1ـ الحالة الدينية في الجزيرة العربية :
إلى جانب عبادة الأصنام والأوثان، ظهرت جماعة من العرب، أنكروا عقائدها الباطلة، واستاءوا من دينها، كما كان اليهود يتوعّدون أهل الأصنام بالنبي قائلين: ليخرجن نبي فليكسّرن أصنامكم. وجاء أيضاً أنّ الأحبار من اليهود والرهبان من النصارى والكهّان من العرب، قد تحدّثوا بأمر رسول اللّه قبل مبعثه. وظهر كذلك من انتقد عبادتهم من فئة العقلاء وأصحاب الفكر الثاقب، فكان ذلك بمثابة جرس إنذار باقتراب سقوط دولة الوثنيّين وانقراضها واشتهر من هؤلاء بين العرب أربعة:
1. ورقة بن نوفل، الذي اختار النصرانية.
2.عبيد اللّه بن جحش، الذي أسلم عند ظهور الاِسلام.
3.عثمان بن الحويرث، الذي تنصّر عند ملك الروم.
4.زيد بن عمرو بن نفيل، الذي قال: أعبد رب إبراهيم.(1)
2. مكانة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عند قريش
حينما كان (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في عمر 35 عاماً واجه اختلافاً كبيراً بين قريش، تمكن بحكمته من إزالة ذلك التخاصم،ممّا كشف عن مدى الاحترام الذي حظا به عند قريش. فعندما هُدمت الكعبة بسبب سيل عظيم، قام القوم بإعادة بنائها، إلاّ أنّهم اختلفوا في وضع الحجر الاَسود في مكانه، فتنازع زعماء قريش فيمن يتولى وضعه،ممّا أخّر عملية البناء مدة خمسة أيّام، وكادت أن تنشب فيما بينهم بسببه حرب دامية، وربما طويلة،حتى قام فيهم شيخ منهم وقال: يا معشر قريش اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أوّل من يدخُل من باب هذا المسجد يقضي بينكم فيه. فقَبِلُوا رأيه فكان أوّلَ داخل عليهم محمّد رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقالوا: هذا محمّد الأمين، رضينا، هذا محمّد. فقال ص: هلمَّ إليَّ ثوباً فأخذ الحجر ووضعه فيه و قال: لتأخذ كلّ قبيلة بناحية من الثوب ثمّ ارفعوه جميعاً. ثمّ وضعه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بيده في مكانه.(2)
3. إيمان النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) و آبائه وكفلاؤه قبل الإسلام :
تدلّ الدلائل التاريخية والعقلية والمنطقية، على أنّ النبي الاَكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لم يعبد غيرَ اللّه منذُ ولد حتى رحل إلى ربّه، وكذلك ما كان عليه آباؤه وكفلاؤه.
فجدّه عبد المطلب، طلب من اللّه وهو في الكعبة أن يرد هجوم أبرهة ويهزم جيشه، فقد كان الموحّد الذي لا يلتجىَ في المصائب والمكاره إلى غير كهف اللّه. كما أنّه كان يستسقي بالتوسّل إلى اللّه تعالى. وقد اعترف الموَرّخون بذلك، فقد ذكر اليعقوبي: (ورفض عبد المطلب عبادة الاَوثان والاَصنام، ووحّد اللّه عزّ وجلّ، ووفى بالنذر، وسنّ سنناً نزل القرآن بأكثرها، وجاءت السنّة الشريفة من رسول اللّه بها، وهي الوفاء بالنذر، ومائة من الإبل في الدية، وألا تنكح ذاتُ محرم، ولا توَتى البيوت من ظهورها، وقطع يد السارق،والنهي عن قتل الموَودة، وتحريم الخمر، وتحريم الزنا والحدّ عليه، والقرعة، وألاّ يطوف أحد بالبيت عرياناً،وتكريم الضيف،وألا ينفقوا إذا حجّوا إلاّ من طيب أموالهم،وتعظيم الأشهر الحرم، ونفي ذات الرايات).(3)
كل ذلك يؤكد تماماً توحيده وإيمانه باللّه واعترافه برسالة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) .
وكذلك كان عمّه أبو طالب، فله مواقف كثيرة بارزة قبل البعثة، تكشف عن عمق إيمانه وتوحيده، فقد اعتبر حامي الدين والمدافع عن المسلمين، آمن بالنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) واعتبره في قمة الكمال الإنساني، بالإضافة إلى أنّه أحلّه من قلبه محلَ الابن والأخ، فكان يصحبه معه إلى المصلّى، ويستسقي به، حيث كانت دعوته تُستجاب دون تأخير، كما اصطحبه معه في سفره إلى الشام، كما أنّ دفاعه عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لم يكن مادياً، فلم يقصد من وراء ذلك كسباً مادياً من مال وثروة، كما لم يهدف للحصول على جاه ومقام وإحراز مكانة اجتماعية مرموقة، لاَنّه كان يمتلك في المجتمع أعلى المناصب، فقد كان رئيساً لمكّة المكرّمة، بل إنّه فقد منصبه ومكانته بسبب موقفه الموالي للنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وعدم الاستجابة لقومه في تسليمه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لهم، ممّا استوجب سخط الزعماء عليه واستياءهم منه، وإظهار العداء له ولبني هاشم عامة.
فالقول بأنّ تضحية أبي طالب في سبيل النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالنفس والنفيس كان بدافع علاقة القربى والعصبية القبلية، تصوّر باطل، إذ أنّذلك كان بدافع اعتقاده الراسخ برسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الذي اعتبره مظهراً كاملاً للفضيلة والإنسانية، وأنّ دينه أفضل برنامج للسعادة. ولما كان يحب الحقيقة والكمال والحقّ، فقد كان من الطبيعي أن يدافع عن تلك الفضائل وينصرها بكلّ جهوده وقواه.(4)
كما أنّ هناك مواقف محددة تؤكد المعنى السابق:
فقد أصدر تهديداً بمحاربة رجال قريش بالسلاح، إذا أقدموا على أي سوء نحو النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقد حافظ على حياته (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لفترة 42 عاماً، ودافع عنه، وخاصةً في سنوات البعثة العشرة، فهو قد تولى مهمة كفالته والدفاع عنه والمحافظة على حياته بصدق وإخلاص، بالنفس والمال، وإيثاره على نفسه وأولاده والإنفاق عليه من ماله، منذ صِغَره (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وحتى الخمسين من عمره. ولذا كان لفقده أكبرُ الأثر على سير الدعوة الإسلامية.
وهو ما دفع ابن أبي الحديد المعتزلي أن ينشد بيتين يوضح تضحيته هو وابنه علي (عليه السلام) :
و لـولا أبـو طـالب وابنــُه لما مثلُ الدّين شخصاً وقاما = فـذاك بمكـة آوى وحامـى وهذا بيثرب جسّ الحِمامـا(5)
ويمكن التعرّف على إيمانه و إخلاصه عن طريق أشعاره وخدماته القيّمة في السنوات العشر الأخيرة من عمره، فمن قصائده المطولة نختار البيتين التاليين:
ليعلم خيارُ النـاس أنّ محمـّداً نبيُّ كموسى والمسيحِ بن مريم = أتـى بهـدى مثلمـا أتيــا بــه فكلّ بأمر اللّه يهدي ويعصم(6)
لقد كان إيمانه قوياً لدرجة أنّه رضى بأن يتعرض كل أبنائه لخطر القتل والاغتيال ليبقى محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) دون أن يمسّه أعداؤه بأيّ سوء. كما أنّه أوصى أولاده عند وفاته قائلاً: أُوصيكم بمحمّد خيراً فإنّه الاَمين في قريش، وهو الجامع لكلّما أوصيكم به. كونوا له ولاةً، ولحزبه حماةً، واللّه لا يسلك أحد منكم سبيله إلاّ رَشَد ، ولا يأخذ أحد بهديه إلاّ سعد.(7)
وبينما كفّره البعض من علماء السنة، إلاّ أنّ منهم من حكموا بإسلامه وبإيمانه، مثل: (زيني دحلان) مفتي مكة (المتوفّى 1304هـ)، وقد تمادى بعض منهم في توسيع دائرة الكفر فشملت آباء النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ، و كان ذلك من آثار الحكومات الأموية والعباسية التي عملت بكلّ جهدها لتأكيد كفر أبي طالب والإعلام ضدّ إيمانه، لأنه كان والد الإمام علي (عليه السلام) الذي اجتهدت الأجهزة الإعلامية لتلك الحكومات في الحط من شأنه دوماً، وخاصةً إنّ إسلامه مع أبيه كان يعد فضيلة بارزة من فضائله.
