من هدى القرآن
كلّ منّا يُقدّس القرآن ويحترمه، فنقبّل غلافه وصفحاته حباً به، وإننا نتبرك بالقرآن فنجعله في البيت والسيارة والمحل والمصنع، ونعتقد بأنه شفاء من كل داء…
ولكن دعونا نقول: هل القرآن مظلوم بيننا أم أنه قائد يقود جميع مسيرتنا؟
لقد بيّن الرسول المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) لنا دور القرآن في قيادة الفرد والمجتمع المسلم في كل زمان ومكان، حيث يقول:
((… فإذا التبست الأمور عليكم كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن فإنه شافع مشفّع، وماحل مصدق، ومن جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه قاده إلى النار، وهو الدليل إلى خير سبيل، وهو الفصل وليس بالهزل، له ظهر وبطن، فظاهره حكم وباطنه علم...)) (1) إلى آخر الحديث الشريف.
شفاعة القرآن:
في هذا الحديث، يوضّح (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن القرآن له دور (( شافع مشفّع )).
أي أن القرآن له القدرة الكاملة على الشفاعة المقبولة، وكأنه كائن حيّ مقرّب عند الله سبحانه، صالح لأن يشفع، جامع لشروط الشفاعة المقبولة لديه. لأن الإنسان المؤمن المؤهل للشفاعة، لا يتمكن من أن يشفع إلاّ بعد أن يجمع شروط الشفاعة، ثم يأخذ الإذن من الله تعالى له، وإلى تلك الحقيقة يشير القرآن بقوله تعالى:
( يَوْمَئِذٍ لاّ تَنفَعُ الشّفَاعَةُ إِلّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) طه /109.
بينما تكون شفاعة القرآن مقبولة ابتداءً.
وبهذه الصفة القرآنية (المميزة) يكون القرآن وكأنه كائن حيّ محترم الرأي، عظيم المنزلة.
الارتقاء بالقرآن:
وكما أن القرآن (( شافع مشفّع ))، فإنه أيضاً، (( ماحل مصدّق )) أي أنه يمحل لصاحبه، أي يسعى ويرقى به ويقوده إلى سلّم الكمال الإنساني ويشدّه إلى الله عزّ وجلّ، ويربطه بالعالم الآخر، ويكشف له عن حقيقة الحياة الدنيا، ويظهر له سوآتها، ويبين له حقيقة الحياة الأخرى وأهميتها وقيمتها، ويحصل ذلك فقط من خلال قراءة القرآن الواعية المتدبرة.
حتى قال الإمام الصادق (عليه السلام): (( فيُقال لقارئ القرآن إقرأ وارقَ ))(2). أي أنه الرقي من خلال هذا المحل المصدّق الثابت، والسعي المفضّل للقرآن، والرقي بالإنسان نحو ذروة الكمال، وقمة السعادة، وبذلك يحصل على خير الدنيا والآخرة معاً.
والذي يعيش ذروة الكمال في الدنيا ببركة القرآن، فإنه سوف يعيش هذه المنزلة أيضاً في الآخرة.
فيكون القرآن وكأنه القدوة والقيادة ـ المخلصة والكفوءة ـ للإنسان المؤمن يفوق تأثيره كل قدرة وقيادة إنسانية حية مؤثرة مخلصة وكفوءة على وجه الأرض.
لذلك قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ((من جعله أمامه قاده إلى الجنّة، ومن جعله خلفه قاده إلى النار)).
ماذا يعني أن يكون القرآن أمام الإنسان أو يكون خلفه؟
هذا يعني أن الذي يجعله أمامه، هو ذلك الذي يجعله قائده وموجهه ومدبر حركاته وسكناته، ومعنوياته وخلجاته وتصرفاته، ويصوغ طبائعه وأخلاقه، فهو يحرك الفرد في كل ميادين الحياة المختلفة.
وهذا المعنى يؤكده القرآن في قوله تعالى:
( إِنّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلّتي هِيَ أَقْوَمُ) الإسراء / 9.
أي أن القرآن يجعل حالة التنسيق بين عالم الضمير والشعور والتنسيق بين مشاعر الإنسان وسلوكه، وبين عقيدته وعمله، وبين الظاهر والباطن، وبين التكاليف الإلهية والطاقة البشرية...
قيادة القرآن:
ومن خصائص القرآن أنه لا يعطي كنوزه لقارئه فقط ، ولا يعطي كنوزه للذي يطمع بالأجر والثواب فقط ، لأن القرآن لم ينزل من السماء لأجل ذلك فحسب وإنما أنزل أيضاً لكي يكون قائداً عاماً يحتل قلب المجتمع المسلم.
فالقرآن يفتح كنوزه وعلومه لمن يفتح قلبه له، ويتدبر آياته. قال تعالى: ( كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدّبّرُوا آيَاتِهِ) ص / 29.
فالفرد المسلم الذي يرتفع إلى مستوى أهداف القرآن، ويفتح قلبه له، ويتدبر آياته، يعطيه القرآن من كنوزه وعلومه. وهذا الإنسان الذي يقتدي بالقرآن يمكن أن يكون قائداً حقيقياً للمجتمع الإسلامي.
وإذا كان الإنسان الذي يقتدي بالقرآن يرتفع إلى مستوى القيادة النموذجية، فكيف بقيادة القرآن نفسه، الذي صاغ هذا القائد، وربّاه على هذا المستوى من القيادة النموذجية.
وقراءة القرآن من دون تدبر ليست هي المطلوبة عند التعامل مع القرآن، بل ينبغي إفساح المجال له في قيادة مسيرة حياتنا كلها، ليوصلنا إلى شاطئ الأمان والنجاة.
قال تعالى: ( لَوْ أَنزَلْنَا هذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ ) الحشر / 21.
فيضرب الله المثل بأنه لو أنزل القرآن العظيم على جبل أصم، جامد، هامد، صخري، كبير، ضخم... لرأيته خاشعاً متصدعاً متفتتاً منهاراً مندكاً في الأرض من خشية مفاهيم القرآن..
الجبل الذي قدّر له أن يفهم قيمة القرآن، تراه ينهار أمام عظمته وقدسيته، بينما ترى الإنسان الجاهل بمفاهيم القرآن وقيمته وعظمته، يجعله خلفه!! أفلا يكون الجبل أفضل من الإنسان الحي العاقل في هذه الحالة؟! فالجبل الذي أعطى القرآن حقه لأنه يسبّح بحمد الله كما في قوله تعالى:
( تُسَبّحُ لَهُ السّماوَاتُ السّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنّ وَإِن مِن شَيْءٍ إِلّا يُسَبّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِن لّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) الإسراء / 44.
لقد أنزل الله تعالى القرآن من أجل الإنسان، ولكن من الناس من يتعامل تعامل المعرض عن القرآن، فيجعله خلفه، ويضعه على هامش حياته العملية.
ألا يساهم هؤلاء ـ والحالة هذه ـ في ظلم القرآن؟ القرآن الجديد المتجدد في كل زمان ومكان، وهو حجة على كل إنسان، وفيه تبيان لكل شيء، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد.
نفعنا الله بالقرآن، وجعله ربيع قلوبنا، وأُنس نفوسنا.. وجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه.
ــــــــــــــــ
1 ـ كنز العمال، خ 4027. وذكره بحار الأنوار، ج92، ص17.
2 ـ بحار الأنوار، ج92، ص188.