان بما أراده الله للإنسان المسلم، من عزة وكرامة وحقوق فردية واجتماعية.
وهذا التصدي للدفاع عن الأمة، عرضناه في شعر الكميت وهو يقارع الأمويين، ونعرض بعض أبيات شاعر شيعي آخر، هو أبو فراس الحمداني، وهو يدافع عن حقوق الأمة أمام ظلم حكام زمانه من العباسيين يقول:
الدين مخترم والحق مهتضم **** وفيء آل رسول الله مقتسم
والناس عندك لاناس فيحفظهم **** سوء الرعاء، ولا شاء ولا نعم...
وما السعيد بها إلاّ الذي ظلموا **** ولا الغني بها إلا الذي حرمو
للمتقين من الدنيا عواقبها **** وإن تعجل فيها الظالم الأثم(43)
وفي البيت الأخير، حث لأهل الإيمان أن لا ييأسوا من مطالبة حقهم، ومن مقارعة الظالمين.
(إنّ الأرض لله يروثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين)(44).
الصمود على المبدأ
مر بنا أن شعراء الشيعة كانوا يعلنون رساليتهم، والتزامهم بإسلام رسول الله، من خلال إعلانهم الولاء لآل البيت، والدفاع عن كرامة الأمة المسلمة. وهذا الموقف كلف
هؤلاء الشعراء التأنيب والتقريع، والتشريد والتجويع، وعانوا من ألوان الظلم والاضطهاد والعذاب، صابرين صامدين، مؤكدين على تعاليهم عما يتهافت عليه الناس، من مال ومتاع، وعلى تفانيهم في سبيل مبدا آمنوا به إيماناً جعلهم يستحلون كلّ تعذيب، طلباً لأجر الآخرة.
ولا يمكن أن نعرف مدى استقامة هؤلاء الشعراء وصمودهم، إلاّ إذا عرفنا جو الإرهاب الذي عاشوا فيه ن والبطش الذي مارسه الحكام بحق الصامدين على المبدأ ويكفي أن نلقي نظرة على كتب التاريخ، لنعرف أن الأمويين والعباسيين مارسوا أفظع ألوان التقتيل والتنكيل، بحق كلّ من كانوا يشكون.. يشكون فقط.. في ولائه لآل بيت رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ (45).
يقول الكميت:
ألم تر ني من حب آل محمّد **** أروح وأغدو خائفاً أترقب
كأني جان محدث وكأنما **** بهم يتقى من خشية العر أجرب
على أي جرم أم بأية سيرة **** أعنف في تقريظهم وأؤنب(46)
هكذا كان شاعر أهل البيت..، فهو خائف مترقب، معنف مؤنب، لا لذنب اقترفة سوى حبه لآل البيت وهذا الصمود أمام ألوان التحديات، يؤكد رسالية المسلك الذي إلى الشاعر على نفسه أن يسلكه.
وواضح أن هذا الأدب يختلف تماماً عن أدب اللهى التي تنفتح باللهى (47)، وعن ذلك الأدب الذي يصدر عن عصبية حزبية أو عشائرية لا يقوى صاحبها على مواجهة أي تهديد.
إنّ المعيار الذي اتخذه الشاعر الشيعي في حياته، يسمو على كلّ ارتباط قبلي أو عشائري، فهو معيار رسالي نابع من التزامه بالإسلام وبسنة رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ، لا يبالي بسخط الساخطين أو لوم اللائمين يقول:
فيهم صرت للبعيد ابن عم **** واتهمت القريب أي اتهام
وتناولت من تناول بالغبة **** أعراضهم وقل اكتتامي
ورأيت الشريف في أعين الناس **** وضيعاً وقل فيه احتشامي
معلناً للمعلنين، مسراً **** للمسرين، غير دحض المقام
مبدياً صفحتي على المرقب المعلم **** بالله عزتي واعتصامي
ما أبالي إذا حفظت أبا القاسم **** فيهم ملامة اللوام
ما أبالي، ولن أبالي فيهم **** أبداً رغم ساخطين رغام
فهم شيعتي وقسمي من الأمة، **** حسبي من سائر الأقسام(48)
الخوارج كفروا الشاعر، والأمويون اعتبروه مسيئا مذنباً، ولم يسؤه ذلك، ولم يتراجع عن موقفه قط:
يشيرون بالأيدي إلي، وقولهم **** إلاّ خاب هذا والمشيرون أخيب
فطائفة قد كفرتني بحبكم **** وطائفة قالوا: مسيء ومذنب
فما ساءني تكفير هاتيك منهم **** ولا عيب هاتيك التي هي أعيب
يعيبونني من خبهم وضلالهم **** على حبكم، بل يسخرون وأعجب(49)
ولم يتعرض الشاعر الشيعي للسخط في عصر الأمويين فحسب، بل في عصر العباسيين أيضاً، لأن هذا الشعر قد أتجه إلى مقارعة الطواغيت، سواء كانوا من بني أمية، أم من بني هاشم من العباسيين، ولذلك كان الشاعر الشيعي دعبل في العصر العباسي
مطارداً، مهدداً بالقتل، ويعبر عن استعداده لهذه التضحية فيقول: "أنا أحمل خشبتي على كتفي منذ خمسين سنة، لست أجد أحداً يصلبني عليها" (50).
المنطق الإسلامي في المدح والهجاء
منطق المدح والهجاء في الشعر العربي جاهلياً كان أم بعد الإسلام ينحو منحى معيناً، فهو في المدح يتناول الكرم والشجاعة والقوة.. وأمثالها من الخصال الحميدة، وفي الهجاء يركز على البخل والجبن والضعف، قد يتناول الأعراض والمثالب التاريخية...، لكننا نجد في الشعر الشيعي منطلقا خاصاً في المدح والهجاء، يستمد محتواه من مضامين القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، ومن غيرة على الإسلام والأمة الإسلاميّة.
مرت بنا رسالية الشاعر الشيعي والتزامه الإسلامي في إبراز ولائه لآل البيت ونذكر هنا بعض نماذج المدح والهجاء في الشعر الشيعي، ليتبين لنا أن العواطف الشيعية إنّما هي عواطف إسلامية صادقة، لا تسمح للشاعر أن يحيد عن مسيرة الرسالة ومحتواها العقائدي.
أبدأ بذكر نموذج من دعبل الخزاعي في تائيته المعروفة(51).
ألم تر للأيام ما جر جورها **** على الناس من نقص وطول شتات
ومن دول المستهترين، ومن غدا **** بهم طالباً للنور في الظلمات
فكيف ؟ ومن أنى يطالب زلفة **** إلى الله بعد الصوم والصلوات
سوى حب أبناء النبي ورهطه **** وبغض بني الزرقاء والعبلات
وهند، وما أدت سمية وأبنها **** أولو الكفر في الإسلام، والفجرات
هم نقضوا عهد الكتاب وفرضه **** ومحكمه بالزور والشبهات
لا حظ، أن الشاعر يؤلمه ما نزل بالناس من ظلم، ويؤلمه ما حل بالمجتمع الإسلامي من تمزق، ثم يهجو أولئك الّذين أنزلوا بالأمة هذه المصائب، فيقول: إنهم المستهترون الذي تحكموا في رقاب الأمة ومن لف لفهم.
"دول المستهترين" ما أجمله من تعبير، ينم عن فهم رائع لخصائص الحكم والحاكم في نظر هذا المسلم المتعلم في مدرسة أهل البيت.
ثم يشيد الشاعر بذكر أهل البيت، باعتبار أن حبهم فريضة إلهية بعد الصوم والصلاة، ويعلن كرهه لبني مروان وبني أمية (بني الزرقاء، والعبلات، وهند) لأنهم"أولو الكفر في الإسلام والفجرات"، ولانهم "نقضوا عهد الكتاب وفرضه".
ثم انظر في الأبيات التالية ـ معياره ـ في مدح أهل البيت:
فيا وارثي علم النبي، وآله **** عليكم سلام دائم النفحات
قفا نسأل الدار التي خف أهلها **** متى عهدها بالصوم والصلوات
وأين الأولى شطت بهم غربة النوى **** افانين في الآفاق مفترقات
هم أهل ميراث النبي إذ اعتزوا **** وهم خير سادات وخير حماة
مطاعيم في الإعسار في كلّ مشهد**** لقد شرفوا بالفضل والبركات
وانظر كيف يهجو أعداءهم:
وما الناس إلاّ حاسد ومكذب **** ومضطعن ذو إحنة وترات
إذا ذكروا قتلى ببدر وخيبر **** ويوم حنين أسبلوا العبرات
وكيف يحبون الني ورهطه؟ **** وهم تركوا أحشاءهم وغرات ؟
لقد لا ينوه في المقال وأضمروا **** قلوباً على الأحقاد منطويات
أعداء أهل البيت ـ إذن ـ هم أعداء النبي وأعداء الرسالة الإسلاميّة ، من الذين هزمهم الإسلام في بدر وخيبر وحنين، فاستسلموا يوم الفتح وقلوبهم تنطوي على الأحقاد.
