يــا زَعِـيـمــاً لِـــكُـلِّ قــَاصٍ ودَانٍ * وَعـــلِــيـمـاً بِــكُــلِّ خـــافٍ وبــادِ
يــا إِمــامــاً آياتُــهُ كـَرَزايـــــاهُ * جِــسَــامٌ لا تَنـــْتَهِي بِــعِــدادِ
وفــَقِــيـــداً أَجْــرَى العــُيُــونَ وأَوْرَى * أَبـداً في القــُلُوبِ قَــدْحَ زِنـَادِ
عــَجَــباً لِلْــبـــِلادِ بــَعْــدَكَ قَــرَّتْ * وَبِـــها انــْهـــَدَّ شــامِــخُ الأَطْوادِ
عـَجـَباً لِلــْبِحــارِ فاضــَتْ بـمَــدٍ * بــَعْدَمــا غــاضَ دائِــمُ الإِمْـــدادِ
عَجَبــاً لِلــْوَرَى وَقــَدْ غِبْــتَ عـَنْها * لِــلـْهُدَى تَهْتَــدِي وَأَنْـتَ الهـادِي
عَجَــباً لِلْوُجــُودِ بَعْدَكَ بـاقٍ * وَلَـهُ كُــنْتَ عِـــلَّةَ الإِيــجـادِ
هَـــلْ دَرَى هــاشــِمٌ بِــأَبْــنَــاهُ أَوْدَتْ * بِــحَســَا السّــُمِّ غــِيـلَـةً والــحِـدادِ
أَمْ دَرَى أَحـــْمَـــدٌ تُــــذادُ ذَرارِيــــهِ * وتـــُدْنـــــي مــــِنـــْهُ ذَرارِي المَـــذَادِ
بِأَبِي مَــنْ عَلَــيْهِ حَــقٌّ لِرُســْل * اللهِ غَطَّى الأَكْبادِ لا الأَبْرادِ
بِأَبِي مَنْ عَلَيْـهِ أَعــْوَلَــتِ الأَمْــلاكُ * حـــُزْناً فَـــوْقَ الطــِّبـاقِ الشِّدادِ1
شعبي:
رُكْن الدّيـن عالبـاقـر تـهـــدَّم لمـن سمّه هشام ومات بالسّم
تحمّل من صغر سنّه النّوايب وشاف بكربلا بعينه المصايب
لـلـشّـام راح ويّ الغـرايــب ومن ذلّ اليُسر كَبده تِوَلّم
حجّ هشام بن عبد الملك بن مروان سنة من السّنين، وكان قد حجّ فيها الإمام محمّد بن عليّ الباقر عليه السلام، وابنه الإمام جعفر الصّادق عليه السلام، فقال جعفر عليه السلام، أمام حشد من النّاس، فيهم مسلمة بن عبد الملك: "الحمد لله الّذي بعث محمّداً بالحقّ نبيّاً، وأكرمنا به، فنحن صفوة الله على خلقه، وخيرته من عباده، فالسّعيد من تبعنا، والشّقيّ من عادانا وخالفنا...".
وبادر مسلمة بن عبد الملك إلى أخيه هشام، فأخبره بمقالة الإمام الصّادق، فأسرّها هشام في نفسه، ولم يتعرّض للإمامين بسوء في الحجاز, إلّا أنّه لمّا قفل راجعاً إلى دمشق، وقد أمر هشام بن عبد الملك- وكان حاكماً ظالماً- عامله على يثرب، بإشخاص الإمام الباقر عليه السلام
وولده الصّادق عليه السلام إلى الشّام.
ولمّا انتهيا إلى دمشق، حجبهما ثلاثة أيّام... وفي اليوم الرّابع أذن لهما في مقابلته، وكان مجلسه مكتظّاً بالأمويّين وسائر حاشيته، وقد نصب ندماؤه برجاساً 2، وأشياخ بني أميّة يرمونه، يقول الإمام الصّادق عليه السلام: فلمّا دخلنا، كان أبي أمامي، وأنا خلفه, فنادى هشام: "يا محمّد، ارم مع أشياخ قومك...".