أمّا علماء الشيعة الإمامية والزيدية فقد اتّفقوا على أنّه كان من أبرز المؤمنين برسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولم يخرج من الدنيا إلاّ بقلب يفيض إيماناً بالإسلام وإخلاصاً للّه تعالى وحباً للمسلمين.(8)
وأمّا أقاربه وما قدّموه من أفعال وأقوال تؤكد موقفه الاِيجابي، فإنّ النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) دفنه بنفسه. كما أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) أجاب عندما سئل عن إيمانه قال: ( واعجباً، إنّ اللّه تعالى نهى رسوله أن يقرّ مسلمة على نكاح كافرٍ، وقد كانت (فاطمة بنت أسد) من السابقات إلى الإسلام لم تزل تحت أبي طالب حتى مات).
وقال (عليه السلام) : (ألم تعلموا أنّ أمير المؤمنين علي (عليه السلام) كان يأمر أن يحجّ عن عبد اللّه وأبيه).
وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : (إنّ مَثَل أبي طالب مَثَل أصحاب الكهف أسرّوا الإيمان وأظهروا الشرك، فآتاهم اللّه أجرهم مرّتين،وكذلك أبو طالب).(9)
ومن المعروف، أنّه للتعرف على عقيدة فردٍ ونمط تفكيره،ينبغي الاعتماد على:
ـ دراسة آثاره العلمية والأدبية وما تركه من أقوال وكلمات.
ـ و أسلوب عمله وتصرفاته في المجتمع.
ـ و آراء أقربائه ومعارفه حوله.
وكلّ تلك الجوانب أكدت إسلام أبي طالب، حامي الرسول العظيم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ، فتسقط كلّ الأقاويل والأحاديث التي بثّها أعداؤه للحط من شأنه وإلصاق الكفر به.
وكذلك كان أبو النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عبد اللّه، فقد ذكر النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إنّه انتقل في الأرحام المطهّرة ممّا يؤَكّد طهارة آبائه وأُمّهاته من كلّ دنس وشرك.
وقد أشار الشيخ المفيد إلى أنّ الأمامية تتفق على أنّ آباء رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من لدن آدم إلى عبد اللّه بن عبد المطلب كانوا موَمنين باللّه وموحّدين إيّاه، واحتجّوا في ذلك بالقرآن والأخبار.
النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قبل البعثة :
تدلّ الشواهد التاريخية بالإضافة إلى البراهين العقلية، على أنّه ص كان مؤمناً باللّه وموحّداً إيّاه قبل البعثة، فلم يعبد وثناً قط، ولم يسجد لصنم أبداً. وقد أجمع المؤرّخون على أنّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان يخلو بحراء أشهراً كلّ عام يعبد اللّه تعالى فيه، فقد ذكر الإمام علي (عليه السلام) : (ولقد كان يجاور في كلّسنة بحراء، فأراه ولا يراه غيري).(10)
حتى وافاه جبرائيل (عليه السلام) بالرسالة في هذا المكان وفي تلك الحال، وقد صرح بهذا أيضاً أصحاب الصحاح الستة، وجاء في الأخبار أنّ الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حجّ قبل البعثة عدّة حجّات، وكان يأتي بمناسكها على وجه صحيح بعيداً عن أعين قريش، فقال الإمام الصادق (عليه السلام) : (حجّ رسول اللّه عشر حجّات مستتراً في كلّه).(11)
وكلّ تلك الوقائع أصدق دليل على إيمانه وتوحيده، وهو النبي الخاتم والأفضل من جميع الأنبياء والمرسلين بنصّ القرآن الكريم. وجاء عن (العلاّمة المجلسي)، أنّه قد وردت أخبار كثيرة أنّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان يطوف ويعبد اللّه في حراء، ويرعى الآداب المنقولة من التسمية والتحميد عند الأكل وغيره،فكيف يمكن للّه تعالى أن يهمل أفضل أنبيائه أربعين سنة بغير عبادة (12)
نبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان مؤمناً موحّداً عابداً للّه ساجداً قائماً بالفرائض العقلية والشرعية، مجتنباً عن المحرمات، عالماً بالكتاب ومؤمناً به إجمالاً،وراجياً لنزوله إليه، إلى أن بعثه اللّه لإنقاذ البشرية عن الجهل وسوقها إلى الكمال.
فكان (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أفضل الخلق وأكملهم خلقاً وخُلقاً وعقلاً، وأنّه كان يعمل حسب ما يُلهَم سواء كان مطابقاً لشرع ماقبله أم مخالفاً، وأنّ هاديه وقائده، منذ صباه إلى أن بُعِث هو نفس هاديه بعد البعثة.(14)
4. الوحي في غار حراء :
ويقع جبل حراء في شمال مكّة، ويستغرق الصعود إليه مدّة نصف ساعة، ويتكوّن من قطع صخرية لا أثر للحياة فيها. أمّا الغار فيقع في شمال الجبل، وهو يحكي ذكريات رجل طالما تردّد عليه وقضى الساعات والأيام والأشهر في رحابه، يتعبد اللّه ويتأمّل في الكون وفي آثار قدرة اللّه وعظمته. إذ أنّ النبي ص كان يفكّر في أمرين، قبل أن يبلغ مقام النبوة:
1. ملكوت السماوات والأرض، فيرى في ملامح كلّ من الكائنات نور الخالق العظيم وقدرته وعظمته، فتفتح عليه نوافذ من الغيب تحمل إلى قلبه وعقله النور الإلهي المقدّس.
2.المسئولية الثقيلة التي ستوضع على كاهله، فكان يفكر في فساد حياة المجتمع المكي، وكيفية رفع كلّ ذلك وإصلاحه.
وأمّا الرسالة الإلهية إليه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقد أمر اللّه تعالى جبرائيل (عليه السلام) بأن ينزل على أمين قريش في الغار ويتلو على مسامعه بضع آيات كبداية لكتاب الهداية والسعادة، معلناً بذلك تتويجه بالنبوة ونصبه لمقام الرسالة، وطلب منه أن يقرأ، أو قال: يا محمّد اقرأ، قال: وما أقرأ؟ قال يا محمّد( اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الّذي خَلَق * خَلَقَ الاِِنْسانَ مِنْ عَلَق * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكرم * الَّذِي عَلَّمَ بِالقَلَم * عَلَّمَ الإنسان ما لَمْ يَعْلَم) (15) ثمّ أوحى إليه ربّه عزّ وجلّ ما أمره به ثمّ صعد إلى العلوّ ونزل محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من الجبل، وقد غشيه من تعظيم جلال اللّه وورد عليه من كبير شأنه ما ركبه الحمى والنافض.
