الاسلام والهوية: مُلاحظات للبحث
علي الكنز
أولاً: المعاينة
إن الحديث اليوم عما يسمى بتوسيع نطاق الإسلام، أو كما يقول محمد أركون بتعبير أدق "صحوة التوجه الديني وانتشاره" في العالم الاسلامي، والوطن العربي بصفة خاصة، قد يبدو وضعاً بديهياً استنفد التعرض إليه تقريباً كل جوانبه. وعلى الرغم من ذلك، فإن مثل هذا الوضع لا يخلو من مفارقة، إذ لو أمعنا النظر فيه لسوف نتساءل عما يعنيه هذا الانتشار للإسلام في مجتمعات كانت دوماً مسلمة، حتى في أحلك الفترات من تاريخها يوم كانت ضحية الاحتلال الغربي.
في الواقع، إن عدد المسلمين اليوم هو عددهم بالأمس، ما عدا، طبعاً، تلك الزيادة الناتجة بحكم النمو السكاني. والاسلام لم يظفر بمسلمين جدد (باستثناء تلك الحالات التي أعتنق فيها أفراد منعزلون الدين الإسلامي) خارج دار الاسلام المعروفة قبل الاحتلال. وعليه، فالأمر هنا هو مجرد حركة "انتشار داخلية" لا تتعدى نطاق دار الإسلام المعهودة قط، وتخص شعوباً هي مسلمة أصلاً. فالقضية إذن ليست انتشاراً أو توسعاً للإسلام بقدر ما هي نوع من "التراكم المكثف" للتجربة الإسلامية، تماماً مثل ما هو الشأن بالنسبة إلى تراكم رأس المال. هذا التراكم المكثف يختلف في مضمونه ووتيرته وأشكاله عن ذاك التراكم الموسع المرتبط بالعهد الأول للانتشار الحقيقي للإسلام، والذي امتد على وجه العموم، من الهجرة إلى العصر العباسي. ففي هذه الحالة كان لابد من كسب أمم جديدة في مصر والمغرب وأوروبا وآسيا حتى تعتنق هذا الدين الذي شهدت الجزيرة العربية ميلاده.
أما بالنسبة إلى الحالة الأولى، أي تلك التي تتعلق بانتشار الإسلام في عصرنا هذا، فإن الأمر يختلف لكونه يتصل بإمداد أفراد ومجتمعات، هي مسلمة أصلاً، شيئاً ما غير محدد بدقة، لكنه يقدم على أنه شيء إيجابي فقده المسلمون عبر تاريخهم. وفي هذا السياق نجد بأن الموقف يستهدف إعادة تركيب البنى الاجتماعية والسياسية في المجتمعات العربية، وكذلك الذهنيات الجمعية والفردية وفق منظور محوري، وهو الإسلام.
إذاً، هذه الحركة الجديدة للإسلام، التي تخضع لها كل المجتمعات العربية من دون أي استثناء، انما تشكل في الأساس "عملاً داخلياً" مرتبطاً بهذه المجتمعات، ومستهدفاً إعادة تركيب نسيجها الاجتماعي بصورة مكثفة وفق المقياس الأوحد المعترف به، وهو الإسلام. وتتسم هذه الحركة الجديدة في بنيتها، كما في تطورها، مع بعض الاختلافات الطفيفة، بالمميزات الأساسية نفسها في مختلف المجتمعات العربية.
والملاحظ أن هذه الحركة متعددة الأبعاد، إذ إنها تكتسح المجال الاجتماعي عبر موجات متتالية تغمر بالتدرج كل جوانب الحياة الاجتماعية، من تعليم وآداب واقتصاد وسياسة. فكل المستويات "الفوقية والتحتية" تصبح خاضعة لها، ولا ينجو منها أي جانب، فحتى الهندام، وكيفية الضحك والحب يمكن أن تخضع لها في وقت ما. فهذه الحركة إذاً، حركة شاملة وشمولية، وغالباً ما تكون مستبدة، بحيث ترفض أن ينحصر نشاطها في المجال الديني فقط. وعلى أية حال، لا تقر هذه الحركة بالفصل بين الدين والحياة الاجتماعية بصورة عامة، وتعتبر هذا الفصل موقفاً غربياً لا يمت للإسلام بأية صلة. إن التمييز بين ما هو ديني وما هو دنيوي غير وارد البتة بالنسبة إلى هذه الحركة التي ترفض كل علمنة (لائكية)، وتعتبر نفسها في الوقت ذاته حركة دين ودنيا ودولة.
كذلك، نجد أن هذه الحركة لا تقر بالتمايز الطبقي في المجتمع، بل إنها تتعدى الطبقات وتحتويها كلها في الوقت نفسه، على عكس الايديولوجيات والأنظمة الفكرية التي تصوّر المجتمع، والتي ظهرت ابتداء من القرن التاسع عشر ممثلة المجتمع على أنه قائم على وجود طبقات اجتماعية، وجماعات مصالح.. الخ. فهذه الحركة إذاً تتخلل المجتمع أفقياً لتشمل كل شرائحه.
ونجد أن تطور التيار الإسلامي يتخذ، أينما وجد، السمات نفسها، حتى وإن اختلفت وضعيته بحسب المكان والتجربة التاريخية بكل بلد. وقد ظهر هذا التيار في مرحلة مبكرة بالمشرق قبل أن يظهر بالمغرب، إلا أن وتيرته التاريخية تبقى هي هي كما لو كان الأمر يتعلق بالتجربة نفسها التي تظهر هنا وهناك بسماتها الرئيسية نفسها، على الرغم من تلك الاختلافات التي تنجم بحكم الظروف التاريخية المعينة.
