المطلب الأوّل : الفرق بين التفسير الموضعي والموضوعي :
الأَولى أنْ نسمي التفسير التحليلي التفسير الموضعي ، وأنْ نسمّي التفسير المقابل له التفسير الموضوعي . وهناك فروق بين التفسير الموضعي والتفسير الموضوعي ، يمكن أنْ نذكر بعضَها :
1 ـ المفسّر في التفسير الموضعي ينظر في القرآن وسوره وآياته ، يبدأ منه ، ويبقى معه ، وينتهي به ، يجلس أمام القرآن ، ويتلقّى منه ، ويستمع إليه ، ويسجّل ما يتلقّاه ويأخذه منه .
بينما المفسّر في التفسير الموضوعي يبدأ من الواقع الذي يعيش فيه ، ويدرك حاجات الأُمّة والإنسانية في عصره على مختلف جوانبها ، حاجاتها الفكرية والنظرية والعلمية والسلوكية والإنسانية والحضارية والسياسية والاقتصادية ، وغير ذلك .
وبعدما يعي هذه الحاجات الواقعية ، ويحسن تشخيصها واستيعابها ، يتوجّه إلى القرآن ، ليتفاعل معه ، ويتعلّم منه ، ويعرف رأيه في هذه الحاجات والقضايا الواقعية المعاصرة .
يجلس الباحث في التفسير الموضوعي أمام القرآن ، جلسة إيجابية فاعلة ، يحاور القرآن ، ويستنطقه ويسأله ، ويطلب من القرآن رأيه الإيجابي الصادق الصائب في القضايا والموضوعات التي يعيشها الناس في واقعه وعصره ، ويأخذ من القرآن حقائقه اليقينية القاطعة .
وبعدما يتلقّى عن القرآن الإجابات العلمية الموضوعية الصائبة ، يقوم بترتيب هذه الإجابات ، ويقدّمها لأُمّته ؛ ليصلحوا واقعهم على أساسها .
إنّ الباحث في التفسير الموضوعي دائم الربط بين الواقع الذي تعيشه الأُمّة وبين القرآن ، وهو يريد إصلاح الواقع على هَدْي موضوعات القرآن ، ويدرك الأبعاد الواقعية للموضوعات القرآنية .
إنّ المفسّر في التفسير الموضعي لا يلتفت لواقع أُمّته ، ويبقى مع الآيات القرآنية ، شارِحاً مفسِّراً محلِّلاً مفصِّلاً .
بينما المفسّر في التفسير الموضوعي يحسن الصِلَة بين الواقع وبين القرآن ، ويُدرك إيحاءات القرآن الواقعية ، ويُصلح الواقع على هَدْي القرآن ، فهو يبدأ من حسن تشخيص حاجات الواقع ، وينتهي إلى حسن تقديم العلاج القرآني لهذا الواقع !
2 ـ المفسّر في التفسير الموضعي التحليلي يكتفي بتحليل الآيات وجُمَلِهَا وتراكيبها ، واستخراج دلالاتها التفصيلية الجزئية ، بينما المفسّر في التفسير الموضوعي ، يجمع بين هذه المدلولات التفصيلية ، وينسّق بينها ، ويَصِل بين جزئياتها المفردة ، وبين الكلّ العام الجامع لها ، ويستخرج من مجموعها نظريةً قرآنيةً واقعيةً متكاملة !
يجمعُ المفسّرُ في التفسير الموضوعي بين الدلالات التفصيلية المتفرّقة عن النبوّة ، أو عن السنن الربّانية ، أو عن الحاكميّة ، أو عن العبادة ؛ ليستخرج منها نظرية قرآنية متكاملة متناسقة عن النبوّة ، أو عن السنن الربّانية ، أو عن الحاكميّة ، أو عن العبادة . أي إنّ التفسير الموضعي هو التمهيد واللَبِنَات الأولى المتفرّقة للتفسير الموضوعي المتكامل !!
3 ـ المفسّر في التفسير الموضعي يقدّم للمسلمين علماً تفسيريّاً نظريّاً ، ومعلومات تفسيرية ثقافية ، ومجالات علمية متنوّعة ، في العقيدة والحديث واللغة والبلاغة والنحو والفقه ، وغير ذلك .
بينما المفسّر في التفسير الموضوعي يقدّم للمسلمين فكراً وحضارة ، وحلولاً قرآنية لمشكلات واقعية ، وحقائق قرآنية عن قضايا اجتماعية وحضارية ، فالعلاج والشفاء في التفسير الموضوعي أهمّ وأدَق وأَشْمَل .
4 ـ إذا كان التفسير الموضعي التحليلي يخدم الآية والجملة والمفردة القرآنية ، فإنّ التفسير الموضوعي يخدم مهمّة القرآن ورسالته ووظيفته في حياة المسلمين ، ويزيد تفاعل المسلمين مع القرآن ، وقناعتهم بحقائقه ، ودعوتهم إليه .