فقال أبي: "قد كبرت عن الرّمي، فإن رأيت أن تعفيني...". فصاح هشام: "وحقّ من أعزّنا بدينه، ونبيّه محمّد صلى الله عليه وآله وسلم لا أعفيك..." وظنّ الطّاغية أنّ الإمام سوف يخفق في رمايته، فيتخذّ ذلك وسيلة للحطّ من شأنه أمام الغوغاء من أهل الشّام، وأومأ إلى شيخ من بني أميّة أن يناول الإمام عليه السلام قوسه، فناوله، وتناول معه سهماً فوضعه عليه السلام في كبد القوس، ورمى به الغرض، فأصاب وسطه، ثمّ تناول سهماً، فرمى به فشقّ السّهم الأوّل إلى نصله، وتابع الإمام الرّمي حتّى شقّ تسعة أسهم، بعضها في جوف بعض...وجعل هشام يضطرب من الغيظ وورم أنفه، فلم يتمالك أن صاح: "يا أبا جعفر، أنت أرمى العرب والعجم!!
وزعمت أنّك قد كبرت!!" ثمّ أدركته النّدامة على تقريظه للإمام، فأطرق برأسه إلى الأرض، والإمام واقف، ولمّا طال وقوفه غضب عليه السلام، وبان ذلك على سحنات وجهه الشّريف, وكان إذا غضب نظر إلى السّماء، ولمّا بصر هشام غضب الإمام، قام إليه واعتنقه، وأجلسه عن يمينه، وأقبل عليه بوجهه قائلاً:
"يا محمّد لا تزال العرب والعجم تسودها قريش، ما دام فيها مثلك، لله درّك!! من علّمك هذا الرّمي؟ وفي كم تعلّمته؟ أيرمي جعفر مثل رميك؟..".
فقال أبو جعفر عليه السلام: "إنّا نحن نتوارث الكمال".
وثار الطّاغية، واحمّر وجهه، وهو يتميّز من الغيظ, وأطرق برأسه إلى الأرض.
ولمّا ذاع فضل الإمام بين أهل الشام، أمر الطّاغية باعتقاله في السّجن، وقد احتفّ به السّجناء، وهم يتلقّون من علومه وآدابه، وخشي مدير السّجن من الفتنة, فبادر إلى هشام فأخبره بذلك، فأمره بإخراجه من السّجن، وإرجاعه إلى بلده.
أمّا في المدينة، فقد ظهرت له عليه السلام كرامات عجيبة، منها: ما روى الشّيخ الطّوسيّ، عن محمّد بن سليمان، أنّه قال:
كان رجل من أهل الشّام يختلف إلى أبي جعفر عليه السلام، وكان مركزه بالمدينة، فكان يختلف إلى مجلس أبي جعفر عليه السلام، يقول له: يا محمّد، ألا ترى أنّي إنّما أغشى مجلسك حياءً منك؟ ولا أقول: إنّ أحداً في الأرض أبغض إليّ منكم أهل البيت، وأعلم أنّ طاعة الله، وطاعة رسوله، وطاعة أمير المؤمنين في بغضكم!! ولكن أراك رجلاً فصيحاً، لك أدب وحسن لفظ، فإنّما اختلافي إليك لحسن أدبك.
وكان أبو جعفر عليه السلام، يقول له خيراً، ويقول: "لن تخفى على الله خافية".
فلم يلبث الشّاميّ إلّا قليلاً، حتّى مرض واشتدّ وجعه، فلمّا ثقل دعا وليّه، وقال له: إذا أنت مددت عليّ الثّوب، فَأْتِ محمّد بن عليّ عليها السلام، وسله أن يصلّي عليّ، وأعلمه أنّي أنا الّذي أمرتك بذلك.
قال: فلمّا أن كان في نصف اللّيل، ظنّوا أنّه قد برد، وسجّوه؛ فلمّا أن أصبح النّاس، خرج وليّه إلى المسجد، فلمّا أن صلّى محمّد بن عليّ عليه السلام وتورّك - وكان إذا صلّى عقّب في مجلسه- قال له: يا أبا جعفر، إنّ فلاناً الشّاميَّ قد هلك، وهو يسألك أن تصلّي عليه، فقال أبو جعفر: كلّا، إنّ بلاد الشّام بلاد برد، والحجاز بلاد حرّ، ولهبها شديد،
فانطلق، فلا تعجل على صاحبك، حتّى آتيكم.
ثمّ قام عليه السلام من مجلسه، فأخذ وضوءاً، ثمّ عاد فصلّى ركعتين، ثمّ مدّ يده تلقاء وجهه ما شاء الله، ثمّ خرّ ساجداً حتّى طلعت الشّمس، ثمّ نهض عليه السلام، فانتهى إلى منزل الشّاميّ، فدخل عليه، فدعاه فأجابه، ثمّ أجلسه، ودعا له بسويق فسقاه، وقال لأهله: إملأوا جوفه، وبرّدوا صدره بالطّعام البارد، ثمّ انصرف.
