والحرمان هنا وسيلة وليس غاية، فليس المقصود أن يعيش المؤمن ذليلاً منكسر القلب في الدنيا، تبرمًا بها وسخطًا عليها، كما هي الحال عند بعض متقشفي الهنود، بل المقصود أن يكون فوق الدنيا لا تحتها، قادرًا على صد ما تجيء به من الموبقات، وهذا باب واسع من أبواب الرضا الذي هو أس السعادة.
وقد قيل: يا ابن آدم إن كنت تريد من الدنيا ما يكفيك، فأقلها يكفيك، وإن كنت تريد فوق ما يكفيك فكلها لا يكفيك.
فإن قلت عن الحرمان إنه مطلوب للآخرة، فأنت محق، وإن قلت إنه مطلوب لإصلاح الدنيا، فأنت أيضًا محق، والحرمان في هذه الحال ليس حرمانًا عامًّا، بل هو حرمان مزدوج، حرمان من ملاذ الدنيا في حد ذاتها، وحرمان من اعتيادك أنت عليها؛ لأن كل ما يضعف به جسدك تقوى به نفسك.
ومن أطيب ثمرات الصوم قدرتك على الاستغناء، والقادر على الاستغناء مالك لنفسه التي بين أضلعه ودنياه، ومثل هذا الطراز من الناس أبعد ما يكون عن المذلة، خصوصًا إن وضعت في حسبانك أنه الاستغناء ليس صرفًا عن الدنيا، بل هو استغناء عن الدنيا بخالق الدنيا، ومن استغنى بالله احتاجت إليه دنياه، فإذا الدنيا التي يتمرغ عبيدها تحت أقدامها، تتمرغ هي تحت قدمي من صرف نظره تلقاء السماء، ولله در من قال:
أبعين من مفتقر إليك رأيتني بعد الغنى فرميت بي من حالق | لست الملوم أنا الملوم لأنني أمـلت للإحسان غير الخالق |
فحين يكون طموحك في الله يستوي في عينيك صغائر الدنيا وكبائرها، ويتقلص لديك ما يقتتل عليه الناس من حولك، وعكس ذلك صحيح أيضًا حين تنعدم لديك القدرة على الاستغناء فتعظم في عينيك صغائر الأشياء، فتقاتل كل أحد على كل شيء، سواء أكنت في حاجة ماسة إليه أم لا، وأقرب مثل لهذا الأطفال بما تربوا عليه، فمنهم صنف عظيم ما يكاد يترك لغيره شيئًا، ومنهم صنف قانع يزهد في الكثير ويفرح بالقليل، وقديمًا قال الشاعر:
والنفس راغبة إذا رغبتها | وإذا ترد إلى قليل تقنع |
تلك بعض جوائز الدنيا، أما في الآخرة فحسبي أن أشير إلى أربع: روعة المفاجأة، وضخامة العطاء، وأنه لن يزول، وأنك لن تمله، فالصيام على الحقيقة ليس مجرد شعيرة، بل هو تأسيس لحياة جديدة أولها في النفس، وآخرها عند الله.