أملات في البعد الاجتماعي للعقيدة
  • عنوان المقال: أملات في البعد الاجتماعي للعقيدة
  • الکاتب: مشتاق اللواتي
  • مصدر:
  • تاريخ النشر: 19:52:27 1-10-1403

أملات في البعد الاجتماعي للعقيدة 

مشتاق اللواتي

نعني بالبُعد الاجتماعي هنا ـ هو ما تستهدفه العقيدة من التأثير على الجوانب التربوية والاجتماعية والنفسية والأخلاقية للفرد والمجتمع على نحو شامل، بحيث تكون حاضرة في مختلف المناشط الحياتية وتعاملاتها. إن العقيدة التي يعتقدها

الإنسان، أياً كانت؛ تترك آثارها وبصماتها على نفسية الفرد، وعلى سلوكه بشكلٍ تلقائي، ويزداد تأثيرها ويتعمق، كلما كانت العقيدة واضحة ومتجذرة عند صاحبها، وكلما كان مستوى تصديقه بها قوياً.

فالعقيدة من أهم العوامل التي تسهم في تشكيل رؤية الإنسان الكونية، وصياغة مفاهيمه عن الحياة وطبيعتها، ومبدئها ومآلها، ومن ثم تنعكس هذه المفاهيم على نمط علاقاته وأسلوب تبادله لحقوقه وأدائه لواجباته، بل في تقرير طبيعة تلكم الحقوق والواجبات، فالعقيدة هي أحد الموجّهات المهمة للعلاقات الاجتماعية، إلى جانب عوامل ومؤثرات أخرى، تتفاعل معها وتتبادل التأثير والتأثر، كالتربية والتنشئة الاجتماعية والثقافية، والتي هي الأخرى لا تخلو من تأثير واضح للعقيدة عليها.

- شمولية مفهوم التوحيد:

العقيدة الاسلامية ليست أفكاراً نظرية بحتة تجول في الأذهان، وتفرغ في الكتب والأسفار وسائر وسائل التناقل الفكري، ولا هي مفاهيم تجريدية محضة يحلق بها روادها إلى عوالم متعالية عن عامة الناس وسوادهم الأعظم، بل هي بذاتها تتسم بأبعاد اجتماعية، وتختزن في عمقها دلالات ومضامين تتجاوز فضاءات الأذهان، لتعم بإشعاعها كافة مناشط الحياة، وتتفاعل مع حركة الإنسان في مختلف مجالات الحياة، وهذه السمة التي تتصف بها العقيدة الاسلامية تنسجم مع الطبيعة الاجتماعية للإنسان، الذي قرر فلاسفة الاجتماع أنه اجتماعي بطبعه، وهو الأمر الذي أثبتته التجربة الاجتماعية للإنسان.

وتظهر الحقيقة السالفة واضحة عند التدبر في القرآن الكريم، والتأمل في المبادئ العقدية الاسلامية، فعقيدة التوحيد تشمل مستوى الاعتقاد والعبادة والعمل، وتستهدف تحرير الانسان من الخضوع لكل أنماط الصنمية والوثنية، سواء تمثلت في الأشكال الحجرية والتمرية والخشبية، أو تجلت في طغيان سائر القوى البشرية والشهوية والمالية، وتنزيهه من عبادة جميع المعبودات الوهمية الأرضية، ومن المنظومة القيمية الأخلاقية والاجتماعية التي تتشكل في ظلها أو تستمد منها، ومن أسلوب التفكير الذي تمليه تلكم المعبودات ونمط العيش الذي تفرضه، يقول تعالى: (أفرأيت مَن اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم) الجاثية/ 23، (أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار) يوسف/ 39.

وبموازاة ذلك تستهدف عقيدة التوحيد جعل الإنسان ومن حوله الحياة بحركتها ومناهجها، ليكونا سائرين على طريق الإيمان، على نحو يغدو وجود الله سبحانه وتعالى وتوحيده وإرادته وتدبيره لكل ذرة من ذرات الوجود المفتقرة إلى غناه المطلق، حاضراً في أعماق الانسان ووجدانه، ومتجلياً في علاقاته ومبادلاته وممارساته اليومية، حتى تتناغم مكونات النفس ومركوزات الفطرة مع حركة الانسان وسلوكه الاجتماعي، وتتسق موجبات الأمانة ومقتضيات الخلافة، وتتجانس سنن التكوين مع سنن التشريع والاجتماع، فتأمن مسيرة التاريخ من الاهتزازات والانزلاقات.

