جاء الإسلام برسالة عالمية، وبعقيدة وطقوس لا تنفرد بشعب أو مجتمع بعينه، ولا تَخْتص بصَقْع أو أقطار معينة، بل ظهر ديناً متكامل الجوانب في العقيدة والتشريع، يسري على الأفراد على اختلافهم في اللون، والوطن، واللسان، ولا يفترض لنفوذه حاجزاً بين بني الإنسان، ولا يعترف بأيّة فواصل أو تحديدات عرقية أو إقليمية.
ويظهر هذا من تاريخ دعوة الرسول وسيرته في نشر دينه، وقبل كل شيء، نداءات القرآن وهتافاته الموجهة إلى الناس كلهم. وهذا ما يراد من كون الإسلام ديناً عالمياً.
ولم تكن هذه سمته الوحيدة بل له سمة أُخرى هي سمة الخاتمية فهو خاتم الشرائع، كما أنّ نبيّه خاتم الأنبياء وعلى هذا كلمات الرسول وأوصيائه، وقبلها النصوص القرآنية.
كما أنّ له سمة ثالثة، وهو كونه ديناً متكامل الجوانب، وشاملاً لجميع النواحي الحيوية في حياة البشر، فلم يقتصر في تربية الإنسان وتنمية طاقاته على تشريع الأدعية والطقوس فحسب، بل قَرَن إليها تشريعات وتقنينات رفع بها حاجة الإنسان إلى كل تشريع وتقنين، سواء في مجال الأخلاق أو الإجتماع أو السياسة والإدارة، أو الاقتصاد.
وإنّ نفس وجود تلك القوانين في جميع تلك الجوانب، معجزة كبرى لا تقوم بها الطاقة البشرية، واللجان الحقوقية، خصوصاً مع اتّصافها بمرونة خاصة، تجامع كل الحضارات والمجتمعات البدائية، والصناعية المتطورة.
ثم إنّه تظهر عظمة ذلك التقنين إذا وقفنا على أنّ دعوة الإسلام بزغت بين أقوام متأخرين في المجالات الخلقية والثقافية، ولم يكن لهم منها نصيب سوى الإغارة والنهب والقتل والتفاخر. ويشهد لذلك صفحات تاريخ الجزيرة العربية، ولنكتف من ذلك بشاهد واحد يكشف لنا واقعية الحياة في ذلك العصر.
روى أهل السير والتاريخ أنّ رجلاً من "زبيد" قدم مكة ببضاعة، فاشتراها منه العاص بن وائل، فحبس عنه حقّه، فاستعدى عليه الزبيدي الأحلاف: عبد الدار، ومخزوماً، وجمحاً، وسهماً، وعدي بن كعب، فأبوا أن يعينوا على العاص بن وائل وانتهروه، فلما رأى الزبيدي الشرّ، أوفى على أبي قبيس عند طلوع الشمس وقريش في أنديتهم حول الكعبة فنادى بأعلى صوته:
يا آل فهــر لمظلـــوم بضــاعتــه | ببطن مكة نائي الـــدار والنَّفَرِ | |
ومُحْرم أشعث لم يَقْضِ عَمْرتــه | يا للرجال وبين الحِجْر والحَجَـرِ | |
إِنَّ الحـرامَ لمـــن تَمَّتْ كـرامتُـه | ولا حرام لثوبِ الفاجــر الغَــدِرِ |
فقام في ذلك الزبير بن عبد المطلب، وقال: ما لهذا مترك.
فاجتمعت "هاشم" و "زهرة" و "تميم بن مرة"، في دار"عبد الله بن جدعان" فصنع لهم طعاماً، وتحالفوا في ذي القعدة الحرام، فتعاقدوا وتعاهدوا بالله ليكوننّ يداً واحدة مع المظلوم على الظالم حتى يؤدَّى إليه حقُّه، أبداً.
فسمَّت قريش ذلك الحلف، حلف الفُضول، وقالوا: "لقد دخل هؤلاء في فضل من الأمر".
ثم مشوا إلى العاص بن وائل، فانتزعوا منه سلعة الزبيدي، ودفعوها إليه1.