إنّ التفسير الموضوعي هو الذي يتناسب مع مقاصد القرآن وأَوّليّاته ، ومنطلقاته الأساسية ، ويخدمها ، ويحسن عرضها والدعوة إليها .
المطلب الثاني : الموضعي والموضوعي : مرحلتان متكاملتان :
ليس معنى كلامنا عن الفروق بين التفسير الموضعي والتفسير الموضوعي ، وتقريرنا أنّ التفسير الموضوعي هو المتّفِقُ مع مقاصد القرآن وحاجات العصر الحاضر ، ليس معنى هذا أنْ نزهد في التفسير التحليلي الموضعي ، أو أنْ نتركه باعتباره تفسيراً تقليديّاً كان يناسب المسلمين السابقين ، لكنّه لا يناسب عصرنا !
إنّ مَن يقول بهذا مُخطِئ ، لا يُحسنُ فَهْم القرآن ، ولا يعرف تفسيره !
وإنّ مَن يخوض في التفسير الموضوعي بدون علم بالتفسير الموضعي ، سيقع في أخطاء لا محالة ، وسيحرّف معاني وموضوعات القرآن .
إنّ التفسير الموضعي شرط للتفسير الموضوعي ، وهو تمهيد له ، فلابدّ أنْ يسبقه .
إنّ النوعين من التفسير ـ الموضعي والموضوعي ـ مرحلتان متكاملتان ، وخطوتان متتابعتان متدرّجتان ، لا يجوز أن نخطو الخطوة الثانية ، بمعزل عن الأولى ، ولا يجوز أنْ نصل إلى المرحلة الثانية دون تحصيل المرحلة الأولى .
يجب على مَن أراد الخوض في التفسير لموضوعي أنْ يحقّق ويحصل التفسير الموضعي أوّلاً ، وأنْ يتمتّع بعلم تفسيري تحليلي ، وأنْ يقرأ في كتب التفسير الموضعي على اختلاف تيّاراتها ومدارسها .
وبعد أنْ يتمكّن من هذه المرحلة ، ويتزوّد مِن هذا الزاد ، يخطو الخطوة الثانية ، وينتقل إلى المرحلة الثانية ، فينظر في موضوعات القرآن وحقائقه ، مستصحباً علمه التفسيري التحليلي .
وعندما يجمعُ آيات موضوعه المختلفة ، لابدّ أنْ يطّلع على تفسيرها عند أُمّهات كتب التفسير التحليلي الموضعي ، مثل تفاسير : الطبري ، والزمخشري ، والرازي ، وابن كثير ، وسيد قطب ؛ وذلك ليكون فهمه للآيات وإيحاءاتها صائباً ، وتدبّره لها صحيحاً .
القرآن نزل بلسان عربي مبين فصيح معجِز ، فكيف يُدرك موضوعاته ، ويُفهم حقائقه ، ويَقف على حلوله وعلاجاته ، مَن لم يفهم لغة القرآن وبلاغته وأساليب تعبيره ؟ ومَن لم يقف على المأثور الصحيح في تفسيره ؟ ومَن لم يتعلّم معاني غريبه وأسباب نزول آياته ، والناسخ والمنسوخ فيه ؟
إنّ المفسّر في التفسير الموضوعي لن يكتب في هذه الجوانب التفسيرية التحليلية ، ولنْ يقدّمها ضمن بحثه الموضوعي القرآني ، ولنْ يُشْغِل قُرّاءه بهذه التحليلات والتفصيلات ، لكنّه يطّلع عليها ، ويعرفها ، ويجعلها عِدّة ووسيلة له في حسن إدراك حقائق وموضوعات القرآن !
قال الشيخ الصدر حول هذه المسألة : ( إذن : فالتفسير الموضوعي في المقام هو أفضل الاتّجاهين في التفسير ، إلاّ أنّ هذا لا ينبغي أنْ يكون المقصود منه الاستغناء عن التفسير التجزيئي ، هذه الأفضلية لا تعني استبدال اتجاه باتجاه ، وطرح التفسير التجزيئي رأساً ، والأخذ بالتفسير الموضوعي .
وإنّما إضافة اتّجاه إلى اتّجاه ؛ لأنّ التفسير الموضوعي ليس إلاّ خطوة إلى الأمام بالنسبة إلى التفسير التجزيئي ، ولا معنى للاستغناء عن التفسير التجزيئي باتّجاه الموضوعي .
إذن فالمسألةُ هنا ليست مسألة استبدال ، وإنّما هي مسألة ضمّ الاتّجاه الموضوعي في التفسير إلى الاتّجاه التجزيئي ، يعني افتراض خطوتَين : خطوة هي التفسير التجزيئي ، وخطوة أخرى هي التفسير الموضوعي .. ) .
ــــــــــــــــــــ
* منقول عن الموسوعة الإسلامية لموقع البلاغ .