آثار فلسفية في تفسير النبوة
  • عنوان المقال: آثار فلسفية في تفسير النبوة
  • الکاتب: راجح الكردي
  • مصدر:
  • تاريخ النشر: 23:40:38 6-10-1403

آثار فلسفية في تفسير النبوة

 راجح الكردي

 

وقد تأثرت بعض مدارس الفكر الإسلامي بالتفسير الفلسفي لقضية النبوة، وإن كان ثمة تفاوت بينها في هذا التأثر، منها:

1_ الصوفية:

نقتصر في بيان الصوفية لهذه المسألة على الغزالي باعتباره حجة الإسلام، والذي أثرى التصوف وحاول تقريبه من دائرة الشرع وأسسه تأسيساً فلسفياً أو عقلياً. وهنا نجد موقفين للغزالي بشأن مسألة النبوة:

الموقف الأول: في إمكانها العقلي القائم على الاستدلال المنطقي وعلى وجودها الواقعي. وهو هنا لا يختلف مع أهل السنة في شيء، فإن العبارة المشهورة عندهم جميعاً أن دليل إمكان النبوة هو وجودها أو وقوعها. ويحرص الغزالي على أن يجعل من مهمة العقل أن يقود إلى معرفة النبي، ويرفض موقف الذين يذمون العقل، فيقول: "فأعلم أن السبب فيه ـ إنكار العقل ـ أن الناس نقلوا اسم العقل والمعقول إلى المجادلة والمناظرة بالمناقضات والإلزامات. وهو صنعة الكلام فأما نور البصيرة الباطنة التي بها يعرف الله تعالى ويعرف صدق رسالته فكيف يتصور ذمه.. وإن ذُمَّ فما الذي بعده يُحمد؟ فان كان المحمود وهو الشرع فبم علم صحة الشرع؟ فإن علم بالعقل المذموم الذي لا يوثق به فيكون الشرع أيضاً مذموما". ويقول كذلك: "فالعقل كالأسُ والشرع كالبناء".

أما الموقف الثاني: فهو حديثه المتضارب عن حقيقة النبوة وتفسيرها. فهو في كتابه المنقذ من الضلال يقول عنها هي: "عبارة عن طور تحصل فيه عين لها نور يظهر في نورها الغيب وأمور لا يدركها العقل". كما أن العقل طور من أطوار الآدمى تحصل فيه عين يبصر بها أنواعاً من المعقولات، الحواس معزولة عنها. والعلم الذي يحصل لا بطريق الاكتساب والتعلم وحيلة الدليل ينقسم: إلى ما لا يدري العبد أنه كيف حصل له ومن أين حصل. وإلى ما يطلع معه على السبب الذي منه استفاد ذلك العلم وهو مشاهدة الملك الملقي في القلب. والأول يسمى إلهاماً ونفثاً في الروع. والثاني يسمى وحياً ويختص به الأنبياء. والأول يختص به الأولياء والأصفياء.

والتحقيق:

أن الغزالي والصوفية عموماً يجعلون الذوق الصوفي امتداداً للنبوة أو طريقاً لإثباتها، أما تفسير المعرفة عن طريق النبي أو الوحي، فإن له تفسيراً صوفياً موازياً للتفسير الفلسفي، وإن ظهر على لسان الغزالي بعبارة فلسفية في معارج القدس، هو ذلك التفسير الذي ظهر بصورة صريحة وصادقة النسبة إليه في كتابه إحياء علوم الدين حيث يقول: "إن حقائق الأشياء مسطورة في اللوح المحفوظ بل في قلوب الملائكة المقربين فكما أن المهندس يصور أبنية الدار في بياض ثم يخرجها إلى الوجود على وفق تلك النسخة ومهما ارتفع الحجاب بين القلب واللوح المحفوظ رأى الأشياء فيه وتفجر العلم منه ... فإذن للقلب بابان: باب مفتوح إلى عالم الملكوت وهو اللوح المحفوظ وعالم الملائكة. وباب مفتوح إلى الحواس الخمس المتمسكة بعالم الملك والشهادة... والفرق بين علوم الأولياء والأنبياء والحكماء هذا: وهو أن علومهم ـ يقصد الأنبياء والأولياء ـ تأتي من داخل القلب المنفتح إلى عالم الملكوت. وعلم الحكمة يأتي من أبواب الحواس المفتوحة إلى عالم الملك. وهناك فرق آخر وهو أن العلماء يعملون في اكتساب نفس العلوم واجتلابها إلى القلب وأولياء الصوفية يعملون في جلاء القلوب وتطهيرها وتصفيتها وتصقيلها فقط.

وعلى العموم فإن في تفسير الوحي عند كل من الصوفية والفلاسفة تشابها غير خفي فالوحي عند كل منهما اطلاع من النفس الإنسانية على حقائق الكون المثبتة في عالم الغيب. والذي يشرق عليها بالمعرفة، هو العقل الفعال عند الفلاسفة، والملائكة المطلعة على ما في اللوح المحفوظ عند المتصوفة.ولكن الفرق بين المذهبين يقوم على أن العالم العلوي عند الفلاسفة عقول مجردة هي عقول الأفلاك ونفوسها، وصور الأشياء منقوشة فيها بحكم أنها مصادر لها، وأسباب لوجودها على مذهب الفيض في تفسير الوجود وبحكم أنها مجردة بطبعها داركة فإنها تفيض على العقل الإنساني القدسي على مخيلة الإنسان، فالنبوة اتصال عقلي أو نفسي، أما العالم العلوي عند المتصوفة فهو اللوح المحفوظ الذي كتب الله فيه كل شيء. والملائكة الذين يطلعون على هذا اللوح والاتصال يكون بين النبي والملائكة فيطلع على ما يطلعون عليه من علم الغيب مما هو مكتوب في اللوح المحفوظ، فهو اتصال روحاني.