فهذه الحادثة تكشف عن أنّ المجتمع في الجزيرة العربية أو في قسم الحجاز، كان خلواً من أي محكمة وقضاء، ولم يكن سائداً فيها إلاّ قوة الزور وشريعة الغاب، فلما اتّحد هؤلاء للدفاع عن المظلوم، اشتهر اسم ذلك الحلف، وصار نجماً لامعاً بينهم، وكأنّ شيئاً عجيباً قد حصل.
ففي مثل هذا المجتمع ظهر رجل، وفي يده كتاب، يدعو إلى الأخوّة الدينية أوّلاً، وصيانة حقوق الإنسان في ظل العدالة في جميع المجالات ثانياً، وأتى بتشريعات بعث بها النور والحياة في المجتمع. وهذا أوضح دليل على أنً هذه الثمرة ليست ثمرة طبيعية للبيئة.
إذا عرفت ذلك فلنعد إلى تبيين سمات التشريع الإسلامي، وذكر نزر يسير منها في بعض المجالات، والمهم هو الوقوف على تلك السمات، وهي:
1- مرونة التشريعات الإسلامية، وملاءمتها لجميع الحضارات الماضية والسائدة، والآتية.
2- إنّ التشريعات القرآنية تعتمد قبل كل شيء على الفطرة الإنسانية الّتي لا تتغير في خضم التحوّلات والتبدّلات. فلا تجد تشريعاً قرآنياً يضاد الفطرة.
3- التشريع القرآني ينظر إلى الإنسان، بما هو موجود مركب من جسم وروح ومادة ومعنى، ولكل حاجته ورغبته فأباح اللذائذ الجسمانية في إطار لا يمسّ كرامة الإنسان، كما دعا إلى المثل الأخلاقية العليا، فصار بذلك ديناً وسطاً، لا يجنح إلى جانب خاص فينسى الجانب الآخر.
4- الملاك في التشريع القرآني هو السعادة الإنسانية ومصالح المجتمع ومفاسده، فأرسى قوانينه على ذلك الأساس من دون جنوح إلى إرضاء عموم الناس وإشباع ميولهم، لأنّ إرضاءهم ربما يكون مخالفاً لسعادتهم.
5- إنّ التشريعات القرآنية ليست تقنينات جافة، خالية من الضمانات الإجرائية، بل لم تغفل عنها، فجعلت لتنفيذها ضمانات إجرائية داخلية وخارجية، فإيمان الرجل بدينه وقرآنه وما يترتب عليه من مثوبات وعقوبات أُخروية، أقوى وازع داخلي وعاطفي في الإنسان يدفعه إلى التطبيق، ويردعه عن المخالفة. إضافة إلى العقوبات البدنية والغرامات المالية الّتي حددها.
6- إنّ التشريع القرآني ذو مادة حيوية، خلاقة للتفاصيل، بحيث يقدر معها علماء الأُمة والأخصائيون منهم على استنباط ما يحتاج إليه المجتمع في كل عصر. فإذا انضمت إليها الأحاديث النبوية، وما وصل إلى الأُمة، من أوصياء النبي، نجد التشريع الإسلامي وافياً باستنباط آلاف الفروع الّتي يحتاج إليها المجتمع على امتداد القرون والأجيال.
هذا ما نتبناه في هذا البحث، ولا تظهر حقيقته إلاّ بشرح كل واحدة من هذه السمات شرحاً إجمالياً، يوقفنا على قوة التشريع القرآني وإتقانه.
السمة الأُولى: مرونة التشريع القرآني
من الأسباب، الدافعة إلى صلاح الإسلام للبقاء والخلود، مرونة أحكامه الّتي تُمَكِّنه من أن يماشي جميع الأزمنة، والحضارات.