هذا المنطق الإسلامي في المدح والهجاء نراه على طول تاريخ الشعر الشيعي.
ولنذكر نموذجاً آخر من فارس بني حمدان، أبي فراس الحمداني يقول في ميميته(52)
العظيمة يهجو بني العباس ويمدح آل البيت، ويقارن بين البيتين العباسي والعلوي، (انظر بدقة إلى معياره في المقارنة):
يا باعة الخمر كفوا عن مفاخركم **** عن فتية بيعهم يوم الهياج دم
خلوا الفخار لعلامين إنّ سئلوا **** يوم الفخار وعمالين إنّ علموا
لا يغضبون لغير الله إنّ غضبوا **** ولا يضيعون حكم الله إنّ حكموا
تنشى التلاوة في أبياتهم أبداً **** ومن بيوتكم الأوتار والنغم
منكم علية أم منهم؟ وكان لكم **** شيخ المغنين إبراهيم أم لهم؟(53).
أم من تشاد له الألحان سائرة **** عليهم ذو المعالي أم عليكم؟
إذا تلو سورة غني مغنيكم **** "قف بالديار التي لم يعفها القدم"(54).
ما في ديارهم للخمر معتصر **** ولا بيوتهم للسوء معتصم
ولا تبيت لهم أنثى تنادمهم **** ولا يرى لهم قرد له حشم
الحجر والبيت والأستار منزلهم **** وزمزم والصفا والركن والحرم.
لاحظ، كيف يمدح آل البيت: إنهم مضحون في سبيل الله علاّمون، عمّالون، لا يغضبون لغير الله، لا يضيعون حكم الله، ترتفع تلاوة القرآن في بيوتهم دائماً.. بيوتهم مطهرة من الخمر والسوء والمنكر، ومنزلهم مكان الذكر والعبادة: الحجر والبيت، وزمزم والصفا، والركن والحرم.
أما أعداؤهم فهم: باعة الخمر، ونساؤهم مغنيات، ورجالهم مغنون، وبيوتهم مكان اعتصار الخمر والسوء والفسق والفجور.
مما تقدم نفهم أن الشعر الشيعي رسالي، لا طائفي ولا حزبي ولا عشائري في ولائه وتبريه، وفي مواقفه الدفاعية، وصموده وأسلوبه.
وهكذا التشيع لم ينشأ مقابل "التسنن" كما يوحي بذلك الانقسام الموجود اليوم بين المسلمين إلى شيعة وسنة، بل نشأ باعتباره الأطروحة الملتزمة بالإسلام كما جاء به رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ، والمدافعة عن الرسالة أمام محاولات المحرفين وكيد الكائدين. وبهذا الفهم الموضوعي الواقعي للتشيع تزول الحساسيات النفسية القائمة اليوم بدرجة وأخرى بين أبناء السنة والشيعة.
___________________
1 ـ الطبري 5: 98.
2 ـ مثل ابن الأثير 3: 94.
3 ـ انظر آراء المستشرقين في ابن سبأ في كتاب نظرية الإمامة لأحمد محمود: 37، وانظر أيضاً: طه حسين الفتنة الكبرى، فصل ابن سبأ.
4 ـ أدب الشيعة إلى نهاية القرن الثاني الهجري؛ الدكتور عبد الحسيب طه حميدة: 122 ط 3، وانظر أيضاً: حزب الشيعة في العصر الأموي، الدكتورة ثريا عبد الفتاح.
5 ـ الأغاني 7: 11، 11: 120، الأمالي للمرتضى 1: 293، وديوان أبي الأسود الدولي: 119 ـ 121. و"هويا" فانه لغة هذيل يقولونها في كلّ مقصور (الأمالي 1: 293).
6 ـ البيان والتبيين 1: 134، 339.
7 ـ انظر: الطبري 4: 108، والعقد الفريد 5: 96، والكامل لابن الأثير 3: 386، الأغاني 11: 115.
8 ـ الطبقات الكبرى لابن سعد 7: 99.
9 ـ أسد الغابة 3: 70، ابن خلكان 2: 535.
10 ـ الأغاني 11: 107.
11 ـ الطبقات الكبرى لابن سعد7: 99.
12 ـ ديوان أبي الأسود: 78.
13 ـ كثير عزة، احمد الربيعي: 123.
14 ـ كثير عزة، أحمد الربيعي: 123.
15 ـ الشعر والشعراء لابن قتيبة 1: 413، الأغاني 8: 153.
16 ـ الأغاني 8: 34.
17 ـ المصدر السابق 8: 40.
18 ـ خزانة الأدب، للبغدادي 1: 144.
19 ـ الأغاني 15: 127، خزانة الأدب 1: 145.
20 ـ الأبيات من 31 ـ 36 من قصيد مطلعها:
إني ومن أين ابك الطرب *من حيث لا صبوة و لا ريب.
شرح هاشميّات الكميت، أبو رياس القيسي، تحقيق داود سلوم ونوري حمودي
القيسي: 110 ـ 111.
21 ـ البيان والتبيين 2: 172.
22 ـ الأمالي 3: 166.
23 ـ العقد الفريد 2: 157، ابن أبي الحديد 20: 489.
24 ـ أدب الشيعة، عبد الحسيب طه حميدة، ط 3: 222 ـ 223.
25 ـ الأغاني 15: 125، ومروج الذهب 2: 153، وأمالي الشريف المرتضى 1: 47.
26 ـ الأبيات 29 و 30 من هاشميته.
طربت وما شوقاً إلى البيض أطرب *ولا لعباً مني وذو الشيب يلعب؟
انظر شرح الهاشميات: 55 ـ 56.
27 ـ الأبيات 89 ـ 93 من هاشميته: من لقلب متيم مستهام *غير ما صبوة ولا أحلام. شرح الهاشميات 37 ـ 38.
28 ـ الغااني 15 ـ 123.
29 ـ المصدر السابق، ومروج الذهب 2: 154.
30 ـ الأغاني 7: 3.
31 ـ الأغاني 7: 237، ويرد على الرواية أن ابن سيرين توفي حين كان الكميت في الخامسة من عمره.
32 ـ طبقات فحول الشعراء، لابن سلام 1: 195.ومعجم الشعراء للمرزباني: 347.
33 ـ الأغاني 7: 266.
34 ـ من الغديريات التي ذكرها العلامة الأميني في كتاب الغدير 2: 215، وانظر الأغاني 7: 17 ـ 18، وحديث الغدير متواتر لدى أهل السنة والشيعة، لكن بعض الباحثين المحدثين قال: إنه من الأحاديث الخاصة بالشيعة.
35 ـ الأغاني 7:7، وأهل الكساء هم: محمّد، وعلي، وفاطمة، والحسن، والحسين. وحديث الكساء هو أيضاً من الأحاديث المتواترة لدى كلّ المسلمين لكن الظروف التاريخية حولته إلى حديث خاص بطائفة معينة.
36 ـ الأغاني 7: 16.
37 ـ انظر: شرح هاشميات الكميت: 146 ـ 187 وهي 111 بيتاً.
38 ـ يقول: أمور الناس مهملة مبعثرة لا مدبر لها. فأمورهم كالإبل المهملة التي لا قيم لها ولا راعي يحفظها.
39 ـ راعيا سوء: يعني هشاماً بن عبد الملك الخليفة، وخالد بن عبدالله القسري والي العراق. ويقصد بالذئب هشاماً، والقرفاء: الضبع، ويقصد به خالداً. وقله جيال: أي كبير.
40 ـ أي أتت الضبع غنما لا راعي لها، ولا مانع يمنعها فعاثت فيها والفرعل: ولد الضبع.
41 ـ السوام الموبل: ما رعي من المال. يقول: أتصلح الدنيا والدين، وأنتم تمارسون الجور والفساد، وتضيعون الثروات؟
42 ـ الكودني: البليد كأنه كودن، أي برذون. والمركل: الذي لا يتحرك إلاّ بالركل لشدة تثاقله بوطئه.
43 ـ ديوان الأمير أبي فراس الحمداني، تحقيق الدكتور محمّد التونجي: 258.
44 ـ الأعراف: 128:
45 ـ بلغ الأمر بالشاعر الشيعي أن يتمنى بقاء جور بني مروان، فهو أفضل مما
نزل بالعلويين من ظلم بني العباس
يا اليت جوربني مروان عادَلنا ياليت ظلم بني العباس في النار.
46 ـ الأبيات 75 ـ 77 من هاشميته التي مطلعها:
طربت وما شوقاً إلى البيض أطرب *ولا لعباً مني وذو الشيب يلعب؟
47 ـ اللهي بفتح اللام هي اللهاة في مؤخر الفم، واللهى: هي لقم الطعام.
