ضوء على أوّل الطريق
قبل أية خطوة.. وقبل أيّ رأي وحكْم، لابدّ للمسلم المتّقي أن يعلم أمرين مهمَّين: الأوّل ـ مسؤوليّة الكلمة وخطورتها إذا أُطلقت للناس، والأمر الثاني ـ ضرورة التحقيق والتفهمّ قبل إطلاق الكلام.
و « البِدْعة » ـ أيُّها الإخوة ـ من المفاهيم التي أُخذت لفظةً ولم يُحسِن الكثير تعيينَها في موارد الحياة الدينيّة، فأُطلِقت جُزافاً ومن دوافع التعصّب غالباً، لأنّها إحدى السهام التي يُظنّ أنّها تُسقط المناوئين، إذ تُخرجهم من الدِّين وتنسبهم إلى الضلالة وسوء العاقبة.
وليس من دين أكّد على التفكّر قبل العمل، والعلم قبل الإقدام، كالدين الإسلاميّ الحنيف، فنبّه وحذّر.. حتّى جاءت آياتُه بيّناتٍ ترسم الطريق الحقّ للمسلمين، منها قوله تبارك وتعالى:
يا أيُّها الذينَ آمَنوا إنْ جاءَكم فاسقٌ بِنَبأٍ فتَبيَّنُوا أن تُصيبُوا قوماً بَجَهالَةٍ فتُصبِحوا على ما فَعَلتُم نادمين (1).
يا أيُّها الذين آمَنوا لا يَسخَرْ قومٌ مِن قومٍ عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساءٌ مِن نساءٍ عسى أن يَكُنَّ خيراً مِنهنّ، ولا تَلْمِزُوا أنفُسَكُم ولا تَنابَزوا بالألقاب، بئسَ الاسمُ الفُسوقُ بعدَ الإيمان، ومَن لم يَتُبْ فأولئك همُ الظالمون (2).
وأطيعُوا اللهَ ورسولَهُ ولا تَنازَعُوا فتفشَلُوا وتَذهَبَ ريحُكُم واصبِروا، إنّ اللهَ مع الصابرين (3).
ومن أسباب التنازع: التُّهمة، وهي محرّمة في الإسلام ولها آثارها السيّئة.. وكان من وصايا أمير المؤمنين علي عليه السّلام: ضَعْ أمرَ أخيك على أحسَنهِ حتّى يأتيَكَ ما يَغلبُك منه، ولا تَظُنّنّ بكلمةٍ خَرَجتْ مِن أخيك سُوءً وأنت تجدُ لها في الخيرِ مَحْمِلاً (4).
إنّه ليس من الإنصاف بشيء أن نُلصق تهمة « البدعة » بمؤمن موحِّد يتلو كتاب الله تعالى ويتّبع سنّة رسول الله صلّى الله عليه وآله، ويراجع تحقيقات الفقهاء وفتاواهم المستقاة من الأصول الواضحة المُسنَدة بالبراهين والأدلّة الكافية؛ ذلك إنّ مثل هذه التهمة لها آثارها الوخيمة، إذ ورد عن الإمام جعفر الصادق عليه السّلام قوله: إذا اتَّهَم المؤمنُ أخاه انماثَ الإيمانُ مِن قلبِه كما يَنماثُ المِلحُ في الماء. وقوله: مَن اتّهم أخاه في دِينه فلا حُرمة بينهما (5).
ثمّ أين نحن عن الاطّلاع على ما عند الطرف الآخر، ومناظرته ومحاورته ليفهم بعضُنا البعض ويعرف قصده ونيّته، ويتعرّف على دليله وبرهانه، فيكون المجال واسعاً فسيحاً للبحث والتناصح.
البدء بالمشتركات
لا يشكّ مسلم ـ أيّها الأصدقاء ـ أنّ البدعة من كبائر المعاصي وعظائم المحرّمات، وقد دلّ على حُرمتها: كتاب الله جلّ وعلا، وسُنّة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ فالبدعة في نفسها ضلالة تؤدّي إلى سخط الله تعالى وعذابه، وهي في المبتدعين افتراءٌ على الله سبحانه وعلى رسوله صلّى الله عليه وآله إذ هي نسبةُ أحكامٍ إلى الدين لم يُنزِلِ اللهُ بها من سلطان ومَن أظلَمُ مِمّنِ افترى على اللهِ كَذِباً أو كَذّبَ بآياتهِ، إنّه لا يُفلِحُ الظالمون (6).
