بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلّى الله على سيدنا محمد
و آله الطاهرين؛
تتعالى بين الحين والحين أصوات تنادي بإعادة كتابة التاريخ الإٍسلامي، وكأنّ المسألة تحتاج إلى إذن من أمين الجامعة العربيّة أو الأمين العامّ للأمم المتّحدة؛ والحقّ أنّه لا ينبغي التّشكيك في تلك الأصوات، لأنّه لا حجر على الفكر ولا احتكار، لكن يبقى لها أن تمرّ بالامتحان، والامتحان وحده هو الذي يميّز الخبيث من الطيّب والصادق من الكاذب. وعليه، فلا بدّ من عرض أفكار وأعمال أصحاب تلك الأصوات على المفاهيم والقيم المعنويّة التي لا تختلف فيها المجتمعات البشريّة على اختلاف ثقافاتها ومعتقداتها. حينها يمكن لنا أن نقول: " إنّ في العالم الإسلامي دعاة يطالبون جادّين بإعادة كتابة التّاريخ الإٍسلامي من منطلق إيمان شخصيّ يهدف إلى إرضاء ضمير صاحبه، وإرضاء الضّمير يختلف بين شخص وآخر، و قد يصل عند بعض إلى حدّ التّضحية بالنّفس .
إعادة كتابة التاريخ الإسلامي، والتاريخ الإسلامي يبدأ بسيرة النبيّ(ص)؛
لماذا تأخّرت كتابة سيرة النبيّ (ص) إلى القرن الثاني ؟
من كتب التّاريخ الإسلامي؟ وكيف كانت بداية كتابته؟ وهل كان المؤرّخ موضوعيّا نزيها حين يكتب عن مخالفيه؟
لماذا تجاهل المؤرّخون موسى بن جعفر(ع) والسّنوات التي قضاها في غياهب السّجن بينما كان هارون بن المهدي غارقا في عالم النّساء والكأس والعود، ولم يكتفوا بذلك بل راحوا يقولون عن هارون " يحجّ عاما ويغزو عاما " ؟
ألم يمجّدوا أبا جعفر المنصور العبّاسي الذي أخاف ذرّية رسول الله(ص) ونكّل بهم وشرّدهم في كلّ صوب ؟ ومع ذلك تسرّب إلينا وصفه المناسب والتّعريف بحقيقته، فقد قال المقدسي في البدء والتّاريخ في وصف المنصور: «كان أكبر من أبي العبّاس بثماني عشرة سنة وذكروا أنّه كان رجلا أسمر، نحيفا، طويل القامة، قبيح الوجه، دميم الصّورة، ذميم الخلق، أشحّ خلق الله وأشدّه حبّا للدّينار والدّراهم، سفّاكا للدّماء، ختّارا بالعهود، غدّارا بالمواثيق، كفورا بالنّعم، قليل الرّحمة. وكان جال في الأرض وتعرّض للناس، وكتب الحديث وحدّث في المساجد، وتصرّف في الأعمال الدّنيّة والحرف الشّائنة، وقاد القود لأهلها، وضربه سليمان بن حبيب بالسّياط. وفي الجملة والتّفصيل كان رجلا دنيئا، خسيسا، كريها شرّيرا..الخ([1]). هذه صفات الخليفة الذي يدعي أنه ينوب عن رسول الله (ص) في الأمة!
لماذا وقف المؤرّخون إلى جنب الحاكم ودافعوا عنه حتى حين يخالف الشّريعة الإسلاميّة؟
ما هو موقف الفقهاء من خلفاء زمانهم الذين كانوا يبيتون يستمعون إلى أنغام النّاي والعود وأصوات الغلمان والجواري حتى مطلع الفجر؟
هل كانت حرّيّة الفكر والتّعبير محفوظة للمسلم في دولتي بني أميّة وبني العبّاس المنتسبتين إلى الإسلام؟
لماذا قال المؤرّخون عن أبي لؤلؤة قاتل عمر بن الخطاب " مجوسي " وهو الذي كان في الصّفّ الأوّل بعد تكبيرة الإحرام([2]) وقالوا عن قاتل علي(ع) مجتهد([3])، وهو الذي سمّاه رسول الله(ص) أِشقاها؟!