48 ـ شرح هاشميات الكميت: 35 ـ 37.
49 ـ المصدر السابق: 52 ـ 53.
50 ـ الأغاني 18: 30 ـ 34.
51 ـ انظر القصيدة التائية الخالدة في ديوان دعبل الخزاعي، تحقيق عبد الصاحب الدجيلي: 124 ـ 151.
52 ـ ديوان الأمير أبي فراس الحمداني: 257 ـ 262.
53 ـ علية: بنت المهدي، اخت الخليفة العباسي هارون الرشيد، قال القيرواني
في زهر الآداب 1: 43: "كانت علية لطيفه المعنى، رقيقة الشعر، حسنة مجاري
الكلام، ولها ألحان حسان، وعلقت بغلام اسمه (رشا) وفيه تقول:
أضحى الفؤاد بزينبا صباً كثيباً متعب*
فجعلت زينب سترة وكتمت أمراً معجب
قولها بزينب تريد برشا فنمي الأمر إلى أخيها الرشيد، فأبعده، وقيل: قتله.
وعلقت بغلام اسمه (طل) فقال لها الرشيد: والله لئن ذكرته لاقتلنك. فدخل
عليها يوماً على حين غفلة وهي تقرأ: فإن لم يصبها وابل فما نهى عنه أمير
المؤمنين فضحك، وقال: ولا كلّ هذا...
أما إبراهيم، فهو ابن المهدي عم المأمون، مغن موسيقار، يعرف بابن شكله.
حينما بايع المأمون الإمام الرضا بولاية العهد، نقم عليه العباسيون،
فاستغلوا وجود المأمون في (مرو)، فبايعوا إبراهيم خليفة للمسلمين وفي مدة
تربعه على كرسي الخلافة أصيبت الخزينة بالعجز، فألح عليه الجند وغيرهم في
أعطياتهم، فخرج إليهم رسول يقول: إنّه لا مال عند الخليفة، فطلب المتجمهرون
بدلاً من المال أن يخرج الخليفة فيغني لأهل هذا الجانب ثلاث أصوات، ولأهل
ذاك الجانب ثلاث اصوات (وفيات الأعيان 1: 8.)
وفي ذلك يقول دعبل:
يا معشر الأجناد لا تقنطوا وارضوا بما كان ولا تسخطوا ***فسوف تعطون (حنينية) يلتذها الأمرد والأشمط
و(المعبديات) لقوادكم لاتدخل الكيس ولا تربط ***وهكذا يرزق أصحابه خليفة مصحفه (البربط)
الديوان: 219.
54 ـ صدر البيت من مطلع قصيدة جاهلية لزهير، وعجزه: بلى وغيرها الأرواح والديم ـ يقصد أنكم مقابل تلاوتهم السور، تتغنون بأشعار الجاهلية.
الرسالية في الشعر الشيعي
الدكتور محمّد علي آذر شب
يطلق اسم الشعر الشيعي على ذلك الشعر، الذي قيل في علي وآل بيت رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ مدحاً ودفاعاً ورثاءً. ومنذ القرن الإسلامي الأول برز شعراء كرسوا جل اهتمامهم في هذا المجال، فسموا شعراء الشيعة.
وفي هذا المقال أهدف إلى إلقاء الضوء على هذا اللون من الشعر في الأدب العربي، لأعرض بعض ما تبين لي من حقائق عند دراسة الشعر الشيعي وتدريسه، وأحسب أنها مفيدة في إبعاد الصفة "الطائفية" و"الحزبية" عن هذا الشعر، وفي استجلاء حقيقة "الرسالية" و"الروح الإسلاميّة" فيه.
في البداية لابد من القول: إنّ الكشف عن حقيقة الشعر الشيعي ورساليته، يخدم هدف "التقريب" بين الأمة المسلمة الواحدة، فسيتبين أنّه يتحدث بلغة إسلامية لا طائفية، ويدافع عن أهداف الإسلام، ويعبر عن آمال الأمة وآلامها، دون أن يتحدد بإطار مذهبي ضيق، ودون أن تكون له أهداف حزبية دنيوية دنيئة.
ومن نافلة القول: إنّ ما أحيط به الشعر الشيعي من أحكام بعيدة عن الصواب، إنّما
هو ناشئ من نظرة "أموية" سادت في كتب القدماء والمحدثين عن الشيعة ونشأتهم وعقائدهم فأسطورة ابن سبأ نقلها الطبري في تاريخه(1)، وتناقلها عنه المؤرخون القدامى (2).
ووجد المستشرقون في هذه الأسطورة ما ينسجم مع رغبتهم في تركيز الخلافات التاريخية بين المسلمين، وتسليط الأضواء على ما ورد بشأن تشرذمهم وتمزقهم، مثل: (فلها وزن) و(دوزى) و(فان فلوتن) ثم راح تلامذة المستشرقين في العالم الإسلامي يحوكون على نفس المنوال (3) مع الأسف، تاركين في الأمة حساسيات وحزازات تثقل كاهل كلّ العاملين في حقل توحيد صفوف المسلمين.
لا أريد هنا أن أتعرض لنشأة الشيعة والتشيع، إنّما أردت الإشارة فقط إلى خلفية النظرات السلبية التي أحيط بها الشعر الشيعي، والتي جعلته في نظر الباحثين المحدثين شعراً حزبياً، وجعلت فواعله في نظرهم نفس فواعل الشعر الأموي ومصادره: تراث جاهلي، وإلهام إلهي، وتأثير أجنبي، وعصبية قبلية، وأهواء سياسية(4).
ولدراسة طبيعة الشعر الشيعي لابد أن نلقي نظرة على موضوعاته، لنتبين من خلالها طبيعته الرسالية:
الحب الرسالي
الإيمان بالمبدأ يقترن دائماً بعواطف حب وبغض، وهذه العواطف توجهها العقيدة وتقوى بقوتها.
ومن العقيدة الإسلاميّة تنشأ عواطف حب الله ورسوله والمؤمنين، وبغض أعداء
الله وأعداء الرسالة الإسلاميّة.
وإذا ترسخت هذه العقيدة في النفوس، ترتفع على كلّ وليجة وآصرة من قرابة، أو قوم، أو جنس، فيضحي الإنسان من أجل هذا الحب الرسالي ويتفاني من أجله.
ونحن نرى هذا الحب الرسالي بوضوح في الشعر الشيعي. يقول أبو الأسود الدولي:
أحب محمداً حباً شديداً**** وعباسا وحمزة والوصي
وجعفر إنّ جعفر خير سبط**** شهيد في الجنان مهاجري
أحـبـهـم كـحـب الله حتـّى**** أجيء إذا بعثت على هويا (5)
هوى أعطيـته منـذ اسـتـدارت**** رحى الإسلام لم يعدل سوي
لاحظ: إنّ هذا الهوى ينطلق من الإسلام، فالشاعر ألهمه منذ استدارت رحى الإسلام، وهو حب شديد لله أوّلاً، ثم لرسوله، والرهط الكريم من آل بيته: العباس والحمزة والوصي وجعفر...
ولنقف برهة عند الشاعر، لنتبين شخصيته، ومدى صدقه في التعبير عن عواطفه.
هو: ظالم بن عمرو القرشي البصري من التابعين، والفقهاء، والشعراء، والمحدثين، والأشراف، والفرسان...
قال عنه الجاحظ: إنه "من المتقدمين في العلم" (6).
عرف بتشدده في الالتزام بأحكام الدين، حتّى اختلف مع عبدالله بن عباس، ومع زياد ابن أبيه حين اعتقد أنهما استغلا منصبهما لمصالحهما الشخصية (7).
كان "ثقة في حديثة"(8).
وشهد مع الإمام علي ـ عليه السلام ـ وقعتي: الجمل وصفين (9).
واستعمله عمر وعثمان على البصرة(10).
ثم أصبح قاضياً على البصرة في زمن الإمام علي ـ عليه السلام ـ ، بعد أن ولى الإمام علي عبدالله بن عباس البصرة سنة(40 هجرية).
ثم أصبح والياً على البصرة حتّى مقتل الإمام علي ـ عليه السلام ـ (11).
وحاول معاوية إرشاءه بالهدايا، لكنه أبي أن يأخذها رغم ما كان يعانيه من ضنك في العيش، بسبب قلة عطائه. وحين سألته ابنته عن تلك الهدايا قال: "بعث بها معاوية يخدعنا عن ديننا"فقالت ابنته التي تحمل نفس عواطف أبيها وإبائه:
أبـا لشهد المزعفـر يـا ابـن حـرب**** *نبيـع عـليك أحـسابــاً وديــنــا؟
معاذ الـلـه كــيــف يـكــون هـذا*****ومولانا أميـر المـؤمـنـيـنــا ؟(12)
هذا شاعر من النصف الأول من القرن الهجري الأول (ت 69 هـ).