يبدأ الإعداد لهذه الحركة من طرف المربين في المدارس والجامعات (الأزهر والزيتونة)، لتمتد بعد ذلك إلى نشاطات تستهدف مراقبة المجتمع، انطلاقاً من المساجد لينتهي في الأخير إلى المواجهة المعلنة مع الدولة والنظام السياسي من خلال أحزاب سياسية تتخذ الإسلام قاعدة لها.
في هذا السياق، نجد حركة الأصوليين تمجد "العصر الذهبي" الأول، حيث يصبح الأسطورة المؤسسة للتاريخ الفعلي، أي للإسلام "كما هو موجود فعلاً" إن صح التعبير. هذا الإسلام الذي يجب أن يفرض بصورة مطلقة وشاملة باعتباره المعيار الأوحد لتصور ما حدث في التاريخ وما سيحدث في المستقبل. فالجهد الفكري هنا موجه تماماً للرجوع باستمرار إلى الكتاب والسنّة لفهم كل المشاكل التي تطرحها علاقة الإنسان بالعالم والطبيعة والانتاج والتقانة والمجتمع والقانون.. الخ. فكل تفكير، سواء أكان علمياً أم غير علمي، جمالياً أخلاقياً أو سياسياً، هو في النهاية مجرد علم تفسيري وتأويلي لما جاء في الكتاب والسنّة.
غير أن هذا الجهد التأويلي لا يهتم إلا بنقاط معينة ويهمل أخرى كثيرة، وفق نظام إنتقائي معتمد يتسم بكونه غير موافق تماماً للنظام المعتمد في الثقافة العصرية ذات الطابع العربي. إن هذا هو الذي يفسر لنا سبب غياب علاقات العمل، أو علاقات الإنتاج، أو الاقتصاد بصورة عامة، عن انشغالات التيار الإسلامي. وإذا حدث وتعرض هذا التيار للعلاقات الاجتماعية، فلا يتعرض لها من زاوية المساواة أو عدم المساواة بين الطبقات، والصراعات القائمة بينها، وإنما من خلال ذلك المشكل العويص المتمثل في مكانة المرأة ودورها في المجتمع على أساس الإسلام.
والموقف نفسه نجده بالنسبة إلى المسألة السياسية التي يتعرض لها التيار الإسلامي، على أساس الشرعية الإسلامية، بمعنى تطبيق الشريعة، ويرفض أن يطرحها على أساس آخر، متجاهلاً بذلك كل الثقافة العصرية التي يعتبرها أجنبية غريبة عن تاريخه، بما في ذلك مسألة الديمقراطية، أو الصراع الطبقي أو حتى مفهوم حقوق المواطن وواجباته، ثم أن ايديولوجيته القائمة على فكرة الخلافة، والوحدة الاسلامية المترتبة عليها، تجعلانه يهمل الإشكالية العصرية المتمثلة في الدولة القومية، وكذلك التجارب الوطنية المختلفة التي شهدها الوطن العربي. أما على مستوى النظرة إلى العالم، فإن ايديولوجية هذه الحركة تبقى قائمة على الثنائية، المتمثلة في "دار الاسلام" و "دار الحرب" أي المسلمين وغير المسلمين. غير أن هذه النظرة الفريدة لتشكل العالم لا تستجيب للمعطيات الاستراتيجية لعالم اليوم، وأن جدلية المواجهة التي تعتمدها هذه الحركة موجهة نحو العالم الغربي وحده على اعتبار أنه الخصم الأوحد الذي يرقى إلى مستواها. لكننا في الوقت نفسه _وهذا ما نراه غريباً حقاً _ نجد أن التيار الإسلامي يلجأ إلى الثقافة الغربية كوسيط لفهم الأنظمة الثقافية والاجتماعية في آسيا وأوروبا الشرقية... الخ.
بطبيعة الحال، لم تصل البلدان العربية في الخمسينات إلى ما وصلت إليه تركيا آنذاك. حتى في هذا البلد الأخير ظهرت فيما بعد حركات احتجاج باسم الإسلام. ولكن من دون أن نتخذ التجربة التركية كمثال، نجد أن المحاولات الفكرية السائدة في هذه الفترة في الوطن العربي كانت كلها تسير في هذا الاتجاه، كما يظهر ذلك جلياً عند عبد الله العروي، حيث يصف لنا الكيفية التي تم بها تقلص مكانة رجل الدين الوسيطي أمام رجل السياسة العصري الذي سيفسح بدوره المجال لرجل التقنية، بصورة كان يرجى منها اندماج العناصر الثلاثة في بوتقة واحدة في نهاية المطاف السعيدة.
فهذا المسار الذي اتخذه الفكر العربي المعاصر على العموم _والذي لم تقم عبقرية عبد الله العروي بشيء آخر غير استخلاصه من خلال أشكاله المختلفة _ يبدو اليوم عرضة لثقافة اجتماعية وسياسية جديدة تتخذ مساراً معاكساً لها تماماً. فما يطلق عليه اليوم بـ "الصحوة" كظاهرة تتميز بحيوية مذهلة، ومشحونة بحقائق يقينية ساذجة تصهر في البوتقة نفسها _من خلال الدروس والخطب الموجهة عبر مكبرات الصوت والأشرطة _ ضمائر الشعوب التي عجزت النزعة التقنية عن تعبئتها، والسياسة عن جعلها تشعر بالأمن، والتي وجدت، على ما يبدو، ضالتها في رجل الدين أو (الشيخ).