ذلك أنّ المبتدع كاذب، ومنحرف، وضالّ ومُضلّ.. يسوق الناس وفقاً لأهوائه إلى سبيل ينتهي غلى الاختلاف والتنازع، بدلاً عن السبيل الذي اختاره الله تعالى لسعادة البشريّة وأنّ هذا صراطي مستقيماً فاتَّبِعُوهُ ولا تَتّبِعُوا السُّبُلَ فتفرَّقَ بكم عن سبيلهِ، ذلكم وصّاكم به لعلّكم تتّقون (7).
ثمّ إنّ المبتدع ـ من حيث يدري أو لا يدري، ومن حيث يقصد أو لا يقصد ـ ينازع الله تعالى سلطانَه في التشريع، فيُشرّع ما لم يُشرّعه الله عزّوجلّ في دينه، فيَزيد ويُنقص في مجالات العقيدة والفقه والأخلاق والمعاملات، افتراء منه على الله عزّ شأنه، لأنّه ينسب ما يبتدعه إلى الدين، ويدسّه في أحكام ربّ العالمين. وهذا ما لا يرتضيه الله تعالى لعباده، إذ هو الأعلم والأدرى بما يصلحهم، وهو الأجدر أن يضع لهم ما يُسعدهم، وقد استأثر تبارك وتعالى بالتقنين والتشريع، فقال في محكم تنزيله: إنِ الحُكْمُ إلاّ للهِ، أمرَ ألاّ تَعبُدوا إلاّ إيّاه، ذلك الدِّينُ القيِّمُ ولكنّ أكثرَ الناسِ لا يعلمون (8)، وقال عزّ مِن قائل: قُلْ أتُعلِّمونَ اللهَ بِدِينكُم واللهُ يَعلَمُ ما في السماواتِ وما في الأرض، واللهُ بكلِّ شيءٍ عليم ؟! (9)، وقال تعالى شأنه: قل أرأيتُم ما أنزلَ اللهُ لكم مِن رزقٍ فجعلتُم منه حراماً وحلالاً قل ءَ آللهُ أذِنَ لكم أم على اللهِ تَفْتَرون ؟! * وما ظنُّ الذين يَفْتَرونَ على اللهِ الكذِبَ يومَ القيامة ؟!.. (10). جاء في تفسير ذلك: الدِّينُ الحقّ هو حُكم الله سبحانه لا حُكم إلاّ له، وهو المنطبق على الخِلقة الإلهيّة. وما وراءه من حكم هو باطل لا يسوق الإنسانَ إلاّ إلى الشقاء والهلاك، ولا يهديه إلاّ إلى عذاب السعير.
فلمّا كان الحكم لله سبحانه وحده.. كان كلُّ حكمٍ دائرٍ بين الناس إمّا: حكماً حقيقةً مأخوذاً مِن لَدُنه بوحي أو رسالة، أو حكماً مُفترىً على الله، ولا ثالث للقِسمين. على أنّ المشركين كانوا ينسبون أمثال هذه الأحكام التي ابتدعوها واستنُّوا بها فيما بينهم إلى الله سبحانه ـ كما يشير إليه قوله تعالى: وإذا فَعَلوا فاحشةً قالوا وَجَدْنا عليها آباءَنا واللهُ أمرَنا بها.. (11).
وما ظَنُّ الذين يَفْتَرونَ على اللهِ الكذِبَ يومَ القيامة ؟! ، لمّا كان جواب الاستفهام المتقدّم: ءَ آللهُ أذِنَ لكم أم على اللهِ تَفْتَرون ؟! معلوماً من المورد، وهو أنّه افتراء، استعظم اللهُ تعالى سوء عاقبة الافتراء عليه، والافتراء على الله سبحانه من الآثام والذنوب بحكم البداهة، فلا محالةَ له أثر سيّئ، ولذلك قال تعالى إيعاداً وتهديداً: وما ظَنُّ الذين يَفْتَرونَ على اللهِ الكذِبَ يومَ القيامة ؟! (12).
وفي موضع آخَر يقول الله تبارك وتعالى: ولا تَقُولوا لمِا تَصِفُ ألسِنتَكُمُ الكذِبَ هذا حلالٌ وهذا حرامٌ لِتَفْتَروا على اللهِ الكَذِب، إنّ الذين يَفْتَرونَ على اللهِ الكذِبَ لا يُفلحون (13).