ان عقيدة التوحيد والمعايير القيمية المنبثقة منها تشمل الحياة بأسرها، وتأبى بطبيعتها الانزواء في ركن من أركانها، أو الانعزال في زاوية من زواياها.

إن الترابط بين العقيدة والقيم الاجتماعية العليا حقيقة تبرزها الكثير من آيات القرآن الكريم التي تقرن الإيمان بالله واليوم الآخر وعموم الغيب، بالعمل الصالح، كما تربط بين الصلاة والزكاة والأنفاق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والولاية والبراءة والتمكين في الأرض، وطاعة الله والرسول والأولياء، وغيرها من المبادئ الاسلامية السامية، قال تعالى: (الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ومما رزقناهم ينفقون) البقرة/ 3، (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله) التوبة/ 71، (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر) الحج/ 41.

إن الإيمان كما يمنح المسلم حقوقاً على الغير، يرتب عليه في المقابل واجبات ومسؤوليات دينية واجتماعية يعبر عنها الفقه الاسلامي (بحقوق الله وحقوق العباد) وهي متنوعة بتنوع مجالات الحياة وحاجاتها.

وغنيٌّ عن القول: ان مفاهيم العمل الصالح والمعروف والخير تحمل مدلولات اجتماعية مرنة، ولا تتجمد عند تعريفات معينة أو مصاديق معدودة، فهي تشمل ابتداءً الكلمة الطيبة وإعانة المحتاج ورعاية اليتيم على المستوى الفردي، ومروراً باقامة الأعمال المؤسساتية الإنسانية، وانتهاءً بإقامة العدل والقسط، وإشاعة الأمن النفسي والاجتماعي في المجتمع البشري، ومناصرة قضايا الحق والعدل.

وكذلك الحال بالنسبة للمنكر، فهو يشمل كافة المنكرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأخلاقية، سواء كانت تمارس على المستوى الفردي أم المؤسساتي أم الجماعي، ومن هنا تنوع الخطاب القرآني بالنسبة لمزاولة فريضتي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما تنوع التصنيف الفقهي لهما إلى عيني وكفائي جماعي.

إن العقيدة ومضمونها الاجتماعي لا ينفصلان في القرآن الكريم، كما نلاحظه في العديد من السور والآيات القرآنية التي تشدد في التأكيد على هذه القضية، كسورة الماعون التي نقرأ فيها: (أرأيت الذي يكذّب بالدين * فذلك الذي يدعّ اليتيم * ولا يحض على طعام المسكين * فويل للمصلين * الذين هم عن صلاتهم ساهون * الذين هم يراءون * ويمنعون الماعون) سورة الماعون، ويعدد القرآن الكريم موجبات استحقاق العقاب الأخروي على لسان بعض الذين استحقوه: (قالوا ما سلككم في سقر * قالوا لم نك من المصلين * ولم نك نطعم المسكين * وكنا نخوض مع الخائضين * وكنا نكذب بيوم الدين) المدثر/ 42-46.

وتزداد هذه الحقيقة القرنية وضوحاً في رفض القرآن الكريم اجراء المقارنة بين بعض الخدمات التي تترك أصداءً ظاهرية في المجتمع، وبين الإيمان بالله واليوم الآخر مقروناً بالجهاد في سبيل الله سبحانه، يقول تعالى: (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيله لا يستوون عند الله) التوبة/ 20.

ويبلغ هذا التلاحم بين الإيمان ومضمونه الاجتماعي والانساني ذروته في القرآن الكريم، عند ربطه بين القتال في سبيل الله والقتال في سبيل المستضعفين من الناس، يقول سبحانه: (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والوالدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها) النساء/ 75. وسبيل الله ـ كما يؤكد الإمام الشهيد محمد باقر الصدر ـ (هو التعبير التجريدي عن السبيل لخدمة الانسان، وسبيله سبحانه وتعالى دائماً يعادل من الوجهة العملية سبيل الانسانية جمعاء، وكلما جاء سبيل الله في الشريعة أمكن أن يعني ذلك تماماً في سبيل الناس أجمعين).

- الأنبياء دعاة التوحيد والعدل:

يستعرض القرآن الكريم في كثير من سوره وآياته الكريمات نماذج من جهاد الأنبياء والمرسلين، ويؤكد فيها على التلازم بين عقيدة التوحيد وتحقيق العدل والقسط في المجتمع الانساني، فلا تستقيم عقيدة التوحيد الخالصة في مجتمع يتفشى فيه الظلم، وتسود فيه أخلاقيات الاستغلال التربوية والاجتماعية، وستصبح مجرد طقوس ومظاهر جوفاء.

