ترتيلات عاشورائية.. وعطاءات المدرسة الحلِّية
  • عنوان المقال: ترتيلات عاشورائية.. وعطاءات المدرسة الحلِّية
  • الکاتب: محمد علي الحلو
  • مصدر:
  • تاريخ النشر: 18:22:40 1-10-1403

بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ

ترتيلات عاشورائية..

وعطاءات المدرسة الحلِّية

محمد علي الحلو

مقدمة

احتضنت الحلّة السيفية أو المزيدية الفيحاء، مدرستين كان لهما الأثر البالغ في ترسيم معالم النهضة الفكرية للمدرسة الإمامية إبّان القرن الخامس الهجري حين تأسيسها آنذاك، على عهد نوابغها المتعاقبين عليها كالمقدسين الطاووسيين، أو المحققين الحليين، وغيرهم من رواد المدرسة الفقهية الحلّية، التي كانت رائدة في تقديم الفقه الإسلامي بطروحاته الإمامية المباركة في بلاد الرافدين العراقية، يوم كانت الخلافة العباسية في النزع الأخير نتيجة الاضطراب الفكري، ثم الإبداع العلمي المشلول الذي أثقلت كاهله الاختراقات الفكرية الأخرى القادمة من خلف حدود الوطن الإسلامي.. كانت النهضة الفقهية الحلّية إلى جانب مدرسة الحلّيين الممتدة من المدرسة العاملية يوم كان جبل عامل حاضرة الاستنباط الفقهي، وقاعدة الاجتهاد الإمامي، وما أن أفِلت مدرسة الفقه الحلّي حتى توهجت حاضرة النجف الفقهية، فأشرقت حين ذاك المدرسة الأدبية الحلّية على أيدي الفقهاء الشعراء، وكأنها امتدادات لتلك المدرسة الفقهية العلمية، فكانت بحق صحوة أدبية يرعاها نوابغ الفقهاء الذين يتزعمون مسيرتها إلى حيث الأبواب "الأدبية الإمامية" المتنوعة، كالأراجيز الفقهية، والحديثية، أو التاريخية الأخرى.

كانت المدرسة الحلّية تمثّل الوجدانيات الصادقة التي تجيش بها قريحة الشاعر ليصوغها مقطوعة شعرية نابعة من غليان النفسية الشيعية الموتورة من أهم حدث سجّلته الذاكرة الشيعية في سجل ظلاماتها الممتدة عبر قرون، ولعلّ المدرسة "الحميرية" أو "الكميتية" وحتى "الخزاعية" التي تفنن في صياغتها السيد الحميرى المتمرد على مجتمع أخفى على نفسه الحقيقة، أو الثانية التي أنجبها الكميت المتأمل في عطاء آل البيت (عليهم السلام)، وتلك الثالثة التي تزعمها دعبل الخزاعي الثائر ليسيّر قافلة الشعر إلى جحافل جهاد تطالب الأمّة بالرجوع إلى صياغة ذاتها من خلال مراعاة الحقيقة، فإن المدرسة الشعرية "الحلّية" قد فاقت هذه المدارس في تصوير الواقعة الكربلائية، وكان التصاقها بالحدث الكربلائي هو الذي أحدث لها تلك "المدرسة الشعرية الحسينية" المتميزة.

تكفّلت المدرسة الشعرية الحلّية بصياغة "الحدث الحسيني" على أنه الحدث الذي ألهم الأمّة معرفة معاناتها الممتدة عبر قرون، وأنشدته على أنه الحدث الأهم الذي عبّر عن معاناة الإنسانية المعذبة، والتي استنفرت كل شيء للتمرد والثورة على الظلم والطغيان، فكان الشعور الإسلامي الشيعي الحافل بمعاناة الحقب الجائرة خصوصاً على الذات الشيعية، قد ترجمها الشاعر الحلّي إلى مقطوعات تفنن في صياغتها، وأجاد في إبراز مدرسة شعرية حسينية.

لم يكتفِ الشاعر الحلّي بالصياغة التقليدية للقصيدة أو الفن الشعري الرتيب، بل توّج عطاءه بإبداعات أدبية كانت نابعة من شدة شوقه في التعبير عن التحرّق الذي أصابه من فاجعة الطف الدامية، فنمت في أحاسيسه ووجدانياته اللاشعورية، فنون العطاء المعبّر عن معاناته هذه، حتى أضحى يقدّم العطاء تلو العطاء، والفن إثر الفن.

في حدود اطّلاعي، لم يكن ما قدّمه الشاعر السيد باقر القزويني قد سبقه إليه أحد، وهو ما ذهب إليه أيضاً المحقق المرحوم الشيخ محمد علي اليعقوبي (رحمه الله) في بابلياته(1)، فكان بحق صاحب مدرسة خاصة به تنشد الحسين (ع) بهذا الأسلوب الرائع.

اعتمد السيد باقر القزويني الذي أطلق على إبداعه الشعري الشيخ محمد علي اليعقوبي تسمية "البند"، اعتمد على أوزان شعرية مختلفة، وقافية مختلفة، إلاّ أنه سبك الموضوع في وحدة شعرية متماسكة، وصياغة فنية أنيقة، فقد تحرر من الوزن والقافية، إلاّ أنه التزم بسباكة شعرية نثرية ممزوجة، ليقدّم للمدرسة الأدبية هذا الفن الرائع، ولعلّنا يمكن أن نطلق على فنه هذا تسمية "الشعر الحرّ الملتزم" الذي التزم وحدة السبك في قصيدته مع تحرّرٍ ملتزم من قيود الوزن والقافية، ولعلّها المدرسة المبكرة في هذا الفن، ويمكن القول أن السيد باقر القزويني قد سبق مدرسة السياب ونازك الملائكة في هذا المضمار، وكانت محاولة مبكرة جداً كانت ستؤول إلى أطروحات أدبية أخرى لولا يد المنون التي اختطفت شاعرنا وهو في التاسعة والعشرين من عمره، في أوج عطائه وإبداعه، حيث كانت وفاته (رحمه الله) في عام 1333هـ.

نموذج "البند" الذي نظمه السيد باقر القزويني (ره):

ألا ياأيها الراكب يفري كبد البيد، بتصويب وتصعيد، على متن جواد أتلع الجيد..

نجيب تخجل الريح بل البرق لدى الجري..

إلى الحلبة في السبق ذراعاه مغارا..

عج على جيرة أرض الطف، واسكبْ مُزَنَ الطرف، سيولاً تبهر السحب لدى الوَكف..

وعفّر في ثراها المندل الرطب بل العنبر خديك، ولجها بخضوع وخشوع بادي الحزن قد ابيضت من الأدمع عيناك!!

فلو شاهدت مَنْ حلّ بها ياسعد منحوراً شهيداً لتلظيت أواراً..

فهل تعلم أم لا؟ ياابن خير الخلق سبط المصطفى الطهر، عليه ضاق بر الأرض والبحر!!

أتى كوفان يحدو نحوها النجب، وقد كانوا إليه كتبوا الكتب!!

وقد أمّهم يرجو بمسراه إلى نحوهم الأمن، فحفت أهلها بابن زياد وحداها سالف الضغن، وأمّت خيرة الناس ضحى بالضرب والطعن..

هناك ابتدرت للحرب أمجاد بهاليل، تخال البيض في أيديهم طيراً أبابيل..

فدارت بهم دائرة الحرب، وبانت لهم فيها أفاعيل، وقد أقبلت الأبطال من آل علي لعناق الطعن والضرب، ونال آل حرب بهم الشؤم بل الحرب، كما قد غبّروا في أوجه القوم، وغصت منهم بالسمر والبيض رحى الحرب!!

كرام، نقباء، نجباء، نبلاء، فضلاء، حلماء، حكماء، علماء..

وليوث غالبية، وحماة هاشمية، بل شموس فاطمية، وبدور طالبية..

فلقد حاموا خدوراً، ولقد أشفوا صدوراً، ولقد طابوا نجاراً..

أسد من دافعوا عن حرم الرحمن أرجاس، فما تسمع إلا رنة السيف على الطاس، من الداعين للدين هداة الخلق لا بل سادة الناس، ولو تبصر شيئاً لرأيت البيض قد غاصت على الرأس، ففرت فرق الشرك ثباً من شدة البأس..

ولا تعرف ملجى، ولا تعقل منجى..

لا ولا تدري، إلى أين تولي وجهها منهم فراراً..

ولم يرتفع القتير إلا وهم صرعى مطاعين، على الرمضاء ثاوين، بلا دفن وتكفين!!

تدوس الخيل منهم عقرت أفئدة المجد، ومجت منهم البوغا دماً عزّ على المختار أحمد..

ففازوا بعناق الحور إذ حازوا علاء وفخاراً،

ولم يبقَ سوى السبط وحيداً بين أعداه، فريداً يابنفسي ماله من يتفدّاه!!

وإذ قد علم السبط بأن لا ينفع الأقوام إنذار، ولا وعظ وتحذير وإزجار!!

تلقاهم بقلب ثابت لا يعرف الرعب، وسيف طالما عن وجه خير الخلق طراً كشف الكرب..

وناداهم إلى أين عبيد الأمّة اليوم تولون، وقد أفنيتم صحبي وأهلي فإلى أين تفرون، وقد ذكّرهم فعل علي يوم صفين، وفي جمعهم قد نعبت أغربة البين..

وما تنظر أن صال على الجمع سوى كف كمي قادر أو رأس ليث طائر في حومة البيد، ترى أفئدة الفرسان والشجعان والأقران من صولته في قلب رعديد..

ولما خط في اللوح يراع القدر المحتوم أن السبط منحور، هوى قطب رحى العالم للأرض كما قد خرّ موسى من ذرى الطور..

صريعاً ظامياً والعجب الأعجب أن يظمى وقد سال حشاه بالدم المهراق حتى بلغ السيل زبى الطف.. لقى ينظر طوراً عسكر الشرك وطوراً لبنات المصطفى يرمق بالطرف..

هناك الشمر قد أقبل ينحو موضع اللثم لخير الخلق ياشلت يدا شمر، فكان القدر المقدور واصطك جبين المجد إذ شال على الرمح محيا الشمس والبدر، وداست خيلهم ياعرقبت من معدن العلم فقار الظهر والصدرا!!

طريحاً بربى الطف ثلاثاً يابنفسي لن يوارى،

وأدهى كل دهماء بقلب المصطفى الطاهر توري شرر الوجد، هجوم الخيل والجند، على هتك خدور الفاطميات واحتدام لهيب النار في الرحل بلا منع ولا صد..

وقد نادى المنادي يالحاه الله بالنهب، وقد جاذبت الأعداء، أبراد بنات الوحي بالسلب، فيالله للمعشر من هاشم كيف استوطنوا الترب، وقرّت فوق ظهر الذل والهون وقد أبدت نساهم حاسرات بربى البيد بنو حرب، على عجف المطايا بهم تهتف بالعتب..

أفتيان لؤي كيف نسري معهم ليس لنا ستر، ومنا تصهر الشمس وجوهاً بكم لم تبرح الخدر!!

ألا أين الحفاظ اليوم والغيرة والبأس، ألا أين أبو الفضل أخو النخوة عباس؟

أتسبى لكم مثل سبايا الترك والديلم ربات خدور ما عهدنا لكم عن مثله صبر، وتساق أسارى حسّراً بين عداكم ليزيد شارب الخمر؟!

لقد خابت فغضّت بصراً عن عتبهم إذ حال ما بينهم الموت، ونادت بعلي هتفاً مبحوحة الصوت..

على مثل بني المختار ياعين فجودي واسكبي أدمعك اليوم غزاراً،

وياقلب لآل المرتضى ويحك فأسعدني أواراً،

فعليهم عدد الرمل سلام ليس يحصى وثناء لا يجارى..(2).

ـــــــــ

1 - راجع البابليات، للشيخ محمد علي اليعقوبي، دار البيان، ج3، ص200.

2 - م.ن. ج3، ص200.

بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ

ترتيلات عاشورائية..

وعطاءات المدرسة الحلِّية

محمد علي الحلو

مقدمة

احتضنت الحلّة السيفية أو المزيدية الفيحاء، مدرستين كان لهما الأثر البالغ في ترسيم معالم النهضة الفكرية للمدرسة الإمامية إبّان القرن الخامس الهجري حين تأسيسها آنذاك، على عهد نوابغها المتعاقبين عليها كالمقدسين الطاووسيين، أو المحققين الحليين، وغيرهم من رواد المدرسة الفقهية الحلّية، التي كانت رائدة في تقديم الفقه الإسلامي بطروحاته الإمامية المباركة في بلاد الرافدين العراقية، يوم كانت الخلافة العباسية في النزع الأخير نتيجة الاضطراب الفكري، ثم الإبداع العلمي المشلول الذي أثقلت كاهله الاختراقات الفكرية الأخرى القادمة من خلف حدود الوطن الإسلامي.. كانت النهضة الفقهية الحلّية إلى جانب مدرسة الحلّيين الممتدة من المدرسة العاملية يوم كان جبل عامل حاضرة الاستنباط الفقهي، وقاعدة الاجتهاد الإمامي، وما أن أفِلت مدرسة الفقه الحلّي حتى توهجت حاضرة النجف الفقهية، فأشرقت حين ذاك المدرسة الأدبية الحلّية على أيدي الفقهاء الشعراء، وكأنها امتدادات لتلك المدرسة الفقهية العلمية، فكانت بحق صحوة أدبية يرعاها نوابغ الفقهاء الذين يتزعمون مسيرتها إلى حيث الأبواب "الأدبية الإمامية" المتنوعة، كالأراجيز الفقهية، والحديثية، أو التاريخية الأخرى.

كانت المدرسة الحلّية تمثّل الوجدانيات الصادقة التي تجيش بها قريحة الشاعر ليصوغها مقطوعة شعرية نابعة من غليان النفسية الشيعية الموتورة من أهم حدث سجّلته الذاكرة الشيعية في سجل ظلاماتها الممتدة عبر قرون، ولعلّ المدرسة "الحميرية" أو "الكميتية" وحتى "الخزاعية" التي تفنن في صياغتها السيد الحميرى المتمرد على مجتمع أخفى على نفسه الحقيقة، أو الثانية التي أنجبها الكميت المتأمل في عطاء آل البيت (عليهم السلام)، وتلك الثالثة التي تزعمها دعبل الخزاعي الثائر ليسيّر قافلة الشعر إلى جحافل جهاد تطالب الأمّة بالرجوع إلى صياغة ذاتها من خلال مراعاة الحقيقة، فإن المدرسة الشعرية "الحلّية" قد فاقت هذه المدارس في تصوير الواقعة الكربلائية، وكان التصاقها بالحدث الكربلائي هو الذي أحدث لها تلك "المدرسة الشعرية الحسينية" المتميزة.

