كان عليه السلام قد بلغ في كمال العقل والفضل والعلم والحكم والأدب – مع صغر سنه – منزلة لم يساوه فيها أحد من ذوي السن من السادات وغيرهم ، ولذلك كان المأمون مشغوفا به لما رأى من علو رتبته وعظم منزلته في جميع الفضائل ، فزوجه ابنته أم الفضل ، وحملها معه إلى المدينة ، وكان متوفرا على تعظيمه وتوقيره وتبجيله .
وروي عن الريان بن شبيب : أن المأمون لما أراد أن يزوجه ابنته استكبر ذلك جماعة العباسية ، وخاضوا في ذلك ، وقالوا للمأمون : ننشدك الله أن تقيم على هذا الامر الذي عزمت عليه من تزويج ابن الرضا ، فإنا نخاف أن تخرج به عنا أمرا قد ملكناه الله ! وتنزع عنا عزا قد ألبسناه الله وقد كنا في وهلة من عملك مع الرضا حتى كفانا الله المهم من ذلك !
فقال المأمون : والله ما ندمت على ما كان مني من استخلاف الرضا ، ولقد سألته أن يقوم بالامر وانزعه من عنقي فأبى ، وكان أمر الله قدرا مقدورا ، وأما أبو جعفر فقد اخترته لتبريزه على كافة أهل الفضل مع صغر سنه والأعجوبة فيه بذلك .
فقالوا له : إنه صبي لا معرفة له ، فأمهله ليتأدب ويتفقه في الدين ثم اصنع ما تراه .
فقال لهم : ويحكم ، إني أعرف بهذا الفتى منكم ، وإن أهل هذا البيت علمهم من الله تعالى ومواده وإلهامه ، ولم يزل آباؤه أغنياء في علم الذين والأدب عن الرعايا الناقصة عن حد الكمال ، فإن شئتم فامتحنوا أبا جعفر حتى يتبين لكم ما وصفت لكم من حاله .
قالوا : قد رضينا بذلك .
فخرجوا ، واتفق رأيهم على أن يحيى بن أكثم يسأله مسألة – وهو قاضي الزمان – فأجابهم المأمون إلى ذلك .
واجتمع القوم في يوم اتفقوا عليه ، وأمر المأمون أن يفرش لأبي جعفر دست ( 1 ) ، وبجعل له فيه مسورتان ، ففعل ذلك ، وخرج أبو جعفر – وهو يومئذ ابن تسع سنين وأشهر – فجلس بين المسورتين ، وجلس يحيى بن أكثم بين يديه ، وقام الناس في مراتبهم ، والمأمون جالس في دست متصل بدست أبي جعفر عليه السلام ، فقال يحيى بن أكثم للمأمون : أتأذن لي يا أمير المؤمنين
أن أسأل أبا جعفر ؟
فقال : استأذنه في ذلك .
فأقبل عليه يحيى وقال : أتأذن لي جعلت فداك في مسألة ؟
فقال : ( سل إن شئت ) .
فقال : ما تقول – جعلت فداك – في محرم قتل صيدا ؟
فقال أبو جعفر عليه السلام : ( في حل أو حرم ؟ عالما كان المحرم أو جاهلا ؟ قتله عمدا أو خطأ ؟ حرا كان المحرم أو عبدا ؟ صغيرا كان أم كبيرا ؟
مبتدئا كان بالقتل أم معيدا ؟ من ذوات الطير كان الصيد أم من غيرها ؟ من صغار الصيد كان أم كبارها ؟ مصرا كان على ما فعل أم نادما ؟ ليلا كان قتله للصيد أم نهارا ؟ محرما كان بالعمرة إذ قتله أو بالحج كان محرما ؟ ) .
فتحير يحيى بن أكثم وبان في وجهه العجز والانقطاع ، وتلجلج حتى عرف أهل المجلس أمره ، فقال المأمون : الحمد لله على هذه النعمة والتوفيق لي في الرأي ، ثم قال لأبي جعفر عليه السلام : اخطب لنفسك ، فقد رضيتك لنفسي وأنا مزوجك أم الفضل ابنتي .
فقال أبو جعفر عليه السلام : ( الحمد لله إقرارا بنعمته ، ولا إله إلا الله إخلاصا لوحدانيته ، وصلى الله على محمد سيد بريته ، وعلى الأصفياء من عترته .