وقد تمثلت هذه المرونة بأُمور نذكر منها اثنين:
أ- النظر إلى المعاني لا المظاهر
إنّ التشريعات القرآنية تنظر إلى المعاني والحقائق لا إلى المظاهر والقشور، ولذلك لا تجد في الإسلام مظهراً خاصاً من مظاهر الحياة له من القداسة ما يمنع من تغييره، ويوجب حفظه إلى الأبد بشكله الخاص، ولأجل ذلك لا يقع التصادم بين تعاليمه والتقدم العلمي الهائل في مظاهره وأشكاله الخارجية، وإليك بعض الأمثلة:
1- إنّ الإسلام دعا إلى بثّ العلم والتربية، ولكن الّذي يهم الإسلام، في جميع الأزمنة هو الحقيقة والجوهر من ذينك الأمرين، وأمّا الكيفية والشكل، فلا يهمّانه، بل الهدف إشاعة العلم بأي وسيلة كانت، وإرساخ التربية في نفوس الناس بأي سبب تحقق.
وإنّ أجهزة نشر العلم، وأسباب التربية، قد ترقت من أبسط الأساليب إلى أعقدها، فمن الكتابة بالقصب على أوراق الشجر وعظام الحيوانات وجلودها، إلى نشر العلم عن طريق الأجهزة الإذاعية والدوائر الالكترونية.
فلو كانت هناك قداسة لأسباب معينة، كالكتابة بالحبر أو بالجصّ، لما كتب للإسلام البقاء2.
2- إنّ القرآن يدعو الأُمّة الإسلامية إلى التأهُّب في مقابل الأعداء، وإعداد ما استطاعوا من قوة، يقول تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّة﴾(الأنفال:60). فما هو المطلوب، هو كسب القوة والاقتدار على كفاح المخالفين.
والمراد من القوة هو الآلات الحربية وأدوات النضال، سواء أكانت أسهماً ورماحاً وسيوفاً، أو دبابات ومدافع وطائرات وصواريخ. فالكلُّ أشكال، واللُّب واحد، وهو دوام الاستعداد في مقابل الأعداء.
فلو كانت الفروسية والرمي بالسهام هي مظاهر الكفاح العسكري الّذي يدعو إليه الإسلام، فقد حلّ مكانها أدوات مهيبة مدمّرة قويّة، والاقتصار على الأُولى كان سينجر حتماً إلى إبادة المسلمين. غير أنّ الجهاد بالسهم والرمح، أو الجهاد بالصواريخ والدبابات، أشكال وألبسة للحكم الإسلامي بالجهاد، فاللِّباس يتغير ويحتفظ باللُّب.
3- القرآن يدعو المسلمين إلى العزّة والعظمة والاستقلال، ورفض التبعية للأعداء. يقول سبحانه: ﴿وَللهِ الْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ﴾(المنافقون:8).
ولكن نيل هذا الهدف السامي لم يكن يتطلب في السابق ما يتطلبه اليوم من وجود الأخصائيين من المسلمين في المسائل السياسية والاقتصادية والاجتماعية. فالقرآن يوجب على المسلمين دراسة هذه العلوم دراسة وافية، حتى تتحقق لهم العزّة. فليست هذه العلوم مطلوبة بالذات، بل المطلوب هو حفظ العزّة والعظمة والاستقلال. والتدرع بهذه العلوم، ليس إلاّ سبب وأداة لنيل المطلوب.
4- الإسلام يدعو المرأة إلى العفة والستر والحجاب خارج بيتها وفي محيط عملها. ولكنه لم يقيّده بشكل خاص من اللباس، بل يكفي في ذلك كل لباس يكون مؤمِّناً لهذا الغرض. فلو كان التشريع الإسلامي في هذا المجال على أساس إلزام المرأة باتّخاذ شكل خاص من الحجاب لربما تصادم مع حاجات الزمان المتطورة، أو استلزم تهديم التقاليد العرفية المحترمة عند الأُمم. فلأجل ذلك ترك الكيفية والشكل إلى المجتمع نفسه وطلب منه اللُّب وهو الستر، وعدم الإغراء.
قال سبحانه: ﴿وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِن﴾(النور:31).
وقال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبي قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَ بَنَاتِكَ وَ نِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْني أَنْ يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْن﴾(الأحزاب:59).