تكفّلت المدرسة الشعرية الحلّية بصياغة "الحدث الحسيني" على أنه الحدث الذي ألهم الأمّة معرفة معاناتها الممتدة عبر قرون، وأنشدته على أنه الحدث الأهم الذي عبّر عن معاناة الإنسانية المعذبة، والتي استنفرت كل شيء للتمرد والثورة على الظلم والطغيان، فكان الشعور الإسلامي الشيعي الحافل بمعاناة الحقب الجائرة خصوصاً على الذات الشيعية، قد ترجمها الشاعر الحلّي إلى مقطوعات تفنن في صياغتها، وأجاد في إبراز مدرسة شعرية حسينية.

لم يكتفِ الشاعر الحلّي بالصياغة التقليدية للقصيدة أو الفن الشعري الرتيب، بل توّج عطاءه بإبداعات أدبية كانت نابعة من شدة شوقه في التعبير عن التحرّق الذي أصابه من فاجعة الطف الدامية، فنمت في أحاسيسه ووجدانياته اللاشعورية، فنون العطاء المعبّر عن معاناته هذه، حتى أضحى يقدّم العطاء تلو العطاء، والفن إثر الفن.

في حدود اطّلاعي، لم يكن ما قدّمه الشاعر السيد باقر القزويني قد سبقه إليه أحد، وهو ما ذهب إليه أيضاً المحقق المرحوم الشيخ محمد علي اليعقوبي (رحمه الله) في بابلياته(1)، فكان بحق صاحب مدرسة خاصة به تنشد الحسين (ع) بهذا الأسلوب الرائع.

اعتمد السيد باقر القزويني الذي أطلق على إبداعه الشعري الشيخ محمد علي اليعقوبي تسمية "البند"، اعتمد على أوزان شعرية مختلفة، وقافية مختلفة، إلاّ أنه سبك الموضوع في وحدة شعرية متماسكة، وصياغة فنية أنيقة، فقد تحرر من الوزن والقافية، إلاّ أنه التزم بسباكة شعرية نثرية ممزوجة، ليقدّم للمدرسة الأدبية هذا الفن الرائع، ولعلّنا يمكن أن نطلق على فنه هذا تسمية "الشعر الحرّ الملتزم" الذي التزم وحدة السبك في قصيدته مع تحرّرٍ ملتزم من قيود الوزن والقافية، ولعلّها المدرسة المبكرة في هذا الفن، ويمكن القول أن السيد باقر القزويني قد سبق مدرسة السياب ونازك الملائكة في هذا المضمار، وكانت محاولة مبكرة جداً كانت ستؤول إلى أطروحات أدبية أخرى لولا يد المنون التي اختطفت شاعرنا وهو في التاسعة والعشرين من عمره، في أوج عطائه وإبداعه، حيث كانت وفاته (رحمه الله) في عام 1333هـ.

نموذج "البند" الذي نظمه السيد باقر القزويني (ره):

ألا ياأيها الراكب يفري كبد البيد، بتصويب وتصعيد، على متن جواد أتلع الجيد..

نجيب تخجل الريح بل البرق لدى الجري..

إلى الحلبة في السبق ذراعاه مغارا..

عج على جيرة أرض الطف، واسكبْ مُزَنَ الطرف، سيولاً تبهر السحب لدى الوَكف..

وعفّر في ثراها المندل الرطب بل العنبر خديك، ولجها بخضوع وخشوع بادي الحزن قد ابيضت من الأدمع عيناك!!

فلو شاهدت مَنْ حلّ بها ياسعد منحوراً شهيداً لتلظيت أواراً..

فهل تعلم أم لا؟ ياابن خير الخلق سبط المصطفى الطهر، عليه ضاق بر الأرض والبحر!!

أتى كوفان يحدو نحوها النجب، وقد كانوا إليه كتبوا الكتب!!

وقد أمّهم يرجو بمسراه إلى نحوهم الأمن، فحفت أهلها بابن زياد وحداها سالف الضغن، وأمّت خيرة الناس ضحى بالضرب والطعن..

هناك ابتدرت للحرب أمجاد بهاليل، تخال البيض في أيديهم طيراً أبابيل..

فدارت بهم دائرة الحرب، وبانت لهم فيها أفاعيل، وقد أقبلت الأبطال من آل علي لعناق الطعن والضرب، ونال آل حرب بهم الشؤم بل الحرب، كما قد غبّروا في أوجه القوم، وغصت منهم بالسمر والبيض رحى الحرب!!

كرام، نقباء، نجباء، نبلاء، فضلاء، حلماء، حكماء، علماء..

وليوث غالبية، وحماة هاشمية، بل شموس فاطمية، وبدور طالبية..

فلقد حاموا خدوراً، ولقد أشفوا صدوراً، ولقد طابوا نجاراً..

أسد من دافعوا عن حرم الرحمن أرجاس، فما تسمع إلا رنة السيف على الطاس، من الداعين للدين هداة الخلق لا بل سادة الناس، ولو تبصر شيئاً لرأيت البيض قد غاصت على الرأس، ففرت فرق الشرك ثباً من شدة البأس..

ولا تعرف ملجى، ولا تعقل منجى..

لا ولا تدري، إلى أين تولي وجهها منهم فراراً..

ولم يرتفع القتير إلا وهم صرعى مطاعين، على الرمضاء ثاوين، بلا دفن وتكفين!!

تدوس الخيل منهم عقرت أفئدة المجد، ومجت منهم البوغا دماً عزّ على المختار أحمد..

ففازوا بعناق الحور إذ حازوا علاء وفخاراً،

ولم يبقَ سوى السبط وحيداً بين أعداه، فريداً يابنفسي ماله من يتفدّاه!!

وإذ قد علم السبط بأن لا ينفع الأقوام إنذار، ولا وعظ وتحذير وإزجار!!

تلقاهم بقلب ثابت لا يعرف الرعب، وسيف طالما عن وجه خير الخلق طراً كشف الكرب..

وناداهم إلى أين عبيد الأمّة اليوم تولون، وقد أفنيتم صحبي وأهلي فإلى أين تفرون، وقد ذكّرهم فعل علي يوم صفين، وفي جمعهم قد نعبت أغربة البين..

وما تنظر أن صال على الجمع سوى كف كمي قادر أو رأس ليث طائر في حومة البيد، ترى أفئدة الفرسان والشجعان والأقران من صولته في قلب رعديد..

ولما خط في اللوح يراع القدر المحتوم أن السبط منحور، هوى قطب رحى العالم للأرض كما قد خرّ موسى من ذرى الطور..

صريعاً ظامياً والعجب الأعجب أن يظمى وقد سال حشاه بالدم المهراق حتى بلغ السيل زبى الطف.. لقى ينظر طوراً عسكر الشرك وطوراً لبنات المصطفى يرمق بالطرف..

هناك الشمر قد أقبل ينحو موضع اللثم لخير الخلق ياشلت يدا شمر، فكان القدر المقدور واصطك جبين المجد إذ شال على الرمح محيا الشمس والبدر، وداست خيلهم ياعرقبت من معدن العلم فقار الظهر والصدرا!!

طريحاً بربى الطف ثلاثاً يابنفسي لن يوارى،

وأدهى كل دهماء بقلب المصطفى الطاهر توري شرر الوجد، هجوم الخيل والجند، على هتك خدور الفاطميات واحتدام لهيب النار في الرحل بلا منع ولا صد..

وقد نادى المنادي يالحاه الله بالنهب، وقد جاذبت الأعداء، أبراد بنات الوحي بالسلب، فيالله للمعشر من هاشم كيف استوطنوا الترب، وقرّت فوق ظهر الذل والهون وقد أبدت نساهم حاسرات بربى البيد بنو حرب، على عجف المطايا بهم تهتف بالعتب..

أفتيان لؤي كيف نسري معهم ليس لنا ستر، ومنا تصهر الشمس وجوهاً بكم لم تبرح الخدر!!

ألا أين الحفاظ اليوم والغيرة والبأس، ألا أين أبو الفضل أخو النخوة عباس؟

أتسبى لكم مثل سبايا الترك والديلم ربات خدور ما عهدنا لكم عن مثله صبر، وتساق أسارى حسّراً بين عداكم ليزيد شارب الخمر؟!

لقد خابت فغضّت بصراً عن عتبهم إذ حال ما بينهم الموت، ونادت بعلي هتفاً مبحوحة الصوت..

على مثل بني المختار ياعين فجودي واسكبي أدمعك اليوم غزاراً،

وياقلب لآل المرتضى ويحك فأسعدني أواراً،

فعليهم عدد الرمل سلام ليس يحصى وثناء لا يجارى..(2).

ـــــــــ

1 - راجع البابليات، للشيخ محمد علي اليعقوبي، دار البيان، ج3، ص200.

2 - م.ن. ج3، ص200.

بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ

ترتيلات عاشورائية..

وعطاءات المدرسة الحلِّية

محمد علي الحلو

مقدمة

احتضنت الحلّة السيفية أو المزيدية الفيحاء، مدرستين كان لهما الأثر البالغ في ترسيم معالم النهضة الفكرية للمدرسة الإمامية إبّان القرن الخامس الهجري حين تأسيسها آنذاك، على عهد نوابغها المتعاقبين عليها كالمقدسين الطاووسيين، أو المحققين الحليين، وغيرهم من رواد المدرسة الفقهية الحلّية، التي كانت رائدة في تقديم الفقه الإسلامي بطروحاته الإمامية المباركة في بلاد الرافدين العراقية، يوم كانت الخلافة العباسية في النزع الأخير نتيجة الاضطراب الفكري، ثم الإبداع العلمي المشلول الذي أثقلت كاهله الاختراقات الفكرية الأخرى القادمة من خلف حدود الوطن الإسلامي.. كانت النهضة الفقهية الحلّية إلى جانب مدرسة الحلّيين الممتدة من المدرسة العاملية يوم كان جبل عامل حاضرة الاستنباط الفقهي، وقاعدة الاجتهاد الإمامي، وما أن أفِلت مدرسة الفقه الحلّي حتى توهجت حاضرة النجف الفقهية، فأشرقت حين ذاك المدرسة الأدبية الحلّية على أيدي الفقهاء الشعراء، وكأنها امتدادات لتلك المدرسة الفقهية العلمية، فكانت بحق صحوة أدبية يرعاها نوابغ الفقهاء الذين يتزعمون مسيرتها إلى حيث الأبواب "الأدبية الإمامية" المتنوعة، كالأراجيز الفقهية، والحديثية، أو التاريخية الأخرى.

كانت المدرسة الحلّية تمثّل الوجدانيات الصادقة التي تجيش بها قريحة الشاعر ليصوغها مقطوعة شعرية نابعة من غليان النفسية الشيعية الموتورة من أهم حدث سجّلته الذاكرة الشيعية في سجل ظلاماتها الممتدة عبر قرون، ولعلّ المدرسة "الحميرية" أو "الكميتية" وحتى "الخزاعية" التي تفنن في صياغتها السيد الحميرى المتمرد على مجتمع أخفى على نفسه الحقيقة، أو الثانية التي أنجبها الكميت المتأمل في عطاء آل البيت (عليهم السلام)، وتلك الثالثة التي تزعمها دعبل الخزاعي الثائر ليسيّر قافلة الشعر إلى جحافل جهاد تطالب الأمّة بالرجوع إلى صياغة ذاتها من خلال مراعاة الحقيقة، فإن المدرسة الشعرية "الحلّية" قد فاقت هذه المدارس في تصوير الواقعة الكربلائية، وكان التصاقها بالحدث الكربلائي هو الذي أحدث لها تلك "المدرسة الشعرية الحسينية" المتميزة.

تكفّلت المدرسة الشعرية الحلّية بصياغة "الحدث الحسيني" على أنه الحدث الذي ألهم الأمّة معرفة معاناتها الممتدة عبر قرون، وأنشدته على أنه الحدث الأهم الذي عبّر عن معاناة الإنسانية المعذبة، والتي استنفرت كل شيء للتمرد والثورة على الظلم والطغيان، فكان الشعور الإسلامي الشيعي الحافل بمعاناة الحقب الجائرة خصوصاً على الذات الشيعية، قد ترجمها الشاعر الحلّي إلى مقطوعات تفنن في صياغتها، وأجاد في إبراز مدرسة شعرية حسينية.

لم يكتفِ الشاعر الحلّي بالصياغة التقليدية للقصيدة أو الفن الشعري الرتيب، بل توّج عطاءه بإبداعات أدبية كانت نابعة من شدة شوقه في التعبير عن التحرّق الذي أصابه من فاجعة الطف الدامية، فنمت في أحاسيسه ووجدانياته اللاشعورية، فنون العطاء المعبّر عن معاناته هذه، حتى أضحى يقدّم العطاء تلو العطاء، والفن إثر الفن.

في حدود اطّلاعي، لم يكن ما قدّمه الشاعر السيد باقر القزويني قد سبقه إليه أحد، وهو ما ذهب إليه أيضاً المحقق المرحوم الشيخ محمد علي اليعقوبي (رحمه الله) في بابلياته(1)، فكان بحق صاحب مدرسة خاصة به تنشد الحسين (ع) بهذا الأسلوب الرائع.

اعتمد السيد باقر القزويني الذي أطلق على إبداعه الشعري الشيخ محمد علي اليعقوبي تسمية "البند"، اعتمد على أوزان شعرية مختلفة، وقافية مختلفة، إلاّ أنه سبك الموضوع في وحدة شعرية متماسكة، وصياغة فنية أنيقة، فقد تحرر من الوزن والقافية، إلاّ أنه التزم بسباكة شعرية نثرية ممزوجة، ليقدّم للمدرسة الأدبية هذا الفن الرائع، ولعلّنا يمكن أن نطلق على فنه هذا تسمية "الشعر الحرّ الملتزم" الذي التزم وحدة السبك في قصيدته مع تحرّرٍ ملتزم من قيود الوزن والقافية، ولعلّها المدرسة المبكرة في هذا الفن، ويمكن القول أن السيد باقر القزويني قد سبق مدرسة السياب ونازك الملائكة في هذا المضمار، وكانت محاولة مبكرة جداً كانت ستؤول إلى أطروحات أدبية أخرى لولا يد المنون التي اختطفت شاعرنا وهو في التاسعة والعشرين من عمره، في أوج عطائه وإبداعه، حيث كانت وفاته (رحمه الله) في عام 1333هـ.