وقد أوضحت هذه الآيات برنامج النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وبيّنت بشكل واضح أنّ أساس الدين يقوم على القراءة والكتابة والعلم والمعرفة باستخدام القلم. ثمّ خاطبه الملك: (يا محمّد، أنت رسول اللّه، وأنا جبرائيل).
و قد اضطرب الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لهذين الحدثين، لعظمة المسؤولية التي أُلقيت على كاهله، فترك غار حراء متوجّهاً إلى بيت السيدة خديجة(عليها السلام) ، التي لاحظت الاضطراب و التعب على ملامحه فسألت عنه، فأجابها وحدّثها بكلّ ما سمع وجرى، فعظمت خديجة(عليها السلام) أمره ودعت له وقالت: (أبشر، فواللّه لا يخزيك اللّه أبد). ثم دثرته فنام بعض الشيء. ثمّ انطلقت إلى بيت ورقة تخبره بما سمعته من زوجها الكريم، فأجابها: إنّ ابن عمّك لصادق وإنّ هذا لبدء النبوة، وإنّه ليأتيه الناموس الأكبر ـ أي الرسالة والنبوة ـ .(16)
وقد اختلقت قصص كثيرة عن تخوّف النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) واضطرابه ممّا حدث له في الغار، ودسّت تلك الروايات في التاريخ والتفسير عن قصد وهدف أو دخلت فيها عن غير ذلك. فالنبي الكريم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كانت روحه مهيّأة من جميع الجهات وبصورة كاملة لتلقّي السرّ الاِلهي ـ النبوة ـ وما لم تكن نفسيته كذلك، فإنّ اللّه تعالى لم يكن ليمن عليه بمنصب النبوة ويختاره لمقام الرسالة، لاَنّ الهدف الجوهري من انبعاث الرسل و الأنبياء هو هداية الناس وإرشادهم. وتدل تلك القصص على أنّ ثمة يداً إسرائيلية وراءها فصاغتها، ولهذا فإنّ أئمّة الشيعة حاربوا هذه الأساطير بكل قوّة وأبطلوها برمّتها. فقد قال الإمام الصادق (عليه السلام) : (إنّ اللّه إذا اتّخذ عبداً رسولاً، أنزل عليه السكينة والوقار، فكان يأتيه من قِبَل اللّه عزّ وجلّ مثل الذي يراه بعينه).(17)
وفسر العلاّمة الكبير الطبرسي ذلك، بأنّ اللّه لا يوحي إلى رسوله إلاّ بالبراهين النيّرة والآيات البيّنة الدالة على أنّ ما يوحى إليه إنّما هو من اللّه تعالى فلا يحتاج إلى شيء سواها ولا يفزع ولا يفرق.(18)
أمّا بالنسبة إلى يوم مبعثه، فإنّ هناك اختلافاً فيه مثلما اختلف في يوم ولادته، فاتّفق علماء الشيعة على أنّه بُعث بالرسالة يوم 27 من شهر رجب، وأنّ نزول الوحي بدأ من هذا اليوم، بينما اشتهر عند السنّة أنّه حدث في شهر رمضان. فهناك فرق في نزول القرآن جميعه على الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ونزول الآيات الأولى عليه يوم المبعث. فالآيات التي تصرح بنزول القرآن في شهر رمضان في ليلة القدر المباركة، لا تدل على أنّ يوم المبعث ـ الذي نزلت فيه بضع آيات ـ، كان ذلك في الشهر نفسه، لاَنّ الآيات المذكورة الدالّة على أنّ القرآن نزل في شهر رمضان تدل على أنّ مجموع القرآن لا بعضه قد نزل في ذلك الشهر، في حين أنّه لم ينزل في يوم المبعث سوى آيات معدودة. كما أنّ تفسيراً آخر يوَكّد أنّ للقرآن الكريم وجوداً جمعياً علمياً واقعياً،وهو الذي نزل على الرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مرةً واحدةً في شهر رمضان، وآخر وجوداً تدريجياً كان بدء نزوله على النبي ص في يوم المبعث،واستمر نزوله إلى آخر حياته الشريفة على نحو التدريج. وهو ما قدّمه العلاّمة الطباطبائي من تفسير(19). كما أنّ ثمة قولاً آخر ذهب إلى أنّ ابتعاث الرسول بالرسالة في شهر رجب، لا يلازم نزول القرآن في ذلك الشهر حتماً.(20)
وأبرز ما في هذا الموضوع، أنّ الرسالة المحمّدية المباركة، بشّر بها جميع الأنبياء المتقدّمين زمنياً على خاتم الأنبياء والمرسلين محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأشار القرآن إلى ذلك في آيات كثيرة.
والأمر الهامّ الآخر، إنّه كان خاتم الأنبياء والمرسلين، فلا نبي بعده و لا رسالة، حيث قال (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : (أرسلت إلى الناس كافةً،وبي خُتِم النبيّون).(21)
5 ـ أوائل الموَمنين بالنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والدين الإسلامي :
بدأ انتشار الإسلام تدريجياً، وكان هناك سابقون كما كان هناك لاحقون،وعُدَّ السبق إلى الإيمان برسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في صدر الإسلام،معياراً للفضل، ولذا كان لابدّ من التعرف على هؤلاء السابقين. ومن المسلّمات، أنّ السيدة خديجة (عليها السلام) كانت أوّل امرأة آمنت به فلم
يختلف في هذا أحد. وخاصّة أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أكّد بنفسه ذلك في قوله: (آمنت بي إذ كفر الناس، وصدّقتني إذ كذّبني الناس).(22) فهي أوّل من التقته بعد نزول الوحي عليه في الغار، فآمنت به وصدقته.
كما أنّعلي بن أبي طالب (عليه السلام) كان أوّل من آمن به من الرجال، حيث اتّفق العلماء كلّهم على ذلك، إذ أنّ الإمام (عليه السلام) كان قد عاش في كنف النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حتى بعثه اللّه تعالى نبياً فاتّبعه وآمن به وصدّقه.(23) فكان ممّا أنعم اللّه به على الاِمام (عليه السلام) أنّه كان في حجر النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قبل الإسلام وهو دون الثامنة. فحينما أجدبت مكة وضواحيها وأصاب الناس أزمة شديدة، وكان أبو طالب كثير العيال، رأى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يخفّف عنه، فطلب من عمّه العباس أن يأخذ منه بعض عياله، فكفل العباس جعفراً، وكفل رسول اللّه علياً، وقيل أنّ حمزة أخذ جعفراً، والعباسُ طالباً، وأبو طالب عقيلاً، وقال رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) :(اخترت من اختار اللّه لي عليكم، علي) . (24)
ويظهر أنّ الهدف من ذلك كان هو أن يتربّى علي (عليه السلام) في حجر النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ويتغذّى من مكارم أخلاقه ويتبعه في كريم أفعاله.
ويؤكد الإمام (عليه السلام) موقفه بقوله: (اللّهمّ إنّي أوّل من أناب وسمع وأجاب، ولم يسبقني إلاّ رسول اللّه بالصلاة).(25)
كما جاء عن (عفيف الكندي) إنّه شاهد النبي صو زوجته و عليّاً (عليه السلام) يوَدّون الصلاة أمام الكعبة.(26)
وجاء في خطبة له (عليه السلام) قوله: (أنا الصديق الاَكبر، لقد صليت مع رسول اللّه قبل الناس سبع سنين، وأنا أوّل من صلّى معه).(27)
كما أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أكّد ذلك أيضاً في أحاديثه المتكررة: (أوّلكم إسلاماً علي بن أبي طالب).(28)
ومن أقوال الإمام علي (عليه السلام) في ذلك، يذكر حكيم مولى زاذان،إنّه قال، سمعت علياً يقول: (صلّيت قبل الناس سبع سنين، وكنّا نسجد ولا نركع،وأوّل صلاة ركعنا فيها صلاة العصر). (29)
و قال أيضاً: (بُعث رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يوم الاِثنين وأسلمت يوم الثلاثاء).(30)
و قد أكّد هذا الموقف أكثر من ستين صحابياً وتابعياً أيّدوا القول الذي يذكر أنّ الإمام علياً (عليه السلام) كان أوّل القوم إسلاماً.