5- في مجال العلاقات الدولية الدبلوماسية الأصل الثابت هو رعاية مصالح الإسلام والمسلمين، وأمّا كيفية تلك الرعاية فتختلف باختلاف الظروف الزمانية والمكانية. فتارة تقتضي المصلحة، السلام والمهادنة، ومصالحة العدو. وأُخرى تقتضي ضدّ ذلك.
يقول سبحانه: ﴿وَ لَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً﴾(النساء:141).
ويقول سبحانه: ﴿لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ أَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَ ظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾(الممتحنة:8-9).
فالإسلام لا يفرض الحرب دائماً مع الكفار، كما لا يفرض السلم والصلح كذلك، وإنّما الحرب والسلم يتبعان مصالح الإسلام والمسلمين.
6- العلاقات الدولية التجارية، وإنشاء مؤسسات صناعية مشتركة بين المسلمين، وغيرهم، يتبع ذلك الأصل الثابت، وهو تَبَنِّي صلاح الإسلام والمسلمين. ولأجل ذلك ربما يكون عقد إتفاقية تجارية حراماً في ظرف وحلالاً في ظرف آخر. فلو كان التحريم هو الحكم الثابت لما أَمكن تطبيقه في الظروف الّتي توجب عقد الاتفاقية، وهكذا العكس، وهذا ما نرومه في هذا المقام من أنّ المعنى ثابت والتعابير مختلفة، وكل الاتفاقيات تُسْتَمَدُّ من الأصول الثابتة في الإسلام، كقوله سبحانه: ﴿وَ لَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً﴾(النساء:141). وقوله سبحانه ﴿فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُون﴾(البقرة:279).
وقس على ذلك سائر التشريعات، فللإسلام خاصيّة الاهتمام باللُّب والجوهر، وهذا أحد العناصر الّتي تجعله يساير ويماشي عامة الحضارات الإنسانية إلى قيام يوم الدين.
ب- الأحكام الّتي لها دور التحديد
من الأسباب الموجبة لانطباق التشريع القرآني على جميع الحضارات، تشريعه لقوانين خاصة، لها دور التحديد والرقابة بالنسبة إلى عامة تشريعاته فهذه القوانين الحاكمة، تعطي لهذا الدين مرونة يماشي بها كل الأجيال والقرون.
يقول سبحانه: ﴿وَ مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج﴾(الحج:78).
ويقول سبحانه: ﴿يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)(البقرة:185).
ويقول سبحانه: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغ وَ لاَ عَاد فَلاَ إِثْمَ عَلَيْه﴾(البقرة:173).
ويقول سبحانه: ﴿وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ)(الأنعام:119).
ويقول سبحانه: ﴿إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ﴾(النحل:106).
وما ورد حول النهي عن الضرر من الآيات، كلها تحدّد التشريعات القرآنية بحدود الحرج والعسر والضرر. فإذا صارت الأحكام مبدأً لواحد منها، تكون مرتفعة غير لازمة الامتثال. فلولا هذه التحديدات الحاكمة، لما كانت الشريعة الإسلامية مماشية لجميع الحضارات البشرية.
السمة الثانية: تشريعاته معتمدة على الفطرة
إنّ الحياة البشريّة في تغيُّر دائم، وتبدُّل مطَّرد، ورسوم وتقاليد تزول، وأُصول وحاجات جديدة تطرأ، تحتاج إلى تلبيتها ورفعها، هذا من جانب.
ومن جانب آخر إنّ الهدف من التقنين هو رفع حاجات المجتمع في المجالين الفردي والاجتماعي.
وبملاحظة هذين الجانبين، يتّضح أنّ أيَّ تقنين لن تكتب له الحياة، ولن يكتسي ثوب البقاء إِلاَّ إذا كان متكئاً ومعتمداً في تقنينه على مبدأ ومرْتكَز ثابت لا يتبدل ولا يتغير، وليس هو إلاّ الفطرة الإنسانية الّتي لا تتبدل مع الأجيال، وعبر القرون، وفي خضم التحوّلات الطارئة على الحضارات الإنسانية.
وقد تنبّه التقنين القرآني إلى هذا الأساس فبنى مُثُلَه العليا وتشريعاته، على وفق ما تقتضيه الفطرة الإنسانية ويتماشى معها.