نموذج "البند" الذي نظمه السيد باقر القزويني (ره):

ألا ياأيها الراكب يفري كبد البيد، بتصويب وتصعيد، على متن جواد أتلع الجيد..

نجيب تخجل الريح بل البرق لدى الجري..

إلى الحلبة في السبق ذراعاه مغارا..

عج على جيرة أرض الطف، واسكبْ مُزَنَ الطرف، سيولاً تبهر السحب لدى الوَكف..

وعفّر في ثراها المندل الرطب بل العنبر خديك، ولجها بخضوع وخشوع بادي الحزن قد ابيضت من الأدمع عيناك!!

فلو شاهدت مَنْ حلّ بها ياسعد منحوراً شهيداً لتلظيت أواراً..

فهل تعلم أم لا؟ ياابن خير الخلق سبط المصطفى الطهر، عليه ضاق بر الأرض والبحر!!

أتى كوفان يحدو نحوها النجب، وقد كانوا إليه كتبوا الكتب!!

وقد أمّهم يرجو بمسراه إلى نحوهم الأمن، فحفت أهلها بابن زياد وحداها سالف الضغن، وأمّت خيرة الناس ضحى بالضرب والطعن..

هناك ابتدرت للحرب أمجاد بهاليل، تخال البيض في أيديهم طيراً أبابيل..

فدارت بهم دائرة الحرب، وبانت لهم فيها أفاعيل، وقد أقبلت الأبطال من آل علي لعناق الطعن والضرب، ونال آل حرب بهم الشؤم بل الحرب، كما قد غبّروا في أوجه القوم، وغصت منهم بالسمر والبيض رحى الحرب!!

كرام، نقباء، نجباء، نبلاء، فضلاء، حلماء، حكماء، علماء..

وليوث غالبية، وحماة هاشمية، بل شموس فاطمية، وبدور طالبية..

فلقد حاموا خدوراً، ولقد أشفوا صدوراً، ولقد طابوا نجاراً..

أسد من دافعوا عن حرم الرحمن أرجاس، فما تسمع إلا رنة السيف على الطاس، من الداعين للدين هداة الخلق لا بل سادة الناس، ولو تبصر شيئاً لرأيت البيض قد غاصت على الرأس، ففرت فرق الشرك ثباً من شدة البأس..

ولا تعرف ملجى، ولا تعقل منجى..

لا ولا تدري، إلى أين تولي وجهها منهم فراراً..

ولم يرتفع القتير إلا وهم صرعى مطاعين، على الرمضاء ثاوين، بلا دفن وتكفين!!

تدوس الخيل منهم عقرت أفئدة المجد، ومجت منهم البوغا دماً عزّ على المختار أحمد..

ففازوا بعناق الحور إذ حازوا علاء وفخاراً،

ولم يبقَ سوى السبط وحيداً بين أعداه، فريداً يابنفسي ماله من يتفدّاه!!

وإذ قد علم السبط بأن لا ينفع الأقوام إنذار، ولا وعظ وتحذير وإزجار!!

تلقاهم بقلب ثابت لا يعرف الرعب، وسيف طالما عن وجه خير الخلق طراً كشف الكرب..

وناداهم إلى أين عبيد الأمّة اليوم تولون، وقد أفنيتم صحبي وأهلي فإلى أين تفرون، وقد ذكّرهم فعل علي يوم صفين، وفي جمعهم قد نعبت أغربة البين..

وما تنظر أن صال على الجمع سوى كف كمي قادر أو رأس ليث طائر في حومة البيد، ترى أفئدة الفرسان والشجعان والأقران من صولته في قلب رعديد..

ولما خط في اللوح يراع القدر المحتوم أن السبط منحور، هوى قطب رحى العالم للأرض كما قد خرّ موسى من ذرى الطور..

صريعاً ظامياً والعجب الأعجب أن يظمى وقد سال حشاه بالدم المهراق حتى بلغ السيل زبى الطف.. لقى ينظر طوراً عسكر الشرك وطوراً لبنات المصطفى يرمق بالطرف..

هناك الشمر قد أقبل ينحو موضع اللثم لخير الخلق ياشلت يدا شمر، فكان القدر المقدور واصطك جبين المجد إذ شال على الرمح محيا الشمس والبدر، وداست خيلهم ياعرقبت من معدن العلم فقار الظهر والصدرا!!

طريحاً بربى الطف ثلاثاً يابنفسي لن يوارى،

وأدهى كل دهماء بقلب المصطفى الطاهر توري شرر الوجد، هجوم الخيل والجند، على هتك خدور الفاطميات واحتدام لهيب النار في الرحل بلا منع ولا صد..

وقد نادى المنادي يالحاه الله بالنهب، وقد جاذبت الأعداء، أبراد بنات الوحي بالسلب، فيالله للمعشر من هاشم كيف استوطنوا الترب، وقرّت فوق ظهر الذل والهون وقد أبدت نساهم حاسرات بربى البيد بنو حرب، على عجف المطايا بهم تهتف بالعتب..

أفتيان لؤي كيف نسري معهم ليس لنا ستر، ومنا تصهر الشمس وجوهاً بكم لم تبرح الخدر!!

ألا أين الحفاظ اليوم والغيرة والبأس، ألا أين أبو الفضل أخو النخوة عباس؟

أتسبى لكم مثل سبايا الترك والديلم ربات خدور ما عهدنا لكم عن مثله صبر، وتساق أسارى حسّراً بين عداكم ليزيد شارب الخمر؟!

لقد خابت فغضّت بصراً عن عتبهم إذ حال ما بينهم الموت، ونادت بعلي هتفاً مبحوحة الصوت..

على مثل بني المختار ياعين فجودي واسكبي أدمعك اليوم غزاراً،

وياقلب لآل المرتضى ويحك فأسعدني أواراً،

فعليهم عدد الرمل سلام ليس يحصى وثناء لا يجارى..(2).

ـــــــــ

1 - راجع البابليات، للشيخ محمد علي اليعقوبي، دار البيان، ج3، ص200.

2 - م.ن. ج3، ص200.

بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ

ترتيلات عاشورائية..

وعطاءات المدرسة الحلِّية

محمد علي الحلو

مقدمة

احتضنت الحلّة السيفية أو المزيدية الفيحاء، مدرستين كان لهما الأثر البالغ في ترسيم معالم النهضة الفكرية للمدرسة الإمامية إبّان القرن الخامس الهجري حين تأسيسها آنذاك، على عهد نوابغها المتعاقبين عليها كالمقدسين الطاووسيين، أو المحققين الحليين، وغيرهم من رواد المدرسة الفقهية الحلّية، التي كانت رائدة في تقديم الفقه الإسلامي بطروحاته الإمامية المباركة في بلاد الرافدين العراقية، يوم كانت الخلافة العباسية في النزع الأخير نتيجة الاضطراب الفكري، ثم الإبداع العلمي المشلول الذي أثقلت كاهله الاختراقات الفكرية الأخرى القادمة من خلف حدود الوطن الإسلامي.. كانت النهضة الفقهية الحلّية إلى جانب مدرسة الحلّيين الممتدة من المدرسة العاملية يوم كان جبل عامل حاضرة الاستنباط الفقهي، وقاعدة الاجتهاد الإمامي، وما أن أفِلت مدرسة الفقه الحلّي حتى توهجت حاضرة النجف الفقهية، فأشرقت حين ذاك المدرسة الأدبية الحلّية على أيدي الفقهاء الشعراء، وكأنها امتدادات لتلك المدرسة الفقهية العلمية، فكانت بحق صحوة أدبية يرعاها نوابغ الفقهاء الذين يتزعمون مسيرتها إلى حيث الأبواب "الأدبية الإمامية" المتنوعة، كالأراجيز الفقهية، والحديثية، أو التاريخية الأخرى.

كانت المدرسة الحلّية تمثّل الوجدانيات الصادقة التي تجيش بها قريحة الشاعر ليصوغها مقطوعة شعرية نابعة من غليان النفسية الشيعية الموتورة من أهم حدث سجّلته الذاكرة الشيعية في سجل ظلاماتها الممتدة عبر قرون، ولعلّ المدرسة "الحميرية" أو "الكميتية" وحتى "الخزاعية" التي تفنن في صياغتها السيد الحميرى المتمرد على مجتمع أخفى على نفسه الحقيقة، أو الثانية التي أنجبها الكميت المتأمل في عطاء آل البيت (عليهم السلام)، وتلك الثالثة التي تزعمها دعبل الخزاعي الثائر ليسيّر قافلة الشعر إلى جحافل جهاد تطالب الأمّة بالرجوع إلى صياغة ذاتها من خلال مراعاة الحقيقة، فإن المدرسة الشعرية "الحلّية" قد فاقت هذه المدارس في تصوير الواقعة الكربلائية، وكان التصاقها بالحدث الكربلائي هو الذي أحدث لها تلك "المدرسة الشعرية الحسينية" المتميزة.

تكفّلت المدرسة الشعرية الحلّية بصياغة "الحدث الحسيني" على أنه الحدث الذي ألهم الأمّة معرفة معاناتها الممتدة عبر قرون، وأنشدته على أنه الحدث الأهم الذي عبّر عن معاناة الإنسانية المعذبة، والتي استنفرت كل شيء للتمرد والثورة على الظلم والطغيان، فكان الشعور الإسلامي الشيعي الحافل بمعاناة الحقب الجائرة خصوصاً على الذات الشيعية، قد ترجمها الشاعر الحلّي إلى مقطوعات تفنن في صياغتها، وأجاد في إبراز مدرسة شعرية حسينية.

لم يكتفِ الشاعر الحلّي بالصياغة التقليدية للقصيدة أو الفن الشعري الرتيب، بل توّج عطاءه بإبداعات أدبية كانت نابعة من شدة شوقه في التعبير عن التحرّق الذي أصابه من فاجعة الطف الدامية، فنمت في أحاسيسه ووجدانياته اللاشعورية، فنون العطاء المعبّر عن معاناته هذه، حتى أضحى يقدّم العطاء تلو العطاء، والفن إثر الفن.

في حدود اطّلاعي، لم يكن ما قدّمه الشاعر السيد باقر القزويني قد سبقه إليه أحد، وهو ما ذهب إليه أيضاً المحقق المرحوم الشيخ محمد علي اليعقوبي (رحمه الله) في بابلياته(1)، فكان بحق صاحب مدرسة خاصة به تنشد الحسين (ع) بهذا الأسلوب الرائع.

اعتمد السيد باقر القزويني الذي أطلق على إبداعه الشعري الشيخ محمد علي اليعقوبي تسمية "البند"، اعتمد على أوزان شعرية مختلفة، وقافية مختلفة، إلاّ أنه سبك الموضوع في وحدة شعرية متماسكة، وصياغة فنية أنيقة، فقد تحرر من الوزن والقافية، إلاّ أنه التزم بسباكة شعرية نثرية ممزوجة، ليقدّم للمدرسة الأدبية هذا الفن الرائع، ولعلّنا يمكن أن نطلق على فنه هذا تسمية "الشعر الحرّ الملتزم" الذي التزم وحدة السبك في قصيدته مع تحرّرٍ ملتزم من قيود الوزن والقافية، ولعلّها المدرسة المبكرة في هذا الفن، ويمكن القول أن السيد باقر القزويني قد سبق مدرسة السياب ونازك الملائكة في هذا المضمار، وكانت محاولة مبكرة جداً كانت ستؤول إلى أطروحات أدبية أخرى لولا يد المنون التي اختطفت شاعرنا وهو في التاسعة والعشرين من عمره، في أوج عطائه وإبداعه، حيث كانت وفاته (رحمه الله) في عام 1333هـ.

نموذج "البند" الذي نظمه السيد باقر القزويني (ره):

ألا ياأيها الراكب يفري كبد البيد، بتصويب وتصعيد، على متن جواد أتلع الجيد..

نجيب تخجل الريح بل البرق لدى الجري..

إلى الحلبة في السبق ذراعاه مغارا..

عج على جيرة أرض الطف، واسكبْ مُزَنَ الطرف، سيولاً تبهر السحب لدى الوَكف..

وعفّر في ثراها المندل الرطب بل العنبر خديك، ولجها بخضوع وخشوع بادي الحزن قد ابيضت من الأدمع عيناك!!

فلو شاهدت مَنْ حلّ بها ياسعد منحوراً شهيداً لتلظيت أواراً..

فهل تعلم أم لا؟ ياابن خير الخلق سبط المصطفى الطهر، عليه ضاق بر الأرض والبحر!!

أتى كوفان يحدو نحوها النجب، وقد كانوا إليه كتبوا الكتب!!

وقد أمّهم يرجو بمسراه إلى نحوهم الأمن، فحفت أهلها بابن زياد وحداها سالف الضغن، وأمّت خيرة الناس ضحى بالضرب والطعن..

هناك ابتدرت للحرب أمجاد بهاليل، تخال البيض في أيديهم طيراً أبابيل..

فدارت بهم دائرة الحرب، وبانت لهم فيها أفاعيل، وقد أقبلت الأبطال من آل علي لعناق الطعن والضرب، ونال آل حرب بهم الشؤم بل الحرب، كما قد غبّروا في أوجه القوم، وغصت منهم بالسمر والبيض رحى الحرب!!

كرام، نقباء، نجباء، نبلاء، فضلاء، حلماء، حكماء، علماء..

وليوث غالبية، وحماة هاشمية، بل شموس فاطمية، وبدور طالبية..

فلقد حاموا خدوراً، ولقد أشفوا صدوراً، ولقد طابوا نجاراً..

أسد من دافعوا عن حرم الرحمن أرجاس، فما تسمع إلا رنة السيف على الطاس، من الداعين للدين هداة الخلق لا بل سادة الناس، ولو تبصر شيئاً لرأيت البيض قد غاصت على الرأس، ففرت فرق الشرك ثباً من شدة البأس..

ولا تعرف ملجى، ولا تعقل منجى..

لا ولا تدري، إلى أين تولي وجهها منهم فراراً..

ولم يرتفع القتير إلا وهم صرعى مطاعين، على الرمضاء ثاوين، بلا دفن وتكفين!!

تدوس الخيل منهم عقرت أفئدة المجد، ومجت منهم البوغا دماً عزّ على المختار أحمد..

ففازوا بعناق الحور إذ حازوا علاء وفخاراً،

ولم يبقَ سوى السبط وحيداً بين أعداه، فريداً يابنفسي ماله من يتفدّاه!!