ولنقف عند شاعر آخر من النصف الثاني لهذا القرن، وهو كثير بن عبد الرحمن الخزاعي المعروف بكثير عزة (ت 105 هـ)، حيث يقول:
إنّ أمرأ كانت مساوِؤه****حب النبي لغير ذي ذنب
وبني أبي حسن ووالدهم ****من طاب في الأرحام والصلب
أترون ذنباً أن نحبهم ؟**** بل حبهم كفارة الذنب (13)
واضح، أن الشاعر يشير في هذه الأبيات إلى ما كان يتحمله من ضغوط أموية بسبب رساليته، أو بسبب حبه الرسالي للنبي، وعلي وآل علي، فليس هذا بذنب كما يرى بنو أمية، بل هو كفارة الذنب، وطريق الهدى والنجاة، وكيف لا يتحمل هذه الضغوط وهو يعيش في عصر يسب فيه علي على المنابر؟.
ويعبر الشاعر في أبيات أخرى عن أساه وألمه لهذا السب، بلغة تنطلق من عاطفة إسلامية رسالية، هي لغة كلّ المسلمين في عصره، اللهم إلاّ الشرذمة الضالعة في ركاب الحكام الظالمين:
لعن الله من يسب عليا****وبنيه من سوقه وإمام
أيسب المطهرون جـدوداَ****والكرام الأخوال والأعمام؟
يأمن الطير والحمام ولا****يأمن آل الرسول عند المقام
طبت بيتا، وطاب أهلك أهلا****أهل بيت النبي والإسلام
رحمة الله والسلام عليهم****كلما قام قائم بسلام (14)
هذا الولاء الذي يحمله الشاعر لآل بيت رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ لم يكن يعبر عن نظرة فئوية حزبية، بل عن نظرة إسلامية شعبية عامة، اتسعت لتستوعب حتّى الخليفة المرواني ـ عمر بن عبد العزيز ـ الذي استنكر هذا السّب ومنعه في نفس زمن حياة الشاعر كثير عزة. فطار الشاعر فرحا، وانشد قصيدته يثني على الخليفة موقفه هذا، وعدله بين الرعية، ورفعه الظلم عن الناس:
وليت فلم تشتم عليا ولم تخف**** بريا ولم تقبل إشارة مجرم
وصدقت بالفعل المقال مع الذي****أتيت فأمسى راضياً كلّ مسلم
وأظهرت نور الحق فاشتد نوره****على كلّ لبس بارق الحق مظلم(15)
ويكفي لمعرفة صدق ولاء الشاعر لآل بيت رسول الله، أنّه قال ما قال في مدحهم في أقسى ظروف الضغط الأموي على آل البيت. وفي أخباره ما يدل على شدة ولائه لأهل بيت رسول الله بما في ذلك أبناؤهم وذريتهم فكان يأتي إلى أبناء الحسن بن الحسن فينظر إليهم بعاطفة شديدة، تذكره بجدهم رسول الله وبنسبهم الطاهر، فتفيض عيناه دمعاً، ويقول: "بأبي انتم، هؤلاء الأنبياء الصغار"، ويريد بذلك: طهرهم وسمو منزلتهم.
وكان يهب لهؤلاء الصغار عطاءه، فيقول له محمّد بن عبدالله بن عمرو بن عثمان،
وهو أخوهم لأمهم: "يا عم هب لي، فيقول كثير: لا، لست من الشجرة"(16).
وله أخبار مع سكينة بنت الحسين ـ عليه السلام ـ منها: أنّه كان خارجا في الحاج، وقد أراد أن يبيع جمله، فساومته سكينه وهو لم يعرفها، وإنّما عرفته سكينة، فلم يرض إلاّ مائتي درهم، وحين عرفها استحيا وانصرف مهرولاً تاركاً لها الجمل وهو يقول: "هو لكم، هو لكم "(17) خجلاً وإجلالاً.
وإذا وقفنا عند الكميت لاستجلاء هذا الحب الرسالي في شعره، فأننا سنجد العجب العجاب. هذا الشاعر الذي عاش النصف الثاني من القرن الأول، والعقود الثلاثة الأولى من القرن الثاني (60 ـ 126 هـ) كان "خطيب بني أسد، وفقيه الشيعة، وحافظ القرآن، وثبت الجنان"(18).
وسئل معاذ الهراء: "من أشعر الناس ؟ فقال: من الجاهليين: امرؤ القيس، وزهير، وعبيد بن الأبرص. ومن الإسلاميين: الفرزدق، وجرير، والأخطل. فقيل له: يا أبا محمّد، ما رأيناك ذكرت الكميت ! فقال: ذاك اشعر الأولين والآخرين"(19).
ومدحه للنبي ـ صلى الله عليه وآله ـ معروف، وقف عنده النقاد كثيراً، ويحسن أن نتعرض له ولو قليلاً لأنه يكشف عن جانب هام من ولائه الرسالي وظروف عصره.
يقول الكميت:
فاعتتب الشوق في فؤادي والشعر****إلى من إليه معتتب
إلى السراج المنير أحمد لا**** يعدلني رغبة ولا رهب
وقيل أفرطت، بل قصدت، ولو**** عنفني القائلون، أو ثلبو
إليك يا خير من تضمنت الأرض**** وإن عاب قولي العيب
لج بتفضيلك اللسان، ولو****أكثر فيك الضجاج واللجب(20)
والعجيب في هذه الأبيات أنّه يتحدث عمّن يؤنبه ويعنفه لمدحه النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ، ويصر على هذا المدح وإن عاب العائبون، وعنف وثلب القائلون.
الجاحظ يرى: أن قول الكميت هذا هو "من غرائب الحمق"، ويتساءل مستغرباً: "فمن رأى شاعراً مدح النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ، فاعترض عليه واحد من جميع أصناف الناس!، حتّى يزعم أنّ أناساً يعيبونه ويثلبونه ويعنفونه"؟(21).
والشريف المرتضى رحمه الله يرى أن الكميت لم يرد في مدحه النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ، وإنّما أراد عليا ـ عليه السلام ـ فورى عنه بذكر النبي خوفاً من بني أمية(22).
وأجمل ما رأيت من تحليل لمدح الكميت المذكور، ورأي النقاد فيه، ما كتبه الأستاذ الدكتور عبد الحسيب طه حميدة، أنقله بنصه لأهميته، إذ يقول:
(ونحن نرى: أن الكميت كان أعلم بأخلاق عصره من هؤلاء، وأمس بسياسته...، كان يشعر بأنه يحيا وسط دولة ترى: أن هذا اللون من مدح الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ تزكية للهاشميين، ولفت للذهن إلى حق هؤلاء في الخلافة.
وإذا كانت السياسة قد أباحت لابن الزبير ـ على مكانته الدينية وبيته من الإسلام ـ أن يسقط ذكر النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ من خطبه، حتّى إذا ليم على ذلك، قال: والله ما يمنعني من ذكره علانية أني لا أذكره سراً، وأصلي عليه، ولكني رأيت هذا الحي من بني هاشم إذا سمعوا ذكره، اشرأبت أعناقهم، وأبغض الأشياء إلي ما يسرهم. وفي رواية: أن له أهيل سوء(23).
نقول: إذا كانت السياسة قد أباحت لابن الزبير هذا، فما بالك ببني أمية في عصر الكميت وقد تغيرت الأخلاق، وفسد الناس؟.
فالكميت يحدثنا عن عصر يحيا فيه، ويصطلي بسياسته، ويحس أن مدحه للرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ يعرضه للعيب والثلب والعنف.
والجاحظ يحكم في الرجل نظرة دينية، ويتناسى أن السياسة قد بدأت في هذا العصر تستقل عن الدين، فبغضت هذا اللون من المديح، لا لأنه مدح للرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ بل لأنه ضرب من التمرد والشغب، والخروج على السلطان، به تشرئب أعناق الهاشميين، ويلفت الناس إليهم... هذا إلى أن الجاحظ عثماني، فلا غرو أن اهتم بنفي هذه التهمة عن بني أمية، واحتشد لذلك، فعد مذهب الكميت حمقاً، بل من غرائب الحمق) (24). ويظهر من الروايات: أن الكميت جند نفسه منذ بداية انبثاق الشعر على لسانه للدفاع عن أهل البيت، ورواية صاحب الأغاني عن الحوار بين الكميت والفرزدق، تبين أيضاً اهتمام الشاعر بأن تكون كلمته في المدح قوية مؤثرة، تملك المشاعر والنفوس، حتّى جعلت شاعراً كبيراً مثل الفرزدق، يحار ويدهش أمام هذا الشاعر الناشئ.
انظر إلى هذا الحوار:
الكميت: يا أبا فراس، إنك شيخ مضر وشاعرها، وأنا ابن أخيك الكميت بن زيد. الفرزدق: صدقت، أنت ابن أخي، فما حاجتك؟
الكميت: نفث على لساني، فقلت شعراً، فأحببت أن أعرضه عليك، فأن كان حسناً، أمرتني بإذاعته، وإن كان قبيحاً، أمرتني بستره، وكنت أول من ستره علي.
