قصة المباهلة :
هذه القصة ذكرها السيد ابن طاووس في أواخر كتابه الإقبال بصورة مفصلة كما ذكرها كل من تعرض لتفسير هذه الآية المباركة من مختلف المذاهب والمشارب وخلاصتها : أن النبي محمداً صلى الله عله وآله وسلم عندما فتح مكة المكرمة ودانت أكثرية القبائل العربية بل وغيرهم حيث كاتب كسرى وقيصر يدعوهما إلى الإسلام وإلا أقرا بالجزية والصغار ، فكبر شأنه وعظم قدره وكتب إلى نصارى نجران كتاباً ومن جملة ما جاء فيه : {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يقاتل قوماً حتى يدعوهم إلى الإسلام .
وبعد هذا اجتمع النصارى إلى بيعتهم الكبرى وبعد اجتماعهم وتشاورهم والأخذ والرد وانقسامهم إلى مؤيد للحرب بل والإصرار عليها وبين معارض ومحذر من وخامتها وقد قام كل فريق يخطب بخطب رنانة تؤيد رأيه في الحرب أو السلم والمناقشة ، ثم استقر الرأي بعد مناقشة طويلة ومساجلة عريضة على تشكيل وفد من رهبانهم وأساقفهم وكبار الشخصيات عندهم فكانوا أربعة عشر راكباً من نصارى نجران وسبعين رجلاً من أشراف بني الحرث بن كعب وسادتهم .
ودخلوا مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأرادوا أن يصلوا إلى المشرق فأراد الناس أن يمنعوهم فكفهم رسول الله صلى الله عليه وآله عنهم حتى مضت عليهم ثلاثة أيام وهم يراقبون هدي رسول الله صلى الله عليه وآله وأخلاقه ويطبقون الصفات الموجودة عندهم من الكتب القديمة على هذا النبي المبعوث فرأوها متطابقة .
ثم دعاهم رسول الله صلى الله عليه وآله إلى الإسلام فقالوا يا أبا القاسم إنّا وجدنا ما أنبأتنا به كتبنا موجودة ما عدى خلة واحدة وهي : أن النبي المبعوث بعد المسيح عليه السلام يصدق ويؤمن به وأنت لا تؤمن به . فقال النبي صلى الله عليه وآله بل أصدقه وأصدق به وآمن به وأقول إنه عبد لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ولا حياة ولا نشورا . قالوا : وهل يستطيع أن يفعل ما كان يفعل ألم يكن يحيى الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص وهل أحد يستطيع ذلك غير الله أو ابن الله .. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : ذلك بإذن الله عز وجل وهو لله عبد ، ثم تلا عليهم قوله تعالى : {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [1] فقالوا وهذا الأمر الذي لا نقرك عليه فهلمَّ نلاعنك أينا أولى بالحق فنجعل لعنة الله على الكاذبين فأنزل الله آية المباهلة :
{فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [2]
فتلا رسول الله صلى الله علي وآله ما نزل عليه في ذلك من القرآن فقال صلى الله عليه وآله : إن الله قد أمرني أصير إلى ملتمسكم وأمرني بمباهلتكم إن أقمتم وأصررتم على قولكم . قالا : وذلك آية ما بيننا وبينك ، إذا كان غداً باهلناك .
ثم قاما وأصحابهما من النصارى معهما فلما بعدا وقد كانوا أنزلوا بالحرَّة أقبل بعضهم على بعض فقالوا : قد جاءكم هذا بالفصل من أمره وأمركم فانظروا أولاً بمن يباهلكم أبكافة أتباعه أم بأهل الكتاب من أصحابه أو بذوي التخشع والتمسكن والصفوة ديناً وهم القليل منهم عدداً .
فإن جاءكم بالكثرة وذوي الشدة فإنما جاءكم مباهياً كما يصنع الملوك فالفلج إذا لكم دونه .
وإن أتاكم بنفر قليل ذوي تخشع فهؤلاء سجية الأنبياء وصفوتهم وموضع بهلتهم وإياكم والإقدام إذاً على مباهلتهم .
فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشجرتين وكسح ما بينهما وأمهل حتى إذا كان من الغد أمر بكساء أسود رقيق فنشر على الشجرتين . ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وآله آخذاً بيد علي والحسن والحسين أمامه وفاطمة عليهم السلام أجمعين خلفهم فأقبل بهم حتى أتى الشجرتين فوقف من بينهما من تحت الكساء على مثل الهيئة التي خرج من هجرته فأرسل إليهما يدعوهما إلى ما دعاه إليه من المباهلة فأقبلا إليه فقالا : بمن تباهلنا يا أبا لقاسم ؟
قال : بخير أهل الأرض وأكرمهم على الله وأشار لهما إلى علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام .
ثم إن وفد نصارى نجران امتنع من مباهلة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما رأوه قد خرج بخاصته وما هم عليه من الخشوع والعظمة وعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على حق وأنه نبي من قبل الله ولو باهلوه لنزل عليهم العذاب .
فأرسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علياً عليه السلام لمصالحة القوم فقال علي عليه السلام : بأبي أنت .. على ما أصالحهم فقال له رأيك يا أبا الحسن فيما تبرم معهم رأيي . فصار إليهم فصالحاه على ألف حُلّة وألف دينار خرجاً في كل عام يؤدين شطر ذلك في المحرم وشطراً في رجب فصار علي عليه السلام بالسيد والعاقب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله ذليلين وأخبره بما صالحهما عليه وأقرا له بالخراج والصغار .
فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله قد قبلت منكم .. أما أنكم لو باهلتموني بمن تحت الكساء لأضرم الله عليكم الوادي ناراً تأجج ثم لساقها الله إلى من ورائكم في أسرع من طرفة عين فحرقهم تأججاً .
هذا خلاصة ما رواه السيد ابن طاووس في كتابه الإقبال حول هذه الحادثة وقد ذكرها بشكل مفصل وقد روى أيضاً هذه القصة جميع المفسرين للقرآن الكريم عند تعرضهم لتفسير هذه الآيات المباركة وقد أجمع المفسرون والمحدثون من علماء المسلمين على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم أن رسول الله صلى الله عليه وآله لم يخرج في وقت المباهلة بأحد غير هؤلاء الأربعة : علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام .
وهنا عدة أمور ينبغي الالتفات إليها :
1- أن هذه الحادثة دليل قاطع على صحة دعوى رسول الله صلى الله عليه وآله النبوة .
2- أنها دليل أيضاً على عظم قدر رسول الله صلى الله عليه وآله وعلو مقامه الشريف .
3- أن هذه القصة بحكاية القرآن من الأدلة الواضحة على شرف وفضل وعلو مقام هؤلاء الأربعة الذين خرج بهم الرسول صلى الله عليه وآله ولو كان أحد أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله من هؤلاء أو أفضل منهم عند الله تبارك وتعالى في هذه الأمة لخرج بهم رسول الله صلى الله عليه وآله وقد اعترف بهذه الفضيلة لهؤلاء الأربعة الخاص والعام والموالي لهم والمعادي .
4- في هذا اليوم أعز الله سبحانه دينه ونبيه صلى الله عليه وآله ونصرهما على النصارى فأصبحوا تحت راية الإسلام يدفعون الجزية وهم صاغرون وهذا فتح كبير بعد فتح مكة المكرمة وأصبح الإسلام هو المسيطر على العالم بل وهو القائد وبقية الأمم مقودة إليه واعتز المسلمون بعز الإسلام .