وإذ قد علم السبط بأن لا ينفع الأقوام إنذار، ولا وعظ وتحذير وإزجار!!

تلقاهم بقلب ثابت لا يعرف الرعب، وسيف طالما عن وجه خير الخلق طراً كشف الكرب..

وناداهم إلى أين عبيد الأمّة اليوم تولون، وقد أفنيتم صحبي وأهلي فإلى أين تفرون، وقد ذكّرهم فعل علي يوم صفين، وفي جمعهم قد نعبت أغربة البين..

وما تنظر أن صال على الجمع سوى كف كمي قادر أو رأس ليث طائر في حومة البيد، ترى أفئدة الفرسان والشجعان والأقران من صولته في قلب رعديد..

ولما خط في اللوح يراع القدر المحتوم أن السبط منحور، هوى قطب رحى العالم للأرض كما قد خرّ موسى من ذرى الطور..

صريعاً ظامياً والعجب الأعجب أن يظمى وقد سال حشاه بالدم المهراق حتى بلغ السيل زبى الطف.. لقى ينظر طوراً عسكر الشرك وطوراً لبنات المصطفى يرمق بالطرف..

هناك الشمر قد أقبل ينحو موضع اللثم لخير الخلق ياشلت يدا شمر، فكان القدر المقدور واصطك جبين المجد إذ شال على الرمح محيا الشمس والبدر، وداست خيلهم ياعرقبت من معدن العلم فقار الظهر والصدرا!!

طريحاً بربى الطف ثلاثاً يابنفسي لن يوارى،

وأدهى كل دهماء بقلب المصطفى الطاهر توري شرر الوجد، هجوم الخيل والجند، على هتك خدور الفاطميات واحتدام لهيب النار في الرحل بلا منع ولا صد..

وقد نادى المنادي يالحاه الله بالنهب، وقد جاذبت الأعداء، أبراد بنات الوحي بالسلب، فيالله للمعشر من هاشم كيف استوطنوا الترب، وقرّت فوق ظهر الذل والهون وقد أبدت نساهم حاسرات بربى البيد بنو حرب، على عجف المطايا بهم تهتف بالعتب..

أفتيان لؤي كيف نسري معهم ليس لنا ستر، ومنا تصهر الشمس وجوهاً بكم لم تبرح الخدر!!

ألا أين الحفاظ اليوم والغيرة والبأس، ألا أين أبو الفضل أخو النخوة عباس؟

أتسبى لكم مثل سبايا الترك والديلم ربات خدور ما عهدنا لكم عن مثله صبر، وتساق أسارى حسّراً بين عداكم ليزيد شارب الخمر؟!

لقد خابت فغضّت بصراً عن عتبهم إذ حال ما بينهم الموت، ونادت بعلي هتفاً مبحوحة الصوت..

على مثل بني المختار ياعين فجودي واسكبي أدمعك اليوم غزاراً،

وياقلب لآل المرتضى ويحك فأسعدني أواراً،

فعليهم عدد الرمل سلام ليس يحصى وثناء لا يجارى..(2).

ـــــــــ

1 - راجع البابليات، للشيخ محمد علي اليعقوبي، دار البيان، ج3، ص200.

2 - م.ن. ج3، ص200.

بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ

ترتيلات عاشورائية..

وعطاءات المدرسة الحلِّية

محمد علي الحلو

مقدمة

احتضنت الحلّة السيفية أو المزيدية الفيحاء، مدرستين كان لهما الأثر البالغ في ترسيم معالم النهضة الفكرية للمدرسة الإمامية إبّان القرن الخامس الهجري حين تأسيسها آنذاك، على عهد نوابغها المتعاقبين عليها كالمقدسين الطاووسيين، أو المحققين الحليين، وغيرهم من رواد المدرسة الفقهية الحلّية، التي كانت رائدة في تقديم الفقه الإسلامي بطروحاته الإمامية المباركة في بلاد الرافدين العراقية، يوم كانت الخلافة العباسية في النزع الأخير نتيجة الاضطراب الفكري، ثم الإبداع العلمي المشلول الذي أثقلت كاهله الاختراقات الفكرية الأخرى القادمة من خلف حدود الوطن الإسلامي.. كانت النهضة الفقهية الحلّية إلى جانب مدرسة الحلّيين الممتدة من المدرسة العاملية يوم كان جبل عامل حاضرة الاستنباط الفقهي، وقاعدة الاجتهاد الإمامي، وما أن أفِلت مدرسة الفقه الحلّي حتى توهجت حاضرة النجف الفقهية، فأشرقت حين ذاك المدرسة الأدبية الحلّية على أيدي الفقهاء الشعراء، وكأنها امتدادات لتلك المدرسة الفقهية العلمية، فكانت بحق صحوة أدبية يرعاها نوابغ الفقهاء الذين يتزعمون مسيرتها إلى حيث الأبواب "الأدبية الإمامية" المتنوعة، كالأراجيز الفقهية، والحديثية، أو التاريخية الأخرى.

كانت المدرسة الحلّية تمثّل الوجدانيات الصادقة التي تجيش بها قريحة الشاعر ليصوغها مقطوعة شعرية نابعة من غليان النفسية الشيعية الموتورة من أهم حدث سجّلته الذاكرة الشيعية في سجل ظلاماتها الممتدة عبر قرون، ولعلّ المدرسة "الحميرية" أو "الكميتية" وحتى "الخزاعية" التي تفنن في صياغتها السيد الحميرى المتمرد على مجتمع أخفى على نفسه الحقيقة، أو الثانية التي أنجبها الكميت المتأمل في عطاء آل البيت (عليهم السلام)، وتلك الثالثة التي تزعمها دعبل الخزاعي الثائر ليسيّر قافلة الشعر إلى جحافل جهاد تطالب الأمّة بالرجوع إلى صياغة ذاتها من خلال مراعاة الحقيقة، فإن المدرسة الشعرية "الحلّية" قد فاقت هذه المدارس في تصوير الواقعة الكربلائية، وكان التصاقها بالحدث الكربلائي هو الذي أحدث لها تلك "المدرسة الشعرية الحسينية" المتميزة.

تكفّلت المدرسة الشعرية الحلّية بصياغة "الحدث الحسيني" على أنه الحدث الذي ألهم الأمّة معرفة معاناتها الممتدة عبر قرون، وأنشدته على أنه الحدث الأهم الذي عبّر عن معاناة الإنسانية المعذبة، والتي استنفرت كل شيء للتمرد والثورة على الظلم والطغيان، فكان الشعور الإسلامي الشيعي الحافل بمعاناة الحقب الجائرة خصوصاً على الذات الشيعية، قد ترجمها الشاعر الحلّي إلى مقطوعات تفنن في صياغتها، وأجاد في إبراز مدرسة شعرية حسينية.

لم يكتفِ الشاعر الحلّي بالصياغة التقليدية للقصيدة أو الفن الشعري الرتيب، بل توّج عطاءه بإبداعات أدبية كانت نابعة من شدة شوقه في التعبير عن التحرّق الذي أصابه من فاجعة الطف الدامية، فنمت في أحاسيسه ووجدانياته اللاشعورية، فنون العطاء المعبّر عن معاناته هذه، حتى أضحى يقدّم العطاء تلو العطاء، والفن إثر الفن.

في حدود اطّلاعي، لم يكن ما قدّمه الشاعر السيد باقر القزويني قد سبقه إليه أحد، وهو ما ذهب إليه أيضاً المحقق المرحوم الشيخ محمد علي اليعقوبي (رحمه الله) في بابلياته(1)، فكان بحق صاحب مدرسة خاصة به تنشد الحسين (ع) بهذا الأسلوب الرائع.

اعتمد السيد باقر القزويني الذي أطلق على إبداعه الشعري الشيخ محمد علي اليعقوبي تسمية "البند"، اعتمد على أوزان شعرية مختلفة، وقافية مختلفة، إلاّ أنه سبك الموضوع في وحدة شعرية متماسكة، وصياغة فنية أنيقة، فقد تحرر من الوزن والقافية، إلاّ أنه التزم بسباكة شعرية نثرية ممزوجة، ليقدّم للمدرسة الأدبية هذا الفن الرائع، ولعلّنا يمكن أن نطلق على فنه هذا تسمية "الشعر الحرّ الملتزم" الذي التزم وحدة السبك في قصيدته مع تحرّرٍ ملتزم من قيود الوزن والقافية، ولعلّها المدرسة المبكرة في هذا الفن، ويمكن القول أن السيد باقر القزويني قد سبق مدرسة السياب ونازك الملائكة في هذا المضمار، وكانت محاولة مبكرة جداً كانت ستؤول إلى أطروحات أدبية أخرى لولا يد المنون التي اختطفت شاعرنا وهو في التاسعة والعشرين من عمره، في أوج عطائه وإبداعه، حيث كانت وفاته (رحمه الله) في عام 1333هـ.

نموذج "البند" الذي نظمه السيد باقر القزويني (ره):

ألا ياأيها الراكب يفري كبد البيد، بتصويب وتصعيد، على متن جواد أتلع الجيد..

نجيب تخجل الريح بل البرق لدى الجري..

إلى الحلبة في السبق ذراعاه مغارا..

عج على جيرة أرض الطف، واسكبْ مُزَنَ الطرف، سيولاً تبهر السحب لدى الوَكف..

وعفّر في ثراها المندل الرطب بل العنبر خديك، ولجها بخضوع وخشوع بادي الحزن قد ابيضت من الأدمع عيناك!!

فلو شاهدت مَنْ حلّ بها ياسعد منحوراً شهيداً لتلظيت أواراً..

فهل تعلم أم لا؟ ياابن خير الخلق سبط المصطفى الطهر، عليه ضاق بر الأرض والبحر!!

أتى كوفان يحدو نحوها النجب، وقد كانوا إليه كتبوا الكتب!!

وقد أمّهم يرجو بمسراه إلى نحوهم الأمن، فحفت أهلها بابن زياد وحداها سالف الضغن، وأمّت خيرة الناس ضحى بالضرب والطعن..

هناك ابتدرت للحرب أمجاد بهاليل، تخال البيض في أيديهم طيراً أبابيل..

فدارت بهم دائرة الحرب، وبانت لهم فيها أفاعيل، وقد أقبلت الأبطال من آل علي لعناق الطعن والضرب، ونال آل حرب بهم الشؤم بل الحرب، كما قد غبّروا في أوجه القوم، وغصت منهم بالسمر والبيض رحى الحرب!!

كرام، نقباء، نجباء، نبلاء، فضلاء، حلماء، حكماء، علماء..

وليوث غالبية، وحماة هاشمية، بل شموس فاطمية، وبدور طالبية..

فلقد حاموا خدوراً، ولقد أشفوا صدوراً، ولقد طابوا نجاراً..

أسد من دافعوا عن حرم الرحمن أرجاس، فما تسمع إلا رنة السيف على الطاس، من الداعين للدين هداة الخلق لا بل سادة الناس، ولو تبصر شيئاً لرأيت البيض قد غاصت على الرأس، ففرت فرق الشرك ثباً من شدة البأس..

ولا تعرف ملجى، ولا تعقل منجى..

لا ولا تدري، إلى أين تولي وجهها منهم فراراً..

ولم يرتفع القتير إلا وهم صرعى مطاعين، على الرمضاء ثاوين، بلا دفن وتكفين!!

تدوس الخيل منهم عقرت أفئدة المجد، ومجت منهم البوغا دماً عزّ على المختار أحمد..

ففازوا بعناق الحور إذ حازوا علاء وفخاراً،

ولم يبقَ سوى السبط وحيداً بين أعداه، فريداً يابنفسي ماله من يتفدّاه!!

وإذ قد علم السبط بأن لا ينفع الأقوام إنذار، ولا وعظ وتحذير وإزجار!!

تلقاهم بقلب ثابت لا يعرف الرعب، وسيف طالما عن وجه خير الخلق طراً كشف الكرب..

وناداهم إلى أين عبيد الأمّة اليوم تولون، وقد أفنيتم صحبي وأهلي فإلى أين تفرون، وقد ذكّرهم فعل علي يوم صفين، وفي جمعهم قد نعبت أغربة البين..

وما تنظر أن صال على الجمع سوى كف كمي قادر أو رأس ليث طائر في حومة البيد، ترى أفئدة الفرسان والشجعان والأقران من صولته في قلب رعديد..

ولما خط في اللوح يراع القدر المحتوم أن السبط منحور، هوى قطب رحى العالم للأرض كما قد خرّ موسى من ذرى الطور..

صريعاً ظامياً والعجب الأعجب أن يظمى وقد سال حشاه بالدم المهراق حتى بلغ السيل زبى الطف.. لقى ينظر طوراً عسكر الشرك وطوراً لبنات المصطفى يرمق بالطرف..

هناك الشمر قد أقبل ينحو موضع اللثم لخير الخلق ياشلت يدا شمر، فكان القدر المقدور واصطك جبين المجد إذ شال على الرمح محيا الشمس والبدر، وداست خيلهم ياعرقبت من معدن العلم فقار الظهر والصدرا!!

طريحاً بربى الطف ثلاثاً يابنفسي لن يوارى،

وأدهى كل دهماء بقلب المصطفى الطاهر توري شرر الوجد، هجوم الخيل والجند، على هتك خدور الفاطميات واحتدام لهيب النار في الرحل بلا منع ولا صد..

وقد نادى المنادي يالحاه الله بالنهب، وقد جاذبت الأعداء، أبراد بنات الوحي بالسلب، فيالله للمعشر من هاشم كيف استوطنوا الترب، وقرّت فوق ظهر الذل والهون وقد أبدت نساهم حاسرات بربى البيد بنو حرب، على عجف المطايا بهم تهتف بالعتب..

أفتيان لؤي كيف نسري معهم ليس لنا ستر، ومنا تصهر الشمس وجوهاً بكم لم تبرح الخدر!!

ألا أين الحفاظ اليوم والغيرة والبأس، ألا أين أبو الفضل أخو النخوة عباس؟

أتسبى لكم مثل سبايا الترك والديلم ربات خدور ما عهدنا لكم عن مثله صبر، وتساق أسارى حسّراً بين عداكم ليزيد شارب الخمر؟!

لقد خابت فغضّت بصراً عن عتبهم إذ حال ما بينهم الموت، ونادت بعلي هتفاً مبحوحة الصوت..

على مثل بني المختار ياعين فجودي واسكبي أدمعك اليوم غزاراً،

وياقلب لآل المرتضى ويحك فأسعدني أواراً،

فعليهم عدد الرمل سلام ليس يحصى وثناء لا يجارى..(2).