لماذا لم يتوقّف المؤرّخون عند قضيّة دفن عثمان، فإنّه دفن في مقبرة اليهود ولم يعترض على ذلك أحد من الصّحابة، بل اعترضوا على دفنه مع المسلمين؟ أليس من عادة الأصوليّين أن يعتبروا سكوت الصّحابة وإمضاءهم من الأدلّة التي يعتبرونها شرعيّة ويبنون عليها الأحكام؟
مثل هذه الأسئلة هي التي يحقّ لنا طرحها إذا كنّا نرغب فعلا في إعادة كتابة التّاريخ بصورة نزيهة لا تمجّد الحاكم، فلقد لعب الحاكم دورا مهمّا في كتمان الحقائق ونشر الأباطيل، وقد بقي ذلك سنّة متوارثة تنتقل من جيل إلى جيل حتّى رأينا العجب في أيّامنا؛ فهذا صدّام حسين زعيم حزب البعث في العراق، الذي حكم شعبه بالحديد والنّار ثلث قرن من الزّمان، مارس فيه أبشع أنواع القتل والتّعذيب، واعتدى على دولتين من دول الجوار فأيتم مئات الآلاف من الأولاد، ورمّل مئات الآلاف من النّساء، وهدم آلاف البيوت ومدنا بمؤسّساتها وبناها التّحتية.. ثمّ فرّ فرار العبيد، وألقي عليه القبض في حفرة ضيّقة لا تصلح إلاّ للجرذان، واستخرج من هناك وقد تغيّرت سحنته ورائحته حتى كان الطّبيب الأمريكيّ الذي فحصه ساعتها يضع قماشا واقيا على أنفه من شدّة ما كان ينبعث من الزّعيم العربي ـ أقول ـ : هذا الهارب المختبئ في حفرة تحوّل بعد إعدامه إلى بطل مظلوم يثير ذكره المشاعر، وصار إضافة إلى ذلك "رمزا دينيّا "، وهو الذي كان أيّام حكمه يكفر بالمذاهب كلّها والأديان كلّها طالما سلم له دين البعث ونبيّه ميشيل عفلق! تحوّل هذا الشّخص بجرائمه إلى بطل يبكي عليه الخطباء في المساجد!
إذا كان هذا شأن ما جرى أمام أعيننا، فكيف نثق بما وصل إلينا عن طريق مؤرّخين تهتزّ قلوبهم للدّينار ولا تبالي بالمأثم والعار؟
ألم يكن جعفر المتوكّل العبّاسي مدمنا على الخمر ليله ونهاره وهو على سدّة الخلافة، حتى قتل وهو على مائدة الخمر سكران لا يعقل؟! ومع ذلك قالوا عنه «مظهر السّنّة»([4])!
ألم يقل أحمد بن حنبل «إني لأرجو أن يرحم الله الأمين بإنكاره على إسماعيل ابن علية فإنّه أدخل عليه فقال له: يا ابن الفاعلة أنت الذي تقول كلام الله مخلوق»([5])؟ علما أنّ الأمين هذا كان لا يصحو من السّكر حتّى قال شاعرهم عند قتله:
لم نبـكـيك لماذا للـطـرب يا أبا موسى وترويج اللّعب | ولترك الخمس في أوقاتـها حرصا منك على ماء العنب([6]) |
لم تبدأ كتابة سيرة النبي(ص)إلاّ في دولة العبّاسيين، لماذا؟ هل كان هناك رقابة شديدة، أم أنّ المسلمين لم يكونوا يهتمّون بسيرة نبيّهم (ص)الذي أخرجهم الله به من الظّلمات إلى النّور؟ لعلّ جواب ذلك يكمن في قول ابن هشام الحميريّ مهذّب سيرة ابن إسحاق حيث قال: «وأنا إن شاء الله مبتدئ هذا الكتاب بذكر إسماعيل بن إبراهيم، و من ولد رسول الله(ص)من ولده، وأولادهم لأصلابهم، الأوّل فالأوّل، من إسماعيل إلى رسول الله(ص)، و ما يعرض من حديثهم، وتارك ذكر غيرهم من ولد إسماعيل على هذه الجهة للاختصار، إلى حديث سيرة رسول الله (ص)، وتارك بعض ما ذكره ابن إسحاق في هذا الكتاب، ممّا ليس لرسول الله(ص) فيه ذكر، و لا نزل فيه من القرآن شيء، و ليس سببا لشيء من هذا الكتاب ولا تفسيرا له ولا شاهدا عليه لما ذكرت من الاختصار، وأشعارا ذكرها لم أر أحدا من أهل العلم بالشّعر يعرفها، وأشياء بعضها يشنع الحديث به، وبعض يسوء بعض النّاس ذكره، وبعض لم يقرّ لنا البكّائيّ بروايته، و مستقص إن شاء الله تعالى ما سوى ذلك منه بمبلغ الرواية له، والعلم به "([7]).
إذاً، هناك في تاريخ المسلمين " أشياء بعضها يشنع الحديث به، وبعض يسوء بعض النّاس ذكره" ولأجل أن يبدو التّاريخ رائقا رائعا لابدّ من كتمانها وإخفائها عن النّاس! لابدّ من حذفها من الكتب والرّوايات أو تحريفها بطريقة تجعل أصحاب اليمين على الشّمال وأصحاب الشّمال في اليمين! لابدّ من وأدها حيّة تتنفّس حتى لا تعرّض صور الخلفاء والزّعماء للتّشويه فتصبح قاتمة بعد أن كانت برّاقة لمّاعة.
