ذكرى المبعث النبوي الشريف، حيث بدأ نزول القرآن الكريم على الرسول الأعظم محمد (صلى الله عليه وآله) هي أهمّ المفاصل التاريخية في مسيرة الإنسان، لأنّها ذكرى آخر اتصال - بواسطة الوحي - بين الإنسان وخالقه، ولأنّ هذا الوحي الأخير المتمثل بالقرآن الكريم، كان احتواء وإكمالاً لكل الرسالات السماوية التي أرسلها الله تعالى إلى البشرية بواسطة أنبيائه ورسله. بما يعني أنّ المبعث النبوي الشريف هو بداية الإعلان الإلهي لبلوغ الإنسان مرحلة الرشد والنضوج، التي تؤهله لمتابعة المسيرة بدون واسطة مباشرة، أي بدون رسل وأنبياء يقومون بمهمة القيادة لهذه المسيرة البشرية. وهذا لا يعني أنّ انقطاع النبوة يعني انقطاع الرعاية الإلهية للبشر، والحياة والكون. ولكن يعني أنّ الدرجة المطلوبة ليغدو الإنسان قادراً على التصرف بما يحقق الغاية من خلقه قد تحققت كما أشار القرآن الكريم: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً).
إنّها - إذن ذكرى إعلان الرشد الإنساني، واكتمال عناصر الوظيفة التي خلق من أجلها الإنسان، وهي القيام بدور الخلافة على هذه الأرض. لذلك اختار الله تعالى أكمل خلقه للقيام بهذا الإعلان، من خلال قيامه بإبلاغ البشر آخر رسالات ربهم إليهم، والرسول الأعظم كان لابدَّ أن يكون أكمل البشر ليقوم بأعباء هذه المسؤولية الكبرى، فهو إذ يؤدي إلى الناس أكمل رسالات ربّه، لابدَّ له أن يكون النموذج البشري الكامل من حيث تمثله الكامل لهذه الرسالة، والتجسيد التام لها، ليكون بعد ذلك نموذجاً، وقدوة للناس من جهة، وحجة عليهم من جهة أخرى. وإذن فإنّ المبعث النبوي الشريف هو تذكير لنا بحقيتين تقترن إحداهما بالآخرى وتكملها:
1 ـ الحقيقة الأولى: هي أنّ الإنسان منذ المبعث النبوي الشريف أصبح يمتلك عناصر الوعي والرشد والمعرفة التي تؤهله لتحمل مسؤولياته الكاملة في الكون، والحياة والمجتمع، وبموجب هذه المسؤولية تمّ تكريسه بوصفه كائناً حراً يتمتع بهذه الحرية، ويتحمّل مسؤولياته الناجمة عن اختياراته. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى الموجّه إلى النبي (صلى الله عليه وآله): (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌلَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ) وقوله تعالى: (فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ).
2 ـ والحقيقة الثانية: هي أنّ المبعث النبوي الشريف هو الأيذان ببدء نزول الرسالة الإلهية الشاملة الجامعة لما سبق من الرسالة والمكمّلة لها. بحيث أصبح للإنسان مرجعية شاملة تتمثل بالإسلام عقيدة وشريعة، وكتاب هداية شاملاً هو القرآن الكريم، ورسولاً بشراً كاملاً هو محمد (صلى الله عليه وآله)، وهذه الرسالة بعناصرها التي ذكرنا باتت مرجعاً للبشر وحجّة عليهم. على قاعدة هاتين الحقيقتين نرى أنّ العالم الإسلامي يجب أن ينطلق في تجديد ذاته وحضارته تمهيداً لاستعادة دوره.
إنّ التمسك بهاتين الحقيقتين سوف يعيد لكل من العقل والوحي اعتبارهما، ويضع كلاًّ منهما في نصابه الطبيعي، فلا يلغي أحدهما الآخر، لأنّ أحدهما لا ينوب عن الآخر ولا يختزله وهما معاً - متكاملين - يشكّلان الأساس لحضارة العدل والتوازن، التي هي رسالة الإسلام للإنسانية بأجمعها.
من هنا فإنّ ذكرى المبعث النبوي الشريف سوف تظل الذكرى المتجددة، التي لا تنتهي حاجتنا منها إلى التأمل والاعتبار.. ويجب أن تتحول هذه الذكرى في حياة المسلمين إلى محطة سنوية فيها لصاحب الذكرى نبينا الأعظم (صلى الله عليه وآله) كشف حساب عن انجازاتنا، في سبيل قيام الأمّة التي أرسى قواعدها.. أمّة الوحدة والعدل، والأمّة الوسط وفقاً لقوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) وسلام على المبعوث رحمة للعالمين.