ـــــــــ

1 - راجع البابليات، للشيخ محمد علي اليعقوبي، دار البيان، ج3، ص200.

2 - م.ن. ج3، ص200.

بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ

ترتيلات عاشورائية..

وعطاءات المدرسة الحلِّية

محمد علي الحلو

مقدمة

احتضنت الحلّة السيفية أو المزيدية الفيحاء، مدرستين كان لهما الأثر البالغ في ترسيم معالم النهضة الفكرية للمدرسة الإمامية إبّان القرن الخامس الهجري حين تأسيسها آنذاك، على عهد نوابغها المتعاقبين عليها كالمقدسين الطاووسيين، أو المحققين الحليين، وغيرهم من رواد المدرسة الفقهية الحلّية، التي كانت رائدة في تقديم الفقه الإسلامي بطروحاته الإمامية المباركة في بلاد الرافدين العراقية، يوم كانت الخلافة العباسية في النزع الأخير نتيجة الاضطراب الفكري، ثم الإبداع العلمي المشلول الذي أثقلت كاهله الاختراقات الفكرية الأخرى القادمة من خلف حدود الوطن الإسلامي.. كانت النهضة الفقهية الحلّية إلى جانب مدرسة الحلّيين الممتدة من المدرسة العاملية يوم كان جبل عامل حاضرة الاستنباط الفقهي، وقاعدة الاجتهاد الإمامي، وما أن أفِلت مدرسة الفقه الحلّي حتى توهجت حاضرة النجف الفقهية، فأشرقت حين ذاك المدرسة الأدبية الحلّية على أيدي الفقهاء الشعراء، وكأنها امتدادات لتلك المدرسة الفقهية العلمية، فكانت بحق صحوة أدبية يرعاها نوابغ الفقهاء الذين يتزعمون مسيرتها إلى حيث الأبواب "الأدبية الإمامية" المتنوعة، كالأراجيز الفقهية، والحديثية، أو التاريخية الأخرى.

كانت المدرسة الحلّية تمثّل الوجدانيات الصادقة التي تجيش بها قريحة الشاعر ليصوغها مقطوعة شعرية نابعة من غليان النفسية الشيعية الموتورة من أهم حدث سجّلته الذاكرة الشيعية في سجل ظلاماتها الممتدة عبر قرون، ولعلّ المدرسة "الحميرية" أو "الكميتية" وحتى "الخزاعية" التي تفنن في صياغتها السيد الحميرى المتمرد على مجتمع أخفى على نفسه الحقيقة، أو الثانية التي أنجبها الكميت المتأمل في عطاء آل البيت (عليهم السلام)، وتلك الثالثة التي تزعمها دعبل الخزاعي الثائر ليسيّر قافلة الشعر إلى جحافل جهاد تطالب الأمّة بالرجوع إلى صياغة ذاتها من خلال مراعاة الحقيقة، فإن المدرسة الشعرية "الحلّية" قد فاقت هذه المدارس في تصوير الواقعة الكربلائية، وكان التصاقها بالحدث الكربلائي هو الذي أحدث لها تلك "المدرسة الشعرية الحسينية" المتميزة.

تكفّلت المدرسة الشعرية الحلّية بصياغة "الحدث الحسيني" على أنه الحدث الذي ألهم الأمّة معرفة معاناتها الممتدة عبر قرون، وأنشدته على أنه الحدث الأهم الذي عبّر عن معاناة الإنسانية المعذبة، والتي استنفرت كل شيء للتمرد والثورة على الظلم والطغيان، فكان الشعور الإسلامي الشيعي الحافل بمعاناة الحقب الجائرة خصوصاً على الذات الشيعية، قد ترجمها الشاعر الحلّي إلى مقطوعات تفنن في صياغتها، وأجاد في إبراز مدرسة شعرية حسينية.

لم يكتفِ الشاعر الحلّي بالصياغة التقليدية للقصيدة أو الفن الشعري الرتيب، بل توّج عطاءه بإبداعات أدبية كانت نابعة من شدة شوقه في التعبير عن التحرّق الذي أصابه من فاجعة الطف الدامية، فنمت في أحاسيسه ووجدانياته اللاشعورية، فنون العطاء المعبّر عن معاناته هذه، حتى أضحى يقدّم العطاء تلو العطاء، والفن إثر الفن.

في حدود اطّلاعي، لم يكن ما قدّمه الشاعر السيد باقر القزويني قد سبقه إليه أحد، وهو ما ذهب إليه أيضاً المحقق المرحوم الشيخ محمد علي اليعقوبي (رحمه الله) في بابلياته(1)، فكان بحق صاحب مدرسة خاصة به تنشد الحسين (ع) بهذا الأسلوب الرائع.

اعتمد السيد باقر القزويني الذي أطلق على إبداعه الشعري الشيخ محمد علي اليعقوبي تسمية "البند"، اعتمد على أوزان شعرية مختلفة، وقافية مختلفة، إلاّ أنه سبك الموضوع في وحدة شعرية متماسكة، وصياغة فنية أنيقة، فقد تحرر من الوزن والقافية، إلاّ أنه التزم بسباكة شعرية نثرية ممزوجة، ليقدّم للمدرسة الأدبية هذا الفن الرائع، ولعلّنا يمكن أن نطلق على فنه هذا تسمية "الشعر الحرّ الملتزم" الذي التزم وحدة السبك في قصيدته مع تحرّرٍ ملتزم من قيود الوزن والقافية، ولعلّها المدرسة المبكرة في هذا الفن، ويمكن القول أن السيد باقر القزويني قد سبق مدرسة السياب ونازك الملائكة في هذا المضمار، وكانت محاولة مبكرة جداً كانت ستؤول إلى أطروحات أدبية أخرى لولا يد المنون التي اختطفت شاعرنا وهو في التاسعة والعشرين من عمره، في أوج عطائه وإبداعه، حيث كانت وفاته (رحمه الله) في عام 1333هـ.

نموذج "البند" الذي نظمه السيد باقر القزويني (ره):

ألا ياأيها الراكب يفري كبد البيد، بتصويب وتصعيد، على متن جواد أتلع الجيد..

نجيب تخجل الريح بل البرق لدى الجري..

إلى الحلبة في السبق ذراعاه مغارا..

عج على جيرة أرض الطف، واسكبْ مُزَنَ الطرف، سيولاً تبهر السحب لدى الوَكف..

وعفّر في ثراها المندل الرطب بل العنبر خديك، ولجها بخضوع وخشوع بادي الحزن قد ابيضت من الأدمع عيناك!!

فلو شاهدت مَنْ حلّ بها ياسعد منحوراً شهيداً لتلظيت أواراً..

فهل تعلم أم لا؟ ياابن خير الخلق سبط المصطفى الطهر، عليه ضاق بر الأرض والبحر!!

أتى كوفان يحدو نحوها النجب، وقد كانوا إليه كتبوا الكتب!!

وقد أمّهم يرجو بمسراه إلى نحوهم الأمن، فحفت أهلها بابن زياد وحداها سالف الضغن، وأمّت خيرة الناس ضحى بالضرب والطعن..

هناك ابتدرت للحرب أمجاد بهاليل، تخال البيض في أيديهم طيراً أبابيل..

فدارت بهم دائرة الحرب، وبانت لهم فيها أفاعيل، وقد أقبلت الأبطال من آل علي لعناق الطعن والضرب، ونال آل حرب بهم الشؤم بل الحرب، كما قد غبّروا في أوجه القوم، وغصت منهم بالسمر والبيض رحى الحرب!!

كرام، نقباء، نجباء، نبلاء، فضلاء، حلماء، حكماء، علماء..

وليوث غالبية، وحماة هاشمية، بل شموس فاطمية، وبدور طالبية..

فلقد حاموا خدوراً، ولقد أشفوا صدوراً، ولقد طابوا نجاراً..

أسد من دافعوا عن حرم الرحمن أرجاس، فما تسمع إلا رنة السيف على الطاس، من الداعين للدين هداة الخلق لا بل سادة الناس، ولو تبصر شيئاً لرأيت البيض قد غاصت على الرأس، ففرت فرق الشرك ثباً من شدة البأس..

ولا تعرف ملجى، ولا تعقل منجى..

لا ولا تدري، إلى أين تولي وجهها منهم فراراً..

ولم يرتفع القتير إلا وهم صرعى مطاعين، على الرمضاء ثاوين، بلا دفن وتكفين!!

تدوس الخيل منهم عقرت أفئدة المجد، ومجت منهم البوغا دماً عزّ على المختار أحمد..

ففازوا بعناق الحور إذ حازوا علاء وفخاراً،

ولم يبقَ سوى السبط وحيداً بين أعداه، فريداً يابنفسي ماله من يتفدّاه!!

وإذ قد علم السبط بأن لا ينفع الأقوام إنذار، ولا وعظ وتحذير وإزجار!!

تلقاهم بقلب ثابت لا يعرف الرعب، وسيف طالما عن وجه خير الخلق طراً كشف الكرب..

وناداهم إلى أين عبيد الأمّة اليوم تولون، وقد أفنيتم صحبي وأهلي فإلى أين تفرون، وقد ذكّرهم فعل علي يوم صفين، وفي جمعهم قد نعبت أغربة البين..

وما تنظر أن صال على الجمع سوى كف كمي قادر أو رأس ليث طائر في حومة البيد، ترى أفئدة الفرسان والشجعان والأقران من صولته في قلب رعديد..

ولما خط في اللوح يراع القدر المحتوم أن السبط منحور، هوى قطب رحى العالم للأرض كما قد خرّ موسى من ذرى الطور..

صريعاً ظامياً والعجب الأعجب أن يظمى وقد سال حشاه بالدم المهراق حتى بلغ السيل زبى الطف.. لقى ينظر طوراً عسكر الشرك وطوراً لبنات المصطفى يرمق بالطرف..

هناك الشمر قد أقبل ينحو موضع اللثم لخير الخلق ياشلت يدا شمر، فكان القدر المقدور واصطك جبين المجد إذ شال على الرمح محيا الشمس والبدر، وداست خيلهم ياعرقبت من معدن العلم فقار الظهر والصدرا!!

طريحاً بربى الطف ثلاثاً يابنفسي لن يوارى،

وأدهى كل دهماء بقلب المصطفى الطاهر توري شرر الوجد، هجوم الخيل والجند، على هتك خدور الفاطميات واحتدام لهيب النار في الرحل بلا منع ولا صد..

وقد نادى المنادي يالحاه الله بالنهب، وقد جاذبت الأعداء، أبراد بنات الوحي بالسلب، فيالله للمعشر من هاشم كيف استوطنوا الترب، وقرّت فوق ظهر الذل والهون وقد أبدت نساهم حاسرات بربى البيد بنو حرب، على عجف المطايا بهم تهتف بالعتب..

أفتيان لؤي كيف نسري معهم ليس لنا ستر، ومنا تصهر الشمس وجوهاً بكم لم تبرح الخدر!!

ألا أين الحفاظ اليوم والغيرة والبأس، ألا أين أبو الفضل أخو النخوة عباس؟

أتسبى لكم مثل سبايا الترك والديلم ربات خدور ما عهدنا لكم عن مثله صبر، وتساق أسارى حسّراً بين عداكم ليزيد شارب الخمر؟!

لقد خابت فغضّت بصراً عن عتبهم إذ حال ما بينهم الموت، ونادت بعلي هتفاً مبحوحة الصوت..

على مثل بني المختار ياعين فجودي واسكبي أدمعك اليوم غزاراً،

وياقلب لآل المرتضى ويحك فأسعدني أواراً،

فعليهم عدد الرمل سلام ليس يحصى وثناء لا يجارى..(2).

ـــــــــ

1 - راجع البابليات، للشيخ محمد علي اليعقوبي، دار البيان، ج3، ص200.

2 - م.ن. ج3، ص200.

بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ

ترتيلات عاشورائية..

وعطاءات المدرسة الحلِّية

محمد علي الحلو

مقدمة

احتضنت الحلّة السيفية أو المزيدية الفيحاء، مدرستين كان لهما الأثر البالغ في ترسيم معالم النهضة الفكرية للمدرسة الإمامية إبّان القرن الخامس الهجري حين تأسيسها آنذاك، على عهد نوابغها المتعاقبين عليها كالمقدسين الطاووسيين، أو المحققين الحليين، وغيرهم من رواد المدرسة الفقهية الحلّية، التي كانت رائدة في تقديم الفقه الإسلامي بطروحاته الإمامية المباركة في بلاد الرافدين العراقية، يوم كانت الخلافة العباسية في النزع الأخير نتيجة الاضطراب الفكري، ثم الإبداع العلمي المشلول الذي أثقلت كاهله الاختراقات الفكرية الأخرى القادمة من خلف حدود الوطن الإسلامي.. كانت النهضة الفقهية الحلّية إلى جانب مدرسة الحلّيين الممتدة من المدرسة العاملية يوم كان جبل عامل حاضرة الاستنباط الفقهي، وقاعدة الاجتهاد الإمامي، وما أن أفِلت مدرسة الفقه الحلّي حتى توهجت حاضرة النجف الفقهية، فأشرقت حين ذاك المدرسة الأدبية الحلّية على أيدي الفقهاء الشعراء، وكأنها امتدادات لتلك المدرسة الفقهية العلمية، فكانت بحق صحوة أدبية يرعاها نوابغ الفقهاء الذين يتزعمون مسيرتها إلى حيث الأبواب "الأدبية الإمامية" المتنوعة، كالأراجيز الفقهية، والحديثية، أو التاريخية الأخرى.

كانت المدرسة الحلّية تمثّل الوجدانيات الصادقة التي تجيش بها قريحة الشاعر ليصوغها مقطوعة شعرية نابعة من غليان النفسية الشيعية الموتورة من أهم حدث سجّلته الذاكرة الشيعية في سجل ظلاماتها الممتدة عبر قرون، ولعلّ المدرسة "الحميرية" أو "الكميتية" وحتى "الخزاعية" التي تفنن في صياغتها السيد الحميرى المتمرد على مجتمع أخفى على نفسه الحقيقة، أو الثانية التي أنجبها الكميت المتأمل في عطاء آل البيت (عليهم السلام)، وتلك الثالثة التي تزعمها دعبل الخزاعي الثائر ليسيّر قافلة الشعر إلى جحافل جهاد تطالب الأمّة بالرجوع إلى صياغة ذاتها من خلال مراعاة الحقيقة، فإن المدرسة الشعرية "الحلّية" قد فاقت هذه المدارس في تصوير الواقعة الكربلائية، وكان التصاقها بالحدث الكربلائي هو الذي أحدث لها تلك "المدرسة الشعرية الحسينية" المتميزة.