إن القرآن الكريم يبين أن الأنبياء استهدفوا تحقيق العدل والقسط إلى جانب سعيهم في ترسيخ دعائم التوحيد. يقول سبحانه وتعالى: (ولقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط) الحديد/ 25.

ولقد خاض الأنبياء والمرسلون ـ في سبيل تحرير العقل البشري من المعبودات الزائفة، ومن الخرافة والتقليد، ومن أجل تخليص الإنسان من الطغيان والفساد ـ معارك شرسة ضد الفراعنة والمترفين والمستكبرين، يقول سبحانه وتعالى: (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور) إبراهيم/ 5، ويخاطب سبحانه نبيه موسى وهارون: (فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم) طه/ 47.

أما النبي هود (ع)، فقد بيّن لقومه أن التغافل عن الموت ونكران البعث يقودان إلى الظلم والتجبر والاستهانة بحقوق الناس والعبث في الحياة حيث خاطبهم، بقوله: (فاتقوا الله وأطيعون.. أتبنون بكل ريع آية تعبثون * وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون * وإذا بطشتم بطشتم جبارين) الشعراء/ 126-130.

وشدد النبي صالح (ع) على مبدأ التلازم بين طاعة الله وتقواه، وبين اتخاذ موقف حاسم من القيادات الاجتماعية الفاسدة، فقال: (فاتقوا الله وأطيعون * ولا تطيعوا أمر المسرفين * الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون) الشعراء/ 150-153.

ويحدثنا القرآن الكريم عن النبي لوط (ع) وعن مواجهته للفاحشة التي تفشت في مجتمعه: (ولوطاً إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين) العنكبوت/ 28.

كما يخبرنا القرآن الكريم عن النبي شعيب (ع)، وعن تصديه لظاهرة الاستغلال الاقتصادي وسرقة أموال الناس عبر التحايل في المقاييس والموازين: (وإلى مدين أخاهم شعيباً قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان) هود/ 84، وهي تأكيد واضح على التنافر وعدم الاتساق بين عقيدة التوحيد والظلم والتعدي على حقوق الغير.

ويشير القرآن الكريم إلى رسالة النبي محمد (ص) ودعوته وبرنامجه الرسالي، فيقول سبحانه: (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرّم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم) الأعراف/ 157.

إن الإيمان بالتوحيد وتصديق الأنبياء يملي بالضرورة اتخاذ مواقف واضحة من قضايا الحق والعدل من جهة، والانحرافات الاجتماعية السائدة من جهة أخرى.

- عقيدة المعاد والمسؤولية الأخلاقية:

لا يخفى أن عقيدة المعاد تضفي على الحياة الانسانية أبعادها الحقيقية، باعتبارها محطة ومرحلة من مراحل الوجود الانساني وليست نهاية المطاف، ومن ثم تبعد عن الحياة شبح العبثية والفوضى، وما يترتب عليها من قيم وممارسات فاسدة وجائرة، سواء على مستوى الفرد أو المجتمع.

إنها العقيدة التي يكمن فيها جوهر المسؤولية الأخلاقية، وفلسفة الإلزام الخلقي، والتوازن بين المصالح الفردية وقيم الغيرية، بالاضافة إلى أنها تمثل التجسيد الحقيقي لهدفية الخلق. يقول سبحانه: (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وإنكم إلينا لا ترجعون) المؤمنون/ 115.

كما أن عقيدة المعاد تختزن في عمقها مدلولات العدالة الكونية، وإحقاق الحق، والانتصاف للمظلوم من الظالم، ومن هنا أطلق القرآن الكريم على يوم القيامة أنه (يوم الفصل). يقول سبحانه: (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً) الأنبياء/ 47.

إن ترسيخ عقيدة المعاد ومفاهيم البعث والحشر والحساب، تترك آثاراً تربوية هامة في الانسان، فهي تخلق فيه عنصر الرقابة الذاتية، وتربي فيه الضمير الأخلاقي: (لا أقسم بيوم القيامة * ولا أقسم بالنفس اللوامة) القيامة/ 1-2.

إن عقيدة المعاد توقظ في الانسان الشعور بالمسؤولية أمام ربه، تجاه نفسه والناس، الأمر الذي ينعكس على ممارساته وعلاقاته مع الغير. (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره * ومَن يعمل مثقال ذرة شراً يره) الزلزلة/ 7-8. (ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً * إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً * إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريراً) الإنسان/ 8-10.

