تمهيد :
قال تعالى : ( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ )البقرة /185 .
وقال الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم - في آخر جمعة من شهر شعبان - : ( أيها الناس !
إنه قد أقبل إليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة ، شهر هو عند الله أفضل الشهور وأيامه أفضل الأيام ، ولياليه أفضل الليالي ، وساعاته أفضل الساعات ...
هو شهر دعيتم فيه إلى ضيافة الله ، وجعلتم فيه من أهل كرامة الله ، أنفاسكم فيه تسبيح ، ونومكم فيه عبادة ، وعملكم فيه مقبول ، ودعاؤكم فيه مستجاب .
فسلوا الله ربكم بنيات صادقة ، وقلوب طاهرة أن يوفقكم لصيامه ، وتلاوة كتابه فإن الشقي من حرم غفران الله في هذا الشهر ... ) .
إن شهر رمضان شهر دعيتم فيه إلى ضيافة الله عز وجل ، وجدير بالضيف أن يتحلى بآداب الضيافة ، ولا تكون الآداب صحيحة إلا إذا جاءت بقدر المضيف ونحن نعلم أي مضيف عظيم حللنا بضيافته .
فلننظر ما هي آداب الضيافة في هذا الشهر الكريم ، ماذا يجب علينا أن نعمل فيه لنكون في المستوى اللائق ، ولكي نُسجل في قائمة الضيوف الذين أحسنوا الآداب ؟
لكي نكون كذلك لابد من معرفة حقيقة هذا الشهر ، وما هي المميزات التي يتفرد بها عن سائر الشهور .
ليلة القدر شرف لشهر رمضان :
يكفي قيمة لهذا الشهر الفضيل ، أن فيه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر ، وهي التي يقدر فيها ما سوف يجري على البشرية جمعاء ، إلى الشهر الكريم الذي بعده .
يقول الله عز وجل في القرآن الكريم : ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ، لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ ، تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ ، سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ )
مميزات شهر رمضان :
مع أن لشهر رمضان المبارك مميزات كثيرة على سائر الشهور ، إلا أن هنالك أربع مميزات يمكن وضعها في إطار رسالة هذا الشهر الفضيل ، ذلك لأن لهذا الشهر الفضيل رسالة كما أن شخصيته خاصة إذا عرفناها عرفنا واجبنا فيه ، ومسؤوليتنا تجاهه ومنهجنا في لياليه وأيامه ، وهي على النحو التالي :
أولاً : السمو الروحي :
فهو يعطي تمايزاً للروح على الجسد ، وللقيم على المادة ، ولذلك يجوع الإنسان فيه ويعطش ، بينما روحه تحلّق في آفاق واسعة من الاتصال بالله ، والتغذية بالمضامين الحضارية لرسالاته لأهل الأرض .
ألا ترى ... أن انشداداً خاصاً – تجاه الله – يعتريك حينما يهاجم الجوع والعطش معدتك ؟! فكيف إذا كان الجوع والعطش من أجله ؟
إنك – حينها – مهيأ للذوبان في رسالته .. هذا تمايز لابد من معرفته والتفاعل معه . يقول الإمام علي عليه السلام كما في نهج البلاغة : ( ومجاهدة الصيام في الأيام المفروضات ، تسكيناً لأطرافهم وتخشيعاً لأبصارهم وتذليلاً لنفوسهم ، وتخفيضاً لقلوبهم .. )
ثانياً : الانعتاق من الدنيا :
فالمسلم على مدار السنة ملاحق من الدنيا ، تلاحقه في بطنه وحاجياته المادية وغيرها ، أما في هذا الشهر الكريم ، فإن الدنيا تركن جانباً – هذا التعامل الصحيح معها – ويفسح المجال للآخرة لتأخذ دورها في توجيه الإنسان الوجهة السليمة ، فالعطش والجوع ، والشدة والبلاء فيه ، إنما تذكر بشدة أكبر ، وجوع وعطش أظمأ ، إنه عطش وجوع وشدة يوم القيامة الذي لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ، يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في خطبته – في آخر جمعة من شهر شعبان - :
( فاذكروا بجوعكم وعطشكم جوع يوم القيامة وعطشه ) .