هذا الكلام كرّره الذهبيّ بعد قرون من رحيل ابن هشام، في عبارة يبدو فيها الذّهبي بشكل الحريص على وحدة المسلمين وسلامة قلوبهم. قال الذّهبي في معرض الحديث عن طعن الأقران: قال: «وما زال يمرّ بي الرّجل الثّبت وفيه مقال من لا يعبأ به، ولو فتحنا هذا الباب على نفوسنا لدخل فيه عدّة من الصّحابة والتّابعين والأئمّة[!]، فبعض الصّحابة كفّر بعضهم بتأويل ما، والله يرضى عن الكلّ ويغفر لهم، فما هم بمعصومين، وما اختلافهم ومحاربتهم بالتي تلينهم عندنا أصلا،.وبتكفير الخوارج لهم انحطت رواياتهم بل صار كلام الخوارج والشيعة فيهم جرحا في الطاعنين، فانظر إلى حكمة ربك نسأل الله السلامة، وهذا كثير من كلام الأقران بعضهم في بعض ينبغي أن يطوى ولا يروى ويطرح ولا يجعل طعنا ويعامل الرجل بالعدل والقسط([8]) .
قال : «فأما الصحابة رضي الله عنهم فبساطهم مطوي وإن جرى ما جرى وإن غلطوا كما غلط غيرهم من الثقات فما يكاد يسلم أحد من الغلط لكنّه غلط نادر لا يضرّ أبدا إذ على عدالتهم وقبول ما نقلوه العمل، و به ندين الله تعالى»([9]).
ولا أدري من هو الذي طوى بساط الصّحابة، ومتى وأين كان ذلك؟ وليت الذهبيّ بيّن ذلك ، فإنّ القرآن الكريم يهتف:{ وأمّا الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون}.
و قال: «كلام الأقران إذا تبرهن لنا أنه بهوى وعصبية لا يلتفت إليه بل يطوى ولا يروى كما تقرر عن الكف عن كثير مما شجر بين الصحابة وقتالهم (رض) أجمعين. و ما زال يمرّ بنا ذلك في الدواوين والكتب والأجزاء، ولكن أكثر ذلك منقطع وضعيف و بعضه كذب، و هذا فيما بأيدينا وبين علمائنا؛ فينبغي طيّه وإخفاؤه، بل إعدامه[!] لتصفو القلوب وتتوفّر على حبّ الصّحابة والتّرضّي عنهم، وكتمان ذلك متعيّن عن العامّة وآحاد العلماء، وقد يرخّص في مطالعة ذلك خلوة للعالم المنصف العريّ من الهوى، بشرط أن يستغفر لهم كما علمنا الله تعالى([10]).
يقول الذهبيّ: يجب أن يكتم ما جرى بين الصّحابة عن النّاس! بل عن العلماء أيضا ! بل ويجب أن يعدم من الوجود !! فالله وحده يعلم كيف تصرّف الذهبي مع الروايات، وكم دفن من الحقائق باسم الإٍسلام والحفاظ على سلامة منزلة الصّحابة في قلوب الأجيال ؟!! والله أعلم إن كان الإٍسلام يجيز هذا الذي يدعو إليه الذهبي.
و هو يقول:«كما علّمنا الله تعالى»، ولا شكّ أنّ الله تعالى قد علّمنا الاستغفار، ولكن حاشا لله أن يكون علّمنا كتمان الحقّ لأجل تبييض وجوه سوّدتها المعاصي وتسويد وجوه نوّرتها الطاعات، وهو القائل في كتابه الكريم: { ولا تكتموا الشّهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه}.
في تاريخنا أحداث ووقائع ثابتة تلاعبت بها أيدي المتأوّلين والمصوّبين وأهل الأهواء، الذين يدّعون أنّهم أِشدّ حرصا على الإٍسلام من الإٍسلام نفسه، ومن حرصهم على الإسلام منحوا الصّحابة حصانة دبلوماسيّة تجعلهم فوق كل اعتبار دنيا وآخرة، وأدخلوهم الجنّة قبل أن تفتّح أبوابها؛ فهم لا يسألون عمّا يفعلون، وليس في أعمالهم إلاّ الحسنات، و«اعملوا ما شئتم فإنّي قد غفرت لكم»([11]). وعلى هذا تكون كلّ أعمالهم خيرا ، حتّى لو كان الشرّ يقطر منها وكنّا ندفع ضريبة ذلك الشّرّ في كلّ دقيقة من حياتنا.
فالخليفة عمر بن الخطّاب العدويّ كان همّه الفرار في المعارك التي شهدها مع رسول الله (ص)، والفرار من الزّحف معدود من الكبائر في الإسلام، ومن الفقهاء من لا يجيز شهادة من فرّ من الزّحف([12])؛ ولكن كي يبقى عمر بن الخطّاب فوق كلّ اعتبار ينبغي تجاوز فراراته المتكرّرة، ومنع الحديث عنها، والصّرامة في معاقبة كلّ من تسوّل له نفسه فتح ذلك الملفّ ! فعمر بن الخطّاب القرشيّ رغم أنّه فرّ أكثر من مرّة من ساحة الحرب يبقى شجاعا! ورغم خذلانه رسول الله(ص) وتخلّيه عنه وتركه إيّاه بين الأعداء يبقى وفيّا! ورغم تهديده بتحريق بيت فاطمة (ع) يبقى معظّما لحرمة أهل بيت رسول الله (ص). و لهذا توقّف ابن هشام عند وفاة النبي(ص)ولم يفصّل بصورة نزيهة فيما حدث بين الصّحابة في ذلك اليوم والأيّام التي أعقبته. و ما يصدق في حقّ عمر بن الخطّاب يصدق في حقّ أبي بكر بن أبي قحافة أيضا، فإنّهما كانا على موجة واحدة.
