أما زيد الشهيد فهو ملئ فم الدنيا في فضله وعلمه وشممه وإبائه ، وهو أحد أعلام الأسرة النبوية الذين رفعوا كلمة الله عالية في الأرض ، وقدموا أرواحهم قرابين خالصة لوجه الله ليحققوا العدالة الاسلامية ، ويعيدوا بين الناس حكم القرآن ، ويقضوا على معالم الظلم الاجتماعي التي أوجدها الحكم الاموي بين الناس ، ونلمع الى بعض سيرته وشئونه.
ولادته
كانت ولادة زيد الشهيد سنة ( ٧٨ ه )1 وقيل سنة ( ٧٥ ه )2 ولما بشر به أبوه الامام زين العابدين (ع) أخذ القرآن الكريم وفتحه متفائلا به فخرجت الآية الكريمة﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ... ﴾ 3فطبقه وفتحه ثانيا فخرجت الآية﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ﴾ 4وطبق المصحف ثم فتحه فخرجت الآية﴿ ... وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ ... ﴾ 5وبهر الامام وراح يقول : « عزيت عن هذا المولود وانه لمن الشهداء . »6
لقد تنبأ الامام (ع) بشهادة ولده واحاط أصحابه علما بها ، فلم يخامرهم شك في ذلك.
نشأته
نشأ زيد في بيوت النبوة والامامة ، وتغذى بلباب الحكمة ، فكان أبوه الامام زين العابدين الذي هو أفضل انسان في عصره يتعاهده بالآداب ، ويرسم له طرق الهداية والخير ، فتأثر بسلوكه ، وانطبعت في دخائل نفسه نزعاته المشرقة ، فكان البارز من صفاته ـ فيما يقول المؤرخون ـ الزهد والورع ، والتحرج في الدين ، فلم يتبع قيادة نفسه وإنما آثر رضا الله وطاعته على كل شيء.
وقد لازم منذ نعومة اظفاره أخاه الامام الباقر الذي هو خليفة أبيه ووصيه ، ووارث علومه ، ومن الطبيعي ان لهذه الصحبة أثرا فعالا في سلوكه وتكوين شخصيته ، فقد كان في هديه يضارع هدي آبائه الذين طهرهم الله من الرجس والزيغ وأبعدهم عن مآثم هذه الحياة.
عبادته وتقواه
وأخلص زيد في العبادة والانابة لله ، فكان من أبرز المتقين في عصره يقول عاصم بن عبيد العمري : « رأيته وهو شاب بالمدينة يذكر الله فيغشى عليه ، حتى يقول القائل ما يرجع الى الدنيا »7 وكان يعرف عند أهل المدينة بحليف القرآن8 وقد أثر السجود بوجهه7 لكثرة صلاته طوال الليل 9 لقد اتجه بعواطفه ومشاعره نحو الله ،وسلك كل ما يقربه إليه زلفى.
علمه وأدبه
وكان زيد من علماء عصره البارزين ، وكان موسوعة في الحديث والفقه والتفسير واللغة والأدب ، وعلم الكلام ، وقد سأل جابر الامام الباقر (ع) عن زيد فأجابه (ع) « سألتني عن رجل ملئ ايمانا وعلما من أطراف شعره الى قدمه. »10.
وقال (ع) فيه : « ان زيدا أعطي من العلم بسطة »11 وقد تحدث زيد عن سعة علومه ومعارفه حينما أعد نفسه لقيادة الأمة ، والثورة على الحكم الأموي ، يقول :
« والله ما خرجت ، ولا قمت مقامي ، هذا ، حتى قرأت القرآن ، وأتقنت الفرائض واحكمت السنة والآداب ، وعرفت التأويل كما عرفت التنزيل ، وفهمت الناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه ، والخاص والعام ، وما تحتاج إليه الأمة في دينها مما لا بد لها منه ، ولا غنى عنه وأني لعلى بينة من ربي ... »12.
لقد كان زيد من اعلام الفقهاء ومن كبار رواة الحديث ، وقد أخذ علومه من أبيه الامام زين العابدين (ع) ومن أخيه الامام الباقر (ع) الذي بقر العلم حسبما أخبر عنه جده الرسول (ص) وقد غذياه بانواع العلوم وأخذ عنهما أصول الاعتقاد والفروع والتفسير ، فكان من الطراز الأول في فضله وعلمه ...