ثالثاً : تلخيص عام في ليلة :
فإذا كان الله سبحانه ، يقدر للإنسان في ليلة القدر ، مالذي سيجري عليه في عام كامل ، فجدير بالإنسان أن يجمّع كل قواه لهذه الليلة ، ليطلب من الله تعالى مالذي يريد أن يكون عليه ، من سلامة وعافية ، وحمل رسالة الله لخلقه ، وتصحيح نيته ، وسلامة قلبه وطهارة عمله ، وكسب الحلال فيه .. والانطلاق في الحياة بما يرضي الله في الدنيا والآخرة .
رابعاً : تحسس آلام الآخرين :
لا يريد الإسلام المسلم فرداً ، إنما يريده أمة ، واختلاف الإنسان الفرد عن الإنسان الأمة إنما هو في أن الأول لا يعرف إلا نفسه ، ولا يسعى إلا وراء رزقه وراحته ، بينما الثاني يرى أن سعادته جزءاً لا يتجزأ من سعادة الآخرين ، ورزقه لا يكون مساغاً إلا إذا أمن رزق الآخرين عن النهب والسرقة من قبل أصحاب القوة والسلطة ، ولذلك لا يستكبر دفع نفسه في لهوات الحرب دفاعاً عن نقمة المحرومين ، وحرية المستضعفين .
وهذا الشهر الكريم محطة يتحسس المسلم فيها آلام الآخرين ، فهو بجوعه خلال هذا الشهر يتذكر الذين يجوعون في أيام السنة ، من الفقراء والمحرومين الذين يجوعون دائماً ويعطشون ، فقد سئل الإمام الحسين عليه السلام : لم افترض الله عز وجل على عبده الصوم ؟ فقال عليه السلام : ( ليجد الغني مس الجوع ، فيعود بالفضل على المسكين ) .
كانت تلك أربع مميزات رئيسية لهذا الشهر الفضيل ، وجدير بكل مسلم أن يستوعب عملية الصيام من خلالها ، وأن ينظر للجوع والعطش والامتناع عن اللذات المؤقتة من منظارها ، حتى لا يكون ممن عناهم الحديث الشريف : ( كم من قائم ليس له من قيامه إلا السهر والتعب ، وكم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش ) .
وهنا لابد من التطرق إلى البرنامج الرسالي للفرد المسلم ، وكيف ينبغي أن يكون في شهر رمضان ؟
برنامج الفرد :
والآن ... لنرى ما هي نقاط برنامج الإنسان المسلم كفرد ، والذي يستطيع به أن يتفاعل مع هذا الشهر الكريم ، وأن يحلق به في سماء الرحمة الإلهية .
أولاً : قبل كل شيء لابد من برمجة الوقت من جديد ، وبرمجة الحياة في هذا الشهر معه من جديد ؛ حتى لا يسمح المسلم فيه لأية لحظة من حياته أن تذهب أدراج الفراغ دونما شغل أو عمل . وللأسف إن كثيراً منا ، تنصرم أوقاته في مجالس البطالين ، وفي الأعمال والكلام غير المهدوف أو غير المسؤول ، أو وراء الملهيات التي أعدها أعداء الإسلام لأبنائنا لينشغلوا بها عن أهدافهم المقدسة .
والمثل المعروف يقول : ( الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك ) .
ويقول الشاعر الشيخ حسن الدمستاني رحمة الله عليه :
أنفاس عمرك أثمان الجنان فلا تشري بها لهباً في الحشر يشتعل
فأنت لكي تجعل حياتك مزمومة بالعمل ، تحتاج إلى تقسيم وقتك على أعمال تقوم بها ، وانجازات تحققها - فمثلاً - لتعين لنفسك وقتاً للقراءة ، وآخر تمضيه في زيارة اجتماعية ، وآخر لمتابعة الأخبار المحلية والعالمية .. وأعمال أخرى تتقدم من خلالها خطوات في الفهم والوعي والادراك .