وللصّحابة حرمتهم ما داموا في ركاب الدّولة القرشيّة الحاكمة. أمّا من لم يكن متناغما معها فلا حرمة له. فهذا مالك بن نويرة الصّحابي الذي شهد له النبي(ص)أنّه من أهل الجنّة وعيّنه على صدقات قومه لم يرض بلعبة السّقيفة ولم يدخل فيها، فحكم عليه المؤرخون بالرّدة عن الإٍسلام، وعتّموا على شهادة رسول الله(ص) له ، ونام خالد بن الوليد في فراش مالك بن نويرة في نفس اللّيلة التي قتله فيها، وتقلب بين أحضان الأرملة التي كانت في عدّتها إن كانت مسلمة، وقالوا عن ذلك إنه اجتهاد وتأويل! « ارفع لسانك عن خالد فإنه تأوّل فأخطأ »!
وكذلك شأن الصّحابي الجليل أبي ذرّ الغفاري(رض)، فإنه لم يكن منسجما مع الدّولة الحاكمة في أيّامه، خصوصا بعدما رأى يهوديا اسمه كعب الأحبار يعتلي منصب المفتي والمستشار الأوّل في الدّولة بعد إزاحة عبد الرحمن بن عوف قبيل وفاته([13]). لم يتحمّل أبو ذرّ(رض) ذلك الوضع فأعلن ثورته على الانحراف بشتّى أقسامه، ولم تنفعه سابقته في الإٍسلام ولا طول صحبته لرسول الله(ص)، فكان مصيره النّفي إلى صحراء الرّبذة حيث مات منفيّا، وجاء المؤرّخون الحريصون على سمعة الصّحابيّ الحاكم فقالوا: اختار أبو ذرّ الانتقال إلى الرّبذة من تلقاء نفسه غير مكره!! ويبقى الباحث متحيّرا في شأن رجل يختار على كبر سنّه مكانا قاحلا مثل الرّبذة، فيكون بذلك أِشبه بالمتعرّب بعد الهجرة إن لم يكنه فعلا ؛ لكن أخبارا تسرّبت رغم الرّقابة الشّديدة تكشف بوضوح أنّ أبا ذر(رض)كان قد أكره على الانتقال إلى الرّبذة، وأن الإبعاد من المدينة كان سيرة الدّولة وسياستها مع كل من تسوّل له نفسه المعارضة وقول " لا ".
في أيّامنا تمارس عمليّة تزييف التّاريخ بطريقة مشابهة من حيث المضمون مختلفة من حيث الشّكل، وتتبنّى ذلك قنوات فضائيّة وشبكات إلكترونيّة وإذاعات وجرائد ومجلاّت و..! إنّها تختلف عمّا كان يجري أيّام الخلفاء إذ لا خليفة ولا خلافة اليوم؛ لكنّها تقتفي أثر أولئك في تمجيد الحاكم واستهجان المعارض. وما يثير اشمئزاز النّفوس الحرّة هو إشراك المشاهد والمستمع في عمليّة التّحريف. يتّصل أِشخاص متّفقون سابقا مع مقدّمي البرامج ليستعرضوا عضلاتهم ويوهموا المتابعين أنّ الأمر كما يقولون، وأنّ كّل رواية تخالف روايتهم فهي إمّا وهم أو تحريف. تماما كما زعم الكرخيّ الحنفيّ في قوله المشهور " كلّ ما ليس عليه أصحابنا من آية أو حديث فهو إمّا منسوخ أو مؤوّل "([14])؛
تلكم القنوات والإذاعات والمواقع الإلكترونيّة تطرح القضايا والوقائع كأنّها مسلّمات، ثمّ تبدأ في نقاش الحيثيّات والنتائج والآثار، وقد أعفت نفسها من مسؤولية البحث؛ وهذا خطأ علميّ كبير، لأنّ ما يختلف فيه النّاس لا يصحّ اعتباره مسلّما، و التّسليم في هذه الحال يكون في صالح طرف لكنّه يضرّ بجهود كلّ باحث ومحقّق مخالف لذلك الطّرف؛ وهذا النّوع من اعتبار ما يطرحه المتحدّث صحيحا وفرضه على الطّرف المقابل هو ما يعبّرون عنه بالتّحكّم، وهو باطل في نظر العقلاء. وعليه ينبغي لكلّ من ينشد الحقيقة أن يبتعد عن مثل تلك الطّريقة في الطّرح، بل عليه ألا يقدّم شيئا إلاّ بعد التأكّد من قبول الطرف الآخر له واعتباره إيّاه صحيحا، حتى يكون البحث موضوعيّا نزيها مثمرا مفيدا. و مع بالغ الأسف فإنّ المغالطة صارت هي القاعدة في خطاب الفضائيّات، ولم يعد يسلم من ذلك إلا ما يورده المعارضون من ضيوف البرامج أو المتّصلين من بعيد. و يمكن القول إنّ بعض الفضائيات (النفطيّة) صارت تمارس التملّق علنا من خلال ما تعرضه على المشاهد من أمور وقضايا تهدف قبل كل شيء إلى النّفخ في الحاكم ليظهر بصورة البطل وتشويه المعارض ليظهر بصورة الخائن!ولله في خلقه شؤون.