تكفّلت المدرسة الشعرية الحلّية بصياغة "الحدث الحسيني" على أنه الحدث الذي ألهم الأمّة معرفة معاناتها الممتدة عبر قرون، وأنشدته على أنه الحدث الأهم الذي عبّر عن معاناة الإنسانية المعذبة، والتي استنفرت كل شيء للتمرد والثورة على الظلم والطغيان، فكان الشعور الإسلامي الشيعي الحافل بمعاناة الحقب الجائرة خصوصاً على الذات الشيعية، قد ترجمها الشاعر الحلّي إلى مقطوعات تفنن في صياغتها، وأجاد في إبراز مدرسة شعرية حسينية.

لم يكتفِ الشاعر الحلّي بالصياغة التقليدية للقصيدة أو الفن الشعري الرتيب، بل توّج عطاءه بإبداعات أدبية كانت نابعة من شدة شوقه في التعبير عن التحرّق الذي أصابه من فاجعة الطف الدامية، فنمت في أحاسيسه ووجدانياته اللاشعورية، فنون العطاء المعبّر عن معاناته هذه، حتى أضحى يقدّم العطاء تلو العطاء، والفن إثر الفن.

في حدود اطّلاعي، لم يكن ما قدّمه الشاعر السيد باقر القزويني قد سبقه إليه أحد، وهو ما ذهب إليه أيضاً المحقق المرحوم الشيخ محمد علي اليعقوبي (رحمه الله) في بابلياته(1)، فكان بحق صاحب مدرسة خاصة به تنشد الحسين (ع) بهذا الأسلوب الرائع.

اعتمد السيد باقر القزويني الذي أطلق على إبداعه الشعري الشيخ محمد علي اليعقوبي تسمية "البند"، اعتمد على أوزان شعرية مختلفة، وقافية مختلفة، إلاّ أنه سبك الموضوع في وحدة شعرية متماسكة، وصياغة فنية أنيقة، فقد تحرر من الوزن والقافية، إلاّ أنه التزم بسباكة شعرية نثرية ممزوجة، ليقدّم للمدرسة الأدبية هذا الفن الرائع، ولعلّنا يمكن أن نطلق على فنه هذا تسمية "الشعر الحرّ الملتزم" الذي التزم وحدة السبك في قصيدته مع تحرّرٍ ملتزم من قيود الوزن والقافية، ولعلّها المدرسة المبكرة في هذا الفن، ويمكن القول أن السيد باقر القزويني قد سبق مدرسة السياب ونازك الملائكة في هذا المضمار، وكانت محاولة مبكرة جداً كانت ستؤول إلى أطروحات أدبية أخرى لولا يد المنون التي اختطفت شاعرنا وهو في التاسعة والعشرين من عمره، في أوج عطائه وإبداعه، حيث كانت وفاته (رحمه الله) في عام 1333هـ.

نموذج "البند" الذي نظمه السيد باقر القزويني (ره):

ألا ياأيها الراكب يفري كبد البيد، بتصويب وتصعيد، على متن جواد أتلع الجيد..

نجيب تخجل الريح بل البرق لدى الجري..

إلى الحلبة في السبق ذراعاه مغارا..

عج على جيرة أرض الطف، واسكبْ مُزَنَ الطرف، سيولاً تبهر السحب لدى الوَكف..

وعفّر في ثراها المندل الرطب بل العنبر خديك، ولجها بخضوع وخشوع بادي الحزن قد ابيضت من الأدمع عيناك!!

فلو شاهدت مَنْ حلّ بها ياسعد منحوراً شهيداً لتلظيت أواراً..

فهل تعلم أم لا؟ ياابن خير الخلق سبط المصطفى الطهر، عليه ضاق بر الأرض والبحر!!

أتى كوفان يحدو نحوها النجب، وقد كانوا إليه كتبوا الكتب!!

وقد أمّهم يرجو بمسراه إلى نحوهم الأمن، فحفت أهلها بابن زياد وحداها سالف الضغن، وأمّت خيرة الناس ضحى بالضرب والطعن..

هناك ابتدرت للحرب أمجاد بهاليل، تخال البيض في أيديهم طيراً أبابيل..

فدارت بهم دائرة الحرب، وبانت لهم فيها أفاعيل، وقد أقبلت الأبطال من آل علي لعناق الطعن والضرب، ونال آل حرب بهم الشؤم بل الحرب، كما قد غبّروا في أوجه القوم، وغصت منهم بالسمر والبيض رحى الحرب!!

كرام، نقباء، نجباء، نبلاء، فضلاء، حلماء، حكماء، علماء..

وليوث غالبية، وحماة هاشمية، بل شموس فاطمية، وبدور طالبية..

فلقد حاموا خدوراً، ولقد أشفوا صدوراً، ولقد طابوا نجاراً..

أسد من دافعوا عن حرم الرحمن أرجاس، فما تسمع إلا رنة السيف على الطاس، من الداعين للدين هداة الخلق لا بل سادة الناس، ولو تبصر شيئاً لرأيت البيض قد غاصت على الرأس، ففرت فرق الشرك ثباً من شدة البأس..

ولا تعرف ملجى، ولا تعقل منجى..

لا ولا تدري، إلى أين تولي وجهها منهم فراراً..

ولم يرتفع القتير إلا وهم صرعى مطاعين، على الرمضاء ثاوين، بلا دفن وتكفين!!

تدوس الخيل منهم عقرت أفئدة المجد، ومجت منهم البوغا دماً عزّ على المختار أحمد..

ففازوا بعناق الحور إذ حازوا علاء وفخاراً،

ولم يبقَ سوى السبط وحيداً بين أعداه، فريداً يابنفسي ماله من يتفدّاه!!

وإذ قد علم السبط بأن لا ينفع الأقوام إنذار، ولا وعظ وتحذير وإزجار!!

تلقاهم بقلب ثابت لا يعرف الرعب، وسيف طالما عن وجه خير الخلق طراً كشف الكرب..

وناداهم إلى أين عبيد الأمّة اليوم تولون، وقد أفنيتم صحبي وأهلي فإلى أين تفرون، وقد ذكّرهم فعل علي يوم صفين، وفي جمعهم قد نعبت أغربة البين..

وما تنظر أن صال على الجمع سوى كف كمي قادر أو رأس ليث طائر في حومة البيد، ترى أفئدة الفرسان والشجعان والأقران من صولته في قلب رعديد..

ولما خط في اللوح يراع القدر المحتوم أن السبط منحور، هوى قطب رحى العالم للأرض كما قد خرّ موسى من ذرى الطور..

صريعاً ظامياً والعجب الأعجب أن يظمى وقد سال حشاه بالدم المهراق حتى بلغ السيل زبى الطف.. لقى ينظر طوراً عسكر الشرك وطوراً لبنات المصطفى يرمق بالطرف..

هناك الشمر قد أقبل ينحو موضع اللثم لخير الخلق ياشلت يدا شمر، فكان القدر المقدور واصطك جبين المجد إذ شال على الرمح محيا الشمس والبدر، وداست خيلهم ياعرقبت من معدن العلم فقار الظهر والصدرا!!

طريحاً بربى الطف ثلاثاً يابنفسي لن يوارى،

وأدهى كل دهماء بقلب المصطفى الطاهر توري شرر الوجد، هجوم الخيل والجند، على هتك خدور الفاطميات واحتدام لهيب النار في الرحل بلا منع ولا صد..

وقد نادى المنادي يالحاه الله بالنهب، وقد جاذبت الأعداء، أبراد بنات الوحي بالسلب، فيالله للمعشر من هاشم كيف استوطنوا الترب، وقرّت فوق ظهر الذل والهون وقد أبدت نساهم حاسرات بربى البيد بنو حرب، على عجف المطايا بهم تهتف بالعتب..

أفتيان لؤي كيف نسري معهم ليس لنا ستر، ومنا تصهر الشمس وجوهاً بكم لم تبرح الخدر!!

ألا أين الحفاظ اليوم والغيرة والبأس، ألا أين أبو الفضل أخو النخوة عباس؟

أتسبى لكم مثل سبايا الترك والديلم ربات خدور ما عهدنا لكم عن مثله صبر، وتساق أسارى حسّراً بين عداكم ليزيد شارب الخمر؟!

لقد خابت فغضّت بصراً عن عتبهم إذ حال ما بينهم الموت، ونادت بعلي هتفاً مبحوحة الصوت..

على مثل بني المختار ياعين فجودي واسكبي أدمعك اليوم غزاراً،

وياقلب لآل المرتضى ويحك فأسعدني أواراً،

فعليهم عدد الرمل سلام ليس يحصى وثناء لا يجارى..(2).

ـــــــــ

1 - راجع البابليات، للشيخ محمد علي اليعقوبي، دار البيان، ج3، ص200.

2 - م.ن. ج3، ص200.

بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ

ترتيلات عاشورائية..

وعطاءات المدرسة الحلِّية

محمد علي الحلو

مقدمة

احتضنت الحلّة السيفية أو المزيدية الفيحاء، مدرستين كان لهما الأثر البالغ في ترسيم معالم النهضة الفكرية للمدرسة الإمامية إبّان القرن الخامس الهجري حين تأسيسها آنذاك، على عهد نوابغها المتعاقبين عليها كالمقدسين الطاووسيين، أو المحققين الحليين، وغيرهم من رواد المدرسة الفقهية الحلّية، التي كانت رائدة في تقديم الفقه الإسلامي بطروحاته الإمامية المباركة في بلاد الرافدين العراقية، يوم كانت الخلافة العباسية في النزع الأخير نتيجة الاضطراب الفكري، ثم الإبداع العلمي المشلول الذي أثقلت كاهله الاختراقات الفكرية الأخرى القادمة من خلف حدود الوطن الإسلامي.. كانت النهضة الفقهية الحلّية إلى جانب مدرسة الحلّيين الممتدة من المدرسة العاملية يوم كان جبل عامل حاضرة الاستنباط الفقهي، وقاعدة الاجتهاد الإمامي، وما أن أفِلت مدرسة الفقه الحلّي حتى توهجت حاضرة النجف الفقهية، فأشرقت حين ذاك المدرسة الأدبية الحلّية على أيدي الفقهاء الشعراء، وكأنها امتدادات لتلك المدرسة الفقهية العلمية، فكانت بحق صحوة أدبية يرعاها نوابغ الفقهاء الذين يتزعمون مسيرتها إلى حيث الأبواب "الأدبية الإمامية" المتنوعة، كالأراجيز الفقهية، والحديثية، أو التاريخية الأخرى.

كانت المدرسة الحلّية تمثّل الوجدانيات الصادقة التي تجيش بها قريحة الشاعر ليصوغها مقطوعة شعرية نابعة من غليان النفسية الشيعية الموتورة من أهم حدث سجّلته الذاكرة الشيعية في سجل ظلاماتها الممتدة عبر قرون، ولعلّ المدرسة "الحميرية" أو "الكميتية" وحتى "الخزاعية" التي تفنن في صياغتها السيد الحميرى المتمرد على مجتمع أخفى على نفسه الحقيقة، أو الثانية التي أنجبها الكميت المتأمل في عطاء آل البيت (عليهم السلام)، وتلك الثالثة التي تزعمها دعبل الخزاعي الثائر ليسيّر قافلة الشعر إلى جحافل جهاد تطالب الأمّة بالرجوع إلى صياغة ذاتها من خلال مراعاة الحقيقة، فإن المدرسة الشعرية "الحلّية" قد فاقت هذه المدارس في تصوير الواقعة الكربلائية، وكان التصاقها بالحدث الكربلائي هو الذي أحدث لها تلك "المدرسة الشعرية الحسينية" المتميزة.

تكفّلت المدرسة الشعرية الحلّية بصياغة "الحدث الحسيني" على أنه الحدث الذي ألهم الأمّة معرفة معاناتها الممتدة عبر قرون، وأنشدته على أنه الحدث الأهم الذي عبّر عن معاناة الإنسانية المعذبة، والتي استنفرت كل شيء للتمرد والثورة على الظلم والطغيان، فكان الشعور الإسلامي الشيعي الحافل بمعاناة الحقب الجائرة خصوصاً على الذات الشيعية، قد ترجمها الشاعر الحلّي إلى مقطوعات تفنن في صياغتها، وأجاد في إبراز مدرسة شعرية حسينية.

لم يكتفِ الشاعر الحلّي بالصياغة التقليدية للقصيدة أو الفن الشعري الرتيب، بل توّج عطاءه بإبداعات أدبية كانت نابعة من شدة شوقه في التعبير عن التحرّق الذي أصابه من فاجعة الطف الدامية، فنمت في أحاسيسه ووجدانياته اللاشعورية، فنون العطاء المعبّر عن معاناته هذه، حتى أضحى يقدّم العطاء تلو العطاء، والفن إثر الفن.

في حدود اطّلاعي، لم يكن ما قدّمه الشاعر السيد باقر القزويني قد سبقه إليه أحد، وهو ما ذهب إليه أيضاً المحقق المرحوم الشيخ محمد علي اليعقوبي (رحمه الله) في بابلياته(1)، فكان بحق صاحب مدرسة خاصة به تنشد الحسين (ع) بهذا الأسلوب الرائع.

اعتمد السيد باقر القزويني الذي أطلق على إبداعه الشعري الشيخ محمد علي اليعقوبي تسمية "البند"، اعتمد على أوزان شعرية مختلفة، وقافية مختلفة، إلاّ أنه سبك الموضوع في وحدة شعرية متماسكة، وصياغة فنية أنيقة، فقد تحرر من الوزن والقافية، إلاّ أنه التزم بسباكة شعرية نثرية ممزوجة، ليقدّم للمدرسة الأدبية هذا الفن الرائع، ولعلّنا يمكن أن نطلق على فنه هذا تسمية "الشعر الحرّ الملتزم" الذي التزم وحدة السبك في قصيدته مع تحرّرٍ ملتزم من قيود الوزن والقافية، ولعلّها المدرسة المبكرة في هذا الفن، ويمكن القول أن السيد باقر القزويني قد سبق مدرسة السياب ونازك الملائكة في هذا المضمار، وكانت محاولة مبكرة جداً كانت ستؤول إلى أطروحات أدبية أخرى لولا يد المنون التي اختطفت شاعرنا وهو في التاسعة والعشرين من عمره، في أوج عطائه وإبداعه، حيث كانت وفاته (رحمه الله) في عام 1333هـ.