- بحوث العقيدة السائدة:

عندما نراجع الإنتاج الفكري في حقل العقيدة، نلاحظ غلبة الأسلوب التجريدي المحض، والمنهج النظري البحت عليها، مما يقود إلى الفصل بين العقيدة ومضامينها الحياتية وقيمها التربوية والأخلاقية والاجتماعية، ويجعلها في أحسن التقادير بحوثاً ونتاجات نخبوية أكاديمية، ذات مناظير متنوعة وآراء متنازعة، ومباني بحثية غارقة في استخدام طرق الجدل والافحام، وأساليب شديدة الغور في التجريد، إلى جانب الغموض في الخطاب، والتعقيد في أنماط التعبير، حتى يخيل إلى القارئ إنها ضرب من الألغاز ونوع من الطلاسم.

ولعل المفارقة تكمن في التبريرات التي تساق للدفاع عن هذه المناهج، التي تتستر تحت دعاوي التخصص العلمي تارة، والعمق الفكري تارة أخرى، لتغلق بذلك باب النقد، وتحكم بإقصاء الآخر، ومصادرة رأيه منذ البداية، وبالتالي تحتفظ لنفسها وحدها بحق الفهم والتفسير والتأويل إلى ما لا نهاية.

إن المضمون الاجتماعي والتربوي يكاد يكون مغيباً في العديد من مباحث العقيدة حسب المناهج السائدة، التي حولته إلى نوع من البحوث الذهنية الصرفة، التي لا يعنيها أحياناً إلا الانتصار لاتجاه عقيدي معين. ولو باتباع ضروب من التكلف في التأويل، ولي أعناق النصوص الصريحة.

ففي الإلهيات مثلاً، يُبذل مجهود كبير في تناول مسألة الأسماء والصفات، وما إذا كانت الأسماء توقيفية أو غير توقيفية والصفات إن كانت عين الذات أو مغايرة للذات، وما يترتب على هذه وتلك من اللوازم حسب هذا المنظور أو ذاك، وتتفرع عنها مشكلات فكرية تشغل المسلمين ردحاً من الزمن، تتمحور حول ما إذا كان كلامه سبحانه قديماً أو حادثاً، وبالتالي إن كان القرآن قديماً أو حادثاً، وكذلك الأمر في مبحث صفات الذات وصفات الفعل، فقد تباينت الآراء تبعاً لمناهج البحث المتبعة فيها، ففريق يعدد صفات الذات إلى ستة، وآخر يوصلها إلى ثمانية، وهذا يعتبر الارادة من صفات الفعل، وذاك يصنفها من صفات الذات، وثالث يوفق بينها فيجعلها في مستويين، ورابع يتصرف في مدلولاتها، فيختزلها مرة في القدرة وأخرى في العلم والحكمة، ويدمجها مرة في معرفة النظام الأتم، وأخرى في الحب والشوق والابتهاج. والمفارقة هنا أن الكل ينشد الاتساق مع العقل ويفر من التصادم معه.

وهكذا الحال في قضية رؤية الله سبحانه يوم القيامة بالعين الباصرة، وما إذا كانت ممكنة أو مستحيلة، وما يترتب عليها من لوازم، ومن ثم الموقف من قضية المجاز أو الحقيقة في التعبير القرآني، وغيرها من المسائل التي بحثت في هذا المضمار. فبينما ركز البعض على الأساليب الجدلية والمناهج النظرية، صب البعض الآخر جل اهتمامه على بعض الممنوعات داخل أسوار المقابر، سعياً وراء تنزيه العقيدة النقية عما شابها من تصرفات شركية وبدعية، وفق منظوره. فكانت النتيجة أن استهلكت جهود المفكرين واهتمامات الجماهير المسلمة في قضايا ونزاعات فكرية جدلية، وغيبت المفاهيم العملية للعقيدة، وعمقت الأساليب السطحية والمفاهيم القشرية في التعامل مع القرآن الكريم.

ونفس الوضع ينطبق على بحوث النبوة، حيث تتنوع الأنظار وتتوالى الإشكاليات حول ما إذا كانت النبوة لطفاً وفضلاً، أو استحقاقاً قائماً على الجدارة والقابلية، وما إذا كان النبي (ص) هو المعلول الأتم والأشرف والصادر الأول، الذي يجتمع فيه جانباً الناسوت واللاهوت، وعلاقة النبي والرسول بما يسميه البعض (بالعقل الفعال) وما إلى ذلك من قضايا شبيهة.