السيرة مأخوذة من السير([15])، وعليه فسيرة الرّجل تعني كلّ ما أثر عنه وما جرى له في حياته، خيرا كان أو غيره؛ وقد اهتمّت الأمم بسير ملوكها وعلمائها وكلّ من له تأثير في تاريخها، وكانت العرب قبل الإسلام يحفظون سير الملوك والصّعاليك والشعراء وغيرهم، لكن الرّواية لم تكن تسلم من الإضافة والحذف لعوامل تعود إلى طبيعة التّقليد الموروث في بيئة العرب، وهو ما يمتزج بالعداوات والإحن والتّنافس بين القبائل، وقد يصل أحيانا إلى الافتراء على الطّرف الآخر مع القطع ببراءته، لأنّ الكذب وإن كان قبيحا إلاّ أنه لم يكن بمنزلة الحرام والإثم في الدّين، وبين الاعتبارين فرق كبير؛ وقد يرسخ أقوام في الدّناءة بحيث لا يضرّهم تعاطي الكذب باستمرار..
جاء الإسلام وجاءت معه مادّة للسّيرة والتّاريخ، تتجاوز التّرف الفكري وسمر الليل وتفاخر القبائل إلى طلب التأسّي والاقتداء بالنّبي الجديد الذي نشأ في بلاد العرب، وأسّس دولة لم يعرف العرب مثلها في بلادهم فيما سبق، ودعا إلى قيم ومثل تتنافس الحضارات الإنسانيّة في ادّعاء ما هو دونها. لكن مع بالغ الأسف لم تكتب سيرة النبيّ(ص) إلاّ بعد رحيله بأكثر من قرن، كما وقع للمسيحيّين تماما، وتداولت الأيدي تلك السّيرة فتعرّضت للمبضع والمقصّ، وجرى عليها من التّشريح ما جرى، فحذف منها ما حذف وأضيف إليها ما أضيف، ووصلت إلينا مخيطة حسب الطّلب، حسب ذوق العامة ومزاج الحاكمين.
وقد ارتأى علماء المسلمين أن يقرنوا سيرة الصّحابة بسيرة النّبي(ص)، لأنّها في نظرهم مفسّرة لها، وكاشفة لكثير مما قد يخفى بدونها، ولأنّ الصّحابة هم الذين بلّغوا الدّين بعد وفاة خاتم النّبيين (!)، فزعموا أنّهم جميعا عدول، وأنّ الله تعالى لن يحاسبهم على ما يحاسب عليه غيرهم من أهل القبلة، وأنّ أهل بدر مغفور لهم الكبير والصّغير، وأن الله تعالى قال لهم: " اعملوا ما شئتم فإنّي قد غفرت لكم"!
غير أنّ تلك المزاعم يفنّدها القرآن الكريم بآيات محكمات تضع الصّحابة في المواضع اللاّئقة بهم على قدر معتقداتهم وأعمالهم، فمنهم مؤمن، ومنهم منافق، ومنهم من خلطوا عملا صالحا وآخر سيّئا، ومنهم الذين في قلوبهم مرض، ومنهم من شهد عليه النّبي(ص) أنّه يموت على غير ملّة الإسلام..
لأجل هذا التّضارب بين ما يقوله القرآن الكريم، وبين ما ارتآه قسم كبير من علماء المسلمين، تعيّن البحث في أحوال الصّحابة فردا فردا، والنّظر في معتقداتهم وأعمالهم، ليلحق برسول الله(ص) من آمن وبقي على الإيمان إلى أن خرج من الدّنيا، ويفصل من انحرف وبدّل ومات مصرّا على الانحراف والتّبديل. هذا هو الموقف الذي ينسجم مع القرآن الكريم، فإنّ المؤمن بالقرآن الكريم لا يفرّق بين أحد من رسل الله تعالى، ولم يذكر القرآن الكريم أنّ صحابة أحد الأنبياء فيما سبق كانوا جميعا عدولا مغفورا لهم كلّ ما يأتون، بل إنّ البنوّة والزّوجيّة وهما أولى وأقرب من الصّحبة لم تنفعا أبناء وأزواج الأنبياء([16])، لأنّ العبرة بالإيمان والعمل الصّالح لا بالأنساب والأسباب. وقد ثبتت في التّراث الإسلاميّ روايات وأخبار تفيد أنّ عددا كبيرا ممّن عاصروا النبي(ص) لا تؤول خاتمتهم إلى خير، بل يكونون من أهل النّار ويتبرّأ منهم النبي(ص) لأنّهم بدّلوا وارتدّوا على أدبارهم القهقرى. روى البخاريّ عن سعيد بن المسيّب عن أبي هريرة أنّه كان يحدّث أنّ رسول الله(ص) قال: يرد عليّ يوم القيامة رهط من أصحابي فيجلون عن الحوض فأقول: يا ربّ أصحابي؛ فيقول: إنّك لا علم لك بما أحدثوا بعدك، إنّهم ارتدّوا على أدبارهم القهقرى. وعن ابن شهاب عن ابن المسيب أنّه كان يحدّث عن أصحاب النّبي(ص)أنّ النّبي(ص) قال: يرد عليّ الحوض رجال من أصحابي فيحلؤون عنه، فأقول: يا ربّ أصحابي ؛ فيقول: إنّك لا علم لك بما أحدثوا بعدك، إنّهم ارتدّوا على أدبارهم القهقرى. وعن الزهري، كان أبو هريرة يحدّث عن النبي(ص) فيجلون، وقال: عقيل فيحلؤون. و عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة عن النّبي(ص) قال: بينا أنا نائم إذا زمرة حتّى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال: هلمّ! فقلت: أين؟ قال إلى النّار و الله؛ قلت: وما شأنهم؟ قال: إنّهم ارتدّوا بعدك على أدبارهم القهقرى. ثمّ إذا زمرة حتّى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال: هلمّ! قلت: أين؟ قال: إلى النّار والله ! قلت: ما شأنهم؟ قال: إنّهم ارتدّوا بعدك على أدبارهم القهقرى ! فلا أراه يخلص منهم إلاّ مثل همل النّعم ([17])؛ وفي رواية مسلم " فإيّاي لا يأتينّ أحدكم فيذبّ عنّي كما يذبّ البعير الضّال فأقول فيم هذا؟ فيقال: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك؛ فأقول سحقا "([i]).
