قال: خرجت الى بعض نواحي المدينة في ساعة حارة فلقيت محمد بن علي عليهما السلام وكان رجلا بدينا وهو متكيء على غلامين له اسودين او موليين له، فقلت في نفسي: شيخ من شيوخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا لأعظنّه، فدنوت منه فسلمت عليه فسلم عليّ بنهر وقد تصبب عرقا.
فقلت: اصلحك الله شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة علي هذه الحال في طلب الدنيا لو جاءك الموت وانت على هذه الحال، قال: فخلـّى عن الغلامين من يده ثم تساند وقال: لو جاءني والله الموت وانا في هذه الحال جاءني وانا في طاعة من طاعات الله اكفّ بها نفسي عنك وعن الناس وانما كنت اخاف الموت لو جاءني وانا على معصية من معاصي الله، فقلت: يرحمك الله اردت ان اعظك فوعظتني[1].
يقول المؤلف:
والظاهر عندي ان محمد بن المنكدر من متصوّفي العامة كطاووس وابن ادهم وامثالهما الذين يصرفون اوقاتهم بالعبادة الظاهرية، ويدعون الكسب، وهم كل علي الناس، ذكر صاحب المستطرف انه: «... جزّأ محمد بن المنكدر، عليه وعلى امّه وعلى اخيه الليل اثلاثا فماتت اخته، فجزأه عليه وعلى امه، فماتت امه فقام الليل كله»[2].
يقول المؤلف:
الظاهر ان محمد بن المنكدر اخذ هذا العمل من آل داوود فيما ورد من ان داوود النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد قسّم ساعات الليل علي اهل بيته فكانت لا تمضي ساعة من الليل الا وأحد أولاده مشغولاً بالصلوة، قال الله تعالى: «اعملوا آل داوود شكرا»[3].وكلام الامام الباقر عليه السلام «لو جاءني والله الموت وانا في هذه الحال جاءني وانا في طاعة من طاعات الله اكف بها نفسي عنك وعن الناس وانما كنت اخاف الموت لو جاءني وانا على معصية من معاصي الله...» تعريضاً به وبأقرانه.
ويؤيد هذا المطلب ما رواه صاحب كشف الغمة عن شقيق البلخي قال: خرجت حاجاً في سنة تسع واربعين ومائة، فنزلنا القادسية فبينا انا أنظر الى الناس في زينتهم وكثرتهم فنظرت الى فتى حسن الوجه شديد السمرة ضعيف، فوق ثيابه ثوب من صوف، مشتمل بشملة، في رجله نعلان وقد جلس منفردا، فقلت في نفسي: هذا الفتى من الصوفية يريد ان يكون كلا علي الناس في طريقهم والله لأمضين اليه ولأوبخنه... (وتمام الخبر في باب حياة موسي بن جعفر عليهما السلام)[4].
والغرض، الاعلام بان المتصوفة كانوا كلا على الناس انذاك ولذا وردت روايات كثيرة عن الصادقين عليما السلام في الحث على التكسب والنهي عن تركه، والذي ينشغل بالعبادة ويتقوت من غيره تكون عباده هذا الذي يقوته أفضل من عبادته بل روي الامام الصادق عن النبي الصادق (صلى الله عليه وآله وسلم) انه قال: ملعون من القى كلــّه على الناس.
روي عن الامام جعفر الصادق عليه السلام انه قال: فقد أبي بغلة له: فقال: لئن ردها الله تعالى لأحمدنه بمحامد يرضاها، فما لبث ان اتى بها بسرجها ولجامها فلما استوى عليها وضم اليه ثيابه رفع رأسه الى السماء فقال: الحمدلله، فلم يزد، ثم قال: ما تركت ولا بقيت شيئا جعلت كل انواع المحامد لله عزوجل، فما من حمد الا هو داخل فيما قلت[5].
وهو كما قال عليه السلام لان الألف واللام في الحمدلله للاستغراق فاستغرق جميع الافراد.
نقل عن كتاب البيان والتبيين للجاحظ انه قال: قد جمع محمد بن علي بن الحسين عليهم السلام صلاح شأن الدنيا بحذافيرها في كلمتين فقال: صلاح شأن المعاش والتعاشر ملء مكيال: ثلثان فطنة وثلث تغافل[6].
وقال له نصراني: انت بقر؟ قال: لا، انا باقر، قال: انت ابن الطباخة؟ قال: ذاك حرفتها قال: انت ابن السوداء الزنجية البذية؟ قال: ان كنت صدقت غفرالله لها وان كنت كذبت غفر الله لك، قال: فأسلم النصراني[7].