فقال الفرزدق: أما عقلك فحسن، وإني لأرجو أن يكون شعرك على قدر عقلك، فأنشدني، فأنشده:
طربتُ وما شوقاً إلى البيض أطْرَبُ
فقال الفرزدق: ففيم تطرب يا ابن أخي ؟ فقال:
ولا لَعِباً منّي وذو الشّيبِ يَلعبُ؟
فقال الفرزدق: بلى يا ابن أخي، فالعب فأنك في أوان اللعب فقال:
ولم يلهني دار ولا رسم منزل **** ولم يتطربني بنان مخضب
فقال: وما يطربك يا ابن أخي ؟ فقال:
ولا أنا ممن يزجر الطير همه****أصاح غراب أم تعرض ثعلب
ولا السانحات البارحات عشية****أمرّ سليم القرن، أم مرّ أعضب.
فقال: أجل، لا تتطير فقال:
ولكن إلى أهل الفضائل والتقى ****وخير بني حواء، والخير يطلب
فقال: ومن هؤلاء ويحك؟ فقال:
إلى النفر البيض الّذين بحبهم**** إلى الله فيما نالني أتقرب
فقال: أرحني ويحك، من هؤلاء؟ فقال
بني هاشم رهط النبي فأنني**** بهم، ولهم أرضى مراراً وأغضب
فقال الفرزدق: يا ابن أخي، أذع ثم أذع، فأنت ـ والله ـ أشعر من مضى وأشعر من بقي(25).
ونجد في شعر الكميت تركيزاً على الدافع الديني في ولائه لأهل البيت، فحبه ينطلق من تربية قرآنية وطدت جذور هذا الحب في نفسه.
وجدنا لكم في آل حاميم آيةً****تأولها منا تقي ومعرب
وفي غيرها آياً، وآياً تتابعت****لكم نصب فيها لذي الشك منصب(26)
ويؤكد: أن حبه لأهل البيت، هو استمرار لحب رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ وأنه بدافع طلب مرضاة الله سبحانه وتعالى:
إنّ أمت لا أمت ونفسي نفسان****من الشك في عمى أو تعامي
عادلاً غيرهم من الناس طراً****بهم، لا همام بي، لا همام
لم أبع ديني المساوم بالوكس****ولا مقلياً من السوام
أخلص الله لي هواي، فما أغرق****نزعاً، ولا تطيش سهامي
ولهت نفسي الطروب إليهم****ولهاً، حال دون طعم الطعام(27)
ويظهر من سيرة الكميت أنّه كان هائماً في حب أهل البيت إلى درجة صوفية غارقة. وكان أحب شيء إليه أن يسمع منهم دعاء له، وأن يسموه شاعر أهل البيت، فيطير فرحاً ويبكي وجداً.
يروي صاحب الأغاني عن صاعد ـ مولى الكميت ـ قال: دخلنا على فاطمة بنت الحسين، فقالت: هذا شاعرنا ـ أهل البيت ـ وجاءت بقدح فيه سويق، فحركته بيدها ودفعته إليه فشربه، ثم أمرت له بثلاثين دينار ومركب، فهملت عيناه ثم قال: لا والله لا أقبلها، إني لم أحبكم للدنيا(28).
وروي عن محمّد بن سهل ـ صاحب الكميت ـ قال: دخلت مع الكميت على أبي عبدالله جعفر بن محمّد (الصادق) ـ عليه السلام ـ ، أيام التشريق بمنى، فقال: جعلت فداك، ألا أنشدك ؟ فقال يا كميت إنها أيام عظام، فقال: إنها فيكم، فقال: هات، وبعث الإمام إلى بعض أهل بيته فاجتمعوا ـ فأنشد لا ميته:
ألا هل عم في رأيه متأمل **** وهل مدبر بعد الإساءة مقبل
فكثر البكاء حوله... حتّى إذا قال:
يصيب به الرامون عن قوس غيرهم **** فيا آخراً أسدى له الغي أول
رفع الإمام الصادق يديه وقال: اللهم اغفر للكميت، ماقدم وما أخر، وما أسر وما أعلن، وأعطه حتّى يرضى(29).
وكانت هذه الدعوات أثمن هدية يتلقاها هذا العاشق الوله من أحبابه.
ثم نقف عند شاعر آخر عاش النصف الأول من القرن الثاني وردحاً من نصفه الثاني وهو السيد الحميري (105 ـ 173 هـ): إنه أبو هاشم إسماعيل بن محمّد بن يزيد بن مفرغ الحميري، ويكفي في رساليته أنّه ولد من أبوين خارجيين، يسبان علياً، لكنه هام في علي وآل بيته، وحينما علم أبواه بمذهبه هما بقتله، ففر من بيتهما وبقي بعيداً عنهما حتّى ماتا.
وحين سئل عن سبب ولائه لعلي وآل بيت رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ مع أن أبويه خارجيان، يقول: "غاصت علي الرحمة غوصاً"(30).
وتذكر الرواية أن السيد انفجر على لسانه الشعر، بسبب رؤيا مباركة، رأى فيها النبي يطلب منه أن يقلع أشجار نخل طوالاً لأمرئ القيس، ويغرسها في مكان آخر، وحين ذكر الرؤيا لابن سيرين قال له: "أما إنك ستقول شعراً مثل شعر امرئ القيس، إلاّ أنك تقول في بررة أطهار"(31). وهذه الرواية تبين أيضاً المنطلق الرسالي لهذا الشاعر.
أجمع الرواة أن للسيد شعراً كثيراً، وهو من أكثر الناس شعراً في الجاهلية والإسلام (32)، ولكن شعره تحومي بسبب إفراطه في ذكر الخلفاء الثلاثة بسوء وهنا أود أن أشير فقط إلى أن سبب الصحابة بدأ منذ زمن معاوية، حين أمر بسب أول الصحابة إسلاماً وأشدهم إيماناً وهو علي بن أبي طالب.
ولم يكتف أعداء علي بهذا السب، بل تستروا بالخلفاء الثلاثة لكي يطعنوا بالخليفة الرابع، فجعلوا بذلك علياً مقابل الخلفاء الثلاثة، وجعلوا مدح الخلفاء الثلاثة نوعاً من الطعن بعلي بينما لا نرى بين هؤلاء الأربعة نزاعاً في حياتهم قط ـ (وإن كانت لهم وجهات نظر متباينة)ـ، وإنّما هي السياسية الأموية، وسياسة كلّ أعداء علي، التي أرادت أن تطعن بعلي متسترة بالولاء للخلفاء الثلاثة، ولا تزال هذه السياسة المفرقة الاستفزازية
موجودة بشكل وآخر في عالمنا الإسلامي مع شديد الأسف.
وكان للموالين لعلي مواقف مختلفة من هذه الخطة الأموية. منهم من انتهج طريق فضح هذه الخطة، وتوضيح خلفية هذا اللون من الدفاع عن الخلفاء الثلاثة، مؤكداً أن هؤلاء لا يمدحونهم حباً بهم، بل بغضاً لعلي، وبعضهم اندفع لبيان أفضلية علي بين صحابة رسول الله، وبعضهم بلغ به رد الفعل إلى درجة ثلب الخلفاء الثلاثة هذه مسألة هامة نحتاج إلى الوقوف عندها طويلاً، وإنّما أشرت إليها لأذكر أن "السيد" كان يستفز أحياناً بمدح الخلفاء فيفهم من خلال الظروف التي كان يعيشها، أن هذا المدح يستهدف طعناً بعلي فينبري للدفاع عن الإمام وأهل بيته.