فهذا يفيد أنّ من الصّحابة من يدخل النّار، وقوله "ارتدّوا على أدبارهم" صريح في إثبات ردّتهم، وقوله لا يخلص منهم إلاّ مثل همل النّعم جدير بالتّأمل والتدبّر لكلّ باحث عن الحقّ. والذي يحسم المسألة هو البحث في أحوال الأشخاص وسيرتهم أيّام النبي(ص) وبعده، فإنّ من كان مستقيما في حياة النبي(ص) واستمرّ على استقامته حقيق بحسن الخاتمة ولا يخلف الله وعده ؛ أمّا من حاد عن الطّريق، وجانب الصّواب، ومات مصرّا على مخالفة أقوال وأفعال وتقريرات النبي(ص)فإنّه لا ينفعه أن يزكّيه من يزكّيه، لأنّ العبرة بالمعايير القرآنية لا بالأمزجة والأذواق، والقرآن الكريم يقول:{فمن نكث فإنما ينكث على نفسه..}.
وقد اختلف المسلمون في قضيّة الصّحابة إلى تيّارين متقابلين يختلفان في مسألة الصّحبة وما يترتّب عليها؛ وأصل الاختلاف ناشئ عن تدخّل السّلطات الحاكمة عبر تاريخ الأمّة في كلّ صغير وكبير من شؤون الحياة، وإن كانت تلك السّلطات من ناحية الالتزام بعيدة كلّ البعد عن احترام الشّريعة والتقيّد بأحكامها. كان أولئك الحكّام يشجّعون ويوقّرون ويعظّمون كلّ من يحارب المعارضة نيابة عنهم، فيضفون عليه من الألقاب ما لا يناله بكدّ، ويبسطون إليه أيديهم بالعطاء والشّفاعة، فلا يردّ له طلب، ولا يعلو صوته صوت. أمّا من يشكّك في صلاحيّتهم للحكم، ولو بالأدلّة التي لا تقبل الجدل، فإنّما هو زنديق مارق من الدّين، يريد شقّ عصا المسلمين وتفريق الجموع وتشتيت الصّفوف، قد اتّبع غير سبيل المؤمنين، وحكم من يتّبع غير سبيل المؤمنين معلوم!
اختلف المسلمون في مسألة الصّحابة لأنّ قسما كبيرا من الصّحابة نكثوا عهدهم مع الله ورسوله بخصوص أهل البيت(ع)، فقد ورد الأمر بالصّلاة عليهم في كلّ صلاة، فريضة أو نافلة؛ ونزل قرآن يؤكّد طهارتهم ويخبر أنّ الأمّة مسئولة عنهم يوم القيامة{قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودّة في القربى ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا إنّ الله غفور شكور}([18]). وبما أنّ شهوة الحكم غلبت على النّفوس، وبما أن الملك عقيم، فقد ضيّعت منزلة وحرمة أهل البيت(ع)وأوذوا بدل أن يحترموا، وسبّوا بدل أن يصلّى عليهم، وافتري عليهم بدل أن يقتدى بهم، وكانت أحداث ووقائع ضمن الله تعالى وصولها إلينا رغم الرّقابة الشّديدة والكتمان المتعمّد؛ ومن أنصف نفسه ولزم الحياء من ربّه لم يخف عليه عودة النّفوس إلى الجاهليّة واكتفاؤها بالطّقوس والرّسوم التي لا تضرّ المصالح ولا تزعج الحاكمين.