يقول المؤلف:
لقد اقتدى بالامام عليه السلام وباخلاقه الشريفة سلطان العلماء والمحققين، افضل الحكماء والمتكلمين ذو الفيض القدوسي الخواجه نصير الدين الطوسي (قدس سره)، حيث وصل اليه كتاب من شخص يسبه ويشتمه فيه، ومن تلك الكلمات القبيحة انه قال للخواجة «يا كلب ابن الكلب».
فكتب (ع) الجواب في غاية المتانة والحسن من دون استعمال اي كلام سيئ قال له: قلت لي يا كلب وهذا غير صحيح لان الكلب يمشي على اربع وله مخالب طويلة واني منتصب القامة وبشرتي ظاهرة بينما بشرة الكلب يغطيها الشعر، واني ناطق ضاحك، فهذه الفصول والخواص التي غير الفصول والخواص في الكلب.
روي عن زرارة قال: حضر ابوجعفر عليه السلام جنازة رجل من قريش وانا معه وكان فيها عطاء (مفتي مكة مع المشيعين) فصرخت صارخة، فقال عطاء: لتسكتن او لنرجعن، قال: فلم تسكت فرجع عطاء، قال: فقلت لابي جعفرعليه السلام: ان عطاء قد رجع، قال: ولم؟ قلت: صرخت هذه الصارخة فقال لها: لتسكن او لنرجعن، فلم تسكت فرجع.
فقال: امض بنا فلو انا اذا رأينا شيئا من الباطل مع الحق تركنا له الحق لم نقض حق مسلم، قال: فلما صلى على الجنازة قال وليها لابي جعفر: ارجع مأجورا رحمك الله فانك لا تقوي على المشي فأبى ان يرجع، قال: فقلت له: قد اذن لك في الرجوع ولي حاجة اريد ان أسألك عنها، فقال: امض فليس باذنه جئنا ولا باذنه نرجع انما هو فضل واجر طلبناه فبقدر ما يتبع الجنازة الرجل يؤجر على ذلك[8].
يقول المؤلف: يظهر من هذا الحديث الشريف فضل تشييع الجنائز وروي: ان اول تحفة المؤمن ان يغفر الله له ولمن تبع جنازته[9].
وقال اميرالمؤمنين عليه السلام: من تبع جنازة كتب له اربع قراريط: قيراط باتباعه اياها، وقيراط بالصلاة عليها، وقيراط بالانتظار حتى يفرغ من دفنها، وقيراط للتغزية، وقال ابوجعفر عليه السلام في رواية اخري: القيراط مثل جبل احد[10].
روى الكليني (عن يونس بن يعقوب عن بعض اصحابنا) قال: كان قوم اتوا ابا جعفر عليه السلام فوافقوا صبيا له مريضا فرأوا منه اهتماما وغما وجعل لا يقر، قال: فقالوا: والله لئن اصابه شيء انا لنتخوف ان نرى منه ما نكره، قال: فما لبثوا ان سمعوا الصياح عليه فاذا هو قد خرج عليهم منبسط الوجه في غير الحال التي كان عليها، فقالوا له: جعلنا الله فداك لقد كنا نخاف مما نرى منك ان لو وقع (اي اذا مات الصبي) ان نرى منك ما يغمنا، فقال لهم: انا لنحب ان نعافى فيمن نحب فاذا جاء امر الله سلمنا فيما احب؟[11].
قال ابوعبدالله عليه السلام: في كتاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) اذا استعملتم ما ملكت ايمانك في شيء يشق عليهم فاعملوا معهم فيه، قال: وان كان ابي ليأمرهم فيقول: كما انتم، فياتي فينظر فان كان ثقيلا قال: بسم الله، ثم عمل معهم وان كان تنحى عنهم[12].
---------
[1] - الارشاد: ص 263.
[2] - المستطرف: ج 1، ص 20.
[3] - سبأ: الآية 13.
[4] - راجع كشف الغمة: ج 3، ص 3.
[5] - البحار: ج 46، ص 290.
[6] - كشف الغمة: ج 2، ص 363.
[7] - المناقب: ج 4، ص 207.
[8] - البحار: ج 46، ص 300، ح 43.
[9] - البحار: ج 81، ص 259.
[10] - دعوات الراوندي: ص 262، ح 750 و 751.
[11] - الكافي: ج 3، ص 266، باب الصبر والجزع والاسترجاع، ح 14.
[12] - البحار: ج 74. ص 142، ح 13.