1 – تاريخ الطبري عن أبي الدرداء : كان عليّ لمّا فرغ من أهل النهروان حمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال : إنّ الله قد أحسن بكم ، وأعزّ نصركم ، فتوجّهوا من فَوْركم هذا إلى عدوّكم .
قالوا : يا أمير المؤمنين ، نفدت نبالنا ، وكلّت سيوفنا ، ونصلت أسنّة رماحنا ، وعاد أكثرها قصداً ، فارجع إلى مصرنا ، فلنستعدّ بأحسن عدّتنا ، ولعلّ أمير المؤمنين يزيد في عدّتنا عدّة مَن هلك منّا ؛ فإنّه أوفى لنا على عدوّنا .
وكان الذي تولّى ذلك الكلام الأشعث بن قيس .
فأقبل حتى نزل النُّخَيلة ( 1 ) ، فأمر الناس أن يلزموا عسكرهم ، ويوطّنوا على الجهاد أنفسهم ، وأن يُقلّوا زيارة نسائهم وأبنائهم حتى يسيروا إلى عدوّهم .
فأقاموا فيه أيّاماً ، ثمّ تسلّلوا من معسكرهم ، فدخلوا إلاّ رجالاً من وجوه الناس قليلاً ، وتُرك العسكر خالياً ، فلمّا رأى ذلك دخل الكوفة ، وانكسر عليه رأيُه في المسير ( 2 ) .
2 – الغارات عن طارق بن شهاب : إنّ عليّاً ( عليه السلام ) انصرف من حرب النهروان حتى إذا كان في بعض الطريق نادى في الناس فاجتمعوا ، فحمد الله وأثنى عليه ، ورغّبهم في الجهاد ، ودعاهم إلى المسير إلى الشام من وجهه ذلك ، فأبوا وشكوا البرد والجراحات ، وكان أهل النهروان قد أكثروا الجراحات في الناس .
فقال : إنّ عدوّكم يألمون كما تألمون ، ويجدون البرد كما تجدون .
فأعيوه وأبوا ، فلمّا رأى كراهيتهم رجع إلى الكوفة وأقام بها أيّاماً ، وتفرّق عنه ناس كثير من أصحابه ؛ فمنهم مَنْ أقام يرى رأي الخوارج ، ومنهم مَنْ أقام شاكّاً في أمره ( 3 ) .
3 – تاريخ الطبري عن زيد بن وهب : إنّ عليّاً قال للناس – وهو أوّل كلام قاله لهم بعد النهر – : أيّها الناس ، استعدّوا إلى عدوّ في جهاده القربة إلى الله ، ودرك الوسيلة عنده .
حَيارى في الحقّ ، جفاة عن الكتاب ، نُكْب ( 4 ) عن الدين ، يَعْمَهون في الطغيان ، ويُعْكَسون في غمرة الضلال ، ف ( أَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّة وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ ) ( 5 ) وتوكّلوا على الله ، وكفى بالله وكيلاً ، وكفى بالله نصيراً .
قال : فلا هم نفروا ولا تيسّروا ، فتركهم أيّاماً حتى إذا أيِس من أن يفعلوا ، دعا رؤساءهم ووجوههم فسألهم عن رأيهم وما الذي يُنظِرهم ( 6 ) ؟ فمنهم المعتلّ ، ومنهم المكرَه ، وأقلّهم من نشط ، فقام فيهم خطيباً فقال :
عبادَ الله ! ما لكم إذا أمرتكم أن تنفروا اثّاقلتم إلى الأرض ! أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة ، وبالذلّ والهوان من العزّ ! أوَ كلّما ندبتكم إلى الجهاد دارت أعينكم كأنّكم من الموت في سَكرة ، وكأنّ قلوبكم مألوسة ( 7 ) فأنتم لا تعقلون !
وكأنّ أبصاركم كُمْه فأنتم لا تبصرون .
لله أنتم ! ما أنتم إلاّ اُسود الشَّرى في الدَّعة ، وثعالب روّاغة حين تُدعون إلى البأس ، ما أنتم لي بثقة سَجِيس الليالي ( 8 ) ، ما أنتم برَكب يُصال بكم ، ولا ذي عزّ يُعتصم إليه .
لعمر الله ، لبئس حُشّاش الحرب أنتم ! إنّكم تُكادون ولا تكيدون ، ويُتنقّص أطرافكم ولا تتحاشون ، ولا يُنام عنكم وأنتم في غفلة ساهون ، إنّ أخا الحرب اليقظانُ ذو عقل ، وبات لذلٍّ مَن وادَعَ ، وغلب المتجادلون ، والمغلوب مقهور ومسلوب .
ثمّ قال : أمّا بعد ؛ فإنّ لي عليكم حقّاً ؛ وإنّ لكم عليَّ حقّاً ، فأمّا حقّكم عليَّ فالنصيحة لكم ما صحبتكم ، وتوفير فيئكم عليكم ، وتعليمكم كيما لا تجهلوا ، وتأديبكم كي تعلّموا ، وأمّا حقّي عليكم فالوفاء بالبيعة ، والنصح لي في الغيب والمشهد ، والإجابة حين أدعوكم ، والطاعة حين آمركم ، فإن يُرِد الله بكم خيراً انتزعتم عمّا أكره ، وتَراجعوا إلى ما أُحبّ ، تنالوا ما تطلبون ، وتُدركوا ما تأملون ( 9 ) .
ــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1 ) النُّخَيلَة – تصغير نخلة – : موضع قرب الكوفة على سمت الشام ، وهو الموضع الذي خرج إليه الإمام علي ( عليه السلام ) ( معجم البلدان : 5 / 278 ) .
( 2 ) تاريخ الطبري : 5 / 89 ، الكامل في التاريخ : 2 / 408 ، مروج الذهب : 2 / 418 وفيه إلى ” النُّخَيلة ” ، الإمامة والسياسة : 1 / 170 ، شرح نهج البلاغة : 2 / 192 ، البداية والنهاية : 7 / 307 عن عيسى بن دآب وكلّها نحوه .
( 3 ) الغارات : 1 / 28 .
( 4 ) نَكَب عن الشيء : عَدَل ( لسان العرب : 1 / 770 ) .
( 5 ) الأنفال : 60 .
( 6 ) من الإنظار : التأخير والإمهال ( النهاية : 5 / 78 ) .
( 7 ) من الألْس ؛ وهو اختلاط العقل ( النهاية : 1 / 60 ) .
( 8 ) سَجيس الليالي : أي أبداً ( النهاية : 2 / 343 ) .
( 9 ) تاريخ الطبري : 5 / 90 ، أنساب الأشراف : 3 / 153 ، الكامل في التاريخ : 2 / 408 ، الإمامة والسياسة : 1 / 170 ؛ الغارات : 1 / 33 كلّها نحوه .