نعم، لقد ضمن الله تعالى وصول كثير من الأحداث والوقائع إلينا ليكون ذلك حجّة علينا يوم القيامة، فإنّ أهل القبلة كلّهم مأمورون بمودّة قربى النّبي(ص)، لا فرق بين حاكم ومحكوم، ولا بين غنيّ وفقير، ولا بين عربيّ وأعجميّ؛ وليس أحد في ذلك بمعذور. كلّ من شهد الشّهادتين صار في ذمّته أن يحبّ أهل البيت(ع)أكثر ممّا يحبّ نفسه وأهله وماله، ولازم ذلك أن يحبّ من يحبّهم ويبغض من يبغضهم، ولا يفرّق بينهم وبين رسول الله(ص) بعد أن قال(ص) بصريح العبارة «حسين مني وأنا من حسين» وقال «فاطمة بضعة منّي» وقال لعليّ(ع) «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى». فإذا كان المسلم صادقا في حبّ رسول الله(ص) فإنّه لا يتردّد في حبّ أهل بيته(ع)؛ ولو كان هذا الأمر مما يشقّ على النّفوس لما كلّف الله تعالى به أحدا، فإنّ التّكليف بغير المقدور قبيح من المخلوق فكيف بالخالق جلّ وعلا ! فمحبّة أهل بيت النبيّ(ص) إذاً من صميم الدّين، نزل بها قرآن يتلى، وقضى النّبيّ الأكرم(ص) مدّة من عمره الشّريف يدعو إليها ويرسّخها في نفوس المؤمنين؛ وإذا كانت محبّتهم من الدّين فإنّ بغضهم ليس من الدّين في شيء، بل إنّ مبغضهم يكون مارقا من الدّين لأنّه يكون مبغضا للنبي(ص)، وبغضه(ص) مخرج من الدّين باتّفاق، وقد قال(ص) في حقّ أهل بيته(ع) كلاما كثيرا مؤكدا لقول الله تعالى: { ذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودّة في القربى ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا إن الله غفور شكور}([19])، لكن النفوس المريضة أبت إلاّ أن تختلق أحاديث تحاول من خلالها الحطّ من شأنهم عليهم السلام وإلباس غيرهم ما أنعم الله به عليهم([20])، ونسوا أو تناسوا أنّه {لا تبديل لكلمات الله}([21]). وقد قطع النّبي الأكرم(ص) الطّريق على المتأوّلين والمتفيهقين إذ قال في حقّ عليّ(ع)قولته الثّابتة في الصّحاح «يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله». فعليّ إذا حبيب الله ورسوله، أفترى الله تعالى يرضى عمّن يبغض حبيبه؟ و لينظر امرؤ إلى نفسه إن غاب عنه فهم ذلك، أتراه هو نفسه يحبّ من يبغض حبيبه؟!
لقد كان ولا يزال لعليّ(ع)محبّون يتقرّبون إلى الله تعالى بحبّه، كما كان ولا يزال له أعداء يبغضونه ويلهجون بسبّه؛ وحسب محبّيه أنّهم يحبّون من يحبّه الله تعالى ويحبّه رسول الله(ص)، فهم في عبادة دائمة، لا يشكّون أنّهم محقّون، إذ يستحيل أن يكون الله تعالى على غير الحقّ، وهو الحقّ جلّ شأنه. أمّا مبغض عليّ فحجّته منقطعة داحضة، ويكفيه شناعة سوء أدبه مع الله تعالى إذ يجاهر ببغض حبيبه، وفي ذلك من سوء المعتقد ما فيه، إذ لو كان يعتقد أنّ الله تعالى حكيم لراجع نفسه وتاب وأناب، وبحث في باطنه عن سبب بغض حبيب الله، ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور.
ضيّعت منزلة عليّ(ع) وحصل تهميشه عن عمد، من طرف أناس يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، ويشهدون له بالفضل والسّبق والقرابة، وجاء بعدهم أناس يحدوهم الدّينار والمنصب، وقضوا أعمارهم في محاولة سلب عليّ(ع) محاسنه وإضفاءها على غيره، وتبرير أعمال مناوئيه، ثمّ خرجوا من الدّنيا، وبقي عليّ(ع)شامخا شموخ الزّمن، يعطّر ذكر اسمه مجالس محبّيه، و يعلو منهجه على كلّ منهج، لأنّه مع الحقّ والحقّ معه يدور معه حيث دار، ومن كان ذلك شأنه مع الحقّ، فلا ريب فلا ريب أن يفوز في النّهاية، ولا عجب أن يقول فيه بعض محبّيه:
تلك العظام أعزّ ربك شأنها * وتكاد لولا خوف ربك تعبد([22])
أراد أعداء عليّ(ع) أن يغيّبوه فلم يفلحوا، لأنّ الشّمس لا تستر بالغربال، فعمدوا إلى أساليب من شأنها أن تنطلي على السّذّج والمغفّلين، واختلقوا بطولات وفضائل وأمجادا وهميّة، ووزّعوها بين خصوم عليّ(ع)، وجنّدوا لذلك الوضّاعين ووعّاظ السلاطين، واعتقدوا أنّهم دفنوا الحقيقة إلى الأبد، ومكروا ومكر الله.