ولم يكن حظ المعاد ـ بطبيعة الحال ـ من التوغل في المخيلة التجريدية، أقل من سابقاتها، فمن العناوين البارزة التي حظيت باهتمام المفكرين في هذا المضمار تتلخص في: هل المعاد بالجسم، أو بهما معاً؟ وبأية أجسام؟ وهل تعاد برمتها، أو بما يماثلها؟ وما مستوى التماثل؟ هل في الشكل؟ وكذا محددات الزمان والمكان، هل بعناصرها الاسلامية وهيئاتها، أم بصورها المثالية؟ ثم مَن يستحق الجزاء، أهي الروح، أم الجسم؟ وهل انسانية الانسان بروحه، أم بجسمه، أم بهما معاً؟ وهل يعاقب الجسم الأصيل، أم البديل؟ وهكذا. تمهيداً لطرح ما سمي بشبهة (الآكل والمأكول) بحيث تعقدت المسألة كثيراً، حتى لقد أعلن شيخ فلاسفة المشاء ورئيسهم ابن سينا عن عجز العقل من إثبات المعاد الجسماني، حيث لم تسعفه أدوات التأويل، ولجأ إلى ما يعرف بمنهج أهل الكلام ـ رغم النكير الشديد عليه ـ معلناً إذعانه للنصوص القطعية ووقوفه عندها.

وهكذا طبعت هذه البحوث بالطابع النظري، وغيبت وراء ركامه مفاهيم المسؤولية الأخلاقية، وفلسفة الإلزام والالتزام، ومبادئ العدل والقسط، وقيم الصلاح والاصلاح في المجتمع الانساني، في إطار العبودية الحقة لله سبحانه، تلك القيم والمثل العليا التي تنشدها العقيدة وتهدف إليها سعياً وراء تحقيق السعادة والأمن لبني البشر في الدارين، لا في إحداهما فحسب.

- الخلاصة:

وبعد، فإن هذه الخواطر التي جاش بها الصدر ونفث بها القلم، لا يراد منها التعميم على كل النتاج العقدي الاسلامي، بل القصد منها الإشارة إلى هذا الطابع البارز فيها.

وهي ليست دعوة إلى إحياء النصوصية السطحية أو الحشوية الحرفية، وإنما هي دعوة إلى تفعيل التفكير العقلي وتحريره من أسر بعض القواعد والأساليب الموروثة والنظريات الوافدة، والتي قد لا تنسجم كثيراً مع منهج العقيدة الاسلامية المتكامل، ودعوة إلى الاستهداء بروح القرآن الكريم الذي يرسم الخطوط الفاصلة الواضحة لمنهج البحث المتماسك، الذي يربط بين العقيدة والشريعة ومفاهيم الحياة العامة، ذلك أن النزوع نحو التخصص العلمي لا يتنافى أبداً مع تأسيس منهج شمولي في البحث، ويربط بين العقيدة كأسس تُبنى عليه التشريعات والمفاهيم والقيم الاجتماعية والأخلاقية، ومن ثم صياغة رؤية إيمانية شاملة للكون والحياة لا تنفصم عراها، يستحضرها الفقيه حال استنباطه، والمفسر حين فتسيره، وعالم العقيدة أثناء تأملاته، والتربوي والاجتماعي والاقتصادي في نظرياته ودراساته، بحيث تخرج نتاجات الجميع متماسكة متناسقة، وبذا يتجانس صريح العقل المتنزه عن الشوائب مع صحيح النقل.

وعليه حري بالباحثين المختصين في العقيدة أن يفرعوا منها بحوثاً ودراسات، تتمحور حول القيم والمعايير السلوكية التي ترسمها العقيدة، والانعكاسات النفسية والتربوية والأخلاقية والاجتماعية التي تتركها، كما هو الحال في العلوم الأخرى التي يتسع البحث فيها يوماً بعد يوم، للتفرع منها أقسام جديدة وفروع مبتكرة، كما في علم الاجتماع والنفس والقانون.

ويجدر هنا التنويه بنموذج (الفتاوى الواضحة) بمقدمتها العقدية، وخاتمتها في فلسفة العبادة، للفقيه المفكر الشهيد محمد باقر الصدر الذي أحيا تقليد السالفين من علمائنا، من أمثال الشيخ المفيد في (المقنعة) في الربط بين العقيدة والفقه ومفاهيم الحياة.

وأخيراً وليس آخراً دعوة إلى اقامة منهج متوازن ومتكامل يراعي بين دواعي الشكل والاطار وقواعد الصنعة البحثية ومقتضيات المضمون والجوهر (وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) الأنعام/ 153.