نموذج "البند" الذي نظمه السيد باقر القزويني (ره):

ألا ياأيها الراكب يفري كبد البيد، بتصويب وتصعيد، على متن جواد أتلع الجيد..

نجيب تخجل الريح بل البرق لدى الجري..

إلى الحلبة في السبق ذراعاه مغارا..

عج على جيرة أرض الطف، واسكبْ مُزَنَ الطرف، سيولاً تبهر السحب لدى الوَكف..

وعفّر في ثراها المندل الرطب بل العنبر خديك، ولجها بخضوع وخشوع بادي الحزن قد ابيضت من الأدمع عيناك!!

فلو شاهدت مَنْ حلّ بها ياسعد منحوراً شهيداً لتلظيت أواراً..

فهل تعلم أم لا؟ ياابن خير الخلق سبط المصطفى الطهر، عليه ضاق بر الأرض والبحر!!

أتى كوفان يحدو نحوها النجب، وقد كانوا إليه كتبوا الكتب!!

وقد أمّهم يرجو بمسراه إلى نحوهم الأمن، فحفت أهلها بابن زياد وحداها سالف الضغن، وأمّت خيرة الناس ضحى بالضرب والطعن..

هناك ابتدرت للحرب أمجاد بهاليل، تخال البيض في أيديهم طيراً أبابيل..

فدارت بهم دائرة الحرب، وبانت لهم فيها أفاعيل، وقد أقبلت الأبطال من آل علي لعناق الطعن والضرب، ونال آل حرب بهم الشؤم بل الحرب، كما قد غبّروا في أوجه القوم، وغصت منهم بالسمر والبيض رحى الحرب!!

كرام، نقباء، نجباء، نبلاء، فضلاء، حلماء، حكماء، علماء..

وليوث غالبية، وحماة هاشمية، بل شموس فاطمية، وبدور طالبية..

فلقد حاموا خدوراً، ولقد أشفوا صدوراً، ولقد طابوا نجاراً..

أسد من دافعوا عن حرم الرحمن أرجاس، فما تسمع إلا رنة السيف على الطاس، من الداعين للدين هداة الخلق لا بل سادة الناس، ولو تبصر شيئاً لرأيت البيض قد غاصت على الرأس، ففرت فرق الشرك ثباً من شدة البأس..

ولا تعرف ملجى، ولا تعقل منجى..

لا ولا تدري، إلى أين تولي وجهها منهم فراراً..

ولم يرتفع القتير إلا وهم صرعى مطاعين، على الرمضاء ثاوين، بلا دفن وتكفين!!

تدوس الخيل منهم عقرت أفئدة المجد، ومجت منهم البوغا دماً عزّ على المختار أحمد..

ففازوا بعناق الحور إذ حازوا علاء وفخاراً،

ولم يبقَ سوى السبط وحيداً بين أعداه، فريداً يابنفسي ماله من يتفدّاه!!

وإذ قد علم السبط بأن لا ينفع الأقوام إنذار، ولا وعظ وتحذير وإزجار!!

تلقاهم بقلب ثابت لا يعرف الرعب، وسيف طالما عن وجه خير الخلق طراً كشف الكرب..

وناداهم إلى أين عبيد الأمّة اليوم تولون، وقد أفنيتم صحبي وأهلي فإلى أين تفرون، وقد ذكّرهم فعل علي يوم صفين، وفي جمعهم قد نعبت أغربة البين..

وما تنظر أن صال على الجمع سوى كف كمي قادر أو رأس ليث طائر في حومة البيد، ترى أفئدة الفرسان والشجعان والأقران من صولته في قلب رعديد..

ولما خط في اللوح يراع القدر المحتوم أن السبط منحور، هوى قطب رحى العالم للأرض كما قد خرّ موسى من ذرى الطور..

صريعاً ظامياً والعجب الأعجب أن يظمى وقد سال حشاه بالدم المهراق حتى بلغ السيل زبى الطف.. لقى ينظر طوراً عسكر الشرك وطوراً لبنات المصطفى يرمق بالطرف..

هناك الشمر قد أقبل ينحو موضع اللثم لخير الخلق ياشلت يدا شمر، فكان القدر المقدور واصطك جبين المجد إذ شال على الرمح محيا الشمس والبدر، وداست خيلهم ياعرقبت من معدن العلم فقار الظهر والصدرا!!

طريحاً بربى الطف ثلاثاً يابنفسي لن يوارى،

وأدهى كل دهماء بقلب المصطفى الطاهر توري شرر الوجد، هجوم الخيل والجند، على هتك خدور الفاطميات واحتدام لهيب النار في الرحل بلا منع ولا صد..

وقد نادى المنادي يالحاه الله بالنهب، وقد جاذبت الأعداء، أبراد بنات الوحي بالسلب، فيالله للمعشر من هاشم كيف استوطنوا الترب، وقرّت فوق ظهر الذل والهون وقد أبدت نساهم حاسرات بربى البيد بنو حرب، على عجف المطايا بهم تهتف بالعتب..

أفتيان لؤي كيف نسري معهم ليس لنا ستر، ومنا تصهر الشمس وجوهاً بكم لم تبرح الخدر!!

ألا أين الحفاظ اليوم والغيرة والبأس، ألا أين أبو الفضل أخو النخوة عباس؟

أتسبى لكم مثل سبايا الترك والديلم ربات خدور ما عهدنا لكم عن مثله صبر، وتساق أسارى حسّراً بين عداكم ليزيد شارب الخمر؟!

لقد خابت فغضّت بصراً عن عتبهم إذ حال ما بينهم الموت، ونادت بعلي هتفاً مبحوحة الصوت..

على مثل بني المختار ياعين فجودي واسكبي أدمعك اليوم غزاراً،

وياقلب لآل المرتضى ويحك فأسعدني أواراً،

فعليهم عدد الرمل سلام ليس يحصى وثناء لا يجارى..(2).

ـــــــــ

1 - راجع البابليات، للشيخ محمد علي اليعقوبي، دار البيان، ج3، ص200.

2 - م.ن. ج3، ص200.

بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ

ترتيلات عاشورائية..

وعطاءات المدرسة الحلِّية

محمد علي الحلو

مقدمة

احتضنت الحلّة السيفية أو المزيدية الفيحاء، مدرستين كان لهما الأثر البالغ في ترسيم معالم النهضة الفكرية للمدرسة الإمامية إبّان القرن الخامس الهجري حين تأسيسها آنذاك، على عهد نوابغها المتعاقبين عليها كالمقدسين الطاووسيين، أو المحققين الحليين، وغيرهم من رواد المدرسة الفقهية الحلّية، التي كانت رائدة في تقديم الفقه الإسلامي بطروحاته الإمامية المباركة في بلاد الرافدين العراقية، يوم كانت الخلافة العباسية في النزع الأخير نتيجة الاضطراب الفكري، ثم الإبداع العلمي المشلول الذي أثقلت كاهله الاختراقات الفكرية الأخرى القادمة من خلف حدود الوطن الإسلامي.. كانت النهضة الفقهية الحلّية إلى جانب مدرسة الحلّيين الممتدة من المدرسة العاملية يوم كان جبل عامل حاضرة الاستنباط الفقهي، وقاعدة الاجتهاد الإمامي، وما أن أفِلت مدرسة الفقه الحلّي حتى توهجت حاضرة النجف الفقهية، فأشرقت حين ذاك المدرسة الأدبية الحلّية على أيدي الفقهاء الشعراء، وكأنها امتدادات لتلك المدرسة الفقهية العلمية، فكانت بحق صحوة أدبية يرعاها نوابغ الفقهاء الذين يتزعمون مسيرتها إلى حيث الأبواب "الأدبية الإمامية" المتنوعة، كالأراجيز الفقهية، والحديثية، أو التاريخية الأخرى.

كانت المدرسة الحلّية تمثّل الوجدانيات الصادقة التي تجيش بها قريحة الشاعر ليصوغها مقطوعة شعرية نابعة من غليان النفسية الشيعية الموتورة من أهم حدث سجّلته الذاكرة الشيعية في سجل ظلاماتها الممتدة عبر قرون، ولعلّ المدرسة "الحميرية" أو "الكميتية" وحتى "الخزاعية" التي تفنن في صياغتها السيد الحميرى المتمرد على مجتمع أخفى على نفسه الحقيقة، أو الثانية التي أنجبها الكميت المتأمل في عطاء آل البيت (عليهم السلام)، وتلك الثالثة التي تزعمها دعبل الخزاعي الثائر ليسيّر قافلة الشعر إلى جحافل جهاد تطالب الأمّة بالرجوع إلى صياغة ذاتها من خلال مراعاة الحقيقة، فإن المدرسة الشعرية "الحلّية" قد فاقت هذه المدارس في تصوير الواقعة الكربلائية، وكان التصاقها بالحدث الكربلائي هو الذي أحدث لها تلك "المدرسة الشعرية الحسينية" المتميزة.

تكفّلت المدرسة الشعرية الحلّية بصياغة "الحدث الحسيني" على أنه الحدث الذي ألهم الأمّة معرفة معاناتها الممتدة عبر قرون، وأنشدته على أنه الحدث الأهم الذي عبّر عن معاناة الإنسانية المعذبة، والتي استنفرت كل شيء للتمرد والثورة على الظلم والطغيان، فكان الشعور الإسلامي الشيعي الحافل بمعاناة الحقب الجائرة خصوصاً على الذات الشيعية، قد ترجمها الشاعر الحلّي إلى مقطوعات تفنن في صياغتها، وأجاد في إبراز مدرسة شعرية حسينية.

لم يكتفِ الشاعر الحلّي بالصياغة التقليدية للقصيدة أو الفن الشعري الرتيب، بل توّج عطاءه بإبداعات أدبية كانت نابعة من شدة شوقه في التعبير عن التحرّق الذي أصابه من فاجعة الطف الدامية، فنمت في أحاسيسه ووجدانياته اللاشعورية، فنون العطاء المعبّر عن معاناته هذه، حتى أضحى يقدّم العطاء تلو العطاء، والفن إثر الفن.

في حدود اطّلاعي، لم يكن ما قدّمه الشاعر السيد باقر القزويني قد سبقه إليه أحد، وهو ما ذهب إليه أيضاً المحقق المرحوم الشيخ محمد علي اليعقوبي (رحمه الله) في بابلياته(1)، فكان بحق صاحب مدرسة خاصة به تنشد الحسين (ع) بهذا الأسلوب الرائع.

اعتمد السيد باقر القزويني الذي أطلق على إبداعه الشعري الشيخ محمد علي اليعقوبي تسمية "البند"، اعتمد على أوزان شعرية مختلفة، وقافية مختلفة، إلاّ أنه سبك الموضوع في وحدة شعرية متماسكة، وصياغة فنية أنيقة، فقد تحرر من الوزن والقافية، إلاّ أنه التزم بسباكة شعرية نثرية ممزوجة، ليقدّم للمدرسة الأدبية هذا الفن الرائع، ولعلّنا يمكن أن نطلق على فنه هذا تسمية "الشعر الحرّ الملتزم" الذي التزم وحدة السبك في قصيدته مع تحرّرٍ ملتزم من قيود الوزن والقافية، ولعلّها المدرسة المبكرة في هذا الفن، ويمكن القول أن السيد باقر القزويني قد سبق مدرسة السياب ونازك الملائكة في هذا المضمار، وكانت محاولة مبكرة جداً كانت ستؤول إلى أطروحات أدبية أخرى لولا يد المنون التي اختطفت شاعرنا وهو في التاسعة والعشرين من عمره، في أوج عطائه وإبداعه، حيث كانت وفاته (رحمه الله) في عام 1333هـ.

نموذج "البند" الذي نظمه السيد باقر القزويني (ره):

ألا ياأيها الراكب يفري كبد البيد، بتصويب وتصعيد، على متن جواد أتلع الجيد..

نجيب تخجل الريح بل البرق لدى الجري..

إلى الحلبة في السبق ذراعاه مغارا..

عج على جيرة أرض الطف، واسكبْ مُزَنَ الطرف، سيولاً تبهر السحب لدى الوَكف..

وعفّر في ثراها المندل الرطب بل العنبر خديك، ولجها بخضوع وخشوع بادي الحزن قد ابيضت من الأدمع عيناك!!

فلو شاهدت مَنْ حلّ بها ياسعد منحوراً شهيداً لتلظيت أواراً..

فهل تعلم أم لا؟ ياابن خير الخلق سبط المصطفى الطهر، عليه ضاق بر الأرض والبحر!!

أتى كوفان يحدو نحوها النجب، وقد كانوا إليه كتبوا الكتب!!

وقد أمّهم يرجو بمسراه إلى نحوهم الأمن، فحفت أهلها بابن زياد وحداها سالف الضغن، وأمّت خيرة الناس ضحى بالضرب والطعن..

هناك ابتدرت للحرب أمجاد بهاليل، تخال البيض في أيديهم طيراً أبابيل..

فدارت بهم دائرة الحرب، وبانت لهم فيها أفاعيل، وقد أقبلت الأبطال من آل علي لعناق الطعن والضرب، ونال آل حرب بهم الشؤم بل الحرب، كما قد غبّروا في أوجه القوم، وغصت منهم بالسمر والبيض رحى الحرب!!

كرام، نقباء، نجباء، نبلاء، فضلاء، حلماء، حكماء، علماء..

وليوث غالبية، وحماة هاشمية، بل شموس فاطمية، وبدور طالبية..

فلقد حاموا خدوراً، ولقد أشفوا صدوراً، ولقد طابوا نجاراً..

أسد من دافعوا عن حرم الرحمن أرجاس، فما تسمع إلا رنة السيف على الطاس، من الداعين للدين هداة الخلق لا بل سادة الناس، ولو تبصر شيئاً لرأيت البيض قد غاصت على الرأس، ففرت فرق الشرك ثباً من شدة البأس..

ولا تعرف ملجى، ولا تعقل منجى..

لا ولا تدري، إلى أين تولي وجهها منهم فراراً..

ولم يرتفع القتير إلا وهم صرعى مطاعين، على الرمضاء ثاوين، بلا دفن وتكفين!!

تدوس الخيل منهم عقرت أفئدة المجد، ومجت منهم البوغا دماً عزّ على المختار أحمد..

ففازوا بعناق الحور إذ حازوا علاء وفخاراً،

ولم يبقَ سوى السبط وحيداً بين أعداه، فريداً يابنفسي ماله من يتفدّاه!!

وإذ قد علم السبط بأن لا ينفع الأقوام إنذار، ولا وعظ وتحذير وإزجار!!

تلقاهم بقلب ثابت لا يعرف الرعب، وسيف طالما عن وجه خير الخلق طراً كشف الكرب..