أما بعد : فقد كان من فضل الله على الأنام أن أغناهم بالحلال عن الحرام فقال سبحانه : ( وانكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم ) ( 2 ) ثم إن محمد بن علي بن موسى يخطب أم الفضل ابنة عبد الله المأمون ، وقد بذل لها من الصداق مهر جدته فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو خمسمائة درهم جيادا ، فهل زوجته يا أمير المؤمنين بها على الصداق ا لمذكور ؟ )
فقال المأمون : نعم ، قد زوجتك يا أبا جعفر أم الفضل ابنتي على الصداق المذكور ، فهل قبلت النكاح ؟
قال أبو جعفر : ( نعم ، قبلت النكاح ورضيت به ) .
فأمر المأمون أن يقعد الناس على مراتبهم .
قال الريان : فلم نلبث أن سمعنا أصواتا تشبه أصوات الملاحين ، فإذا الخدم يجرون سفينة مصنوعة من فضة تشد بحبال الإبريسم على عجلة مملوة من الغالية ( 3 ) ، ثم أمر المأمون أن تخضب لحى الخاصة من تلك الغالية ، ثم . مدت إلى دار العامة ، وطيبوا بها ، ووضعت الموائد وأكل الناس ، وخرجت الجوائز إلى كل قوم على قدرهم .
فلما تفرق الناس وبقي من الخاصة من بقي قال المأمون لأبي جعفر : إن رأيت جعلت فداك أن تذكر تفصيل ما ذكرته من الفقه في قتل المحرم فعلت .
فقال أبو جعفر : ( نعم ) . وأجاب عن جميع المسائل بما هو مشهور .
فقال له المأمون : أحسنت ، أحسن الله إليك يا أبا جعفر ، فإن رأيت أن تسأل يحيى عن مسألة كما سألك .
فقال له أبو جعفر عليه السلام : ( اخبرني عن رجل نظر إلى امرأة في أول النهار فكان نظره إليها حراما عليه ، فلما ارتفع النهار حلت له ، فلما زالت الشمس حرمت عليه ، فلما كان وقت العصر حلت له ، فلما غربت الشمس حرمت عليه ، فلما دخل وقت العشاء الآخرة حلت له ، فلما كان انتصاف الليل حرمت عليه ، فلما طلع الفجر حلت له ، ما حال هذه المرأة ، وبماذا حلت له وحرمت عليه ؟ )
فقال يحيى : لا أعرف ذلك ، فإن رأيت أن تفيدنا .
فقال أبو جعفر عليه السلام : ( هذه المرأة أمة لرجل من الناس ، نظر ( إليها ( أجنبي ) ( 4 ) أول النهار ( فكان نظره إليها حراما ) فلما ارتفع النهار ابتاعها من مولاها فحلت له ، فلما كان عند الظهر أعتقها فحرمت عليه ، ثم تروجها وقت العصر فحلت له ، ثم ظاهر منها وقت المغرب فحرمت عليه ، ثم كفر عن الظهار وقت العشاء فحلت له ، ثم طلقها واحدة نصف الليل فحرمت عليه ، ثم راجعها وقت الفجر فحلت له ) .
فأقبل المأمون على من حضره من أهل بيته وقال : ويحكم ، إن أهل هذا البيت خصوا من الخلق بما ترون من الفضل ، لان صغر السن فيهم لا يمنعهم من الكمال ، أما علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم افتتح دعوته بدعاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وهو ابن عشر سنين ، وقبل منه الاسلام ، وحكم الله له به ، ولم يدع أحدا في سنه غيره ، وبايع الحسن والحسين عليهما السلام وهما ابنا دون الست سنين ولم ببايع صبيا غيرهما ، فإنهم ذرية بعضها من بعض ، يجري لاخرهم ما يجري لأولهم .
قالوا : صدقت يا أمير المؤمنين . ثم نهض القوم .
فلما كان من الغد أحضر الناس ، وحضر أبو جعفر عليه السلام ، وصار القواد والحجاب والخاصة والعمال لتهنئة المأمون وأبي جعفر ، فأخرجت ثلاثة أطباق من الفضة فيها بنادق مسك وزعفران معجون ، في أجواف تلك
البنادق رقاع مكتوبة بأموال جزيلة وعطايا سنية واقطاعات ، فأمر المأمون بنثرها على القوم من خاصته ، فكل من وقع في يده بندقة أخرج الرقعة التي فيها والتمسه فأطلق له ، ووضعت البدر فنثر ما فيها على القواد وغيرهم ، وانصرف الناس وهم أغنياء بالجوائز والعطايا ، ولم يزل مكرما لأبي جعفر عليه السلام يؤثره على ولده وجماعة أهل بيته ( 5 ) .