فمن كان يظن أيام "ميثاق القاهرة" بأن مصر الثمانينات سوف تواجه، كمجتمع وكدولة، تلك المسألة التي أصبحت محورية، ألا وهي طبيعتها الإسلامية، وأن سيد قطب، في مواجهته لعبد الناصر سيصبح يوماً ما شهيد الجماهير وأن حزب حسن البنا (الأخوان المسلمون) سيحظى في يوما ما في أوساط بعض الشباب الجزائريين بمعرفة تفوق بكثير معرفتهم لتاريخ جبهة التحرير الوطني!
من كان يظن كذلك، بأن كبريات الأحزاب الوطنية المنجزة، كقوى عقلانية لهذه التحولات العميقة لكل من الطبيعة والمجتمع، مثل حزب البعث في سوريا والعراق والاتحاد الاشتراكي في مصر، والدستور في تونس وجبهة التحرير الوطني في الجزائر، سوف يأتي يوم تنهار فيه الواحد تلو الآخر؟ وما هو ملفت للانتباه حقاً في هذا الشأن، هو أنه لم يحل مكان هذه الأحزاب تنظيمات أخرى على "يسار" أو على "يمين" النهج المرسوم بالنسبة إلى الكل، وإنما تنظيمات غريبة، وثقافة كان يعتقد آنذاك أن السير الموضوعي للتاريخ قد تجاوزها إلى الأبد!
كنا نعتقد ببساطة أن المشاكل الاقتصادية والاجتماعية المعروفة وأن المهام المعقدة للتنمية سوف تقلص تدريجياً من مكانة الدين في الضمير الجمعي، ليصبح في النهاية قضية شخصية بحتة، تماماً مثلما حدث في مجتمعات أخرى وبخاصة الغرب البرجوازي، غير أننا ها نحن اليوم أمام هذا النموذج لمجتمع كلياني، وهو يستعيد حيويته، ويستهدف فرض هيمنته على جميع جوانب الحياة!
إن اقتحام التفكير الديني للايديولوجية العربية المعاصرة بهذه الشدة، ليدل في الحقيقة على أزمة عميقة تمر بها مجتمعاتنا اليوم. وهذا ما يراه الكثير من المحللين ويعتمدونه في دراساتهم غير أن الأمر قد يتعلق أيضاً بمؤشر أو بمبرز لأزمة عميقة أصبح يعانيها التفكير العقلاني، وكذلك عجز هذا التفكير، على الصعيدين النظري والمنهجي، في فهم واقع اجتماعي وثقافي وسياسي لم يتوقع حدوثه من قبل.
طبعاً، إن الطريقتين لا تتنافسان، على العكس، يمكن أن تؤديا، إذا استعملتا ضمن منظور معرفي موحد، إلى فهم للواقع بصورة أقل آلية، ما دامتا تسعيان في الوقت نفسه إلى تحديد كل من الحركة الموضوعية للواقع الاجتماعي، بما في ذلك "الأزمة" التي يمر بها، وكذلك المعرفة التي تتخذ هذا الواقع كموضوع لها. إنها أزمة المجتمع العربي، كما عبّر عنها سمير أمين، وهي في الوقت نفسه أزمة التفكير التحليلي، وربما التحليل الجدلي للعلاقات القائمة بين هذه وتلك هو الذي سوف يمكننا من فهم المرحلة الجديدة التي نمر بها.
ثانياً: التحليل
لتفسير صحوة وانتعاش "التوجه الديني" الذي تعرفه المجتمعات العربية المعاصرة، استعملت العديد من فرضيات البحث، لكل واحدة منها فعاليتها النظرية الخاصة، وباختلاف هذه الفرضيات من حيث التناول والطرح فهي ساعدت على كشف واقع التشكيلات الاجتماعية العربية الراهنة.
وقع اختيارنا على تحليل فرضيتين:
1_ الفرضيات ذات الطبيعة التاريخية
في فترة معينة من تاريخه المعاصر، جُمّد تطور الوطن العربي وحُرّف عن مساره الطبيعي، وذلك لأسباب وعوامل لا تُعد ولا تحصى، بل تختلف باختلاف تناولات الباحثين والدارسين. ونظراً إلى تشابك الامبريالية بالصهيونية، ولكون هذه الأخيرة هي التي تسببت في انهيار وانكسار التجارب التنموية والوطنية من جهة، وفي كبح محاولات العصرنة الرامية إلى عقلنة المجتمعات العربية، فهذه الظاهرة قد تم الاهتمام بها من طرف كل الباحثين. زيادة على ذلك، فإن الرفض الكلي للأيديولوجية القريبة من العلمانية والليبرالية والتقدمية، قد ساعد على الجمود والانحراف.
وهكذا، توسعت الثغرة إلى أن أصبحت هجمة واسعة لـ "التوجه" الديني داخل الوعي الجماعي (أو الضمير الجمعي).
وفي خضم هذه الجدلية التاريخية، تمثل سنة 1967، السنة الحاسمة: فهزيمة الناصرية هي في الوقت نفسه انهزام للتجارب التنموية الوطنية ولمحاولات انتشار الثقافة العقلانية داخل المجتمعات العربية.
وعلى جميع مستويات أشكال الصور، ومهما كانت نوعية عوامل التحليل وطبيعتها (سواء التي تفضل في تحليلاتها عامل الاستعمار أو تلك التي تفضل عاملي الامبريالية أو البترودولار واسرائيل)، فإن الفرضية التاريخية تبني علاقة سببية بين مختلف الخصوصيات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي عرفتها المجتمعات العربية، إضافة إلى الايديولوجيات التي تشعبت من الوعي الجماعي (أو الضمير الجمعي كما يقال أحياناً).