فلم يلبث إلّا قليلاً حتّى عوفي الشّاميّ، فأتى أبا جعفر عليه السلام، فقال: أخلني، فأخلاه، فقال: أشهد أنّك حجّة الله على خلقه، وبابه الّذي يؤتى منه، فمن أتى من غيرك خاب وخسر، وضلّ ضلالاً بعيداً.
قال له أبو جعفر عليه السلام: وما بدا لك؟ قال: أشهد أنّي عهدت بروحي، وعاينت بعيني، فلم يتفاجأني إلّا ومنادٍ ينادي، أسمعه بأذني ينادي: وما أنا بالنائم: ردّوا عليه روحه، فقد سألنا ذلك محمّد بن عليّ.
فقال له أبو جعفر: أما علمت أنّ الله يحبّ العبد ويبغض عمله، ويبغض العبد ويحبّ عمله؟
(أي: يحدث هذا أحياناً، فقد كنتَ مبغوضاً عند الله تعالى، أمّا محبّتك لنا فهي عند الله تعالى مطلوبة).
قال الرّاوي: فصار الشّاميّ بعد ذلك من أصحاب أبي جعفر عليه السلام.
ولم يطق هشام بن عبد الملك هذا الفضل وأمثاله من الإمام الباقر عليه السلام، فدسّ له السمّ.
عن الصّادق عليه السلام، أنّه قال: كنت عند أبي في اليوم، الّذي قبض فيه، فأوصاني بأشياء في غسله، وفي كفنه، وفي دخوله قبره، قال، قلت: يا أبتاه, والله، ما رأيت منذ اشتكيت، أحسن هيئة منك اليوم، وما رأيت عليك أثر الموت.فقال: يا بنيّ أما سمعت عليّ بن الحسين، ناداني من وراء الجدران: يا محمّد، تعال، عجّل.
المصيبة:
عن أبي عبد الله عليه السلام، أنّه أتى أبا جعفر عليه السلام، ليلة قبض، فقال: يا بنيّ, إنّ هذه اللّيلة الّتي أقبض فيها، وهي اللّيلة الّتي قبض فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, قال: وحدّثني أنّ أباه عليّ بن الحسين عليهما السلام أتاه بشراب، في اللّيلة الّتي قبض فيها، فقال: اشرب هذا, فقال: يا بنيّ, هذه اللّيلة الّتي وعدت أن أقبض فيها، فقبض فيها.
أوصى ولده الصّادق بعدّة وصايا:
أمّا نصّ وصيّته، فقد رواها الإمام أبو عبد الله الصّادق
عليه السلام، قال عليه السلام: لمّا حضرت أبي الوفاة، قال: ادع لي شهوداً, فدعوت له أربعة من قريش، فيهم نافع مولى عبد الله بن عمر، فقال: اكتب: "هذا ما أوصى به يعقوب بنيه، } يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ{, وأوصى محمّد بن عليّ إلى جعفر بن محمّد، وأمره أن يكفّنه في برده، الّذي كان يصلّي فيه الجمعة، وأن يعمّمه بعمامته، وأن يربّع قبره، ويرفعه أربع أصابع، وأن يحلّ عنه أطماره عند دفنه.
وتفاعل السّمّ في بدن الإمام أبي جعفر عليه السلام، وأثّر به تأثيراً بالغاً، وأخذ يدنو إليه الموت سريعاً، وقد اتجه في ساعاته الأخيرة بمشاعره وعواطفه نحو الله تعالى، فأخذ يقرأ القرآن الكريم، ويستغفر الله، وبينما لسانه مشغول بذكر الله، إذ وافاه الأجل المحتوم، فارتفعت روحه العظيمة إلى خالقها.
ظل من عقب هظم الغاضريّة معظم على الصّبر من جور أميّة
لمـن جـرّعـوه كاسـات المنيّــة وكبده ذاب وتقطّع من السّم
ومن جملة وصاياه (صلوات الله عليه)، ما أوصاه لولده
الإمام الصّادق عليه السلام ساعة احتضاره: "بنيّ, أسرج ضياءً بمكان جسدي"، قال: "لأنّ الرّوح تعود إلى مكان الجسد، فإذا رأته مظلماً استوحشت".