ولما انصرف أبو جعفر عليه السلام من عند المأمون ببغداد ومعه أم الفضل إلى المدينة ، صار إلى شارع باب الكوفة والناس يشيعونه ، فانتهى إلى دار المسيب عند مغيب الشمس ، فنزل ودخل المسجد ، وكان في صحنه نبقة لم تحمل بعد ، فدعا بكوز فيه ماء فتوضأ في أصل النبقة وقام وصلى بالناس صلاة المغرب ، فقرأ في الأولى ( بالحمد ) و ( إذا جاء نصر الله ) وفي الثانية ( بالحمد ) و ( قل هو الله أحد ) وقنت قبل الركوع ، وجلس بعد التسليم هنيهة يذكر الله تعالى ، وقام من غير تعقيب فصلى النوافل أربع ركعات ، وعقب بعدها ، وسجد سجدتي الشكر ثم خرج ، فلما انتهى إلى النبقة رآها الناس وقد حملت حملا كثيرا حسنا ، فتعجبوا من ذلك ، فأكلوا منها فوجدوه نبقا حلوا لا عجم له ، ومضى عليه السلام إلى المدينة ( 6 ) .
ولم يزل بها حتى أشخصه المعتصم إلى بغداد في أول سنة ( خمس وعشرين ) ( 7 ) ومائتين ، فأقام بها حتى توفي في آخر ذي القعدة من هذه السنة ( 8 ) .
وقيل : إنه مضى عليه السلام مسموما ( 9 ) .
وخلف من الولد : ابنه عليا عليه السلام الامام ، وموسى ( 10 ) .
( ويقال : و ) ( 11 ) فاطمة ، وامامة ابنتيه ، ولم يخلف غيرهم ( 12 ) .
ــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1 ) دست : كلمة معربة ، ويراد بها جانب من البيت .
( 2 ) النور 24 : 32 .
( 3 ) الغالية : نوع من الطيب مركب من مسك وعنبر وعود ودهن . ( لسان العرب 15 : 134 ) .
( 4 ) ما بين المعقوفين أثبتناه من الارشاد ليستقيم السياق .
( 5 ) ما بين المعقوفين أثبتناه من الارشاد ليستقيم السياق .
( 6 ) ارشاد المفيد 2 : 1 28 ، وباختلاف يسير في : الاحتجاج : 443 ، ونحوه في : اثبات الوصية : 189 ، دلائل الإمامة : 206 ، روضة الواعظين : 237 ، الفصول المهمة : 267 ، ودون ذيله في : المناقب لابن شهرآشوب 4 : 380 .
( 7 ) ارشاد المفيد 2 : 288 ، مناقب ابن شهرآشوب 4 : 390 ، كشف الغمة 2 : 370 ، الفصول المهمة : 270
( 8 ) كذا في نسخنا والصواب عشرين .
انظر : الكافي 1 : 411 و 416 / 12 ، ارشاد المفيد 2 : 273 و . 295 ، تاريخ أهل البيت عليهم السلام : 85 ، كشف الغمة 2 : 370 ، الفصول المهمة : 275 .
( 9 ) ارشاد المفيد 2 : 289 ، كشف الغمة 2 : 370 ، الفصول المهمة : 275 ، وانظر : الكافي 1 : 411 و 416 / 12 ، تاريخ أهل البيت عليهم السلام : 85 .
( 10 ) ارشاد المفيد 2 : 295 ، تفسير العياشي 1 : 320 ، مناقب ابن شهرآشوب 4 : 379 ، دلائل الإمامة : 209 ، كشف الغمة 2 : 370 ، الفصول المهمة : 276 ونقله المجلسي في بحار الأنوار 50 : 13 ذيل ح 12 .
( 11 ) في نسخة ( م ) زيادة : ومن البنات حكيمة وخديجة وأم كلثوم .
( 12 ) في نسخة ( م ) وقد قيل أنه خلف .
ارشاد المفيد 2 : 295 .