وما لا شك فيه، أن الايديولوجيات الدينية تحاول دائماً أن تتغلب على غيرها، سواء كان ذلك خلال الفترات التصاعدية التي تحاول التقرب من الثقافة العقلانية أو العلمانية، أو حتى في خلال فترات الانحطاط والتدهور.
هناك علاقة متبادلة بين ما تحمله المرحلة التاريخية من معانٍ وتمييزات مرت بها المجتمعات المسماة ايجابية أو سلبية، تقدمية أو تراجعية، وبين حركات الوعي. إن العلاقة المذكورة بين هذه المجتمعات وتلك الحركات، قد ظهرت وتحققت في العديد من التجارب حتى أنها اعتبرت من طرف الكثير من الباحثين بأنها انتشار للأيديولوجيات الدينية وكرد فعل على الأوضاع السلبية.
إنها أطروحة "الدين المأوى" أو "الدين المساعد لمشروع المجتمع المراد تحقيقه"... الخ.
تبدو هذه الإجابة وكأنها سلبية أساساً، لأن سلبية الوضعية الاجتماعية والاقتصادية تؤثر هي الأخرى في الوعي الجماعي بسبب انكسار البديل الديني وانحرافه.
هذه الفرضية أو هذا الافتراض هو أساس ومنطلق العديد من البحوث والدراسات التي اهتمت بـ "اعتناق الايديولوجيات العربية المعاصرة للإسلام".
وهي، أي الفرضية، التي تسمح لنا أيضاً بفهم قسط ضئيل مما ذهب اليه عبد الله العروي في اطروحته القائلة بعودة رجل الدين وانتزاعه الساحة لرجل السياسة والتكنوقراط، وبحسن نية، تقودنا الفرضية التاريخية إلى منزلق منطقي مزدوج:
أ_ معاينة علاقة متبادلة وإثباتها من جهة، والإعلان عن علاقة سببية من دون مبررات نظرية وتاريخية ملائمة من جهة ثانية. فهل يمكن لنا أن ندلي بأن الوعي الديني أو التشبث بالدين هو مزامن للفترات التراجعية والمراحل المتقهقرة، وأن الفكر العقلاني يزامن الفترات التصاعدية أو المتطورة، ونقول إن ذلك هو تطبيق للقانون التاريخي؟
هذا غير صحيح، اللهم إذا أخذنا تاريخ البرجوازيات الغربية، وبخاصة في بعض فتراته المحددة، على أنه النموذج الأصلي والمرجعي لتاريخ البشرية جمعاء. هذا عن المنزلق المنطقي الأول.
ب_ أما المنزلق الثاني، والذي بني من دون اساس للفرضية التاريخية فيكمن في المبالغة في أهمية قانون السببية وإدراك مفعول (المفعول هنا هو الايديولوجية الدينية) _السبب _ (المقصود بالسبب هنا التدهور الاقتصادي والاجتماعي) _واعتباره كرد فعل سلبي للوعي الاجتماعي التعيس.
وعليه، فإن الدين هو بمثابة تعبير عن "الحزن". وبالتالي، فهو انعكاس لبؤس العالم وشقائه. وعكس ذلك اعتبار الفكر العقلاني بمثابة تعبير عن حيوية الوعي الجماعي الذي يعكس هذه المرة تطور العالم وازدهاره.
هل هذه ليست بأحكام مسبقة، لا أساس لها من الصحة لكونها غير مبنية على وقائع تاريخية أو براهين استدلالية؟ ألا يعتبر هذا بمثابة السقوط في غي الأيديولوجية الوضعية والعلموية التي انتجتها الثقافة الغربية بخصوص قراءة تاريخها؟ أليس هذا استهلاكاً لقراءة غربية، يستهلكها الفكر العربي باسم "العقلانية"؟ ألا ينبغي علينا التخلي عن هذه الأيديولوجية وهذا "الفكر" ونعود من جديد لتقصي مجتمعاتنا، انطلاقاً من واقعها الحاضر، دون اللجوء إلى فئات مرجعية ونظرية انتجت بعيداً عنا؟
إن التخيل السوسيولوجي الذي جاء به عبد الله العروي وتبنيناه نحن بدورنا، والمتعلق بالقدوم المظفر والمنتصر للتقنوي وزوال رجل الدين، ما هو في نهاية الأمر إلا مغالطة يمكن أن تكون انطلقت عن "حالة تلبس صامتة" وهي مغالطة لا تشاهد في التاريخ إلا ما سبقت مشاهدته من قبل!
وهل اختفى رجل الدين عن الساحة فعلاً أم أن ادراكنا الايديولوجي لهذه الساحة هو الذي أوحى لنا بذلك، تحت أشكال "عقلانية"، حتى أصبحنا نؤمن بالوهم القائل بزوال رجل الدين؟ إنها صورة مزيفة جعلتنا نشاهد ما نريد نحن مشاهدته.
إنه لمن الضروري والأجدى أن ننطلق في النقد الجذري للايديولوجية "العقلانية" الحاضرة في وطننا العربي. ومن دون هذا النقد، يستحيل تجاوز التاريخية الوضعية الموروثة عن الثقافة المسيطرة، فهذه الأخيرة ما هي إلاّ "تكرار" رديء (أو حتى جيد) لثقافة أو إبداع الآخر (الغرب).