و أشهر هؤلاء:
ـ أنس بن مالك : بُعث النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يوم الاِثنين وأسلم عليٌّ يوم الثلاثاء.
ـ بريدة الاَسلمي: ذكر نفس القول.
ـ زيد بن أرقم: أوّل من أسلم مع رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) علي بن أبي طالب، وأوّل من صلّى مع الرسول صعليّ، وأوّل من آمن باللّه بعد النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عليّ (عليه السلام) .
ـ عبد اللّه بن عباس: أوّل من صلّى عليّ.
لعليّ أربع خصال ليست لأحد هو أوّلُ عربيّ وأعجميّ صلّى مع رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ، كان عليّ أوّل من آمن من الناس بعد خديجة (عليه السلام) .
ـ سلمان الفارسي: أوّل هذه الاَُمّة وروداً على نبيّها الحوض أوّلها إسلاماً، علي بن أبي طالب (عليه السلام) .
ـ أبو رافع: مكث عليّ يصلّي متخفياً سبع سنين وأشهراً قبل أن يصلّي أحد.
ـ كما نقل نفس الأقوال والأعمال التي قام بها الإمام (عليه السلام) كلّمن:
أبو ذر الغفاري، خباب بن الاَرت، المقداد بن عمرو الكندي، جابر بن عبد اللّه الأنصاري، أبو سعيد الخدري، حذيفة بن اليمان، عمر بن الخطاب، عبد اللّه بن مسعود، أبو أيّوب الأنصاري، هاشم بن عتبة المرقال، مالك بن الحارث الاَشتر، عدي بن حاتم، محمد بن الحنفية، محمّد بن أبي بكر، عبد اللّه بن أبي سفيان، الحسن البصري، الإمام محمّد الباقر (عليه السلام) .(31)
6. دعوة الأقربين :
استمر النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يدعو إلى دينه سرّاً مدّة ثلاثة أعوام، عمد فيها إلى بناء الكوادر وإعدادها من أفراد محدّدين، كانوا السبب في أن ينجذب إلى الدين الجديد جماعة آخرون تقبّلت دعوته.
واشتهر من بين السابقين إلى الإيمان برسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : (32)
ـ السيدة خديجة بنت خويلد (عليها السلام)ـ علي بن أبي طالب (عليه السلام)
ـ زيد بن حارثة ـ الزبير بن العوام
ـ عبد الرحمن بن عوف ـ سعد بن أبي وقاص
ـ طلحة بن عبيد اللّه ـ أبو عبيدة الجراح
ـ أبو سلمة ـ الأرقم بن أبي الأرقم
ـ عثمان بن مظعون ـ قدامة بن مظعون
ـ عبد اللّه بن مظعون ـ عبيدة بن الحارث
ـ سعيد بن زيد ـ خباب بن الاَرت
ـ أبو بكر بن أبي قحافة ـ عثمان بن عفان
وكان النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يخرج مع بعض أتباعه إلى شعاب مكّة للصلاة فيها بعيداً عن أنظار قريش، إلاّ أنّ البعض منهم رأوهم يصلُّون، فحدث نزاعٌ قصيرٌ بين الطرفين،حين استنكروا فعلهم، وهو ما جعلَ النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقرر اتّخاذ بيت (الاَرقم بن أبي الاَرقم) مكاناً للعبادة(33) حيث آمن في هذا البيت عددٌ آخر من المشركين، كان أبرزهم : عمار بن ياسر، وصهيب بن سنان الرومي.
وقد ركّز الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) جهده في الدعوة السريّة، دون عجلة أو تسرّع، يعرض فيها دينه على كلّمن وجده أهلاً لتقبل المبادىَ السامية، من الناحية الفكرية، ففي خلال ثلاثة أعوام اكتفى بالاتّصال الشخصيّ بمن وَجَدَه مؤهلاً وصالحاً للدعوة ومستعداً لقبول الدين الجديد، ممّا ساعده في أن يكسب فريقاً من الاَتباع الذين اهتدوا إلى دينه بقبول دعوته.
أمّا زعماء قريش فإنّهم لم يعتنوا بالدعوة الجديدة، كما لم يتعرضوا بأي عمل عدائي للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بل ظلوا ينظرون إليه باحترام، مراعين قواعد الآداب والسلوك، في الوقت الذي لم يتعرض فيه النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أيضاً لأصنامهم وآلهتهم بسوء، ولا تناولها بالنقد والاعتراض بصورة علنية، وذلك أنّ زعماء قريش كانوا متأكدين من أنّ دعوته ستنتهي في العاجل بقولهم: إنّها أيّام وتنطفئ بعدها شعلة الدعوة هذه فوراً، كما انطفأت من قبل دعوة (ورقة وأُميّة) اللّذين دعيا إلى نبذ الوثنية واعتناق المسيحية،ثمّ نسي الأمر.
وقد جمع النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في السنوات الثلاث الأولى، أربعين شخصاً، لم يكن فيهم كفاية لاَن يصبحوا قوة دفاعية لحماية النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ورسالته، ممّا جعله يسعى إلى دعوة أقربائه، فكسر بذلك جدار الصمت،بالشروع في دعوة الأقربين ثمّ الناس أجمعين،فالنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان يوَمن ويعتقد أنّ أي إصلاح وتغيير لابدّ أن يبدأ من إصلاح الداخل وتغييره،ومن هنا أمره اللّه تعالى بأن يدعو عشيرته الاَقربين، الذين تمنّى أن يكوّنَ منهم سياجاً قوياً يحفظه ويحفظ رسالته من الأخطار المحتَملة: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الاََقْرَبين) (34) كما خاطبه بصدد دعوة الناس عامة ( فَاصْدَعْ بِما تُوَْمَرُ وَأَعْرِضْعَنِ الْمُشْرِكينَ* إِنّا كَفَيْناكَ المُسْتَهْزئِين) .(35)
وقد اتّخذ النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أُسلوباً مميزاً في دعوة أقربائه، إذ أنّه أعدّ لهم مائدةً كبرى، لـ45 فرداً من سراة بني هاشم ووجهائهم،ليكشف لهم أمر رسالته خلال تلك الضيافة، إلاّ أنّ الجو لم يناسب الحدث، فانفضّ المجلس دون تحقيق الغرض، ممّا اضطرّه إلى إعادتها في اليوم التالي. فقام النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بعد تناول الطعام، خطيباً فيهم وقال: (إنّ الرائد لا يكذب أهله، واللّه الذي لا إله إلاّ هو، إنّي رسول اللّه إليكم خاصةً وإلى الناس عامةً، واللّه لتموتنّ كما تنامون، ولتبعَثُنّ كما تستيقظون،ولتحاسبنّ بما تعملون، وإنّها الجنة أبداً والنار أبداً. يا بني عبد المطلب، إنّي واللّه ما أعلم شاباً في العرب جاء قومه بأفضل ممّا جئتكم به، إنّي قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني اللّه عزّ وجلّ أن أدعوكم إليه، فأيّكم يؤمن بي ويوَازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم؟) فقام علي (عليه السلام) وهو في الثالثة عشرة أو الخامسة عشرة من عمره قائلاً: (أنا يا رسول اللّه أكونُ وزيرُك على ما بعثك اللّه). وبعدما تكرّر هذا الموقف ثلاث مرّات، أخذ النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بيد عليّ (عليه السلام) والتفت إلى القوم قائلاً: (إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا ).