من ذلك أن أحدهم استفزه ببيت يقول:
محمّد خير من يمشي على قدم****وصاحباه، وعثمان بن عفان
فانتفض غاضباً يقول:
سائل قريشاً إذا ما كنت ذاعمه****من كان أبثتها في الدين أوتادا
من كان أعلمها علماً، وأحلمها****حلماً، وأصدقها قولاً وميعاد
إنّ يصدقوك فلن يعدوا أبا حسن****إنّ أنت لم تلق للأبرار حسادا(33)
ويركز السيد الحميري على المنطلق الرسالي في ولائه لعلي وآل بيت النبي، فيذكر تارة أنّه ينطلق في هذا الولاء من حديث رسول الله في غدير خم:
إذا أنا لم أحفظ وصاة محمّد****ولا عهده يوم الغدير المؤكد
فأني كمن يشري الضلالة بالهدى****تنصر من بعد التقى، وتهود
ومالي وتيم، أو عدي، وإنّما****أولوا نعمتي في الله من آل أحمد
تتم صلاتي بالصلاة عليهم****وليست صلاتي بعد أن أتشهد
بكاملة إنّ لم أصل عليهم****وأدع لهم رباً كريماً ممجد (34)
وتارة يذكر أن ولاءه له منطلق قرآني، لما جاء في حق آل البيت من آية التطهير:
إنّ يوم التطهير يوم عظيم****خص بالفضل فيه أهل الكساء(35)
وولع السيد الحميري بتصوير ما جاء في السيرة، من ارتباط عاطفي بين الرسول وأهل بيته، مشيراً إلى أن ولاءه لأهل البيت يستمد قوامه من السيرة، من ذلك أن السيد سمع محدثا يحدث أن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ كان ساجداً، فركب الحسن والحسين على ظهره، فقال عمر: "نعم المطي مطيكما" فقال النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ: ((نعم الراكبان هما))، فانفجرت قريحة السيد بالقول:
أتى حسناً والحسين النبي****وقد جلسا حجره يلعبان
ففداهما، ثم حياهما****وكان لديه بذاك المكان
فراحا وتحتهما عاتقاه****فنعم المطية، والراكبان
وليدان أمهما برة****حصان مطهرة للحصان
وشيخهما ابن أبي طالب****فنعم الوليدان والوالدان(36)
لأن وقفنا طويلاً عند هذا الولاء الرسالي، فلأن الشعر الشيعي متهم بالولاء الحزبي والطائفي وما هو كذلك، كما يرى بوضوح في النماذج المذكورة وسنمر سريعاً في ذكر الخصائص الأخرى التي تطبع الشعر الشيعي بالطابع الرسالي.
الدفاع عن مصالح الأمة
شعراء أهل البيت تصدوا للدفاع عن مصالح الأمة، وللحديث عما يحط بالمسلمين من ظلم الحكام وطغيانهم، وحث الناس على اليقظة والانتباه إلى تصرفات الحكام. وهذا الاتجاه في الشعر الشيعي يعني أنّه ابتعد عن المصالح الفئوية والحزبية، وحمل هموم الأمة، وارتفع إلى مستوى أهداف الإسلام في ردع الظلم، وإحقاق الحق، وإقامة المجتمع العادل.
ولعل خير مثال على هذا الاتجاه في الشعر الشيعي ـ لامية الكميت (37) ـ التي يبدؤها بتوعية الأمة وإيقاظها فيقول:
ألا هل عم في رأيه متأمل****وهل مدبر بعد الإساءة مقبل
وهل أمة مستيقظون لرشدهم****فيكشف عنه النعسة المتزمل
فقد طال هذا النوم واستخرج الكرى****مساويهم لو أن ذا الميل يعدل
ثم يذكر الشاعر منطلقه في ثورته على واقعه الاجتماعي المنحرف، موضحاً أن سبب ما يعج به المجتمع الإسلامي في عصره، من ظلم وفساد، إنّما هو الانحراف عن الكتاب والسنة، وتعطيل أحكام الإسلام.
وعطلت الأحكام حتّى كأننا****على ملة غير التي نتخل
كلام النبيين الهداة كلامنا****وأفعال أهل الجاهلية نفعل
أنظر إلى الشاعر كيف يحدد منطلقه في الدفاع عن الأمة، إنه يدين العودة إلى مظاهر الجاهلية، باعتبارها سبب كلّ انحراف ثم يندفع الشاعر في حث الأمة على استعادة كرامتها، وعدم الالتصاق بالأرض، والمتاع الدنيوي الرخيص، والارتفاع إلى مستوى التضحية في سبيل المبدأ يقول:
رضينا بدنياً لا نريد فراقها****على أننا فيها نموت ونقتل
ونحن بها المستمسكون كأنها****لنا جنة مما نخاف ومعقل
أرانا على حب الحياة وطولها****يجد بنا في كلّ يوم ونهزل
ثم يرفع صوته بوجه الظالمين، مندداً بما ينزلونه من عذاب بالأمة ومن استهانة بكرامتها وتضييع لحقوقها:
فتلك أمور الناس أضحت كأنها****أمور مضيع آثر النوم بهل (38)
فياساسة هاتوا لنا من جوابكم****ففيكم لعمري ذو أفانين مقول
أهل كتاب نحن فيه وأنتم****على الحق نقضي بالكتاب ونعدل
فكيف، ومن أنى، وإذ نحن خلفه****فريقان شتى تسمنون ونهزل
لنا راعيا سوء مضيعان منهما****أبو جعدة العادي وعرفاء جيال (39)
أتت غنماً ضاعت وغاب رعاؤها****لها فرعل، فيها شريك وفرعل(40)
ويؤكد الشاعر ثانية على منطلقه الرسالي في الدفاع عن الأمة، حين يعود ثانية إلى القول بأن هذه الأمة لا تصلح أوضاعها، إلاّ بأصلاح دينها، والعودة إلى هدى كتاب ربها وسنة نبيها، يقول:
أتصلح دنيانا جميعاً وديننا **** على ما به ضاع السوام الموبل (41)
كان كتاب الله يعنى بأمره **** وبالنهي فيه الكودني المركل(42)
ألم يتدبر آية فتدله **** على ترك ما يأتي، أم القلب مقفل
وكيف يمكن العودة إلى إسلام رسول الله، وهؤلاء الولاة الظلمة يسومون الأمة سوء العذاب؟:
فتلك ولاة السوء قد طال ملكهم **** فحتام حتام العناء المطول
رضوا بفعال السوء في أهل دينهم **** فقد أيتموا طوراً عداء وأثكلوا..
لهم كلّ عام بدعة يحدثونها **** أزلوا بها أتباعهم ثم أوحلوا
تحل دماء المسلمين لديهم **** ويحرم طلع النخلة المتهدل
ما أروع هذا البيت الأخير، الذي يصور وضع طواغيت العالم الإسلامي في كلّ زمان ومكان يستهينون بدماء المسلمين، وليست لنفس المسلم عندهم أية كرامة، لكنهم يطالبونه بأداء ما فرضوا عليه من ضرائب وخراج، ولا يحق له أن يمشي بين نخله، ويمسه حتّى يؤدي خراجه، فأن هو مسه قبل ذلك قتل.
ومثل هذا الدفاع عن حقوق الأمة المضيعة نجده عند جميع شعراء الشيعة.. دفاعاً ينطلق من إيمان بما أراده الله للإنسان المسلم، من عزة وكرامة وحقوق فردية واجتماعية.
وهذا التصدي للدفاع عن الأمة، عرضناه في شعر الكميت وهو يقارع الأمويين، ونعرض بعض أبيات شاعر شيعي آخر، هو أبو فراس الحمداني، وهو يدافع عن حقوق الأمة أمام ظلم حكام زمانه من العباسيين يقول:
الدين مخترم والحق مهتضم **** وفيء آل رسول الله مقتسم
والناس عندك لاناس فيحفظهم **** سوء الرعاء، ولا شاء ولا نعم...
وما السعيد بها إلاّ الذي ظلموا **** ولا الغني بها إلا الذي حرمو
للمتقين من الدنيا عواقبها **** وإن تعجل فيها الظالم الأثم(43)
وفي البيت الأخير، حث لأهل الإيمان أن لا ييأسوا من مطالبة حقهم، ومن مقارعة الظالمين.
(إنّ الأرض لله يروثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين)(44).
الصمود على المبدأ
مر بنا أن شعراء الشيعة كانوا يعلنون رساليتهم، والتزامهم بإسلام رسول الله، من خلال إعلانهم الولاء لآل البيت، والدفاع عن كرامة الأمة المسلمة. وهذا الموقف كلف
هؤلاء الشعراء التأنيب والتقريع، والتشريد والتجويع، وعانوا من ألوان الظلم والاضطهاد والعذاب، صابرين صامدين، مؤكدين على تعاليهم عما يتهافت عليه الناس، من مال ومتاع، وعلى تفانيهم في سبيل مبدا آمنوا به إيماناً جعلهم يستحلون كلّ تعذيب، طلباً لأجر الآخرة.
ولا يمكن أن نعرف مدى استقامة هؤلاء الشعراء وصمودهم، إلاّ إذا عرفنا جو الإرهاب الذي عاشوا فيه ن والبطش الذي مارسه الحكام بحق الصامدين على المبدأ ويكفي أن نلقي نظرة على كتب التاريخ، لنعرف أن الأمويين والعباسيين مارسوا أفظع ألوان التقتيل والتنكيل، بحق كلّ من كانوا يشكون.. يشكون فقط.. في ولائه لآل بيت رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ (45).
يقول الكميت:
ألم تر ني من حب آل محمّد **** أروح وأغدو خائفاً أترقب
كأني جان محدث وكأنما **** بهم يتقى من خشية العر أجرب
على أي جرم أم بأية سيرة **** أعنف في تقريظهم وأؤنب(46)
هكذا كان شاعر أهل البيت..، فهو خائف مترقب، معنف مؤنب، لا لذنب اقترفة سوى حبه لآل البيت وهذا الصمود أمام ألوان التحديات، يؤكد رسالية المسلك الذي إلى الشاعر على نفسه أن يسلكه.