نعتقد نحن بدورنا وبخصوص العقلانية، بأن هذه الأزمة هي ملائمة. ذلك أنها تجبرنا على النقد الجدي للايديولوجية العقلانية. وبهذا فقط يمكن لنا تجاوز تاريخية ووضعية الفكر العقلاني، المأخوذ عن الثقافة البرجوازية الغربية بطريقة سيئة جداً.
"إن التاريخ لا يعيد نفسه"، كما أن تاريخ الوطن العربي في القرن العشرين هو ليس باعادة ولا بتكرار لتاريخ أوروبا في القرن العشرين.
وبكل قساوة، تمكن الفكر العربي العقلاني اليوم، من اكتشاف هذا الدرس الجدلي. كما أن الأسس الدينية للأيديولوجية العربية المعاصرة، هي من دون شك المؤشر للأزمة المجتمعية، إلاّ أنها تظهر في الوقت نفسه الطبيعة الايديولوجية لأسس عقلانيتها.
2_ الفرضية السوسيولوجية
يعتقد بعض الماركسيين العرب بأن الطابع "البرجوازي الصغير" لبعض المجموعات هو الذي أزال الاستعمار وقام بالتنمية الوطنية. وما لا شك فيه أن الفشل الاجتماعي والاقتصادي يعود إلى الطابع البرجوازي الصغير، كما أن هذا الأخير هو الذي تسبب في انتشار الايديولوجية الدينية. هذا عن السبب الأول، أما السبب الثاني فيكمن في وجود البرجوازية الكومبرادورية المتحالفة مع الامبريالية والبرجوازية الطفيلية التي ظهرت وانتشرت أخيراً.
إن العودة أو الرجوع إلى الإسلام لشرح وفهم الظواهر الاجتماعية هو نتيجة للتركيبة الطبقية الضعيفة للمجتمعات العربية. والمقصود بذلك هو الضعف الملحوظ للطبقات الاجتماعية الرئيسية (كالبرجوازية والبروليتاريا) التي أدت إلى التضامن والصراع في الغرب، وبالتالي إلى بروز الايديولوجية العلمانية.
وهنا ايضاً أنزلق الماركسيون العرب في منزلق "منطقي" مزدوج، الأول يكمن في المماثلة والقياس بالغرب، أي يعتبر هؤلاء بأن الفئات الاجتماعية الموجودة في المجتمعات العربية المعاصرة هي مماثلة للفاعلين الاجتماعيين الذين ظهروا وتصارعوا قديماً في أوروبا.
فعلى مستوى الاشكاليات، وانطلاقاً من الفكرة القائلة بأن الفاعلين الاجتماعيين للتشكيلات العربية المعاصرة هم مماثلون ومطابقون للطبقات الاجتماعية الأوروبية، فإننا أمام نفوذ وسيطرة "الفرضية الأفقية" القائلة بتفكيك الواقع الاجتماعي إلى "طبقات المتساوين"، انطلاقاً من الانتاج ودراسة السلوك الطبقي، وكأنه وحدة منسجمة. وحتى هذه الأخيرة هي نفسها مفككة ومقسمة إلى أزمنة اقتصادية وسياسية واجتماعية وايديولوجية وإلى غاية اليوم قد تم تناول هذه الفرضية بالتحليل من قبل العديد من الباحثين العرب انطلاقاً من النظرية اللوكاشية القائلة بالانتقالية من "الذات" أو لـ "الذات".
أما على المستوى المنهجي، فهم يحللون الخطاب الاجتماعي والتمثيل الجماعي وحتى أنواع السلوكيات انطلاقاً من الفكرة القائلة بوجوب المماثلة للتركيبة الطبقية، أي أنهم يرجعون إلى التحليل الطبقي رغم انعدامه في الواقع، وبعبارة أخرى يريدون إيجاد "ممارسات طبقية" و "تطبيقات طبقية".
إلا أن الواقع، هو واقع عنيد ومتصلب، والممارسات الجماعية لا تتفق وما يريدون، أي البنى الاقتصادية، لأن الأفراد يخضعون لقيم ضعيفة الإرتباط بالانتاج وأنه ليس بالضرورة أن يرتبط التضامن بالمصالح الاقتصادية. أليس هذا بعدم الانسجام، بخاصة إذا عرفنا بأن الأدوات المسيطرة هي من نوع ديني أكثر.
إن غلبة الخطاب الديني وتفوقه داخل تشكيلة تبلور الهوية هو اليوم المسألة الأكثر إشكالية. ونظراً إلى "ليونته" فإن هذا الخطاب يجتاز ويعترض جميع الفئات الاجتماعية. والأكثر من ذلك فهو يقوم بتلقيح الممارسات البروليتارية والبرجوازية وكذلك ممارسات أصحاب الياقات البيضاء (الموظفين) والموظفين الكبار.
نحن اليوم، أمام فشل نموذج التحليل، وأمام قلق واضطراب الفكر العقلاني، وإذا كنا ننتظر، على الأقل تأثيرات الطبقة العاملة والبرجوازية أن تتبلور وتتجسد داخل الحركة الاجتماعية، فنحن نلاحظ هروب هذه الطبقات عن كل الفاعلين: شعائر دينية وأصول عرقية والتحريض لتطبيق الشرعية الاسلامية في قانون الأسرة.. الخ. إنه اخفاق نظري يضع الفكر التحليلي أمام البديل.
وتحصيل حاصل، فإنه ليس النموذج ما هو غير الملائم بل إن المجتمع العربي هو المتشرد والهائم، ونظراً إلى أسباب عديدة ومختلفة، فإن طبقاته بقيت غير ناضجة وغير قادرة على إنتاج أيديولوجيات وممارسات ملائمة لواقعها.