فضحك الجميع مستهزئين،وقالوا لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيعه وجعله عليك أميراً.(36)
إنّ هذا الإعلان عن وصاية الإمام علي (عليه السلام) وخلافته في مطلع عهد الرسالة وبداية أمر النبوة، يفيد أنّ هذين المنصبين ليسا منفصلين، فقد أعلنهما الرسول(صلّى الله عليه وآله وسلّم) في يوم إعلانه للدعوة والنبوة، ممّا يؤكد أنّ النبوة والإمامة يشكّلان قاعدة واحدة، وإنّهما حلقتان متصلتان لا يفصل بينهما شيء، كما أنّ موقف الإمام علي (عليه السلام) يكشف عن مدى شجاعته الروحية، حينما أعلن بكلّ جرأة وشجاعة، مؤازرة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في حضور قوم ضمّ شيوخهم وسادتهم،معلِناً استعداده للتضحية في سبيل دينه،وهو غلام لم يتعد الخامسة عشرة.
وقد تناول (أبو جعفر الاِسكافي) هذا الموقف موضحاً إذ كتب يقول:
هل يكلّف عمل الطعام،ودعاء القوم، صغيرٌ غير مميّز وغيرُ عاقل؟! و هل يؤتَمن على سرّ النبوة طفل؟! و هل يُدعى في جملة الشيوخ والكهول إلاّ عاقل لبيبٌ وهل يضع رسول اللّه ص يده في يده، ويعطيه صفقة يمينه بالأخوة والوصية والخلافة، إلاّ وهو أهلٌ لذلك، بالغُ التكليف، محتمل لولاية اللّه، وعداوة أعدائه، ما بالُ هذا الطفل لم يأنس بأقرانه ولم يلصق بأشكاله، ولم يُر مع الصبيان في ملاعبهم بعد إسلامه،ولم ينزَع إليهم في ساعة من ساعاته، بل ما رأيناه إلاّ ماضياً على إسلامه، مصمّماً في أمره، محقّقاً لقوله بفعله، ولصق برسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من بين جميع من حضره، فهو أمينه وأليفه في دنياه وآخرته.
7. الدعوة العامة وتطوّر ردود أفعال قريش تجاهها
بعد تلك السنوات الثلاث، عمد الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى إعلان الدعوة جهراً، حين وقف ذات يوم على صخرة عند جبل الصفا منادياً بصوت عالٍ: (أرأيتكم إن أخبرتكم إنّ العدو مصبحكم أو ممسيكم أكنتم تصدّقونني؟) قالوا: بلى. قال: (فإنّي نذير لكم بين يدي عذاب شديد).(37)فرد عليه أحدهم: تبّاً لك ألهذا دعوتنا؟ فتفرّق الناس على أثر ذلك. إلاّ أنّه بعد فترة من الدعوة العامة، تشكلت جماعة قوية متعاطفة متحابّة، من السابقين واللاحقين، أو القدامى والجدد، كانت بمثابة إنذار لأوساط الكفر والشرك والوثنية، وهم المخالفون،وقد تألّفت تلك الجماعة من قبائل مختلفة منعوا الكفّار من التعرض لهم، إذ لم يكن اتّخاذ أي قرار حاسم بحقّهم، أمراً سهلاً ومريحاً. ولذا قرر سادة قريش مواجهة قائد تلك الجماعة ومحركهم، بوسائل الترغيب والترهيب، بالإغراء والتطميع، والإيذاء والتهديد، واستمرت برامج قريش و موقفها من الدعوة بهذه الأساليب طيلة عشر سنوات هي عمر الدعوة العامة في مكة، حتى اتّخذوا قرارهم النهائي بالتخلّص منه بقتله،في الوقت الذي تمكن (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من إبطال مؤامرتهم وإفشالها بالهجرة إلى المدينة.
وقد بدأوا التحرك في مطالبة كفيله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أبي طالب بأن يبعد النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عنهم قائلين له: يا أبا طالب إنّ ابن أخيك قد سبّ آلهتنا، وعاب ديننا، وسفَّه أحلامنا، وضلّل آباءنا، فإمّا أن تكفّه عنّا، وإمّا أن تُخلّي بينا و بينه. إلاّ أنّ أبا طالب رَدّهم بقولٍ جميلٍ حكيمٍ.(38)
ولكن الدين الجديد انتشر بقوّة بين العرب، والقادمين إلى مكّة خلال الأشهر الحرم، فأدرك طغاة قريش أنّ محمّداً بدأ يفتح له مكاناً في قلوب جميع القبائل، فكثّر أنصاره منها، الأمر الذي دفعهم إلى مقابلة أبي طالب مرةً أُخرى، ليذكّروه إشارة وتصريحاً، بالأخطار التي أحدقت بهم وبعقائدهم نتيجة نفوذ الإسلام وقوّته : إنّا واللّه لا نصبرُ على هذا من شتم آبائنا وعَيب آلهتنا حتى تكفّه عنّا أو ننازله وإيّاك في ذلك، حتى يهلك أحد الفريقين. فسكّن غضبهم وأطفأ ثائرَتهم وهدّأ خواطرهم، ليتم معالجة هذه المشكلة بطريقةٍ أفضل.
فأتى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأخبره بأمرهم، فردّ عليه بالجواب التاريخي الخالد، والذي يعتبر من أسطع وألمع السطور في حياة قائد الإسلام الأكبر محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) :
(يا عمّ، واللّه لو وضعوا الشمس في يميني والقمرَ في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهِرَه اللّه، أو أهلك فيه، ما تركته). ممّا أثر في عمّه بتلك الكلمات العظيمة، فأظهر استعداده الكامل للوقوف إلى جانبه قائلاً: اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببتَ ،فواللّه لا أُسْلِمَكَ لشيءٍ أَبد).
وحاولت قريشٌ مساومة أبي طالب مرةً أُخرى، للتخلّص من النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ودعوته، إلاّ أنّه رفض أي نوع من المساومة في هذه القضية، محافظاً على محمّد ودينه.
فسلكوا طريقاً آخر، ووسيلة أجدى لإثناء النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن المضي في دعوته،وهي تطميعه بالمناصب والهدايا والأموال والفَتَيات الجميلات:فإن كنتَ إنّما جئتَ بهذا الحديث تطلبُ به مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثر مالاً، وإن كنتَ إنّما تطلب الشرفَ فينا فنحن نسوِّدُكَ ونشرِّفك علينا،وإن كان هذا الذي يأتيك تابعاً من الجنّ قد غلب عليك،بذلنا أموالنا في طِبّك.
إلاّ أنّ الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال لعمّه: (يا عمّ أريدهم على كلمةٍ واحدة يقولُونها،تدين لهم العرب، وتوَدّي إليهم بها العجم الجزية).
قالوا: ما هي؟ قال: (لا إله إلاّ اللّه). فقاموا فزعين قائلين: (أجعل الآلهة إلهاً واحداً إِنْ هذا لشيء عجابٌ) .(39)
8. استخدام الأساليب المتعدّدة لمنع انتشار الدعوة الجديدة
بعد استخدام أُسلوب الأخذ والردّ مع النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن طريق كفيله، وعدم جدواه، اضطرّت قريش إلى تغيير أُسلوبها ونهجها مع الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في منع انتشار دينه، مهما كلّف الثمن. فقرّروا اتخاذ سلاح السخرية والاستهزاء، والإيذاء والتهديد.