وواضح أن هذا الأدب يختلف تماماً عن أدب اللهى التي تنفتح باللهى (47)، وعن ذلك الأدب الذي يصدر عن عصبية حزبية أو عشائرية لا يقوى صاحبها على مواجهة أي تهديد.
إنّ المعيار الذي اتخذه الشاعر الشيعي في حياته، يسمو على كلّ ارتباط قبلي أو عشائري، فهو معيار رسالي نابع من التزامه بالإسلام وبسنة رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ، لا يبالي بسخط الساخطين أو لوم اللائمين يقول:
فيهم صرت للبعيد ابن عم **** واتهمت القريب أي اتهام
وتناولت من تناول بالغبة **** أعراضهم وقل اكتتامي
ورأيت الشريف في أعين الناس **** وضيعاً وقل فيه احتشامي
معلناً للمعلنين، مسراً **** للمسرين، غير دحض المقام
مبدياً صفحتي على المرقب المعلم **** بالله عزتي واعتصامي
ما أبالي إذا حفظت أبا القاسم **** فيهم ملامة اللوام
ما أبالي، ولن أبالي فيهم **** أبداً رغم ساخطين رغام
فهم شيعتي وقسمي من الأمة، **** حسبي من سائر الأقسام(48)
الخوارج كفروا الشاعر، والأمويون اعتبروه مسيئا مذنباً، ولم يسؤه ذلك، ولم يتراجع عن موقفه قط:
يشيرون بالأيدي إلي، وقولهم **** إلاّ خاب هذا والمشيرون أخيب
فطائفة قد كفرتني بحبكم **** وطائفة قالوا: مسيء ومذنب
فما ساءني تكفير هاتيك منهم **** ولا عيب هاتيك التي هي أعيب
يعيبونني من خبهم وضلالهم **** على حبكم، بل يسخرون وأعجب(49)
ولم يتعرض الشاعر الشيعي للسخط في عصر الأمويين فحسب، بل في عصر العباسيين أيضاً، لأن هذا الشعر قد أتجه إلى مقارعة الطواغيت، سواء كانوا من بني أمية، أم من بني هاشم من العباسيين، ولذلك كان الشاعر الشيعي دعبل في العصر العباسي
مطارداً، مهدداً بالقتل، ويعبر عن استعداده لهذه التضحية فيقول: "أنا أحمل خشبتي على كتفي منذ خمسين سنة، لست أجد أحداً يصلبني عليها" (50).
المنطق الإسلامي في المدح والهجاء
منطق المدح والهجاء في الشعر العربي جاهلياً كان أم بعد الإسلام ينحو منحى معيناً، فهو في المدح يتناول الكرم والشجاعة والقوة.. وأمثالها من الخصال الحميدة، وفي الهجاء يركز على البخل والجبن والضعف، قد يتناول الأعراض والمثالب التاريخية...، لكننا نجد في الشعر الشيعي منطلقا خاصاً في المدح والهجاء، يستمد محتواه من مضامين القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، ومن غيرة على الإسلام والأمة الإسلاميّة.
مرت بنا رسالية الشاعر الشيعي والتزامه الإسلامي في إبراز ولائه لآل البيت ونذكر هنا بعض نماذج المدح والهجاء في الشعر الشيعي، ليتبين لنا أن العواطف الشيعية إنّما هي عواطف إسلامية صادقة، لا تسمح للشاعر أن يحيد عن مسيرة الرسالة ومحتواها العقائدي.
أبدأ بذكر نموذج من دعبل الخزاعي في تائيته المعروفة(51).
ألم تر للأيام ما جر جورها **** على الناس من نقص وطول شتات
ومن دول المستهترين، ومن غدا **** بهم طالباً للنور في الظلمات
فكيف ؟ ومن أنى يطالب زلفة **** إلى الله بعد الصوم والصلوات
سوى حب أبناء النبي ورهطه **** وبغض بني الزرقاء والعبلات
وهند، وما أدت سمية وأبنها **** أولو الكفر في الإسلام، والفجرات
هم نقضوا عهد الكتاب وفرضه **** ومحكمه بالزور والشبهات
لا حظ، أن الشاعر يؤلمه ما نزل بالناس من ظلم، ويؤلمه ما حل بالمجتمع الإسلامي من تمزق، ثم يهجو أولئك الّذين أنزلوا بالأمة هذه المصائب، فيقول: إنهم المستهترون الذي تحكموا في رقاب الأمة ومن لف لفهم.
"دول المستهترين" ما أجمله من تعبير، ينم عن فهم رائع لخصائص الحكم والحاكم في نظر هذا المسلم المتعلم في مدرسة أهل البيت.
ثم يشيد الشاعر بذكر أهل البيت، باعتبار أن حبهم فريضة إلهية بعد الصوم والصلاة، ويعلن كرهه لبني مروان وبني أمية (بني الزرقاء، والعبلات، وهند) لأنهم"أولو الكفر في الإسلام والفجرات"، ولانهم "نقضوا عهد الكتاب وفرضه".
ثم انظر في الأبيات التالية ـ معياره ـ في مدح أهل البيت:
فيا وارثي علم النبي، وآله **** عليكم سلام دائم النفحات
قفا نسأل الدار التي خف أهلها **** متى عهدها بالصوم والصلوات
وأين الأولى شطت بهم غربة النوى **** افانين في الآفاق مفترقات
هم أهل ميراث النبي إذ اعتزوا **** وهم خير سادات وخير حماة
مطاعيم في الإعسار في كلّ مشهد**** لقد شرفوا بالفضل والبركات
وانظر كيف يهجو أعداءهم:
وما الناس إلاّ حاسد ومكذب **** ومضطعن ذو إحنة وترات
إذا ذكروا قتلى ببدر وخيبر **** ويوم حنين أسبلوا العبرات
وكيف يحبون الني ورهطه؟ **** وهم تركوا أحشاءهم وغرات ؟
لقد لا ينوه في المقال وأضمروا **** قلوباً على الأحقاد منطويات
أعداء أهل البيت ـ إذن ـ هم أعداء النبي وأعداء الرسالة الإسلاميّة ، من الذين هزمهم الإسلام في بدر وخيبر وحنين، فاستسلموا يوم الفتح وقلوبهم تنطوي على الأحقاد.
هذا المنطق الإسلامي في المدح والهجاء نراه على طول تاريخ الشعر الشيعي.
ولنذكر نموذجاً آخر من فارس بني حمدان، أبي فراس الحمداني يقول في ميميته(52)
العظيمة يهجو بني العباس ويمدح آل البيت، ويقارن بين البيتين العباسي والعلوي، (انظر بدقة إلى معياره في المقارنة):
يا باعة الخمر كفوا عن مفاخركم **** عن فتية بيعهم يوم الهياج دم
خلوا الفخار لعلامين إنّ سئلوا **** يوم الفخار وعمالين إنّ علموا
لا يغضبون لغير الله إنّ غضبوا **** ولا يضيعون حكم الله إنّ حكموا
تنشى التلاوة في أبياتهم أبداً **** ومن بيوتكم الأوتار والنغم
منكم علية أم منهم؟ وكان لكم **** شيخ المغنين إبراهيم أم لهم؟(53).
أم من تشاد له الألحان سائرة **** عليهم ذو المعالي أم عليكم؟
إذا تلو سورة غني مغنيكم **** "قف بالديار التي لم يعفها القدم"(54).
ما في ديارهم للخمر معتصر **** ولا بيوتهم للسوء معتصم
ولا تبيت لهم أنثى تنادمهم **** ولا يرى لهم قرد له حشم
الحجر والبيت والأستار منزلهم **** وزمزم والصفا والركن والحرم.
لاحظ، كيف يمدح آل البيت: إنهم مضحون في سبيل الله علاّمون، عمّالون، لا يغضبون لغير الله، لا يضيعون حكم الله، ترتفع تلاوة القرآن في بيوتهم دائماً.. بيوتهم مطهرة من الخمر والسوء والمنكر، ومنزلهم مكان الذكر والعبادة: الحجر والبيت، وزمزم والصفا، والركن والحرم.
أما أعداؤهم فهم: باعة الخمر، ونساؤهم مغنيات، ورجالهم مغنون، وبيوتهم مكان اعتصار الخمر والسوء والفسق والفجور.
مما تقدم نفهم أن الشعر الشيعي رسالي، لا طائفي ولا حزبي ولا عشائري في ولائه وتبريه، وفي مواقفه الدفاعية، وصموده وأسلوبه.
وهكذا التشيع لم ينشأ مقابل "التسنن" كما يوحي بذلك الانقسام الموجود اليوم بين المسلمين إلى شيعة وسنة، بل نشأ باعتباره الأطروحة الملتزمة بالإسلام كما جاء به رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ، والمدافعة عن الرسالة أمام محاولات المحرفين وكيد الكائدين. وبهذا الفهم الموضوعي الواقعي للتشيع تزول الحساسيات النفسية القائمة اليوم بدرجة وأخرى بين أبناء السنة والشيعة.