يقول سبحانه: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ التي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُون﴾(الروم:30).
فجعل الملاك في ثبات تشريعه وبقائه، خلقة الإنسان وطبعه، الثابتين في جميع ألوان الحياة ومتغيراتها، فعلى الرغم من أنّ الحضارة الصناعية غيّرت لون الحياة، ورفعت الحواجز بين الإنسان وأمانيه، وقدّمت إليه حياة ناعمة كانت ممتنعة في عصر الحجر والسيف والسهم والحضارات البدائية فمع ذلك كلّه لم تصل يد التغيّر إلى طبع الإنسان وفطرته، بل هي ثابتة كما كانت مُذْ داس الإنسان هذه الكرة، ولأجل ذلك ترى أُموراً مشتركة بين الإنسان الّذي عاش في الحضارات البدائية، والّذي يعاصر الحضارات الصناعية، وهكذا بين الإنسان القطبي والاستوائي. وفي ضوء ذلك جاء القرآن بقوانين ثابتة في عالم، التحوّلُ والتبدّلُ حليفه وأليفه. وإليك نماذج من هذه القوانين:
1- إنّ التفاوت بين الرجل والمرأة أمر طبيعي محسوس. فهما موجودان مختلفان اختلافاً عضوياً وروحياً، على رغم كل الدعايات السخيفة الكاذبة الّتي تريد إزالة كل تفاوت بينهما. ولأجل ذلك اختلفت أحكام كلٍّ منهما في التشريع الإسلامي اختلافاً يقتضيه طبعُ كلٍّ منهما. فإذا كان التشريع مطابقاً لفطرتهما، ومسايراً لطبعهما، ظلّ ثابتاً لا يتغير بمرور الزمان، لثبات الموضوع، المُقْتضي لثبات محموله.
ومن جملة تلك الأحكام قوله سبحانه: ﴿اَلرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْض وَ بِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾(النساء:34). فهو تشريع مطابق للفطرة.
2- التشريع القرآني حريص جداً على صيانة الأخلاق وحفظها من الضياع والانحلال، وممّا لا يشك فيه أن شرب الخمر واللعب بالميسر، والإباحة الجنسية، ضربات تقصم ظهر القِيَم والأخلاق. ولأجل ذلك حرّمها الإسلام وجعل الحدود على مقترفيها. فالأحكام المتعلقة بها، من الأحكام الثابتة، لأنّ ضررها ثابت لا يتغير بتغير الزمان، فالخمر يزيل العقل، والميسِر ينبت العداوة في المجتمع، والإباحة الجنسية تفسد النَّسل.
يقول سبحانه: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَ الْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَ عَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾(المائدة:91).
إنّ الميل الجنسي من الميول الطبيعية الّتي لا تنفك عن الإنسان من زمان مراهقته إلى فترات متقدمة من عمره، فلأجل ذلك دعا إلى النكاح وحذّر من الرهبانية.
قال سبحانه: ﴿وَ أَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَ الصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَ إِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ اللهُ وَاسِعٌ عَلِيم﴾(النور:32).
وقد ورد في السُّنة: "من سنتي التزويج، فمن رغب عن سنتي فليس مني"3.
3- إنّ الجهاد "بمعنى السعي في طريق الحياة" من الأمور الطبيعية المشتركة بين الإنسان والحيوان، وحتى النبات. فجذور الشجرة المشتملة على الشعيرات الدقيقة، تَشُقُّ طريقها في أعماق التراب لتنمو الشجرة وتبقى حية. وهكذا الكريات الحمراء في الدم، تلاحق باستمرار الجراثيم والمكروبات الطارئة على البدن وتقتلها لتصون البدن عن الأمراض.