وكان أبو طالب من جانب آخر، قد طلب من بني هاشم جميعاً القيام بحماية النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ، فلبّوا نداءه سواء بدافع الإيمان أو الرحم، إلاّ أنّ ذلك لم يمنع من إيقاع الاَذى بالرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كلّما وجدوا الفرصة السانحة، وخاصةً إذا وجدوه وحيداً بعيداً عن أعين حماته.
إنّ التاريخ يشهد بأنّ وجود رجال ذوي بأس شديد وقوة بين صفوف المسلمين، مثل (حمزة) الذي أصبح فيما بعد أحد كبار قادة الاِسلام، كان لهم أثر كبير في حفظ الإسلام وحماية النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ودعم جماعته.فقد جاء عنه: لما أسلم حمزة عرفت قريش أنّ رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد عزّ وامتنع، فكفّوا عمّا كانوا يتناولون منه.(40)
أمّا أساليب قريش فتعددت في الإيذاء والإيقاع بالرسول وجماعته، فقد كمن أبو جهل للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حينما وقف للصلاة بين الركن اليماني والحجر الأسود، ليضربه بحجر، إلاّ أنّه رجع عن عزمه دون أن ينفّذ خطته، مجيباً أصحابه في ذلك: قمت إليه لأفعل به ما قلت لكم البارحة، فلمّا دنوتُ منه عرض لي دونه ما لا رأيت مثله في حياتي، فتركته.(41)
ولا شكّ أنّ قوةً غيبيةً أدركت الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في تلك اللحظة وحفظته، كما وعده اللّه تعالى قائلاً: (إِنّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئين) (42) فالنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان يواجهُ في كلّ يوم نوعاً خاصاً من الأذى والمضايقة من هؤلاء الأشرار، وأشهرهم: عقبة بن أبي معيط الذي شتمه وضربه، فكان أشدّ خصومه بغضاً له (صلّى الله عليه وآله وسلّم) . وعمّه أبو لهب الذي تعرض النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لإذاه مع زوجته أُمّ جميل، فقد كان النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يجاورهم فقاموا بإيذائه وإزعاجه، بإلقاء الرماد والتراب على رأسه الشريف، ونشر الشوك على طريقه أو عند باب بيته. والأسود بن عبد يغوث، أحد المستهزئين، والوليد بن المغيرة، شيخ قريش وحكيمها وأكبر الملاّك فيها، وأُمية وأُبيّ، ابنا خلف، وأبو جهل(أبو الحكم بن هشام)، و العاص بن وائل، والد عمرو بن العاص الذي وصف النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالأبتر.
وعندما فشلت أساليب قريش وأسلحتها الصدئة في القضاء على الدين الجديد وأهله، عمدوا إلى استخدام سلاح جديد لعلّه يكون أقوى من سوابقه، للحيلولة دون انتشار الإسلام واتساع رقعته، وقطع علاقته بالمجتمع العربي، وهو سلاح الدعاية ضدّ رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) . و من أساليبه:
الاتّهامات الباطلة، وقد أقرّوا استخدامها في دار الندوة، حين طرحوا فكرتها على (الوليد بن المغيرة)(43) الذي كان ذا مكانة مميزة عندهم، فقال: يا معشر قريش، إنّه قد حضر هذا الموسم وإنّ وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا فأجمعوا فيه رأياً واحداً ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضاً ويرد قولكم بعضه بعضاً، ورأى ألاّ يقولوا عنه كاهن أو مجنون أو ساحر. و هكذا تحيّروا في ما ينسبون إلى رسول اللّهص حتّى اتّفقوا على أن يقولوا: إنّه ساحر جاء بقول هو سحر يفرق بين المرء وأبيه وأخيه وزوجته وعشيرته، والدليل على ذلك ما أوجده من خلاف وانشقاق وتفرّق بين أهل مكّة الّذين عرفوا بالوحدة والاِتفاق.(44)
كما أشاعوا عنه الجنون، وأنّما يقوله ويقرأه ما هو إلاّ من نسج الخيال ومن أثر الجنون الذي لا يتنافى مع الزهد والأمانة.
وقد ردّ القرآن الكريم على جميع تلك الاتهامات في آيات كثيرة وفنّدها.
وقد استمر أُسلوبهم في الاتهام والتشويش على شخصية النبي الاَكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والرسالة المحمدية بكلّ الصور والمظاهر، فوصفوه بالكاهن، والساحر، والمجنون، وأنّه معلّم من قبل نصراني، وكذّاب و مفتر و شاعر، وما يقوله أضغاث أحلام.
ولما لم تأت كلّ تلك الاتهامات بالنتيجة المرجوّة، ولم تنفع في الإيقاع به، لمعرفة الناس بالنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وصفاته وأخلاقه منذ سنين بعيدة، اتجهوا إلى أُسلوب آخر، وهو معارضة القرآن الكريم عن طريق (النضر بن الحارث) أحد أعداء الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الذي تعلم في العراق شيئاً من أساطير الفرس وحكاياتهم، ليقصّ منها على الناس فيلهيهم عن السماع لرسول اللّه والإصغاء للقرآن الكريم. إلاّ أنّ ذلك لم يدم طويلاً، فقد سأمت قريش أحاديثه فتفرقت عنه.
فاتجهوا إلى أُسلوب المجادلات الجاهلية والمآخذ السخيفة على الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ورسالته، وهي تبرز تكبّرهم وعنادهم وجهلهم التي طبعوا عليها. ومن أمثال هذه الوسيلة الاعتراض على النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) للأمور التالية :
1.عدم نزول القرآن على أحد أثريائهم.
2.عدم إرسال الملائكة إليهم.
3. تبديل الآلهة بإله واحد.
4.جدّد الحياة يوم القيامة.
5.عدم تملّكه لمعجزات متعدّدة كما كان لموسى (عليه السلام) .
وفي الوقت نفسه قدموا مقترحات لإصلاح الوضع بينهم وبين النبي الكريم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مثل:
ـ أن يقوم بعبادة أصنامهم سنة، على أن يعبدوا إلهه سنة أُخرى.
ـ تبديل القرآن على ألاّ يحتوي على شجب عبادة الأوثان.
ـ مطالب مادية عجيبة مستحيلة ومتناقضة، كأن يفجر لهم ينابيع، أو يأتي باللّه سبحانه وتعالى.
وعندما قدم وفدٌ مسيحيٌ تكوَّن من عشرين رجلاً من قبل أساقفة الحبشة لتقصّي الحقائق في مكة والتعرّف على الإسلام، وزيارة النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في مكّة، فجالسوه في المسجد وكلّموه وسألوه بعض المسائل، حتى عرض عليهم دينه وقرأ عليهم آيات من القرآن الكريم، فتأثرت نفوسهم وآمنوا به وصدّقوه.
وكان أبو جهل قد شاهد ما حدث فوبَّخهم على موقفهم وبما عملوا دون أن يوَدّوا عملهم كوفد من بلدهم، إلاّ أنّهم لم يردوا عليه إلاّ بخير. فكان لهذا الموقف أثره السيئ في قريش دفعهم إلى تكوين وفد من (النضر بن الحارث وعقبة ابن أبي معيط) للسير إلى أحبار يهود المدينة وسؤالهم عن دين الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فأخبرهم اليهود أن يسألوه عن ثلاث، إذا عرفها فهو نبي مرسل، وإن لم يفعل فهو متقوّل.