___________________
1 ـ الطبري 5: 98.
2 ـ مثل ابن الأثير 3: 94.
3 ـ انظر آراء المستشرقين في ابن سبأ في كتاب نظرية الإمامة لأحمد محمود: 37، وانظر أيضاً: طه حسين الفتنة الكبرى، فصل ابن سبأ.
4 ـ أدب الشيعة إلى نهاية القرن الثاني الهجري؛ الدكتور عبد الحسيب طه حميدة: 122 ط 3، وانظر أيضاً: حزب الشيعة في العصر الأموي، الدكتورة ثريا عبد الفتاح.
5 ـ الأغاني 7: 11، 11: 120، الأمالي للمرتضى 1: 293، وديوان أبي الأسود الدولي: 119 ـ 121. و"هويا" فانه لغة هذيل يقولونها في كلّ مقصور (الأمالي 1: 293).
6 ـ البيان والتبيين 1: 134، 339.
7 ـ انظر: الطبري 4: 108، والعقد الفريد 5: 96، والكامل لابن الأثير 3: 386، الأغاني 11: 115.
8 ـ الطبقات الكبرى لابن سعد 7: 99.
9 ـ أسد الغابة 3: 70، ابن خلكان 2: 535.
10 ـ الأغاني 11: 107.
11 ـ الطبقات الكبرى لابن سعد7: 99.
12 ـ ديوان أبي الأسود: 78.
13 ـ كثير عزة، احمد الربيعي: 123.
14 ـ كثير عزة، أحمد الربيعي: 123.
15 ـ الشعر والشعراء لابن قتيبة 1: 413، الأغاني 8: 153.
16 ـ الأغاني 8: 34.
17 ـ المصدر السابق 8: 40.
18 ـ خزانة الأدب، للبغدادي 1: 144.
19 ـ الأغاني 15: 127، خزانة الأدب 1: 145.
20 ـ الأبيات من 31 ـ 36 من قصيد مطلعها:
إني ومن أين ابك الطرب *من حيث لا صبوة و لا ريب.
شرح هاشميّات الكميت، أبو رياس القيسي، تحقيق داود سلوم ونوري حمودي
القيسي: 110 ـ 111.
21 ـ البيان والتبيين 2: 172.
22 ـ الأمالي 3: 166.
23 ـ العقد الفريد 2: 157، ابن أبي الحديد 20: 489.
24 ـ أدب الشيعة، عبد الحسيب طه حميدة، ط 3: 222 ـ 223.
25 ـ الأغاني 15: 125، ومروج الذهب 2: 153، وأمالي الشريف المرتضى 1: 47.
26 ـ الأبيات 29 و 30 من هاشميته.
طربت وما شوقاً إلى البيض أطرب *ولا لعباً مني وذو الشيب يلعب؟
انظر شرح الهاشميات: 55 ـ 56.
27 ـ الأبيات 89 ـ 93 من هاشميته: من لقلب متيم مستهام *غير ما صبوة ولا أحلام. شرح الهاشميات 37 ـ 38.
28 ـ الغااني 15 ـ 123.
29 ـ المصدر السابق، ومروج الذهب 2: 154.
30 ـ الأغاني 7: 3.
31 ـ الأغاني 7: 237، ويرد على الرواية أن ابن سيرين توفي حين كان الكميت في الخامسة من عمره.
32 ـ طبقات فحول الشعراء، لابن سلام 1: 195.ومعجم الشعراء للمرزباني: 347.
33 ـ الأغاني 7: 266.
34 ـ من الغديريات التي ذكرها العلامة الأميني في كتاب الغدير 2: 215، وانظر الأغاني 7: 17 ـ 18، وحديث الغدير متواتر لدى أهل السنة والشيعة، لكن بعض الباحثين المحدثين قال: إنه من الأحاديث الخاصة بالشيعة.
35 ـ الأغاني 7:7، وأهل الكساء هم: محمّد، وعلي، وفاطمة، والحسن، والحسين. وحديث الكساء هو أيضاً من الأحاديث المتواترة لدى كلّ المسلمين لكن الظروف التاريخية حولته إلى حديث خاص بطائفة معينة.
36 ـ الأغاني 7: 16.
37 ـ انظر: شرح هاشميات الكميت: 146 ـ 187 وهي 111 بيتاً.
38 ـ يقول: أمور الناس مهملة مبعثرة لا مدبر لها. فأمورهم كالإبل المهملة التي لا قيم لها ولا راعي يحفظها.
39 ـ راعيا سوء: يعني هشاماً بن عبد الملك الخليفة، وخالد بن عبدالله القسري والي العراق. ويقصد بالذئب هشاماً، والقرفاء: الضبع، ويقصد به خالداً. وقله جيال: أي كبير.
40 ـ أي أتت الضبع غنما لا راعي لها، ولا مانع يمنعها فعاثت فيها والفرعل: ولد الضبع.
41 ـ السوام الموبل: ما رعي من المال. يقول: أتصلح الدنيا والدين، وأنتم تمارسون الجور والفساد، وتضيعون الثروات؟
42 ـ الكودني: البليد كأنه كودن، أي برذون. والمركل: الذي لا يتحرك إلاّ بالركل لشدة تثاقله بوطئه.
43 ـ ديوان الأمير أبي فراس الحمداني، تحقيق الدكتور محمّد التونجي: 258.
44 ـ الأعراف: 128:
45 ـ بلغ الأمر بالشاعر الشيعي أن يتمنى بقاء جور بني مروان، فهو أفضل مما
نزل بالعلويين من ظلم بني العباس
يا اليت جوربني مروان عادَلنا ياليت ظلم بني العباس في النار.
46 ـ الأبيات 75 ـ 77 من هاشميته التي مطلعها:
طربت وما شوقاً إلى البيض أطرب *ولا لعباً مني وذو الشيب يلعب؟
47 ـ اللهي بفتح اللام هي اللهاة في مؤخر الفم، واللهى: هي لقم الطعام.
48 ـ شرح هاشميات الكميت: 35 ـ 37.
49 ـ المصدر السابق: 52 ـ 53.
50 ـ الأغاني 18: 30 ـ 34.
51 ـ انظر القصيدة التائية الخالدة في ديوان دعبل الخزاعي، تحقيق عبد الصاحب الدجيلي: 124 ـ 151.
52 ـ ديوان الأمير أبي فراس الحمداني: 257 ـ 262.
53 ـ علية: بنت المهدي، اخت الخليفة العباسي هارون الرشيد، قال القيرواني
في زهر الآداب 1: 43: "كانت علية لطيفه المعنى، رقيقة الشعر، حسنة مجاري
الكلام، ولها ألحان حسان، وعلقت بغلام اسمه (رشا) وفيه تقول:
أضحى الفؤاد بزينبا صباً كثيباً متعب*
فجعلت زينب سترة وكتمت أمراً معجب
قولها بزينب تريد برشا فنمي الأمر إلى أخيها الرشيد، فأبعده، وقيل: قتله.
وعلقت بغلام اسمه (طل) فقال لها الرشيد: والله لئن ذكرته لاقتلنك. فدخل
عليها يوماً على حين غفلة وهي تقرأ: فإن لم يصبها وابل فما نهى عنه أمير
المؤمنين فضحك، وقال: ولا كلّ هذا...
أما إبراهيم، فهو ابن المهدي عم المأمون، مغن موسيقار، يعرف بابن شكله.
حينما بايع المأمون الإمام الرضا بولاية العهد، نقم عليه العباسيون،
فاستغلوا وجود المأمون في (مرو)، فبايعوا إبراهيم خليفة للمسلمين وفي مدة
تربعه على كرسي الخلافة أصيبت الخزينة بالعجز، فألح عليه الجند وغيرهم في
أعطياتهم، فخرج إليهم رسول يقول: إنّه لا مال عند الخليفة، فطلب المتجمهرون
بدلاً من المال أن يخرج الخليفة فيغني لأهل هذا الجانب ثلاث أصوات، ولأهل
ذاك الجانب ثلاث اصوات (وفيات الأعيان 1: 8.)
وفي ذلك يقول دعبل:
يا معشر الأجناد لا تقنطوا وارضوا بما كان ولا تسخطوا ***فسوف تعطون (حنينية) يلتذها الأمرد والأشمط
و(المعبديات) لقوادكم لاتدخل الكيس ولا تربط ***وهكذا يرزق أصحابه خليفة مصحفه (البربط)
الديوان: 219.
54 ـ صدر البيت من مطلع قصيدة جاهلية لزهير، وعجزه: بلى وغيرها الأرواح والديم ـ يقصد أنكم مقابل تلاوتهم السور، تتغنون بأشعار الجاهلية.