مساحات أُخرى للنور
للقاص الدكتور الشيخ عبد المجيد فرج الله
على امتداد خطوط الكثبان الرمليّة ، كانت فقّاعاتٌ من ذكريات قريبة وبعيدة
تطفو على السراب المالح ، وما تلبث أن تنفجّر عن موقف !
سنوات طويلة تختزلها ذاكرة الصحراء في هذه الكرات الشفّافة ، وكأنّها
تتحدّى آخرَ صيف قائظ يمرُّ على سُحنته الخصبة الربيعيّة ... لمسةٌ أنعمُ
من رموشِ الفجر داعبت كفّه السمراء ، قاطعةً سلسلةً ملوّنة من طفح
السراب :
ــ حدّثني قلبي بأنّك ظمآن .
أجابها بهدوء وحب :
ــ ما أصدقه يا نور العين !
ــ تفضّل .. هذا ماء بارد .
التقت العيونُ تبحث عن أسرار جديدة في طيّات البحر الممتدّ ما بين الأحداق
الأربع ، مخضلّة ببريق دافئ الأشواق ، فيما تراجعت متلعثمة بقايا حروف
هامسة ، وهي تكبو على لسانين أيبسهما الحبّ واللّهفة .
الأيام البيضاء التي مرّت على قلبه المتيّم ، كانت أجمل أيام العمر ..
وإذا وسّع دائرة رؤياه ، فإنّها تتضاءل أمام ليل داجٍ من الألم والعذاب ،
يلفّع هذه الأسوار المترامية الأطراف والمآسي .
هكذا كان يطوي جراحه وسعادته جناحين يحلّقان به في اتجاهات متعاكسة ، لكنه
لم يكن يهوي إلى الأرض ، لأنّه يعرف كيف يوازن ما بين القوّتين .
* * *
جاء النداء ..
ارتجّت له أرجاؤه الولهى ، وتبسّم في دمه أمل قديم ، طالما راوده وهو في
أهنأ لحظات العيش ، فيلبّيه بوعد صادق ، ثمّ يتحسّر ...
التحقا بالقافلة التي تزمجر في طول الصحراء وعرضها ، تريد أن تُنقذ الأحياء
من هذا الموت المطبق على وجه الأرض .. كان النداء يصل إلى كلّ إنسان
فيتوقّفُ عنده برهةً ، فإذا وجد فيه نبض حياة أردفه ، وإلاّ سار لا يلوي
على شيء .. الحياة الحقيقية هكذا ؛ لا تريد إلاّ الأحياء الحقيقيين .
كانت مشاوير الطريق تغدق عليه سعادةً كبرى لم يذق لها طعماً طول حياته ..
هذا الحبيب الذي يحدو بخيولهم وجمالهم لا يدع ذرةً في كيانه إلاّ وزرع فيها
حبّه ، بذرةً تنمو مع الأنفاس ...
لم يكن يشعرُ بهذه التي جلست قربه منذ وقت ليس بالقصير ... امتدت يداها إلى
يديه .. قبّلتهما ضارعة .. فالتفت إليها :
ــ ما بالك يا نور العين ؟
أجابته باستحياء مشوب باللهفة والعتب .
ــ أراك نسيتني .. أين أنا الآن من قلبك ؟
ردّ بحزم دالٍّ على ثقة وصدق :
ــ إنّك فيه ...
سكتت قليلاً ، ثمّ تكلّمت بهدوء :
ــ لكنك مشغولٌ عني ...
ــ عجيبٌ أمرك .. نحن الآن في القافلة ، يحدونا حبيب الله إلى أرض النور ..
ولا بدَّ لنا أن نذوب معاً في هذا الفجر الجديد .
لملمت العروس كريّات جفونها البيضاء الدافئة ، وهي خاشعةٌ في محراب الحداء
إلى الله ، ومرائي روحها تعكس أوجهاً تحتضنها الآن رفرف خضر في الفردوس .
كانت على الجانب الآخر ضوضاءٌ مجنونة ، تحاول دون جدوى أن تعكّر شيئاً من
هذا الصفو الرقراق المتلألئ ، كأنَّه عيونُ النجوم في وجه غدير عذب .
تعالت الضوضاء صراخاً لاهثاً حولَ دائرة ( النبع الأخضر ) ، الذي سيمتدُّ
حتى آخر لحظة من الحياة ... أشعلت في أطراف الدائرة بقايا قشّ وأسمال ،
وارتفعت الأصواتُ المجنونة ببطء مبحوح ... ثمّ تصاغر كلّ شيء أمام دائرة
النبع الأخضر .
طقطقات باهتة وصراخ لا يتجاوز الأسنان ، وحيرة وضياع أمام النور المنطلق من
النبع .. والذي بدأ يستولي على كلّ شيء من حوله ، ليصل إلى أبعد حبة من رمل
الأرض ، وآخر نسمة من هواء الكون ...
انطلق من زاوية في الدائرة إلى المركز ... أوقفته صيحات زوجته الباكية ،
فابتسم بشموخ هامساً :
ــ ما بالك يا نور العين ؟
ــ لا تذهب ... أُريدكَ معي .
ــ كلا ... أنا ذاهب .. واُريدك أنت أن تكوني معي .
ظلتْ منتصبة
قرب الخيام ، فيما انطلق عنيفاً كشهاب ثاقب يطارد الشياطين .. وفي منتصف
الدائرة كان يفتحُ مساحات جديدة أمام النور ، ويشقّ جداول متعددة لتصل
الأرض العطشى بالنبع الخضل ...
سال منه دم غزير ، كانت السيوف الأتفهُ من الإبر الصدئة قد جرحت مواضع في
جسده الذي يريد أن يتحرر منه ..
عاد إلى أطراف الدائرة ، فودّع منبعه الأخضر الوداع الأخير استعداداً لفراق
قصير ، قصير .
قبل أن يمتطي جواده الأدهم ، أحسّ بيدين تدفعانه إلى سرجِه ، وهما تمسحانِ
دماء جرحينِ عميقين من يديه القطيعتين ...
التفت إلى عروسه الصغيرة المشتملة على السلاح ، وقال :
ــ ما بالك يا .. ؟
أجابته مقاطعة بحزم وإصرار :
ــ فداك أبي وأُمّي ، قاتلْ دون الطيبين .
ــ سبحان الله .. كنتِ تنهينني عن القتال والآن جئتِ تقاتلين معي !
أجابته بحرقة وحسرة :
ــ لا تلمني ... فإنّ واعية ( الحُسين) قد مزّقت قلبي ، وهو يقولُ : وا
قلّة ناصراه ! !
لحظات قليلة
غسلها بدمائه الزكية ، وهو يشقُّ جداول الفيض ، ويفتح مساحات أُخرى للنور .
ثم فُتح الباب ... ليتحرّر إلى الأبد ، من هذا الأسر القاسي .