إن المسلك الذي سلكه الباحثون العرب هو مسلك مسدود من دون منفذ. علينا أخذ الواقع كما هو موجود، وعلى الفكر العقلاني أن يعيد النظر في افتراضاته ومنطلقاته النظرية بل حتى في اشكالياته ومنهجياته. وبهذا فقط يمكن ضبط الواقع التاريخي.
ثالثاً: طرائق للبحث
1_ الطبقات الاجتماعية والفاعلون التاريخيون
الفكرة القائلة بأن الصراع الطبقي هو محرك التاريخ، هي من دون شك فكرة صائبة، إلا أنها أخذت بحذافيرها، الأمر الذي تسبب في ضلال وغيّ الجزء الكبير من الفكر التحليلي المعاصر، ولذلك وجد نفسه في مأزق نظري يصعب تجاوزه وبخاصة عندما يتعلق الأمر بقراءة التاريخ المعاصر لمجتمعات العالم الثالث والمجتمعات العربية خصوصاً. وما يزيد الطين بلة هو اعتماد هذه القراءة انطلاقاً من معطيات المجتمعات الاوروبية وفي ضوئها.
وإذا انطلقنا من التاريخ الأوروبي نفسه الذي سار كنموذج، فإنه نادراً ما تطاحنت الطبقات الاجتماعية في المجتمعات الرأسمالية باستثناء بعض المراحل التي عرفتها بعض المجالات الوطنية (كفرنسا مثلاً).
وما لا شك فيه، أن هذه الطبقات تميزت بالحضور والتحديد، إلاّ أنها كانت شبيهة بـ "المخرج السينمائي"، أي أنها لم تكن فاعلة مباشرة، لقد كانت حاضرة في الواقع وغائبة عن الفعل.
ونتيجة لذوبان هذه الطبقات داخل مجموعات واسعة، وبسبب مسخها ببعض المعايير الاقتصادية، فقد تقولبت إلى حد أنها أصبحت لا تستطيع القيام بأي فعل يذكر داخل مجتمعاتها المتبلورة، الأمر الذي جعلها تتميز بالانفصال والانقطاع عن عوامل ثقافتها وتاريخها المحلي والخصوصي.
هذه الطبقات لم تتمكن من فرض نفسها كطبقات مثلما رأينا لدى الطبقة العاملة البريطانية الغارقة في مطالبتها النقابية (رغم كل تحسرات لينين) ومثل البروليتاريا والبرجوازية الألمانيتين أيام النازية والجزء الكبير من الأحزاب العمالية والبرجوازية الايطالية وغيرها.
ونظراً إلى اختلاف كل منها، فنادراً ما امتزجت الطبقات الاجتماعية بالفاعلين الاجتماعيين.
وانطلاقاً من الماضي الأوروبي وانقشاع ضوئه، حاول بعض المحللين العرب قراءة واقعنا العربي ماضياً وحاضراً، وحتى خلال الأحداث الأخيرة. لقد لاحظنا ذلك من خلال التحاليل المتعددة التي تركت منذ مدة طويلة الدوغمائية الاقتصادية في التحليل الاجتماعي.
وهناك اليوم سوسيولوجية الفاعلين الاجتماعيين والتي تعتبر أكثر دقة وملاءمة من غيرها لأنها تميل إلى ضبط وحصر الحركات التاريخية، وهي لا زالت تحتوي على الوحدة الطبقية الآخذة بعين الاعتبار المعيار الديني.
هناك اهتمام أكبر بالفاعلين الاجتماعيين البعيدين نسبياً عن الوحدة الطبقية، لأنهم (أي الفاعلين)، يسيطرون على سيرورة التغيير الاجتماعي: النساء، الحركات الاجتماعية للشباب، المهاجرون والتجمعات العرقية والدينية وغيرها.
وما لا ريب فيه، أن الصراعات الاجتماعية قد عرفت العديد من المواجهات التي تدل على تشكلات جديدة تعود للهوية، وذلك لأسباب متعددة ذات علاقة بالمقاومة اللغوية والعُرفية والدينية.
ومقابلة بالبحوث الاجتماعية في البلدان الاخرى، فإن مناهج البحث والفحص السوسيولوجيين في البلدان العربية، تبدو لنا وكأنها ما زالت متأثرة كل التأثر بمناهج التحليل الغربية التي تجاوزها الغرب نفسه. وبتواضع، نعتقد بأن هذا الموقف لا يزال في الاستمرار نظراً إلى مستوى التجريد الذي تعوم فيه البحوث، زيادة على عمومية الموضوعات المتناولة.
فماذا لو اعتمد الباحثون العرب التحليل الميداني والملموس وكذلك التحليل الأمبيريقي (لا نقول المفرط في الأمبيريقية). الجواب هو أننا كنا قد توصلنا إلى ملاحظة وضبط الحركات الاجتماعية وفاعليها الاجتماعيين الذين هم، من دون مناقشة، ليسوا بطبقات اجتماعية.
لو سلكنا هذه السبل لكنا قد ابتعدنا عن الربط الميكانيكي لهذا النموذج من التحليل.
إذاً، يجب الربط المتين للحركات الاجتماعية المتحركة اليوم في المجتمعات العربية، وانطلاقاً من ذلك يمكن تحديد تشكلات وتبلورات الهوية التي هي السبب في دفن مختلف الفاعلين الاجتماعيين. لتجسيد ذلك، علينا الاهتمام أكثر بالملاحظة الدقيقة والملموسة لواقعنا الاجتماعي، وهذا لن يتم إلا بالتخلّي عن التجريد والمستبقات الميتافيزيقة التي ورثناها عن الايديولوجية الوضعية الغربية، من جهة، والتخلي عن الوضعية الاقتصادية التي تُقدم لنا مغلفة بغطاء ماركسية متدنية رديئة، من جهة ثانية.