1. عن فتيه ذهبوا في الدهر الأول.
2. عن رجل طوّاف.
3. عن الروح، ما هي؟
فأجابهم الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالآيات القرآنية، عن الروح في الآية 85 من سورة الإسراء، وأصحاب الكهف وذي القرنين في سورة الكهف.
فالنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قابل تلك الآراء الشاذة والمقترحات المؤذية بصبر عظيم وثبات هائل، حرصاً منه على إبلاغ رسالته.
وبعد هذه الخطة الفاشلة، نفذوا خطة أُخرى وهي: منع كلّ من رغب في الإسلام وقدم إلى مكّة للتعرف على النبي والاتّصال به، وذلك بنشر الجواسيس في الطرقات للتعرض لهوَلاء ومنعهم من الوصول إلى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ، وممّن تعرضوا له في الطريق: الشاعر الأعشى، الذي قدم إلى مكّة ليهدي للرسول أبياتاً شعرية ويعلن إسلامه على يديه، فأقنعوه بالعودة إلى بلده بعد أن أخبروه أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يحرم الخمر، وكان الأعشى يحب الخمر والنساء. وقد مات في نفس العام فلم يفد على رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) .(45) كما تعرّضوا للطفيل بن عمرو الدوسي الذي خشيت قريش أن يقوم بالاتصال بالنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهو شاعر حكيم، صاحب نفوذ وكلمة مسموعة في قبيلته، فخوّفوه من كلام النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وسحره. إلاّ أنّه عندما سمع شيئاً من أقوال الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) دون وعي منه، أحسن القولَ فأسلم وشهد شهادة الحقّ، ورجع إلى بلاده داعياً قومه إلى الاِسلام، إلى أن تمّ اتصاله بالنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بخيبر فبقي معه حتى قبض (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ثمّّ شارك المسلمين بعد ذلك في معارك اليمامة زمن الخلفاء الراشدين، وقتل فيها.(46)
وتطورت وسائل وأساليب قريش في التخلّص من دعوة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وإيقاف زحف تلك الدعوة الإسلامية واتّساعها في مدّة غير طويلة، إلى فرض حصار اقتصادي قويّ على النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والمسلمين، تُقطع به كلّ الشرايين الحيوية لهم، فتحدّ بذلك من سرعة انتشار الدين، وتخنق مؤسسه وأنصاره. ولهذا وقَّع زعماء قريش في دار الندوة ميثاقاً كتبه:(منصور بن عكرمة) و علّقوه في جوف الكعبة، وتحالفوا على الالتزام ببنوده حتى الموت، وذلك في السنة السابعة من البعثة. وقد ضم الميثاق البنود التالية:
1. عدم التعامل التجاري مع النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأنصاره.
2.عدم التزاوج منهم.
3. عدم التحدّث معهم أو تناول الطعام معهم.
4. وأن يكونوا يداً واحداً على محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأنصاره.
فما كان من (أبي طالب)إلاّ أن طلب من بني هاشم وبني المطلب، الاستعداد للدفاع عن رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والحفاظ على حياته وسلامته، على أن يستقرّوا خارج مكّة في شعب بين جبال مكّة عُرِفَ بشعب أبي طالب، والذي شمل بعض البيوت البسيطة، كما عيَّن بعض الرجال في جوانب مختلفة ومتفرقة، لمراقبة الطرق وحراسة المكان تحسباً لأي طارئ.(47)
ويشهد التاريخ أنّ أقوى العوامل في ثبات أقلية وصمودها في وجه الأكثرية هو: قوة الإيمان و الاعتقاد، وهذا ما تجلّى في أبي طالب و بني هاشم في هذه المأساة.
فقد استمر الحصار ثلاثة أعوام، جاع فيها الأطفال والكبار متحمّلين قسوة الحال، فكان يعيشُ الفردُ منهم على تمرة واحدة طوال اليوم، وربما تقاسمها اثنان.
ولمّا كان لايُسمح لهم بالخروج من الشعب إلاّ في الأشهر الحرم حيث يسود الأمن في أنحاء الجزيرة العربية، فيخرج بنو هاشم للشراء والبيع ثمّ العودة إلى الملجأ، فإنّالنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان يستغل هذا الموسم في نشر دينه ودعوته. إلاّ أنّ تجّار قريش كانوا يزيدون في سعر السلعة إذا أرادها مسلمٌ، على أن يقوم أبو لهب والوليد بن المغيرة بتعويض خسارة هؤلاء التجار. كما أنّهم عينوا الجواسيس على الطرق الموَدية للشعب حتى يمنعوا الاتّصال بالمسلمين. إلاّ أنّ بعضاً من أنصار النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان يوصل الطعام إليهم سراً خلال الليل كما أنّ قريشاً كانوا يصادرون مال كلّمن أراد التعامل مع أصحاب الشعب، في الوقت الذي اشتدّ إيذاؤهم لمن أعلن إسلامه.
ولكنّهم تأكدوا بعد فترة ليست قليلة بأنّ حصارهم هذا لم يأت بنتيجة مرجوة، ولم يتحقّق هدفهم منه و من غيره من الوسائل والأساليب، ففكروا في نقض الميثاق بأيّ شكل. فقد صرّح (زهير بن أبي أُميّة) في مجلس قريش في المسجد الحرام بعدما اتّفق مع عدد آخر من المعارضين لمقاطعة بني هاشم:
يا أهل مكّة، أنأكل الطعام ونلبس الثياب، وبنو هاشم هلكى لا يُباع لهم ولا يُبتاع منهم؟ واللّه لا أقعد حتى تُشَقّ هذه الصحيفة القاطعة الظالمة.
وقام (المطعم بن عدي) إلى الصحيفة ليشقّها، فوجد أنّ الأرضة قد أكلتها إلاّ عبارة :(باسمك اللّهم) فأسرع ( أبو طالب) إلى الشِّعب يخبر الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بما جرى، وانفك الحصار وعاد المحاصرون إلى منازلهم مرّة أُخرى. وكان النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد عَلِم بأمر تقطيع الصحيفة والأرضة التي أكلتها إلاّ اسم اللّه، فأخبر أبا طالب بذلك، الذي قام بإخبار زعماء قريش بذلك، واتّفق معهم على: إن كان حقّاً ما ذكر الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فاتّقوا اللّه وارجعوا عما أنتم عليه من الظلم والجور وقطيعة الرحم، وإن كان باطلاً دفعته إليكم، فإن شئتم قتلتُموه وإن شئتم استحييتموه. وفقالوا : رَضينا ، وتعاقدوا على ذلك. إلاّ أنّهم نقضوا اتّفاقهم و نكثوا عهدهم لما شاهدوا وتأكدوا ما قاله النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بل ازدادوا شراً وعناداً، ورجع بنو هاشم مرّة أُخرى إلى الشِّعب محاصَرين فيه فترة أُخرى، حتى نقضها (هشام بن عمرو) فانتهى الحصار الاقتصادي لبني هاشم في منتصف شهر رجب من السنة العاشرة للبعثة النبوية الشريفة.