روى عبدالرحيم القصير قال: كتب أبو عبدالله ( الصادق ) عليه السّلام على يدَي عبدالملك بن أعيَن: إذا أتى العبدُ بكبيرة من كبائر المعاصي، أو صغيرةٍ من صغائر المعاصي التي نهى الله عزّوجلّ عنها، كان خارجاً من الإيمان، وساقطاً عنه اسم الإيمان، وثابتاً عليه اسم الإسلام، فإن تاب واستغفر عاد إلى الإيمان ولم يُخرجه إلى الكفر والجحود والاستحلال. فإذا قال للحلال هذا حرام، وللحرام هذا حلال، ودان بذلك.. فعندنا يكون خارجاً من الإيمان والإسلام إلى الكفر (14).
إنّهم ـ أيّها الإخوة ـ أصحاب الأهواء في كلّ زمان منذ عصر الرسالة، الذين يقولون للسُّنة بدعة، ويقولون للبدعة سُنّة، يَفْتَرون ويَتّهمون فلا يَحفَظون حُرمةً للشريعة والرسالة، ولا يَرقُبون ذمّة لمسلم ومؤمن. وهم يقترحون على الله تعالى وعلى رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم أحكاماً وسُنناً وآراءً نابعةً من أمزجتهم ومصالحهم الذاتيّة القائمة على الأهواء والتصوّرات الضالّة الخاطئة.
فيكون أوّلَ أمرهم الرأيُ والاقتراح، وعرض الفكرة بانتظار من يؤيّدها ويَقبل بها ويستحسنها، فإذا حانت فرصة أدخلوا ذلك في الدِّين ونَسَبوه إلى الشريعة المقدّسة ودَعَوُا الناس إليه، ثمّ حاسبوهم عليه، وربّما عاقبوهم وآذَوهم إن مُكِّن لهم!
وكانت الآيات سبّاقةً إلى التحذير من ذلك والتنبيه على خطورته، وحثِّ المسلمين المؤمنين على الوقوف عند الحدود التي رسمها الله تعالى لعباده..
فجاء في الذِّكر الحكيم، قول الله العليّ العظيم:
وإذا تُتلى علَيهم آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الذينَ لا يَرجُونَ لقاءَنا آئْتِ بقُرآنٍ غيرِ هذا أو بَدِّلْهُ، قُلْ ما يكونُ لي أن أُبَدِّلَهُ مِن تِلقاءِ نَفسي إن أتَّبِعُ إلاّ ما يُوحى إليَّ إنّي أخافُ إنْ عَصَيتُ ربّي عذابَ يومٍ عظيم * قُلْ لو شاءَ اللهُ ما تَلْوتُهُ عليكم ولا أدراكم به فقد لَبِثْتُ فيكم عُمُراً مِن قَبْلِه أفلا تَعقِلون * فمَن أظلَمُ مِمّن افترى على اللهِ كذِباً أو كذَّبَ بآياتهِ ؟! إنّه لا يُفلِحُ المجرمون (15).
يا أيُّها الذين آمَنُوا لا تُقدِّمُوا بينَ يَدَيِ اللهِ ورسولهِ واتّقُوا اللهَ إنّ اللهَ سميعٌ عليم (16).
وهنا لا بأس بالوقوف عند الآية المباركة الشريفة هذه، نتبيّن شيئاً من مفهومها المهمّ، قال المفسِّرون:
ـ بين يدَي الشيء: أمامه، وهو استعمالٌ شائع: مجازيّ أو استعاريّ. وإضافة العبارة (بين يدَي) إلى الله ورسوله معاً، لا إلى الرسول، دليل على أنّه أمر مشترك بينه تعالى وبين رسوله، وهو مَقام الحُكمْ الذي يختصّ بالله سبحانه وبرسوله بإذنه، كما قال تعالى: إنِ الحُكْمُ إلاّ لله (17)، وقال سبحانه: وما أرسَلْنا مِن رسولٍ إلاّ لِيُطاعَ بإذنِ الله (18). ومن الشاهد على ذلك تصدير النهي لا تُقدِّموا بقوله: يا أيُّها الذين آمَنْوا ، وتذييله بقوله: واتّقُوا اللهَ إنّ اللهَ سميعٌ عليم .