2_ الدين والهوية
قبل كل شيء، علينا ترك الاعتقاد بالدين، لأنه لم يبرهن على أن الدين أصبح بمثابة رؤية للعالم أو كثافة. فهو وظيفة عكسية للتطور التاريخي والاجتماعي، ولو فعلنا ذلك، أي لو اعتبرنا الدين رؤية للعالم، لكانت المسيحية، أيديولوجية الاقتطاع، بمثابة "عقلانية" البرجوازيات الوطنية الأوروبية.
نحن نعرف اليوم، وانطلاقاً من الماضي الأوروبي، بأن الرأسمالية قد تطورت في الأصل، في الوقت الذي عرفت فيه البلدان الأوروبية اصلاحات دينية وربطت التنمية بانتشار الايديولوجية الدينية، هذا ما حدث في كل من بريطانيا وأمريكا الشمالية وهولندا..
وفي الحاضر المعاصر للبلدان الغربية الرأسمالية نفسها، نستطيع تسجيل المكانة المرموقة التي يتربع فوقها اليابان داخل الاقتصاد العالمي مقابلة بالصين. ففي الوقت الذي ربط فيه اليابان، ربطاً عضوياً، الدين بالدولة وبالمجتمع، نجد الصين تعمل المستحيل لمنع ذلك.
كما يمكننا أن نلاحظ كذلك الكاثوليكية التي أثارت العمال والشعب البولوني بهدف محاربة الطبقة الحاكمة "النومنكلاتورة" وهذا ما نلاحظه اليوم بالنسبة إلى الارلنديين في مناهضتهم للبروتستانت الانكليز.
وبإمكاننا تعداد هذا النوع من الملاحظات اللا منتهية، ونوضح اليوم كما في الأمس، بأن البعد الديني قد ساهم دوماً، بشكل أو بآخر في تبلور الهوية الجماعية، وبأن انتشاره لم يرتبط في كل زمان ومكان بفترات الانحطاط أو بالتطور الاقتصادي والاجتماعي.
الأهم في كل الحالات، هو أن نتمكن من التخلص من التجريدات الميتافيزيقية الكبرى، وأن نقترب من ميدان الواقع الاجتماعي الملموس لنلاحظ بوضوح حركة المجتمع.
وإذا عدنا إلى الإسلام، فإننا نلاحظ أنه ليس تلك الوحدة المنسجمة، والتي تخفي الممارسة الجماعية، ونتأكد من وجود نماذج متعددة للإسلام. وعليه، لابد لنا من أن نخرج من هذا الليل الغارق في التجريد أو كما يقول هيغل "حيث كل الأبقار شهباء"، فالمهمة إذا هي تحليل جميع الفوارق، فهي ذات أهمية قصوى.
أـ العنصر الديني، يتدخل أكثر فأكثر في تبلورات وتشكلات الهوية الجماعية التي تحدد وتعين الفاعلين الاجتماعيين، ومقابلة بالستينات، نلاحظ من دون شك "انتعاشاً" أو "نشاطاً متجدداً" للبعد الديني داخل الحركة الاجتماعية.
ب_ يتزايد تنقل العنصر الديني في كل مكان، وبسرعة أكثر، عندما نبتعد عن محيط الانتاج، وقد وصل هذا العنصر إلى أقصاه في مجالين إثنين: مكانة المرأة ودورها في المجتمع، ومدى شرعية السلطة السياسية.
ج_ انطلاقاً من الملاحظتين السابقتين نستخلص أن الخطاب الديني هو في حضور دائم وفي انتشار واسع، وعلى الرغم من توجهه المتغاير، ينزع هذا الخطاب ويميل إلى الهيمنة، لكونه يمس جميع الفئات الاجتماعية (هنا نقصد الفرضية الاعتراضية) ويقدم اجوبة على جميع الأسئلة سواء الاقتصادية أو الاجتماعية أو الثقافية!
د_ عن طريق الملاحظة الدقيقة للميدان، نستنتج بأن العنصر الديني يختلف باختلاف مجموعات وفئات المجتمع، وهو ككل الايديولوجيات، يقترن بالخطوط الكبرى لتركيبة المجتمع "الأفقية".
الاسلام الشعبي، وهو التديّن الشعبي ذو الخصائص التوفيقية والوظائف الاسترضائية، علاقته ضعيفة بالتأويل النصي المكتوب وهو أكثر تفتحاً من أنواع الإسلام الأخرى، حيث يتكيف مع دعاة التغيير الاجتماعي، إنه اسلام "لغة الحياة العملية"، وبالنسبة إلى الطبقات الشعبية، يُعَدّ هذا الإسلام بأنه منظم الإندماج داخل الحركة الاجتماعية.
وهناك أيضاً الاسلام الأرثوذكسي، أو التقليدي وهو تاريخياً نتاج لـ "جمعية العلماء المسلمين الجزائريين" وهو يتميز بانتشاره الواسع بين فئات الطبقة المتوسطة، وبخاصة بين المدرسين والمربين والموظفين. وهو يختلف عن الأول لكونه يرتبط أكثر بالممارسة المعرفية للنصوص المقدسة، كما أنه لا يرفض أن يستعمل من طرف الدولة، بل يحاول أن يصبح مؤسسة، (الكنيسة مثلاً)، إنه ما يسمى باسلام رجال الدين.
