بسم الله الرحمن الرحيم - انا انزلناه فی ليلة القدر- و ما ادرئك ما ليلة القدر – ليلة القدر خير من الف شهر –تتزل الملائکة و الروح فيها باذن ربهم من کل أمر - سلام هی حتی مطلع الفجر
تحتوي السنة على ساعات، أيام، وليالي، وأشهر، وأزمنة مختلفة. ولكن من بين كل هذه الأزمنة، تفوق بعضها على الآخر بواسطة العنايات والتوجهات الإلهية، والآثار والوقائع الإيجابية التي تقع في تلك الأزمنة الخاصة، وشرافتها وعظمتها التي خص بها الله تعالى، وإحدى هذه الأزمنة الخاصة هي ليلة القدر. في الإسلام، هذه الليلة هي أعظم ليالي السنة. أهمية هذه الليلة الى حدٍ ان مع كل الآيات المختلفة من سور القرآن الكريم التي تتحدث عن خصوصيات هذه الليلة، فقد سُمّيت سورة كاملة في القرأن الكريم باسم هذه الليلة وقد نزلت السورة خاصة بها فقط1. ولتوضيح ٍ أعمق في أهمية هذه الليلة، يمكن الإشارة الى نوعين من آيات القرآن حول هذه الليلة. النوع الأول من هذه الآيات يبين عظمة هذه الليلة وشرافتها، والنوع الآخر في بيان خصوصياتها وآثارها. عظمة وشرافة هذه الليلة الى درجة إذ يقول الله لرسوله "وما ادراك ما ليلة القدر؟"2، يقيناً ان رسول الله (صلیاللهعليهوآلهوسلم) على علم ٍ بعظمة وشرافة ليلة القدر، ولكن خطاب الله لرسوله بمعنى ان يبين عظمة هذه الليلة الى درجة لا يستطيع دركه أي بشر عادي. وفي الآية التالية يبين الله ان ليلة القدر خير وأفضل من ألف شهر3. وهذه المقايسة واضحة جداً للجميع في بيان عظمة هذه الليلة. وفي بيان خصوصيات هذه الليلة، صوّر القرآن الكريم ليلة القدر بليلةٍ «مباركة»4. وهذه الكلمة تحمل خصوصيات جليلة وغفيرة بالخير والبركات اللامتناهية التي تنزل على هذه الليلة، وقد استُخدم هذا التعبير لبيان عظمة هذه الليلة وكثرة خيراتها، ولعظمتها فقد نزل القرآن فيها5،6. ومن الآثار الأخرى الواقعة في هذه الليلة هو عدم صدور أي عذاب والأمان من عقوبات الله. ويأكد القرآن في هذا الشأن بأن "سلامٌ" هي من بدء الليلة الى طلوع الفجر7.
اذا تأمّل أي انسان بدقة في عظمة هذه الليلة وشرافتها وفي الآثار والوقائع التي تحدث فيها، سيندفع لبحثٍ أدق حول الجوانب المختلفة التي تدور حول ليلة القدر. و على هذا الأساس، سوف يدور محتوى المقالة في معنى القدر، الأحداث والوقائع التي تقع في هذه الليلة، زمان وقوعها، والأعمال الخاصة التي يُفضّل العمل فيها.