وإن من أوهى الاقوال ما ذهب إليه الشهرستاني من انه تتلمذ لواصل بن عطاء واخذ عنه الاعتزال يقول : « أراد ـ يعني زيدا ـ أن يحصل الاصول والفروع حتى يتحلى بالعلم فتتلمذ في الاصول لواصل بن عطاء رأس المعتزلة مع اعتقاد واصل بأن جده علي بن أبي طالب (ع) في حروبه التي جرت بينه وبين أصحاب الجمل وأصحاب الشام ما كان على يقين من الصواب ، وان أحد الفريقين منهما كان على خطأ لا بعينه فاقتبس منه الاعتزال .. »13
أما هذا الرأي فلا يحمل أي طابع من التوازن والتحقيق فان زيدا لم يقتبس علومه من واصل ، وإنما أخذها من أبيه وأخيه اللذين أضاءا الحياة الفكرية والعلمية في الاسلام.
وقد استمد الفقهاء ورؤساء المذاهب الاسلامية علومهم مما أخذوه من أئمة اهل البيت (ع) أما مباشرة او من أحد تلامذتهم ، فكيف يذهب زيد الى واصل14 لأخذ العلم عنه؟ ويذهب الشيخ أبو زهرة الى ان التقاء زيد بواصل كان التقاء مذاكرة وليس التقاء تلميذ عن استاذ فان السن متقاربة ، وزيد كان ناضجا ... واضاف قائلا : إنه تلقى فروع الاحكام من أسرته ، وفي المدينة مهد علم الفروع15.
لقد أخذ زيد علومه من أبيه وأخيه ، وكان من اعلام الفقهاء في عصره وقد روى عنه أبو خالد الواسطي مجموعة في الفقه تتناول العبادات والمعاملات اسماها ( مسند الامام زيد ) وقد ذكرنا ما يواجه هذا الكتاب من المؤخذات في درستنا عن عقائد الزيدية16.
أما مكانة زيد الأدبية فقد كان من الطراز الأول في الأدب والبلاغة وكان يشبه جده الامام أمير المؤمنين (ع) في فصاحته وبلاغته 17 ويقول المؤرخون : إنه جرت بين زيد وبين جعفر بن الحسن منازعة في وصية فكانا إذا تنازعا انثال الناس عليهما ليسمعوا محاورتهما فكان الرجل يحفظ على صاحبه اللفظة من كلام جعفر ويحفظ الآخر اللفظة من كلام زيد فاذا انفصلا وتفرق الناس فيكتبون ما قالاه : ثم يتعلمونه كما يتعلم الواجب من الفرض والنادر من الشعر والسائر من المثل وكانا أعجوبة دهرهما واحدوثة عصرهما18 وكان سيبويه يحتج بما أثر عن زيد من الشعر ، ويستشهد به فيما يذهب إليه واعترف خصمه الطاغية هشام بقدراته الأدبية ، وبراعته في الكلام فقال : « إنه حلو اللسان ، شديد البيان ، خليق بتمويه الكلام »19 وقد حفلت مصادر الأدب والتأريخ بالشيء الكثير من روائع حكمه وهي من غرر الكلام العربي20.
_____________
1. تهذيب ابن عساكر ٦ / ١٨.
2. الحدائق الوردية ١ / ١٤٣.
3. القران الكريم: سورة التوبة (9)، الآية: 111، الصفحة: 204.
4. القران الكريم: سورة آل عمران (3)، الآية: 169، الصفحة: 72.
5. القران الكريم: سورة النساء (4)، الآية: 95، الصفحة: 94.
6. الروض النضير ١ / ٥٢.
7. a. b. مقاتل الطالبين ( ص ١٢٨ ).
8. مقاتل الطالبين ( ص ١٣٠ ).
9. الخرائج والجرائح ( ص ٣٢٨ ).
10. مقدمة مسند الامام زيد ( ص ٨ ).
11. مقدمة مسند الامام زيد ( ص ٧ ).
12. الخطط والآثار للمقريزي ٢ / ٤٤٠.
13. الملل والنحل المطبوع على هامش الفصل ٢ / ٢٠٨.
14. كان واصل بن عطاء الثغ قبيح اللثغة في الراء ، فكان يخلص كلامه من الراء وفيه يقول الشاعر :
ويجعل البر قمحا في تصرفه وخالف الراء حتى احتال للشعر
ولم يطق مطرا والقول يعجله فعاد بالغيث اشفاقا من المطر
جاء ذلك في وفيات الاعيان ٥ / ٦٠.
15. الامام زيد ( ص ٢٢٥ ) لمحمد أبو زهرة.
16. طبع بعض هذا الكتاب في المسائل الدينية التي تصدر في كربلا والبعض الآخر لا يزال مخطوطا.
17. الحدائق الوردية ١ / ١٤٤.
18. زهر الآداب ١ / ٨٧.
19. تأريخ اليعقوبي ٢ / ٣٩٠.
20. المصدر: كتاب حياة الإمام محمّد الباقر عليه السلام دراسة وتحليل للعلامة الشيخ باقر شريف القرشي رحمه الله.