الالتزام والكبت
  • عنوان المقال: الالتزام والكبت
  • الکاتب: السيد سامي الخضرا
  • مصدر:
  • تاريخ النشر: 22:8:58 6-10-1403

الالتزام والكبت

السيد سامي الخضرا

يُعبَّر عن المسلم المطيع للأوامر الإلهية بأنَّه (ملتزم) أو متدين أو مؤمن... أي أنَّه يتَّبع الأوامر الإلهية... مقابل الذي لا يُطيع فيكون فاسقاً منحرف.

لكنْ، لوحظ في السنوات الأخيرة، ونتيجة لظروف ضاغطة وإعلام موجَّه، أنَّ (الالتزام) أصبح تهمة تعصُّب وتزمُّت... بل رُبَّما تحجُّر وانغلاق!‏

فالمرأة الحريصة على ستر ما بين ذقنها ورقبتها، أو ما فوق المعصمين من يديها، أو الَّتي لا تُظهر أمام الأجنبي قدميها... هذه المرأة تُتَّهم بالتحجر والتعصُّب، مع أنَّها لا تفعل شيئاً فوق تطبيقها للحكم الشرعي.‏

كذلك الشابة التي تلتفت إلى طريقة ثيابها في اللون والشكل أو إلى طريقة حديثها أو مشيته...‏

أمَّا الرجل المحتاط في النظر، أو الاختلاط أو في بعض المظاهر الإسلامية... فهو متَّهم أيضاً.‏

كذلك العالِم أو الفقيه المتحرِّج في خوض الشُّبهات أو المتوقف عند (الإنزلاقات) التي يريدها الناس، والمبتعد عن التساهل، الحريص على عدم إعطاء المبرِّرات التي تُشجِّع على الانحراف، المؤكِّد على الثوابت

والضوابط، الذي لا ينساق للأجواء المحيطة... هذا العالِم يوصف بالتعصُّب وعدم مواكبة العصر ومجاراة المجتمع... مع العلم أنَّ: (

وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ) .‏

في هذا الخضمّ ظهرت نظرية تُبرِّر (الإجازة والتسامح والتساهل) تحت عنوان أنَّ الحرص أو الجهر أو الدعوة للدقة الشرعية، ودعوة الآخرين إليه، هي نوع من (الكبت)!‏

وكأنَّ (الكبت) (وهو مصطلح يُستعمل في غير محله تماماً) أصبح مشجباً تُعلَّق عليه كافة الدعوات التي تريد (التفلّت) من الحكم الشرعي.‏

فانحراف بعض الفتيات اللاتي نشأنَ في بيئة متديِّنة (يُردنَ تبرير الانحراف الحاصل)، هو بسبب الكبت!‏

والتجاوزات الحاصلة من بعض مَنْ تربى في مدارس (إسلامية) هي أيضاً بسبب (الكبت) !‏

والأخطاء التي تقع في بعض الفئات العمرية الغضَّة، سببها (الكبت) !‏

مع أنَّ المسألة ببساطة:‏

هي سُنَّة الله عزَّ وجلَّ في خلقه، فيمن يلتزم أو لا يلتزم، فيمن يُؤمن أو يكفر، فيمن يهتدي أو ينحرف... وهذا حصل في بيوت أنبياء الله (عليهم السّلام)... ولا داعي لاصطناع تبرير أو اختراع معاذير.‏

فكم من طيِّبين ملتزمين خرجوا من بيئة منحرفة فاسدة، والعكس واقع أيضاً... ولا يضمن أحدٌ أحدا.‏

(قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ).‏

 

هل كُلّ منعٍ كبت؟!‏

المعلوم أنَّ الشريعة المقدَّسة للنَّبي الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلّم) مبنيَّة على الإجازة والمنع، والحلال والحرام، وفيما يجوز وما لا يجوز.‏

تمام، كسائر الشرائع والقوانين القديمة والحديثة، المهجورة والسائدة، بما فيها الوضعية منه.‏

فالحلال، حلالٌ وكفى، من دون تصنُّع أسباب... والحرام، حرام وكفى، من دون التفتيش عن المبرِّرات والدلائل والبراهين التي يُفترض أنَّها لا تُقدِّم ولا تُؤخِّر في التطبيق والتسليم.‏

وهذا النهج هو الذي أراده الله عزَّ وجلَّ لعباده الصالحين في اتِّباع الغيب، كما في التسليم،

(وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً*وَإِذاً لآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّـا أَجْراً عَظِيماً*وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً

مُّسْتَقِيماً)  وقال سبحانه: ( إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ).‏