فالظاهر.. أنّ المراد بما بين يدَي الله ورسوله هو المَقام الذي يربط المؤمنين المتّقين بالله ورسوله، وهو مَقام الحُكْم الذي يأخذون منه أحكامهمُ الاعتقاديّة والعمليّة. وبذلك يظهر أنّ المراد بقوله: لا تُقدِّمُوا تقديمُ شيءٍ ما مِن الحُكْم قِبالَ حُكْم الله ورسوله، إما: بالاستباق إلى قولٍ قبل أن يأخذوا القول فيه من الله ورسوله، أو إلى فعلٍ قبل أن يتلقَّوا الأمرَ به من الله ورسوله. لكنّ تذييل الآية بقوله: إنّ اللهَ سميعٌ عليم يناسب تقديم القول دون تقديم الفعل...
ونظراً إلى أنّ كلّ فِعلٍ وتَركٍ من الإنسان لا يخلو من حكم له فيه، وكذلك العزم والإرادة إلى فعل أو ترك.. يُدخل الأفعال والتُّروك ـ وكذا إرادتها والعزم عليها ـ في حكم الاتّباع. ويُفيد النهيُ عن التقديم بين يدَي الله ورسوله النهيَ عن المبادرة والإقدام إلى قول لم يُسمَع من الله ورسوله، وإلى فعلٍ أو تركٍ أو عزمٍ وإرادةٍ بالنسبة لشيء منهما قبل تلقّي الحكم من الله ورسوله، فتكون الآية قريبةَ المعنى من قوله تعالى في صفة الملائكة: بل عِبادٌ مُكْرَمون * لا يَسبِقونَهُ بالقَولِ وهُم بأمرهِ يعملون (19).
وهذا الاتّباع المندوب إليه بقوله: لا تُقدِّموا بين يدَيِ اللهِ ورسولهِ هو: الدخول في وَلاية الله، والوقوف في موقف العبوديّة، والسير في مسيرها بجعلِ العبدِ مشيئتَه تابعةً لمشيئة الله في مرحلة التشريع، كما أنها تابعةٌ لها في مرحلة التكوين.. قال تعالى: وما تَشاؤونَ إلاّ أنْ يشاءَ اللهُ، إنّ اللهَ كانَ عليماً حكيما (20).
وقوله: واتّقُوا اللهَ أمرٌ بالتقوى في موقف الاتّباع والعبوديّة، إنّ اللهَ سميعٌ عليم تعليل للنهي وللتقوى فيه، أي: اتّقوا الله بالانتهاء، فلا تُقدِّموا قولاً بلسانكم ولا في سِرّكم؛ لأنّ الله سميع يسمع أقوالكم، عليم يعلم ظاهركم وباطنكم وعلانيتكم وسرّكم (21).
وكفى نهياً ما جاء في العبارات القرآنيّة الشريفة الثلاث:
ـ ومَن لم يَحكُمْ بما أنزَلَ اللهُ فأولئكَ هُمُ الكافرون (22).
ـ ومَن لم يَحكُمْ بما أنزَلَ اللهُ فأولئكَ هُمُ الظالمون (23).
ـ ومَن لم يَحكُمْ بما أنزَلَ اللهُ فأولئكَ هُمُ الفاسقون (24).
---------------
1 ـ سورة الحجرات: 6.
2 ـ سورة الحجرات: 11.
3 ـ سورة الأنفال: 46.
4 ـ الكافي، للكلينيّ 269:2 ـ باب التهمة، حديث 3.
5 ـ الكافي 269:2 ـ باب التهمة حديث 1 ، 2. وانماث بمعنى ذاب.
6 ـ سورة الأنعام: 21.
7 ـ سورة الأنعام: 153.
8 ـ سورة يوسف: 40.
9 ـ سورة الحجرات: 16.
10 ـ سورة يونُس: 59 ، 60.
11 ـ سورة الأعراف: 28.
12 ـ الميزان في تفسير القرآن، للسيّد محمّد حسين الطباطبائي 86:10.
13 ـ سورة النحل: 116.
14 ـ تفسير نور الثقلين، للحويزيّ 92:3 ـ 93 حديث 250.
15 ـ سورة يونس: 15 ـ 17.
16 ـ سورة الحجرات: 1.
17 ـ سورة يوسف: 40.
18 ـ سورة النساء: 64.
19 ـ سورة الأنبياء: 26 ، 27.
20 ـ سورة الإنسان: 30.
21 ـ لاحظ: الميزان 305:18 ـ 307.
22 ـ سورة المائدة: 44.
23 ـ سورة المائدة: 45.
24 ـ سورة المائدة: 47.