أما النوع الثالث والأخير، فهو ذلك الاسلام غير المرئي، بسبب طقوسه الدينية التي تحميه، وهو ايضاً إسلام "اعدادي" من جهة، وسرّي من جهة ثانية، لأنه مفتوح فقط للأتباع الأصوليين، إنه إسلام المجموعات الطرقية القريبة من الصوفية، كما أنه يبحث عن الافتتان والاعجاب به، وإذا كان الإسلام الأول يحاول تفهم وتنظيم العالم، فإن هذا النوع يحاول الإبتعاد عن الحياة اليومية والاعتزال داخل الحياة الروحية.
يمكن أن يقال عن هذه البنية، بأنها لا تنفرد بها المجتمعات العربية، ذلك أنها موجودة في البلدان المسيحية الأخرى، وبخاصة مجتمعات أمريكا اللاتينية وآسيا الكونفوشية.
إن البنية التي تنفرد بها المجتمعات العربية هي ظهور أشكال أخرى للإسلام على أرض الواقع من حيث الخطاب والممارسة الدينية، وهذا ما يسمى بـ "الوصولية" أي ما نقصد به الاسلام الديني.
إنها ظاهرة حديثة في تاريخ المجتمعات العربية المعاصرة (من السهل تحديد ظهورها بالنسبة إلى كل بلد). وهي ملفتة للنظر منذ عشرين سنة، بسبب انتشارها الواسع محلياً ووطنياً، وبسبب عملها على إفشال الأحزاب والحركات السياسية الكلاسيكية (العلمانية) التي تأسست في خضم حركات التحرر والتشييد الوطني. ودائماً، وخلال انكسار التجارب الوطنية والتنموية، يتحول هذا الإسلام بسرعة خاطفة إلى أحزاب جماهيرية.
إن معظم التحاليل التي خصصت اليوم لـ "تصاعد" الإسلام في المجتمعات العربية المعاصرة لم تهتم بالقدر الكافي بأنواع الممارسات الدينية التي أشرنا إليها سابقاً. وإذا كانت تلك التحاليل توضح فعلاً انتشار الإسلام السياسي، فإنها تدمجه في التطور العام لحركة المجتمع. كما أنها تخلط بين الدينامية السياسية للأيديولوجية الدينية والدين، كممارسة اجتماعية وكمعايشة يومية، أو كتجربة جماعية للإعداد الروحي والصوفي.
بالنسبة إلى الميدان السياسي، فإن الوصولية قد غرقت وغاصت داخل الثغرة التي تسبب فيها فشل التجربة الوطنية في البلدان العربية، وعليه يجب علينا ربط النجاح اللامع والسريع بأسباب ونتائج هذا الفشل، وتحليل هذا وذاك ضمن "الأزمة التاريخية" التي قطعها الوطن العربي، فنحللها إذاً كـ "ظرفية".
وبناء على ما سبق، نستطيع القول، بأن الأحزاب الاسلامية قد وجهت "اسلحتها الثقيلة" نحو مسألة شرعية السلطة السياسية، الأمر الذي يبين قدرتها على اغتنام الفرص المؤاتية و "التشبث بالواقع" ذلك أن هذا الأخير يشكل المسألة الرئيسية للأنظمة السياسية في مجتمعاتنا.
إن الرمزية الدينية تنوب الرمزية العقلانية والعلموية التي تشهد اليوم أزمة عميقة، ليس في بلدان العالم الثالث فقط بل في بلدانها الأصلية أيضاً، أي الأوروبية. ومع ذلك، فإن الدين الإسلامي يستمد قسماً كبيراً من بياناته التقنية والسياسية من الثقافة الغربية الراهنة وكذلك من اضطرابها الذي نتج بسبب التقانة وأزمة الأنظمة السياسية هناك.
إن الرمزية الدينية هي مطابقة للوسط الثقافي المحلي وهي أيضاً موافقة للمرجع التاريخي والحضاري للشعوب وأخلاقيتها. وهنا، فإن الاسلام السياسي وجد نفسه كـ "الحوت في البحر".
خاتمة:
خلاصة القول، إن الوطن العربي اليوم يفتح مجالاً فسيحاً للبحث في ميدان علم اجتماع الدين، أو بالأحرى الأديان. وإن التأخر المتراكم في هذا المجال لضخم، ومحير، ومذهل في الوقت نفسه، على الرغم مما يدلنا عليه، أكثر من غيره، بشأن التحيزات الايديولوجية التي تحكمت، عبر عشرات السنين، بسير التحليل العقلاني للمجتمعات العربية مؤدية به إلى الاهتمام بجوانب على حساب جوانب أخرى كاهتمامه بالجانب الاقتصادي على حساب الجانب الديني، أو الجانب الاجتماعي على حساب الجانب السياسية والثقافي.
واليوم، ونحن نشهد التحديدات "السالبة" للكيان الاجتماعي تستعيد حيويتها، وبخاصة تتبلور في الحركة بما في ذلك الحركة السياسية، يمكن للتفكير العقلاني أن يتدارك ما فاته، وذلك من خلال تنويع مجالات بحثه، ومن خلال تفتحه على الواقع بما في ذلك جانبه "غير العقلاني" و "الفوضوي". يتعين اليوم على التفكير العقلاني أن يعتمد منهجية قائمة ليس على أساس عالم متخيل، ولكن على أساس هذا الواقع الاجتماعي الذي بين يدينا.
وباختصار، يتعين على التفكير الع