فالإنسان المثالي الّذي يتبنّى أيْديولوجية إلهية، لا مناص له في نشر دعوته وبثّ أفكاره عن السعي وراء هدفه. وهذا ما يعبر عنه القرآن بالجهاد في سبيل الله، وقد جاءت الكلمة "الجهاد" ثمانية وعشرين مرة مع مشتقاتها في الكتاب العزيز، وهذا يعرب عن أنّ مسألة الجهاد ليس مجرّد مسألة قتل وقتال وسفك دماء وتدمير بيوت، وإنّما هو سعي في نشر الأيديولوجية الإلهية بأنواع الوسائل الممكنة، فإذا واجه الداعي، في طريق نشر دعوته، مقاومةً من العدو ومنعاً من الطواغيت، فلا مناص له عند ئذ من رفع المانع بالجهاد والقتال.
يقول سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَ قَلْبِهِ وَ أَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾(الأنفال:24).
4- إنّ الميل إلى النظافة والطهارة من الأُمور الفطرية، وكل إِنسان يَشْمَئِزُّ من القذارة والوساخة. والتشريع القرآني دعا إلى مقتضى الفطرة في هذا المجال فقال سبحانه: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا... مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَج وَ لَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ﴾(المائدة:6).
السمة الثالثة: التقنين الوسط بين المادية والروحية
إنّ الناس قبل ظهور الإسلام كانوا على قسمين
قسم لا يهمهم إلاّ الحظوظ المادية، كاليهود والمشركين.
وقسم تحكم عليه تقاليده بالروحانية الخالصة وترك الدنيا وما فيها من اللذات الجسمانية، كالنصارى والصابئين وطوائف من وثنيي الهند أصحاب الرياضات.
فجاء التقنين القرآني وجمع بين الحقّين: حقِّ الروح وحقِّ الجسد، ولعلّه إلى ذلك يشير قوله سبحانه: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾(البقرة:143). فعدّل الغرائز والميول تعديلاً يضمن سعادة الإنسان.
فدعا إلى الالتذاذ بملاذ الحياة وقال: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَ الطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾(الأعراف:32).
وفي الوقت نفسه، دعا إلى النكاح وحسن معاشرة النساء وقال: ﴿وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَ الصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَ إِمَائِكُمْ﴾(النور:32)وقال: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾(النساء:19).
ودعا إلى الضرب في الأرض سعياً لطلب الرزق، فقال: ﴿هُوَ الذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَ كُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَ إِلَيْهِ النُّشُورُ﴾(المُلْك:15).
ومع ذلك كلّه فلم يفسح له المجال للالتذاذ المطلق بل حدده في مجال إعمال الغريزة الجنسية وجمع الثروة وغير ذلك من ملاذ الحياة، بحدود وقيود. فمنع الفجور والزِّنا، وأَكْلَ المالِ بالباطل، وأَخْذَ الربا، وغصب الأموال، والسرقة فالقرآن دعا إلى طلب الدنيا في نفس الوقت الّذي دعا فيه إلى طلب الآخرة، فقال: ﴿وَابْتَغِ فِي مَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَ لاَ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾(القصص:77).
السمة الرابعة: رعاية الموضوعية في التقنين
التقنين القرآني يتبنّى الموضوعية في تشريعه ولا يتبنّى ترضية المجتمع وأهواء بني البشر، وبما أنّ الإنسان موجود مركّب من جسم وروح، فالتقنين القرآني يتبنّى سلامة الجسم والروح معاً، فما كان مُضِرّاً بواحد منهما، يُحَرِّمُهُ، وإِنْ كانت تلبية رغبات المجتمع على خلافه.
فَحَرّم الإسلام أكل الخنزير وشرب الخمر، والدم، وكل خبيث، لأنّ كل ذلك ينافي صحة الإنسان في بدنه وعقله. كما حَرّم الكذب، والتهمة، والنميمة، والغِيبة، وغير ذلك من رذائل الأخلاق، لأنّ في ذلك ضرر للإنسان بجسمه وروحه، وفرده ومجتمعه. يقول سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾(الحجرات:12).
السمة الخامسة: ضمان الإجراء
إنّ العصر الحديث يواجه في سبيل تطبيق قوانينه الوضعية، مشكلة كبرى، ناتجة عن فقدان قوانينه للضمانات الكفيلة بتطبيقها بنحو كامل، وليس لديه غير عقوبات جزائية، من المعلوم أنّها لا تكفي في تطبيقها، ما لم يكن هناك وازع داخلي يمنع من التخلّف عنها ولأجل ذلك يواجه المجتمع البشري مشكلة انعدام الأمن الاجتماعي بألوانه وصوره.