معنى القدر
القدر أساساً يعني أخذ القياس، ومن الظاهر ان مقصود القرآن الكريم من استخدام كلمة القدر على هذه الليلة العظيمة هو تقدير الأمور وأخذ القياس لها في هذه الليلة. فالموت والحياة، السعادة والشقاوة، والرزق وأيضا ً سقوط المطر فهو مقدر للإنسان في هذه الليلة. وفي الآية الشريفة من سورة الدخان حيث وصف ليلة القدر تأييد لهذا المطلب. يقول الباري تعالى في هذه الآية: "فيها يفرق كل أمرٍ حكيم".9.8
وبعد العلم بعظمة وكثرة خيرات وبركات ليلة القدر، فيخطر في الأذهان السؤال التالي وهو هل يمكن الاستفادة من بركات هذه الليلة وادراك ليلة القدر في عصرنا الحاضر او فی زماننا؟
ولكي نجد الجواب على سؤالنا فسوف نبحث في الآيات المختلفة من القرآن الكريم الذي فيه اختصاص بيان خصوصيات و وقائع واتفاقات ليلة القدر. نستنتج من هذه الآيات بدقة أن في حين ان القرآن الكريم يشير الى نزول الملائكة وتقدير الأمور في هذه الليلة، فإنه يعبّر عنها باستخدام الأفعال المضارعة التي يُستخدم في اللغة العربية لاستمرار الشيء وتداومها. (الفعلان "تنزّل" - واصلها تتنزل وقد حذفت تاء المضارعة في بداية الكلمة - و "يُفرق" هما فعلان مضارعان يبينان استمرار وتداوم الشيء في مر الزمان)10. فإذا ً، يتوضح لنا بأن ليلة القدر ليست محدودة في زمنٍ معين أو ليلة معينة أو في سنةٍ خاصة، ولكنها مستمرة مراراً مع مر الزمان، وأيضاً وفي وقتنا الحاضر فإن هذه الليلة موجودة مع الوقائع التي تحدث فيها (كنزول الملائكة وتقدير الأمور و...). واذا تأمّلنا أكثر حول آيات القرآن الكريم فسوف نستنتج أيضاً بأن القرآن يبين لنا عدد تكرار هذه الليلة. نستفيد من ظاهر كلام القرآن بأن ليلة القدر هي في شهر رمضان (سوف يتم توضيح هذا المطلب بتعمق أكثر في الأقسام الآتية). فكما ان شهر رمضان المبارك يتكرر في كل عام، فإن ليلة القدر أيضاً تتكرر كل عام. فإذاً، اذا أردنا الاستفادة من هذه الليلة العظيمة، واذا تنبّهنا وتعلمنا حولها، فنستطيع ان نتبرك كل عام من البركات الوفيرة والمواهب الإلهية المختلفة المتعددة في هذه الليلة، وننتفع من قدر همّة أنفسنا.
ما الذي يحدث في ليلة القدر؟
كما ذُكرَ آنفاً، باستنادنا إلى الآيات القرآنية ، نفهم أن كل المطالب المحتمة وقوعها لكل فرد للسنة الآتية تتضح في هذه الليلة، بل¬ وحتى الملائكة تتنزل في هذه الليلة بإذن ربها لتُنزّل هذه الأوامر11.
يُبين القرآن الكريم نزول الملائكة في نوعين: النوع الأول هو ان الملائكة تتنزل لإجراء أوامر الله؛ كمثال نزول الملائكة في نصرة المؤمنين12، أو نزولهم لقبض الأرواح13 ، أو أيضاً نزول الملائكة لإجراء عقاب من الله (سبحانه وتعالى)، كعقاب قوم لوط (عليه السلام)14.
أما النوع الآخر من نزول الملائكة فهو بشكل عام لإظهار وابلاغ الشؤون أو الأوامر الإلهية المقدسة و توصيل رسالة الله (سبحانه و تعالى). و من الواضح أنه يستوجب لكل رسالة وجود مثلقيٍ او جمهور لإرسال الرسالة اليه. وهذا النهج من النزول يجب وجود مُتلق لتلقي الرسالة من بين مخلوقات الله تعالی، و يجب أن يكون هذا المتلقي من خلق الله. مثال من هذا النوع من النزول يُرى جلياً في نزول الملك المقرب جبرائيل الأمين على النبي محمد (صلى الله عليه و آله و سلم) في الثلاث والعشرين سنة لإرسال رسالة الله (سبحانه و تعالى) بشكلٍ متواصل.
والآن يجب أن نرى أي الحالتين من نزول الملائكة تنطبق على النزول في ليلة القدر. عندما يطرح الله سبحانه وتعالى بحث نزول الملائكة في آية 4 من سورة القدر15 ، يقول بأن الملائكة تتنزل في هذه الليلة بأمر من الله. فإذاً يتّضح لنا بأن النزول هو من النوع النزول البلاغي (نزول النوع الثاني). فكما قد تبين من هذا النوع من نزول الملائكة، فالملائكة لها حكم قاصد من قِبَل الله عز وجل لإرسال رسالة لمخاطبٍ خاص، وفي النتيجة يجب أن يوجد هناك مخلوق خاص لكي تُبلغه الملائكة الأوامر الإلهية ومقدرات الأمور.