وكلّ الأئمّة عليهم السلام عملوا بهذه السّنّة، لكن أسفي على غريب كربلاء، أبي عبد الله الحسين، هل أسرج له إمامنا السّجّاد عليه السلام الضّياء؟ كلّا, ومن أين له بسراج تلك اللّيلة؟ نعم، كان هناك نور ينبعث من جسده الشّريف، كما يقول ذلك العدوّ: ما رأيتُ قتيلاً مضمّخاً بدمه، أنور وجهاً منه، ولقد شغلني نور وجهه عن الفكرة في قتله.
هذا هو النّور الّذي رأته زوجة خولّى فحيّرها, تقول: رأيت رأساً مخضّباً بدمائه، ينبعث منه النّور إلى عنان السّماء، صاحت: يا رأس، أقسمت عليك بحقّ محمّد المصطفى, وبحقّ عليّ المرتضى, وبحقّ فاطمة الزّهراء, إلّا أخبرتني من أنت؟! تقول: ففتح الحسين شفتيه، وقال: "أمة الله, أنا المظلوم، أنا الغريب، أنا العطشان!؟".
أنــا الـذي ــذبــوح ظـامي وفي كــربـلا ســلبــَوْا أيــتــامي
وخـيل العـدى رضّــت اعـــظامي وراسي عـالــرّمح مـنــصوب
وقد أوصى ولده الصّادق عليه السلام، بأن يقيم له مأتماً في مكان في منى، أيّام موسم الحجّ، لمدّة عشر سنوات، وقال له: "استأجر نوادباً يندبن عليّ".
وإذا كان الإمام الباقر عليه السلام، قد أوصى ولده الصّادق، أن يستأجر من يندب عليه، فإنّ الإمام الحسين صلوات الله عليه، طلب من كلّ شيعته ومحبّيه، أن يقيموا عليه مأتماً في كلّ مكان وزمان, وذلك لمّا ألقت سكينة بنفسها على جسده الشّريف، يوم الحادي عشر من المحرّم، وجعلت تنادي: "أبه من الّذي قطع وريدك؟!"، قالوا: لم تزل تنادي أبه يا أبه, ثمّ قالت:
"سمعت الصّوت يخرج من منحر والدي الحسين، وهو يقول: بنيّة سكينة، إقرأي شيعتي عنيّ السّلام، وقولي لهم: إنّ أبي قتل غريباً، فاندبوه، وذبح عطشاناً، فاذكروه".
شيعتي مهما شربتم عذب ماء فاذكروني
أو سمعتم بغريب أو قتيل فاندبوني
فأنا السبط الذي من غير جرم قتلوني
وبجرد الخيل بعد القتل عمداً سحقوني
ليتكم في يوم عاشورا جميعا تنظروني
كيف أستسقي لطفلي فأبوا أن يرحموني
شيعتي نِصْبوا المآتم والعزا لمصيبتي واذكروا تعفير خدّي بالتّراب وذبحتي
لو شربتوا ماي ذكروا العطش فت كبدتي واقصدوا لكربلا والكل يسكب عبرته
لو تشوفوني على الثَّرى مرمي طريح خدّي موسّد ترايب والدّما منّي تسيح
كم عضيد وكم ولد قضى قبلي ذبيح واحد يظل عالشّريعة واحد أحمل جثّته
بَيْنا سكينة محتضنة لجسد أبيها الحسين، إذ جاء إليها عدّة من الأعراب، كلّما أرادوا أن يقيموها من على جسد أبيها الحسين ما استطاعوا، فأقبل الشّمر، وجعل يضرب سكينة بالسّياط، وهي تلوذ ببدن أبيها، حتّى أقاموها عنه.
يضــربــوني وادفــــع بديــــّة شبيدي اعلى دهري لخان بيّه
أنا منين إجَتْنــي الغاضــريّة راحــوا هــلي مــن بــين ايـديَه
بــرضــاك لـو رغــماً عـليــك يجرّني الشّمر من بين ايديك
وأنا أصرُخ واديـر العــين ليـــك وادري بحمـــيتــك مـا تخلّــيك
معذور يالحزّوا وريديك
سِبْطُ النَّبِيِّ المُصْطَفَى خَيْرُ المَلاَ صادِي الحُشاشَةِ قَدْ قَضَى في كَرْبَلاَ
قُمْ فَابْكِهِ أَسَــفاً وَقُــلْ مُتــَمَثِّـــــلا بُعـــْداً لِـــشَطِّـــكَ يـــا فُـــراتُ فـــمُـرَّلا
تَحْلُو فَإِنَّكَ لا هَنِيُّ وَلا مَرِي
هوامش
1- القصيدة للسَّيِّد صالح القزوينيّ.
2- غرض في الهواء على رأس رمح يرمى بالسِّهام.