إنّه صلّى الله عليه وآله نبيُّ الرحمة والسلام. لكنّ تحقيق الرحمة والسلام كان غير ممكن بدون تحقيق القضيّة الإسلامية، فقد قَرَن القرآنُ الكريم السلامَ بالإيمان، ودعا المؤمنين إلى السلم؛ لأنّه هدف إنسانيّ شامل: يا أيّها الذين آمنوا ادخلوا في السِّلْم كافّةً ولا تَتَّبعوا خُطُواتِ الشيطانِ إنّه لكم عَدوٌّ مُبين .
ومن هذا المنطلق الإلهي المنقذ.. تجلّى الصراع، وازدادت حدّتُه، ونَجَمت المعارك التي كانت محتومةً لا رادَّ لها. لقد كان أعداء الله لا يعرفون غير العنف، فكان الردّ على العنف بالعنف، هو الجواب الوحيد الذي أنجزته مرحلة ما بعد الهجرة.
* * *
إنّ تضليل بعض المستشرقين وبعض المؤرّخين الغربيين ـ إيها الأصدقاء ـ إنما يكمن في التركيز السيّئ على كلمة ( غزو ) بمفهومها الجاهليّ. أي أنّ كلمة ( غزو ) جُرِّدت من معناها التوحيديّ الثوريّ، وأُعطيت معناها الجاهليّ.. حيث كان الغزو لأجل السلب والنهب والانتقام هو المسلك السائد.
إنّ الغزو الإسلاميّ كان يحمل مضموناً تحريرياً، هو مضمون ضرب معسكر الكفر والوثنية في مواطن ضعفها، وفي مناطقها الحسّاسة.. تمهيداً لضربها في الصميم. ومن هنا كان المنطق الإسلاميّ يحدّد معنى كلمة الغزو بالجهاد، الذي هو مبدأ وفريضة ونهج. والجهاد هو المقاتَلة في سبيل الله، ومن أجل خير المجتمع وأمنه وسلامه، وذلك بدحر الوثنيّة والسمات الشرّيرة في الحياة الجاهلية.
ولقد تلازَم في الإسلام جهاد النفس مع الجهاد من أجل الحقّ؛ فجهاد النفس هو صميم الجهاد ولُبُّه، لأنّه يعني خَلق الإنسان الجديد من بين مواصفات الإنسان التقليدي، بكلّ أبعاد وضعه الاجتماعيّ والثقافيّ الشائع.
من هنا ـ أيها الأصدقاء ـ كانت تطبيقات النبيّ العسكرية قائمة على أهمية النوع، لا على أهميّة الكمّ.. على الصعيد البشريّ، ومن حيث البنية العسكرية.
ففي أُولى معارك الإسلام.. حارب المسلمون قريشاً في بدر، وكانوا قلّةً لا يتجاوز عددهم ثلاثَمئة وبضعة عشر رجلاً، ولم يكن معهم من وسائل الركوب سوى سبعين بعيراً يتعقّبون عليها. وكانت تنقصهم مُعدّات القتال كالدروع، كما كانت قوّة الفُرسان معدومة، إذ لم يكن لهم سوى فرسين.. في حين كان عدوّهم يفوقهم عدداً وعدّة. وكان النبيّ صلّى الله عليه وآله في هدير المعركة.. أقربَ الناس إلى العدوّ، وأشدَّهم بأساً، وكان أصحابه يلوذون به. وهذا ما قاله أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام المعروف بشجاعته النادرة التي كانت وظلّت مضربَ الأمثال على طول العهود.
وكان حُكمُ السيف الهادر لعليّ عليه السّلام ـ دفاعاً عن الحقّ ـ قد صَرَع سبعةً وعشرين من المشركين القرشيّين، وحُسِمَت المعركة لمصلحة الإسلام الذي ازداد بها نفوذاً وقوّة.