فالمنع، من منطلق شرعي محض، لا يُعبَّر عنه بالكبت، بل التعبير عنه كذلك، خطأ وتضليل، لأنَّه منع (إيجابي) مطلوب، لأنَّه مبنيٌ على أُسس... وأيُّ أسس (إلهية من المولى عزَّ وجلَّ).‏

فمن الناحية المسلكية (في جهاد النَّفس) أو التربوية، لا مفرَّ من المنع الذي هو أحدُ أعمدة التربية والتزام القوانين.‏

فالكبت (إذا افترضنا حصوله) ليس ناتجاً بالضرورة عن المنع، والمنع الناشئ عن خلفية صحيحة، لا يُؤدِّي بالضرورة إلى الكبت، وإن سمَّاه البعض كذلك توهُّماً أو اشتباه... أو تبريراً لتقصيرهم أو فراراً من التهمة!‏

فكم من الآباء أو المسؤولين في مؤسسات تربوية تسرَّعوا في إرجاع بعض الحالات المنحرفة التي أحرجتهم أو حاصرتهم... بأنَّها نتيجة (الكبت)... وهي ليست كذلك.‏

 

مَنْ يضمن أولاده أو طلابه؟!‏

إنَّ تصوُّرنا الخاطئ بإمكانية تربية أولادنا أو طلابنا أو مَنْ هو في عهدتن... كما نُحب، بحيث (نُصنِّعُه) كما نرغب أو كما حلمنا بذلك طويل... هو السبب فيما نحن فيه.‏

فكم من (تربويين)، ومنظِّرين ، وأصحاب عناوين بارزة، وأسماءٍ لامعة... لم يصلوا إلى ما طمحوا إليه في أولادهم... وليس هذا بالضرورة نتيجة فشلهم أو عيب فيهم...، بل الأمر فوق ذلك بكثير، وله أسبابه المتشعِّبة.‏

إنَّ المطلوب براءة للذمة، هو صرف الجهد بمنتهى الإخلاص والقربة، والقيام بالواجب دون تقصير، تحت عناوين الهداية وبذل العلم (كتم العلم في الإسلام حرام) والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر،... أمَّا النتائج فليست بيد صاحبه، وهذا من رحمة الله تعالى على عباده، و لولا ذلك، ما خسر تاجر، ولا اختلف شخصان...‏

 (فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ).‏

إنَّ المجتمع الذي نعيش فيه لا يُمكن أن يوصف بالكبت على الإطلاق، بعد أن فُرضت عليه هذه الأشكال المختلفة من وسائل الإعلام المُعَوْلم ووسائل الاتصالات العابرة لكلّ الخصوصيات، والمختصرة للزمن بحيث أنَّ عاداتٍ وقيماً وممارساتٍ ومظاهر لا حصر لها، أصبحت بمتناول الجميع، ولا يقف أمام تطبيقها لا مكان ولا زمان ولا بيئة ولا عرف... إلاَّ تقوى الله عزَّ وجلَّ، والخوف منه.‏

فما الفرق بين الأفلام والمقاهي، والمشروبات واللباس، وقصة الشعر، والجامعات والغناء، وكافة المظاهر والعادات السيِّئة بين بيروت وباريس وهوليوود ولاس فيغاس وميلانو وسان فرانسيسكو؟!‏

فمَّا يُطبَّق في هذه الساعة في تلك البلدان، يُطبَّق اليوم التالي في سائر البلدان بعدما نقلَتْه الفضائيات...‏  

(ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ).‏

ولا يحدُّ من ذلك إلاَّ الورع، الناتج عن الهيكلية الأخلاقية الإسلامية التي تُلازمه (أو يُفترض) في حلِّه وترحاله.‏

(

لِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ ).‏

 

الخطأ الكبير:‏

إنَّ إرجاع إخفاقاتنا، أو تبريرَ ما نَصْبو لفعله، إلى اختراع نظرية (الكبت)... ففضلاً عن أنَّها تُعبِّر عن عدم ثقةٍ بالنَّفس (أي بديننا)... إلاَّ أنَّ الخطورة العظمى تبقى في ابتكار سبيل قد لا تتوقَّف عند حدٍ معيَّن، والنَّفس بطبعها تميل لِمَنْ يُرخِّص لها ويختلق المعاذير.‏

فَلْنَنْظر حولنا ماذا يجري؟‏ أين كُنَّا، وأين أصبحنا...‏ وأين نكون غدا؟!!!

------------------------------------------

مراجعة وضبط النص شبكة الإمامين الحسنين عليهما السلام للتراث والفكر الإسلامي