وأمّا قوانين الإسلام الّتي نادى بها القرآن، ففيها الدوافع والحوافز المفقودة في غيرها من القوانين، وذلك لأسباب:
الأوّل: المجتمع الإسلامي يرى القانون مظهراً لإرادة الله سبحانه، وأنّ مخالفته، مخالفة لدعوة قدرة كبرى لا يمكن الفرار منها، وأنّ العقوبة لبالمرصاد للمجرم، لا مَفَرَّ له منها، وستناله يد العدالة الإلهية، وإن كان غائباً عن أبصار الناس، مختلياً بجرمه في أعماق مغارات الأرض.
إنّ الكون كلَّه في نظر المؤمن المسلم عيون تراقب أفعاله، وأسماع تسمع كلامه، وتسجل كل ما يفعل ويقترف.
يقول سبحانه: ﴿هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾(الجاثية:29).
ويقول سبحانه: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْل إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾(ق:18).
وإنّما تتجلى تلك الحقيقة إذا كان المجتمع معتقداً بأنّ العقاب الأُخروي، وجودٌ أُخروي لعمل المرء الدنيوي، وأنَّ لكل عمل خيراً كان أو شراً وجودين متناسبين لظروفهما، فاكتناز الذهب والفضة، وعدم إنفاقهما في سبيل الله، يَتَمَثَّلُ في الآخرة، ناراً تَكوي جباه الكانزين وظهورَهم وجنوبهم، ويقال لهم: هذا الّذي يَكْوي أعضاءكم هو نفس الذهب والفضة الّتي كنزتموها ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ﴾(التوبة:34-35).
الثاني: إنّ التشريع القرآني ليس دين الرهبة فقط، بل هو دين الرَّغبة أيضاً، حيث وعد المطيعين، ثواباً عظيماً قال سبحانه: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا﴾(الأنعام:160).
وقال سبحانه: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَ رَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّات تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا﴾(النساء:13).
الثالث: قَرَن هذا الوازع الداخلي بوازع خارجي، فأوعد المتمردين عقوبات دنيوية من حدود وتعزيرات، فأكمل بذلك حوافز التطبيق.
بل إِنّه ضَمَّ إلى تلك الحوافز أمراً رابعاً وهو أنّه فَرَضَ الأَمر بالمعروف والنهي عن المنكر على المجتمع الإسلامي، فرأى سكوت المسلم والمجتمع أمام المخطئ والمجرم خطأً وجُرماً، قال سبحانه: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَر﴾(آل عمران:104).
وبذلك أصبح التشريع القرآني متكامل الجوانب في مجالي التسنين والتطبيق.
السمة السادسة: سعة القوانين
إنّ التشريع الإسلامي، في مختلف الأبواب، مشتمل على أُصول وقواعد عامة تفي باستنباط الآلاف من الفروع الّتي يحتاج إليهما المجتمع البشري، على امتداد القرون والأجيال، وهذه الثروة العلمية الّتي اختصّت بها الأُمّة الإسلامية من بين سائر الأُمم، أَغنت الشريعة الإسلامية عن التمسّك بكل تشريع سواها.
قال الإمام أبو جعفرالباقر عليه السَّلام في هذا المجال: "إنّ الله تعالى لم يَدَعْ شيئاً تحتاج إليه الأُمّة إِلاّ أنزله في كتابه وبَيَّنه لرسوله، وجعل لكل شيء حَدّاً، وجعل عليه دليلاً يَدُلُّ عليه"4.
والدليل الواضح على ذلك، أنّ المسلمين عندما بسطوا ظلال دولتهم على أكثر من نصف المعمورة، وأُمم الأرض المختلفة العادات والتقاليد والوقائع والأحداث، رفعوا رغم ذلك صرح الحضارة الإسلامية، وأداروا المجتمع الإسلامي طيلة قرون، في ظل الكتاب والسنّة، من غير أن يستعينوا بتشريعات أجنبية. وهذا العلامة الحلّي أحد عظماء فقهاء الإمامية في القرن الثامن، ألّف كتاباً باسم "تحريم الأحكام الشرعية"، أودع فيه من الأحكام والقوانين ما يربو على أربعين ألف مسألة، استنبطها من الكتاب والسنة5.