وناداهم إلى أين عبيد الأمّة اليوم تولون، وقد أفنيتم صحبي وأهلي فإلى أين تفرون، وقد ذكّرهم فعل علي يوم صفين، وفي جمعهم قد نعبت أغربة البين..

وما تنظر أن صال على الجمع سوى كف كمي قادر أو رأس ليث طائر في حومة البيد، ترى أفئدة الفرسان والشجعان والأقران من صولته في قلب رعديد..

ولما خط في اللوح يراع القدر المحتوم أن السبط منحور، هوى قطب رحى العالم للأرض كما قد خرّ موسى من ذرى الطور..

صريعاً ظامياً والعجب الأعجب أن يظمى وقد سال حشاه بالدم المهراق حتى بلغ السيل زبى الطف.. لقى ينظر طوراً عسكر الشرك وطوراً لبنات المصطفى يرمق بالطرف..

هناك الشمر قد أقبل ينحو موضع اللثم لخير الخلق ياشلت يدا شمر، فكان القدر المقدور واصطك جبين المجد إذ شال على الرمح محيا الشمس والبدر، وداست خيلهم ياعرقبت من معدن العلم فقار الظهر والصدرا!!

طريحاً بربى الطف ثلاثاً يابنفسي لن يوارى،

وأدهى كل دهماء بقلب المصطفى الطاهر توري شرر الوجد، هجوم الخيل والجند، على هتك خدور الفاطميات واحتدام لهيب النار في الرحل بلا منع ولا صد..

وقد نادى المنادي يالحاه الله بالنهب، وقد جاذبت الأعداء، أبراد بنات الوحي بالسلب، فيالله للمعشر من هاشم كيف استوطنوا الترب، وقرّت فوق ظهر الذل والهون وقد أبدت نساهم حاسرات بربى البيد بنو حرب، على عجف المطايا بهم تهتف بالعتب..

أفتيان لؤي كيف نسري معهم ليس لنا ستر، ومنا تصهر الشمس وجوهاً بكم لم تبرح الخدر!!

ألا أين الحفاظ اليوم والغيرة والبأس، ألا أين أبو الفضل أخو النخوة عباس؟

أتسبى لكم مثل سبايا الترك والديلم ربات خدور ما عهدنا لكم عن مثله صبر، وتساق أسارى حسّراً بين عداكم ليزيد شارب الخمر؟!

لقد خابت فغضّت بصراً عن عتبهم إذ حال ما بينهم الموت، ونادت بعلي هتفاً مبحوحة الصوت..

على مثل بني المختار ياعين فجودي واسكبي أدمعك اليوم غزاراً،

وياقلب لآل المرتضى ويحك فأسعدني أواراً،

فعليهم عدد الرمل سلام ليس يحصى وثناء لا يجارى..(2).

ـــــــــ

1 - راجع البابليات، للشيخ محمد علي اليعقوبي، دار البيان، ج3، ص200.

2 - م.ن. ج3، ص200.

بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ

ترتيلات عاشورائية..

وعطاءات المدرسة الحلِّية

محمد علي الحلو

مقدمة

احتضنت الحلّة السيفية أو المزيدية الفيحاء، مدرستين كان لهما الأثر البالغ في ترسيم معالم النهضة الفكرية للمدرسة الإمامية إبّان القرن الخامس الهجري حين تأسيسها آنذاك، على عهد نوابغها المتعاقبين عليها كالمقدسين الطاووسيين، أو المحققين الحليين، وغيرهم من رواد المدرسة الفقهية الحلّية، التي كانت رائدة في تقديم الفقه الإسلامي بطروحاته الإمامية المباركة في بلاد الرافدين العراقية، يوم كانت الخلافة العباسية في النزع الأخير نتيجة الاضطراب الفكري، ثم الإبداع العلمي المشلول الذي أثقلت كاهله الاختراقات الفكرية الأخرى القادمة من خلف حدود الوطن الإسلامي.. كانت النهضة الفقهية الحلّية إلى جانب مدرسة الحلّيين الممتدة من المدرسة العاملية يوم كان جبل عامل حاضرة الاستنباط الفقهي، وقاعدة الاجتهاد الإمامي، وما أن أفِلت مدرسة الفقه الحلّي حتى توهجت حاضرة النجف الفقهية، فأشرقت حين ذاك المدرسة الأدبية الحلّية على أيدي الفقهاء الشعراء، وكأنها امتدادات لتلك المدرسة الفقهية العلمية، فكانت بحق صحوة أدبية يرعاها نوابغ الفقهاء الذين يتزعمون مسيرتها إلى حيث الأبواب "الأدبية الإمامية" المتنوعة، كالأراجيز الفقهية، والحديثية، أو التاريخية الأخرى.

كانت المدرسة الحلّية تمثّل الوجدانيات الصادقة التي تجيش بها قريحة الشاعر ليصوغها مقطوعة شعرية نابعة من غليان النفسية الشيعية الموتورة من أهم حدث سجّلته الذاكرة الشيعية في سجل ظلاماتها الممتدة عبر قرون، ولعلّ المدرسة "الحميرية" أو "الكميتية" وحتى "الخزاعية" التي تفنن في صياغتها السيد الحميرى المتمرد على مجتمع أخفى على نفسه الحقيقة، أو الثانية التي أنجبها الكميت المتأمل في عطاء آل البيت (عليهم السلام)، وتلك الثالثة التي تزعمها دعبل الخزاعي الثائر ليسيّر قافلة الشعر إلى جحافل جهاد تطالب الأمّة بالرجوع إلى صياغة ذاتها من خلال مراعاة الحقيقة، فإن المدرسة الشعرية "الحلّية" قد فاقت هذه المدارس في تصوير الواقعة الكربلائية، وكان التصاقها بالحدث الكربلائي هو الذي أحدث لها تلك "المدرسة الشعرية الحسينية" المتميزة.

تكفّلت المدرسة الشعرية الحلّية بصياغة "الحدث الحسيني" على أنه الحدث الذي ألهم الأمّة معرفة معاناتها الممتدة عبر قرون، وأنشدته على أنه الحدث الأهم الذي عبّر عن معاناة الإنسانية المعذبة، والتي استنفرت كل شيء للتمرد والثورة على الظلم والطغيان، فكان الشعور الإسلامي الشيعي الحافل بمعاناة الحقب الجائرة خصوصاً على الذات الشيعية، قد ترجمها الشاعر الحلّي إلى مقطوعات تفنن في صياغتها، وأجاد في إبراز مدرسة شعرية حسينية.

لم يكتفِ الشاعر الحلّي بالصياغة التقليدية للقصيدة أو الفن الشعري الرتيب، بل توّج عطاءه بإبداعات أدبية كانت نابعة من شدة شوقه في التعبير عن التحرّق الذي أصابه من فاجعة الطف الدامية، فنمت في أحاسيسه ووجدانياته اللاشعورية، فنون العطاء المعبّر عن معاناته هذه، حتى أضحى يقدّم العطاء تلو العطاء، والفن إثر الفن.

في حدود اطّلاعي، لم يكن ما قدّمه الشاعر السيد باقر القزويني قد سبقه إليه أحد، وهو ما ذهب إليه أيضاً المحقق المرحوم الشيخ محمد علي اليعقوبي (رحمه الله) في بابلياته(1)، فكان بحق صاحب مدرسة خاصة به تنشد الحسين (ع) بهذا الأسلوب الرائع.

اعتمد السيد باقر القزويني الذي أطلق على إبداعه الشعري الشيخ محمد علي اليعقوبي تسمية "البند"، اعتمد على أوزان شعرية مختلفة، وقافية مختلفة، إلاّ أنه سبك الموضوع في وحدة شعرية متماسكة، وصياغة فنية أنيقة، فقد تحرر من الوزن والقافية، إلاّ أنه التزم بسباكة شعرية نثرية ممزوجة، ليقدّم للمدرسة الأدبية هذا الفن الرائع، ولعلّنا يمكن أن نطلق على فنه هذا تسمية "الشعر الحرّ الملتزم" الذي التزم وحدة السبك في قصيدته مع تحرّرٍ ملتزم من قيود الوزن والقافية، ولعلّها المدرسة المبكرة في هذا الفن، ويمكن القول أن السيد باقر القزويني قد سبق مدرسة السياب ونازك الملائكة في هذا المضمار، وكانت محاولة مبكرة جداً كانت ستؤول إلى أطروحات أدبية أخرى لولا يد المنون التي اختطفت شاعرنا وهو في التاسعة والعشرين من عمره، في أوج عطائه وإبداعه، حيث كانت وفاته (رحمه الله) في عام 1333هـ.

نموذج "البند" الذي نظمه السيد باقر القزويني (ره):

ألا ياأيها الراكب يفري كبد البيد، بتصويب وتصعيد، على متن جواد أتلع الجيد..

نجيب تخجل الريح بل البرق لدى الجري..

إلى الحلبة في السبق ذراعاه مغارا..

عج على جيرة أرض الطف، واسكبْ مُزَنَ الطرف، سيولاً تبهر السحب لدى الوَكف..

وعفّر في ثراها المندل الرطب بل العنبر خديك، ولجها بخضوع وخشوع بادي الحزن قد ابيضت من الأدمع عيناك!!

فلو شاهدت مَنْ حلّ بها ياسعد منحوراً شهيداً لتلظيت أواراً..

فهل تعلم أم لا؟ ياابن خير الخلق سبط المصطفى الطهر، عليه ضاق بر الأرض والبحر!!

أتى كوفان يحدو نحوها النجب، وقد كانوا إليه كتبوا الكتب!!

وقد أمّهم يرجو بمسراه إلى نحوهم الأمن، فحفت أهلها بابن زياد وحداها سالف الضغن، وأمّت خيرة الناس ضحى بالضرب والطعن..

هناك ابتدرت للحرب أمجاد بهاليل، تخال البيض في أيديهم طيراً أبابيل..

فدارت بهم دائرة الحرب، وبانت لهم فيها أفاعيل، وقد أقبلت الأبطال من آل علي لعناق الطعن والضرب، ونال آل حرب بهم الشؤم بل الحرب، كما قد غبّروا في أوجه القوم، وغصت منهم بالسمر والبيض رحى الحرب!!

كرام، نقباء، نجباء، نبلاء، فضلاء، حلماء، حكماء، علماء..

وليوث غالبية، وحماة هاشمية، بل شموس فاطمية، وبدور طالبية..

فلقد حاموا خدوراً، ولقد أشفوا صدوراً، ولقد طابوا نجاراً..

أسد من دافعوا عن حرم الرحمن أرجاس، فما تسمع إلا رنة السيف على الطاس، من الداعين للدين هداة الخلق لا بل سادة الناس، ولو تبصر شيئاً لرأيت البيض قد غاصت على الرأس، ففرت فرق الشرك ثباً من شدة البأس..

ولا تعرف ملجى، ولا تعقل منجى..

لا ولا تدري، إلى أين تولي وجهها منهم فراراً..

ولم يرتفع القتير إلا وهم صرعى مطاعين، على الرمضاء ثاوين، بلا دفن وتكفين!!

تدوس الخيل منهم عقرت أفئدة المجد، ومجت منهم البوغا دماً عزّ على المختار أحمد..

ففازوا بعناق الحور إذ حازوا علاء وفخاراً،

ولم يبقَ سوى السبط وحيداً بين أعداه، فريداً يابنفسي ماله من يتفدّاه!!

وإذ قد علم السبط بأن لا ينفع الأقوام إنذار، ولا وعظ وتحذير وإزجار!!

تلقاهم بقلب ثابت لا يعرف الرعب، وسيف طالما عن وجه خير الخلق طراً كشف الكرب..

وناداهم إلى أين عبيد الأمّة اليوم تولون، وقد أفنيتم صحبي وأهلي فإلى أين تفرون، وقد ذكّرهم فعل علي يوم صفين، وفي جمعهم قد نعبت أغربة البين..

وما تنظر أن صال على الجمع سوى كف كمي قادر أو رأس ليث طائر في حومة البيد، ترى أفئدة الفرسان والشجعان والأقران من صولته في قلب رعديد..

ولما خط في اللوح يراع القدر المحتوم أن السبط منحور، هوى قطب رحى العالم للأرض كما قد خرّ موسى من ذرى الطور..

صريعاً ظامياً والعجب الأعجب أن يظمى وقد سال حشاه بالدم المهراق حتى بلغ السيل زبى الطف.. لقى ينظر طوراً عسكر الشرك وطوراً لبنات المصطفى يرمق بالطرف..

هناك الشمر قد أقبل ينحو موضع اللثم لخير الخلق ياشلت يدا شمر، فكان القدر المقدور واصطك جبين المجد إذ شال على الرمح محيا الشمس والبدر، وداست خيلهم ياعرقبت من معدن العلم فقار الظهر والصدرا!!

طريحاً بربى الطف ثلاثاً يابنفسي لن يوارى،

وأدهى كل دهماء بقلب المصطفى الطاهر توري شرر الوجد، هجوم الخيل والجند، على هتك خدور الفاطميات واحتدام لهيب النار في الرحل بلا منع ولا صد..

وقد نادى المنادي يالحاه الله بالنهب، وقد جاذبت الأعداء، أبراد بنات الوحي بالسلب، فيالله للمعشر من هاشم كيف استوطنوا الترب، وقرّت فوق ظهر الذل والهون وقد أبدت نساهم حاسرات بربى البيد بنو حرب، على عجف المطايا بهم تهتف بالعتب..

أفتيان لؤي كيف نسري معهم ليس لنا ستر، ومنا تصهر الشمس وجوهاً بكم لم تبرح الخدر!!

ألا أين الحفاظ اليوم والغيرة والبأس، ألا أين أبو الفضل أخو النخوة عباس؟

أتسبى لكم مثل سبايا الترك والديلم ربات خدور ما عهدنا لكم عن مثله صبر، وتساق أسارى حسّراً بين عداكم ليزيد شارب الخمر؟!

لقد خابت فغضّت بصراً عن عتبهم إذ حال ما بينهم الموت، ونادت بعلي هتفاً مبحوحة الصوت..

على مثل بني المختار ياعين فجودي واسكبي أدمعك اليوم غزاراً،

وياقلب لآل المرتضى ويحك فأسعدني أواراً،

فعليهم عدد الرمل سلام ليس يحصى وثناء لا يجارى..(2).

ـــــــــ

1 - راجع البابليات، للشيخ محمد علي اليعقوبي، دار البيان، ج3، ص200.

2 - م.ن. ج3، ص200.