وإلى جانب ذلك، فإنّ أفراداً من المسلمين تعرّضوا لإيذاء قريش وتحمّلوا أشدّ أنواع العذاب، واشتهر منهم:
1. بلال الحبشي، الذي كان غلاماً ل(أُميّة بن خلف) و هو أشدّ أعداء النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فعمد إلى تعذيب هذا الغلام انتقاماً و تشفياً من الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إذ أنّه تردد ـ أي أُميّة ـ من إلحاق الأذى به (صلّى الله عليه وآله وسلّم) خوفاً من عشيرة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الحامية له.(48)
2. وعمار بن ياسر، الذي كان والده من السابقين إلى الإسلام، فعمد المشركون إلى إيذائهم وتعذيبهم بعد ما انضموا إلى المسلمين، فكانوا يُخرِجون (عماراً وياسر وسمية) في وقت الظهيرة ويبقونهم طويلاً تحت أشعة الشمس، حتى مات ياسر، كما طعن أبو جهل بالرمح سُميّة في قلبها فماتت، فاعتُبرا أوّل شهيدين في الإسلام.(49)
أمّا عمّار فقد استخدم التقية للإبقاء على نفسه، حيث تظاهر بترك الدين الإسلامي حسب طلبهم، فانصرفوا عنه وتركوه. ولما ندم على فعله، طَمأنَه النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال له: (كيف تجد قلبك؟) قال: مطمئن بالإيمان. فقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : (إن عادوا فَعُدْ).
3. (عبد اللّه بن مسعود) الذي أبدى استعداداً للقيام بتلاوة القرآن جهراً على مسامع قريش في المسجد الحرام، فقرأ (بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمن الرَّحيم* الرَّحْمن* عَلَّم القُرآن) فقام إليه الجميع يضربونه في وجهه وهو يقرأ حتى أُدمي جسمه ووجهه فتركوه، وهو مسرور بما عمله في تمكين قريش من الاستماع إلى كتاب اللّه تعالى وآياته المباركة.(50)
4.وأبو ذر، أيضاً جاهر بالدين حين كان المسلمون يدعون سراً، فقد نادى في المسجد: أشهد أن لا إله إلاّ اللّه وأنّ محمّداً عبده ورسوله.(51) ويوَكد التاريخ أنّ نداءه هذا كان أوّل نداء تحدّى جبروت قريش وظلمها، أطلقه رجل غريب عن مكّة وأهلها. فهجم عليه جماعة من قريش وضربوه بشدّة حتى أنقذه(العباس بن عبد المطلب) من الموت. بحجّة أنّه من غفار، وتمر تجارة قريش على بلده، فخافوا على تجارتهم فأمسكوا عنه.
ولما لم يحن الوقتُ بعد للدخول في مواجهات ساخنة مع المشركين، فإنّ الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أمره بأن يلحق بقومه يدعوهم للإسلام:(إلحق
بقومك فإذا بلغك ظهوري فأتني).
وقد تمكن من التأثير في قومه، فأسلم أبواه، ونصف رجال قبيلته ـ غفار ـ ثمّ أسلم ا لباقي بعد هجرة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى المدينة، ثمّ تبعتها قبيلة (أسلم) التي وفدت على الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) واعتنقوا الإسلام.
وقد التحق (أبو ذر) بالرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في المدينة وأقام بها (52) و هو أوّل المجاهرين بالإسلام، ورابع أو خامس من أسلم، فكان من
السابقين والأوّلين، الذين لهم مكانة عظيمة عند اللّه تعالى ومقاماً لا يضاهى.
اقتباس وتنسيق شبكة الحسنين (عليهما السلام) للتراث الإسلامي . المصدر : كتاب السيرة المحمّدية ، دراسة تحليليَّة للسيرة المحمّدية على ضوء الكتاب والسُّنّة والتاريخ الصحيح ، الأستاذ المحقّق الشيخ جعفر السبحاني ، إعداد واقتباس: تعريب الدكتور يوسف جعفر سعادة ـ الشيخ جعفر الهادي ، الصفحات 49 ـ 80 .
---------------------------------------------------------------------------------
1 ـ السيرة النبوية:1/225.
2 ـ السيرة النبوية:1/192؛ فروع الكافي:4/217.
3 ـ تاريخ اليعقوبي:2/9.
4 ـ وقد أشار إلى كلّ ذلك في قصائده وأشعاره. ونقل ابن هشام في سيرته:1/352 ، 15 بيتاً من قصيدته.
5 ـ شرح نهج البلاغة:14/84.
6 ـ مجمع البيان:7/37؛ الحجة:57؛مستدرك الحاكم:3/623.
7 ـ السيرة الحلبية: 1/35.
8 ـ يوضح هذا الجانب جيداً صاحب موسوعة الغدير، العلاّمة الاَميني.
9 ـ أُصول الكافي:1/448.
10 ـ نهج البلاغة: الخطبة 192.
11 ـ وسائل الشيعة:8/88.
12 ـ بحار الاَنوار:18/280.
14 ـ للتوسع في ذلك يراجع مفاهيم القرآن للموَلف:5/135.
15 ـ العلق:1ـ5.
16 ـ طبقات ابن سعد:1/195.
17 ـ بحار الاَنوار:18/262؛ الكافي:1/271.
18 ـ مجمع البيان:10/384.
19 ـ تفسير الميزان: 2/14.
20 ـ للمزيد من التوضيح و التوسع راجع البحار:18/184، 253؛ الكافي:2/460.
21 ـ طبقات ابن سعد:1/128.
22 ـ صحيح مسلم:7/134؛صحيح البخاري: 5/39؛ أُسد الغابة:5/428؛ البحار:16/8.
23 ـ السيرة النبوية: 1/246؛ البداية والنهاية: 2/25.
24 ـ مقاتل الطالبيين: 26؛ الكامل:1/37؛ السيرة النبوية :1/245.
25 ـ نهج البلاغة:2/182.
26 ـ الاِصابة:2/480.
27 ـ خصائص النسائي: 3؛ سنن ابن ماجة:1/57؛ مستدرك الحاكم:1/112.
28 ـ الغدير:3/220.
29 ـ شرح نهج البلاغة :3/258.
30 ـ مجمع الزوائد: 9/102.
31 ـ الصواعق المحرقة: 72؛ تاريخ الخلفاء للسيوطي : 112.
32 ـ السيرة النبوية:1/245.
33 ـ وكان البيت عند جبل الصفا عرف إلى فترة بدار الخيزران. أُسد الغابة:4/44؛ السيرة الحلبية:1/283.
34 ـ الشعراء:214.
35 ـ الحجر:94ـ95.
36 ـ هذا ملخّص لتفصيل ما رواه أكثر المفسرين والموَرّخين دون أن يشكّك في صحته أحد، إلاّ ابن تيمية الذي اتخذ موقفاً فريداً من أهل البيت (عليهم السلام) راجع تاريخ الطبري:2/62؛ الكامل:2/40؛ مسند أحمد:1/11؛شرح نهج البلاغة:13/210.
37 ـ السيرة الدحلانية بهامش السيرة الحلبية:1/194.
38 ـ السيرة النبوية: 1/264.
39 ـ السيرة الحلبية:1/303؛ تاريخ الطبري:2/65.
40 ـ الكامل: 2/56.
41 ـ السيرة النبوية:1/298.
42 ـ الحجر:95.
43 ـ أبو خالد بن الوليد.
44 ـ السيرة النبوية:1/270.
45 السيرة النبوية:1/386.
46 ـ السيرة النبوية:1/382.
47 ـ السيرة النبوية:1/350؛ تاريخ الطبري:2/78.
48 ـ قتله بلال بالاِضافة إلى ابنه بعد أن أُسر في معركة بدر.
49 ـ بحار الاَنوار:18/241؛ السيرة الحلبية:1/300.
50 ـ السيرة النبوية:1/314.
51 ـ حلية الاَولياء: 1/158، طبقات ابن سعد:4/225؛ الاستيعاب:4/63.
52 ـ الدرجات الرفيعة:225ـ 230.