بعد التوجه الى نوع نزول الملائكة ومحتوى الرسالة، وعلماً بأن نزولهم لم يكن عبثاً، يمكن الاستنتاج ان الملائكة لا تتنزل على أي شخص كان، ولكنها تتنزل على شخص له القابلية والقدرة على استلام الأوامر الإلهية المقدسة (هذه المجموعة العلمية العظيمة حول مقدرات أمور الخلائق کلهم أجمعين). فمع ذلك، فليس فقط الجمادات والنباتات والحيوانات ليست لها القدرة لتحمل هذه الرسالة العظيمة وحسب، بل وحتى عامة الناس ليست لهم قابلية هكذا نزول. فكما ان الأوامر الواجبة على الانسان في مدار السنة كثيرة ليتحملها، فكيف له أن يتحمل عبء كل الأوامر الإلهية للانسان؟ وبالإضافة، فإن الملائكة تتنزّل للأوامر الإلهية الإجرائية، فلهذا يجب أن يُحظى بنتيجة مثمرة لئلا تكون هذه الأوامر باعثة للعبث. وبعبارة أخرى، فمتلقي الملائكة والرسالة يجب أن يكون مستحقا ً وقادر على أداء الأوامر الإلهية. وعلى فرض المثال، ان كان الانسان العادي له القابلية والقدرة لتلقي الرسالة العظيمة، ولكن مع هذا فلم يكن مهبط نزول الملائكة في ليلة القدر لأنه قد تم تقدير إجراء مقدرات أمره أو مقدرات أمور الأفراد المعدودة، وليست له القدرة لإجراء الأوامر الإلهية كلها في مقدرات أمور الخلائق كلهم أجمعين.
والآن بعد أن توضح لنا ان الانسان العادي ليس محل لنزول الملائكة، فيجب أن يوجد هناك أفراد خواص بعيدين عن النواقص البشرية وأن يكونوا قد اكتسبوا من جانب الله عز وجل القدرة على تحمل رسالات عظيمة واجراء الأوامر، وهؤلاء هم خلفاء الله في الأرض. وهذا هو المقام الذي يتحدث عنه القرآن الكريم في آية 30 من سورة البقرة إذ يعبر عنهم بأنهم خلفاء الله في الأرض16، ووجود خليفة لله هو مرآة الله تبارك وتعالى الذي يعمل بأوامر الله. وكمثال النبي عيسي (عليه السلام) إذ كان يحيي الموتى بإذن الله17؛ ومن خلال حجج الله يجري تطبيق شؤون رب العالمين، وفي عبارة أخرى خليفة الله هو السبب المتصل بين الأرض والسماء. وعلى هذا الأساس، يتبين ان خليفة الله الذي هو مرتبط بالله له القابلية على استيعاب الرسالات الإلهية وهو مأمور بإذن الله وبإرادته أن يقوم بالمهمات الإلهية الخاصة، ولذا فيقينا ً ان الملائكة ستكون لنزولهم النتيجة الإيجابية في ابلاغ رسالة الله مع كذا شخص.
والأمر المتفق عليه بين المسلمين هو ان في صدر الاسلام الشخص الوحيد الذي كان محل نزول الملائكة وتلقي رسالات الله هو رسول الله محمد المصطفى (صلیاللهعليهوآلهوسلم) ولم يكن لغيره هذا المنصب18. ولكن كما ذكرنا آنفا ً، فإن نزول الملائكة في ليلة القدر هو أمر استمراري في كل عام. فإذاً، طبقاً لآيات القرآن فان نزول الملائكة ليس محدود فقط في حياة رسول الله (صلیاللهعليهوآلهوسلم)، بل ويستمر حتى بعده. لذا، فبعد رسول الله (صلیاللهعليهوآلهوسلم) يجب أن تتنزل الملائكة على شخص لإدامة عمل الرسول الأكرم (صلیاللهعليهوآلهوسلم) ولينقل شؤون رسول الله (صلیاللهعليهوآلهوسلم) وظائفه من بعده، وليس فقط وصياً حقيقياً للرسول بل وحتى خليفة وحجة لله على وجه الأرض، ليكون حلقة ارتباط عالم الملك مع عالم الملكوت.
بمراجعة التاريخ نستنتج ان بعد رسول الله (صلیاللهعليهوآلهوسلم) لم يدّعي أحد بأنه قد تنزل عليه الملائكة في ليلة القدر سوى أشخاص قليلة. وإذا ادعى أي أحد هكذا دعوى، فيمكن افشاء وانكار ادعائاته ببعض الأسألة البسيطة بسؤال أناس عصره عن المستقبل وجزئياتها. وفي أية حال، فقد ادعى أناس بنزول الملائكة عليهم، وقد دافعوا ادعائاتهم في مختلف جوانب حياتهم وكانوا على علم بأخبار وأنباء الناس حول المستقبل ومقدرات أمورهم. وهؤلاء، كرسول الله (صلیاللهعليهوآلهوسلم) كان لديهم علوم كثيرة وكانوا على علم بوقائع الدنيا. يأكد لنا سيرة هؤلاء صحة هذه الدعوى وينفتح لنا مطالب جديدة يستلزم بحثها في المقالات اللاحقة. ولا يُخفى علينا أن هؤلاء الأشخاص ليسوا سوى أوصياء رسول الله (صلیاللهعليهوآلهوسلم) وحجج الله الأئمة الأطهار (عليهم السلام).