وهذا هو شهر رمضان المبارك ، لا تجعل أيامه تقطعك ، بل اقطعها بالبرامج الرسالية ، حدد لنفسك كتاباً إسلامياً تقرأه وعملاً إسلامياً هاماً تقوم به ، ورسالة تؤديها .. وهكذا .
ثانياً : لنلتصق بالقرآن الكريم ، ولنغير علاقتنا به .. لنتقدم خطوة إليه لكي يتقدم إلينا خطوات .
ولذا لابد من الالتزام بتلاوة القرآن الكريم كل يوم ، وختمه ولو مرة واحدة في هذا الشهر الكريم ، فإنه إذا كان لكل شيء ربيع ، فإن ربيع القرآن الكريم هو هذا الشهر الكريم .
يقول الإمام الباقر عليه السلام : ( لكل شيء ربيع وربيع القرآن هو شهر رمضان ) .
وإذا كان هذا الشهر ربيع القرآن ، فلابد أن ينمو – القرآن- في داخلنا بعدد لحظات الشهر ، وعدد آي القرآن ، فإن ثواب قراءة آية واحدة فيه تعادل ثواب قراءة قرآن في سواه ، وهذا قد يعني أن بكل آية تتلى في هذا الشهر الفضيل ينمو بداخلنا مقدار ما يعادل نموه كله بداخلنا في سواه من الشهور .
إذاً .. لنعطي القرآن أهمية خاصة في هذا الشهر الفضيل ، ولا نقتصر فيه على التلاوة فحسب ، بل لابد من التدبر فيه ، وقراءة تفسيره وحفظ بعض سوره .
ثالثاً : تغيير العادات السيئة ، خاصة الخُلُقية منها . جاء في الحديث الشريف : ( إذا صمت ، فليلصم سمعك وبصرك ، ويدك ) .
فلا يكفي أن يصوم الإنسان عن الطعام والشراب فقط ، بل لابد أن يصوم كله ، لسانه وعيناه ، وأذناه ويداه ، ورجلاه ، وكل شعرة في جسده ، بل وحتى دقات قلبه ، وخلجات ضميره ، ورجرجة نبضه .
وهذا يعني أن يلبس لباس الصالحين ، وأن يتجلبب بجلباب الصائمين ، وأن لا يسمح لرجليه أن تسوقانه إلى أماكن غير جيدة ، ولا للسانه بتلفظ الكلمات البذيئة ولا لأذنية بالاستماع إلى اللغو والغيبة ، ولا لعينيه أن تنظر إلى ما حرم الله عليها .
يقول الإمام علي عليه السلام : ( صيام القلب عن الفكر في الآثام أفضل من صيام البطن عن الطعام ) .
ويقول عليه السلام : ( صوم القلب خير من صيام اللسان ، وصيام اللسان خير من صيام البطن ) .
ولذا لابد أن نغير عاداتنا وتقاليدنا خاصة فيما يرتبط بالأخلاق في هذا الشهر ، فإذا كان الواحد منا مثلاً يستعمل بعض الكلمات البذيئة ، أو كان قد تعود على الكذب والنميمة ، فليحاول أن يغير ذلك في نفسه ، وإذا كان قد تعود على قطع الرحم فليصل رحمه في هذا الشهر الكريم ، وإذا كان قد تعود على النميمة والتفرقة بين الناس فليغير هذه العادة .
رابعاً : الحضور في مجالس تلاوة القرآن الكريم والنشاطات الدينية :
من الجيد أن يتلو الإنسان القرآن في بيته ، ولكن الأفضل أن يتلوه مع الآخرين ، لأن هذا عمل جماعي ( ويد الله مع الجماعة ) كما يقول الحديث الشريف ، بل ويفضل أن تكون قراءة القرآن في هذا الشهر جماعة في المسجد مثلاً. وإذا كنت تؤدي عملاً خيراً واحداً أو تشارك في مشروع خيري كل يوم ، فليكن لك عملان تؤديهما خلال أيام شهر رمضان ، وهكذا