هذا وإن تشابه الموقفان في التفسير عموماً، إلا أن الاتجاه الإشراقي الفلسفي كان أقرب إلى النظام الكوني الفلكي الوثني، بينما كان الاتجاه الصوفي أقرب إلى التجربة الإنسانية الروحية الباطنية، وهو أقل إمعاناً في التأويل من الاتجاه الفلسفي وكلا الاتجاهين لا يفى التصور الإسلامي للنبوة حقه. إذ أن كلا منهما استغل قضية النبوة والوحي لتأييد اتجاهه:

فالاتجاه الفلسفي جعل الفيلسوف نبياً وخدم اتجاه التوفيق بين الدين والفلسفة والاتجاه الصوفي أراد أن يجعل من صلة النبي الروحية تجربة حية كأساس للتجربة الصوفية ومن طريق الوحي إلى النبي أساساً لطريق الذوق أو الإلهام الصوفي الذي اعتمده الصوفية طريقاً للمعرفة.

2_ ابن خلدون وتفسير الوحي:

يذهب ابن خلدون في هذه المسألة إلى القول بأن نفس النبي فيها استعداد فطري للانسلاخ من الطبيعة البشرية إلى الطبيعة الملائكية ليصير بالفعل من جنس الملائكة وبعدها يمكنه أن يعلم ما يعلمه الله. وهو بهذا يقر مع أهل السنة بأن النبوة ليست مكتسبة برياضة وإنما هي اصطفاء واختيار من الله للنبي وإعداد له بالفطرة ليكون كذلك. وهذا الرأي متفق مع تقسيمهِ النفوس البشرية إلى ثلاثة أصناف: "صنف عاجز بالطبع عن الوصول إلى إدراك الروحاني فينقطع بالحركة إلى الجهة السفلى نحو المدارك الحسية والخيالية وتركيب المعاني من الحافظة والواهمة على قوانين محصورة وترتيب خاص يستفيدون به العلوم التصورية والتصديقية وإليه تنتهي مدارك العلماء.

وصنف متوجه بتلك الحركة الفكرية نحو العقل الروحاني والإدراك الذي لا يفتقر إلى الآلات البدنية مما جعل فيه من الاستعداد لذلك، فيتسع نطاق إدراكه عن الأوليات التي هي نطاق الإدراك البشري ويسرح في قضاء المشاهدات الباطنية وهي وجدان كلها. وهذه مدارك العلماء والأولياء أهل العلوم المدنية والمعارف الربانية.

وصنف مفطور على الانسلاخ من البشرية جملة جسمانيتها وروحانيتها إلى الملائكة من الأفق الأعلى، ليصير لمحة من اللمحات ملكاً بالفعل، ويحصل له شهود الملأ الأعلى في أفقهم وسماع الكلام النفساني والخطاب الإلهي في تلك اللمحة، وهؤلاء الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم.

وحالة الوحي هي هذا الانسلاخ من البشرية في تلك اللمحة فطرة فطرهم الله عليها عند ابن خلدون والله يعدهم بتنقيتهم من الغرائز البشرية بحيث يجعلهم يتوجهون إلى الأفق الأعلى. ثم فصل كيفيات الوحي، فقال عن الحالة الأولى هي حالة الدويّ واعتبرها مرتبة الأنبياء غير المرسلين. وجعل الحالة الثانية وهي حالة تمثل الملك رجلاً رتبة الأنبياء المرسلين، وحالة صلصلة الجرس وهي أشدها عنده مبدأ الخروج من القوة إلى الفعل ومن ثم كانت عسرة. وهنا يبدو التأثر بالمصطلحات الفلسفية الأرسطية. وقد فسر ابن خلدون إمعاناً منه في التحليل المتأثر بالفلسفة نزول القرآن منجماً موزعاً وليس دفعة واحدة ـ في مكة على سور وآيات أقصر منها في المدينة بأن الوحي كان في أوله شديداً على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم بالاعتياد والتدرج أخذ يسهل شيئاً فشيئاً. وواضح جداً بعد هذا التفسير لأن دراسة خصائص القرآن المكي والمدني، لا تعين على مثله، إذ لا تخضع النبوة للِمران والتدريب، وإنما لذلك الاختلاف بين طول وقصر السور والآيات وللتنجيم في نزول القرآن أسرار يعرفها أهل البلاغة والتفسير وعلوم القرآن، منها ما ذكره الله سبحانه من حكمة نزول القرآن منجماً فقال: (وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلاً).

وخاتمة الأمر: فإن النبوة أو الوحي بوصفه طريقاً للمعرفة اصطفاء واختيار وليس كسبا من جهة النبي. كما أن النبي ليس فيلسوفاً. ولا تفسر كيفية الوحي إلا بما ثبت في النصوص الشرعية من الكتاب والسنة. ولكن أبت الاتجاهات الفلسفية في الفكر إلا الخروج إلى شرح وتعليل الوحي وكيفيته على أسس فلسفية إشراقية، لا تلتقي مع التصور الإسلامي الدقيق شأنها في المعرفة كشأنها في الوجود. والعقل الذي يحترم نفسه في ظل التصور الإ