وهذا صاحب الجواهر جاء في مشروعه الوحيد "جواهر الكلام"، بأضعاف ما جاء به العلاّمة الحلي.
وقد استعارت منّا الأُمم الغربية كثيراً من قوانيننا، وليس ذلك إلاّ لكون التقنين الإسلامي ذا قواعد متموجة تستطيع أن تجيب على كل ما يطرأُ.
وهنا نكتة نلفت نظر الباحث إليها، وهي أنّ العدالة هي الركيزة الأُولى للقوانين الإسلامية في مجالي التشريع والتطبيق، فما سنّ الإسلام قانوناً إلاّ على أساس العدالة، وما أمر بتطبيقه وإجرائه إلاّ بشكل عادل.
يقول سبحانه في القضاء الّذي يرجع إلى مجال تطبيق القانون: ﴿وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْل﴾(النساء:58).
ويقول سبحانه: ﴿وَ إِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَ لَوْ كَانَ ذَا قُرْبى﴾(الأنعام: 152).
ويقول سبحانه: ﴿فَلاَ تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا﴾(النساء:135).
كما أنّه أمَرَ بالعدالة في التبادل الاقتصادي وقال: ﴿أَوْفُوا الْكَيْلَ وَ الْمِيزَانَ بِالْقِسْط﴾(الأنعام:152).
كما أمر بها في إِدارة أموال اليتامى، فقال: ﴿وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْط﴾(النساء:127).
وبالجملة يجب أن يكون التشريع والتطبيق على هذا الأساس. قال سبحانه: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الإِحْسَانِ وَ إِيتَاءِ ذِي الْقُرْبى وَ يَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾(النحل:90).
وقد استعان القرآن في تطبيق تشريعه، ببسط روح الأُخوة في المجتمع الإنساني، فأعلن الوحدة والترابط بين المُسْلِمَيْن، حتى كأنّهما غصنان من دوحة مثمرة. وليست الأُخوة الإسلامية أُخُوّة شعارية كالتي يحملها أبناء الماركسية، باسم الرفيق والزميل، فإنّها شعارات فارغة عن كل حقيقة تربطهم إليهما، فلأجل ذلك ترى أجسامهم متقاربة ولكن قلوبهم متشتتة، بل هي أُخُوّة عميقة راسخة على أساس الإيمان بالله واليوم الآخر، وعلى أساس أنّهما يرجعان إلى أصل واحد في الخلقة والولادة، وأنّ الميزات القومية والقَبَلِيَّة والطَبَقِيَّة كلّها سدود اجتماعية لا قيمة لها عند الله، إِلاّ أن تكون سبباً للتعارف ورفعاً للتناكُر، قال سبحانه: ﴿إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَر وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾(الحجرات:13).
وعند ذلك لا يفقد المجتمع الإسلامي حافز التطبيق والإجراء، بل يجد من داخله ما يبعثه إلى الإمانة، دون الخيانة، والأُخُوّة دون العداوة، وغير ذلك ممّا يدعو إلى وحدة المجتمع وترابطه وتراصّه.
*الإلهيات.آية الله جعفر السبحاني،مؤسسة الامام الصادق عليه السلام،ج3،ص396-412
_______________________
1- البداية والنهاية، لابن كثير (م 774)، ج 2، ص 241 ـ 242.
2- لاحظ ما ورد حول بثّ العلم والكتابة والتربية في الكتاب العزيز. وأظن أن الباحث الكريم في غنى عن الإشارة إلى الآيات الواردة في هذا المجال.
3- مستدرك الوسائل: ج 14، كتاب النكاح، باب استحباب النكاح، الحديث 15، الطبعة الحديثة.
4- الكافي، ج 1، ص 59.
5- الذريعة، ج 4، ص 378.