نستنتج مما ذُكر انه يجب أن يوجد هناك حجة الإهية على وجه الأرض في كل عصر وبخصوص عصرنا الحاضر، لكي يكون محل نزول الملائكة في ليلة القدر لابلاغ مقدرات الأمور. وعلى هذا الأساس، يقول الشيعة ان بعد رسول الله (صلیاللهعليهوآلهوسلم) تتنزل الملائكة على الأئمة الأطهار الذين هم أوصياء الرسول وخلفاء الله على وجه الأرض، وفي العصر الحاضر وفي كل عام في ليلة القدر تتنزل الملائكة على الحجة الحي صاحب الزمان الامام المهدي ( عجل الله تعالی فرجه الشرف) لكي يبلغوا اليه مقدرات الأمور من جانب الله (سبحانه وتعالى).
أي ليلة من ليالي السنة هي ليلة القدر؟
يمكن الاستنتاج من خلال آيتين من القرآن الكريم والاستفادة من الأحاديث النبوية والأئمة الأطهار بأن ليلة القدر هي في شهر رمضان المبارك. ففي آية 185 من سورة البقرة يقول الله تعالى: "شهر رمضان الذی انزل فيه القرآن"19، وفي آية أخرى يُذكر بأن القرآن نزل في ليلة القدر20. فإذا ً يمكن الاستنتاج بوضوح ان ليلة القدر هي في شهر رمضان المبارك، ونزل القرآن في هذه الليلة وطبعا ً في هذا الشهر. وهناك روايات عن رسول الله (صلیاللهعليهوآلهوسلم) وأهل بيته في تأييد هذا الموضوع. لم يبين القرآن الليلة التي تقع فيها ليلة القدر سوى بيان الشهر التي تقع فيها هذه الليلة وهو شهر رمضان، ولكن هناك روايات عن المعصومين في تفسير القرآن الکريم تشير الى إحدى هذه الليالي المعيّنة، ليلة التاسع عشر، والحادي والعشرون، والثالث والعشرون من شهر رمضان، واحتمالاً أكثر ان تكون هي الليلة الثالث والعشرين بنائاً على هذه الروايات.
ما هي الأعمال المستحبة في هذه الليلة ؟
كما قد ذُكر في الأقسام السابقة ان حسب الآية في القرآن الكريم فإن ليلة القدر هي أفضل من ألف شهر21. يرى الأئمة الأطهار (عليهم السلام)، في ضوء تفسير آيات القرآن، ان دليل فضل ليلة القدر على باقي الليالي هو ان أي عبادة أو عمل صالح في هذه الليلة خير من العمل في ألف شهر22. واذا التفتنا قليلاً نرى بأن من بين ال 365 من ليالي السنة فقط ليلة واحدة هي خير من ألف شهر. وأي انسان رشيد وفطن عند مواجهته لهذا الموضوع سوف يبذل كل ما بوسعه من همة واستطاعة للاستفادة من هذه الفرصة الثمينة التي قد تهيأ له في شهر الله وفي هذه الليلة المباركة. واذا رجعنا الى البيانات التي وضحها الأئمة الأطهار في الأعمال والعبادات المستحبة في ليلة القدر يمكن الانتفاع منها أكثر. ومن بين الأعمال المستحبة التي يمكن العمل بها في هذه الليلة هو إحياء هذه الليلة وذكر الله في القلب والسعي في طاعته وطلب مغفرة الذنوب للنفس ولغيره وخصوصا للذين كان لهم حقاً على الانسان، ونصرة واعانة المظلومين والمحرومين، وأيضاً طلب العلم الذي يقرّب الانسان الى ربه23. وعلى هذا البناء، اذا أدرك الانسان وأبصر قلبه في عظمة هذه الليلة، سيستطيع أن يشمل نفسه في عناية وتوجه الباري عز وجل.
ونأمل أن نتوفق في الاستفادة من هذه الفرصة الاستثنائية والخيرات اللامتناهية من هذه الليلة المباركة.