قال ابن أبي الحديد: روى الزبير بن بكار في" الموفقيات" ـ وهو غير متّهم على معاوية، ولا منسوب إلى اعتقاد الشيعة، لما هو معلوم من حاله من مجانبة عليّ (ع)، والانحراف عنه ـ : قال: قال المطرف بن المغيرة بن شعبة: دخلت مع أبي على معاوية، فكان أبي يأتيه، فيتحدّث معه، ثمّ ينصرف إليّ ويذكر معاوية وعقله ويعجب بما يرى منه، إذ جاء ذات ليلة فأمسك عن العشاء ورأيته مغتمّا! فانتظرته ساعة وظننت أنّه لأمرٍ حدث فينا، فقلت: مالي أراك مغتمّا منذ اللّيلة؟ فقال: يا بنيّ جئت من عند أكفر النّاس و أخبثهم [!] قلت: وما ذاك؟ قال: قلت له وقد خلوت به: إنّك قد بلغت سنّا يا أمير المؤمنين فلو أظهرت عدلا وبسطت خيرا فقد كبرت، ولو نظرت إلى إخوتك من بني هاشم فوصلت أرحامهم، فوالله ما عندهم اليوم شيء تخافه. وإنّ ذلك ممّا يبقى لك ذكره وثوابه. فقال: هيهات! هيهات! أيّ ذكر أرجو بقاءه ؟ ملك أخو تيم فعدل وفعل ما فعل، فما عدا أن هلك حتّى هلك ذكره إلاّ أن يقول قائل أبو بكر. ثمّ ملك أخو عديّ فاجتهد وشمّر عشر سنين، فما عدا أن هلك حتّى هلك ذكره إلاّ أن يقول قائل عمر. و إنّ ابن أبي كبشة ليصاح به كلّ يوم خمس مرات أشهد أنّ محمّدا رسول الله، فأيّ عمل يبقى وأيّ ذكر يدوم بعد هذا لا أبا لك؟ لا والله إلاّ دفنا، دفنا([23]) .
نعم، «ثمّ ملك أخو عديّ فأجتهد وشمّر عشر سنين، فما عدا أن هلك حتّى هلك ذكره إلاّ أن يقول قائل عمر »!
هذه شهادة معاوية بن أبي سفيان، وقد توفي معاوية آخر سنة60، وهذا يعني أنّها قبل مرور أربعين سنة على وفاة عمر، فيها اعتراف أنّ عمر هلك ذكره مع موته إلاّ أن يقول قائل «عمر»! فمن الذي بعثه بعد ذلك ورسم حوله هالة القدسيّة التي توسّعها الفضائيّات في أيّامنا؟! على الباحثين أن يتأمّلوا ويدقّقوا.
تاريخ المسلمين حافل بالمآسي، وأشدّ ما فيها المآسي المعنويّة، التي تخنق الأرواح وتسجن الأفكار. أليس هو التّاريخ الذي يسمّي جعفر المتوكّل «مظهر السنّة ومميت البدعة» مع أنّه قتل على مائدة الشّراب سكران لا يعقل؟! أوليس هو التّاريخ الذي يسمّي المنصور الدّوانيقي "باني بغداد ومؤسس الدّولة العباسيّة" ويتغافل عن تفنّنه في تعذيب وقتل وتشريد تلك الأعداد الهائلة من ذرّيّة رسول الله(ص)؟!
حينما نتحدّث عن عظيم ترك بصماته في تاريخ أمّة، ينبغي أن نتحدّث عن عظيم لا عن مستبدّ، والفرق بين الصّفتين كبير. العظيم شخص ذو لياقات وفضائل وملكات ميّزته عن غيره، وأحسن الاستفادة منها وإعمال فكره في ما ينفع الناس، إذ ديننا يقول: «خير النّاس أنفعهم للنّاس». و أمّا المستبدّ فهو عاجز يخفي ضعفه وراء القسوة والعنف، لأنّه في منصب يسمح له باستخدام العنف. وعلامة ذلك أنّه إذا جدّ الجدّ كان همّه الفرار كما يفرّ العبيد؛ وقد تابع سكّان العالم مشهد إلقاء القبض على الرّئيس المخلوع صدّام حسين وهو يستخرج من حفرة كما تستخرج الضّباع، بعد أن كان الإعلام العربيّ الواسع يسميّه بطل القادسيّة وحارس البوّابة الشرقيّة! وما أكثر الذين تطفّلوا على السّاحات واستغلّوا الظروف والمناسبات، وقفزوا على حواجز رسّختها الفطرة في النّفوس، ثمّ وجدوا لهم أقلاما وحناجر تمجّد من خلالهم الباطل، وتهمّش أهل الحقّ والشرعيّة؛ لكنّ ذلك لا يغيّر من الحقيقة شيئا، لأنّ الحقائق لا تتبدّل بالاعتبارات، والحقائق سنن إلهيّة، ولن تجد لسنّة الله تبديلا؛
ومع أنّ أمّتنا تمتلك رصيدا لم يسبق لأمّة أن امتلكته، إذ منها أِشرف الأنبياء، وعليه نزل الكتاب المهيمن على الكتب كلّها، وله شرعت أفضل وأوسع شريعة، ونصبت أشرف قبلة؛ إلاّ أنّنا مع ذلك نراوح في أتعس وضعيّة، حيث يحلم كثير من أبنائنا باسترجاع ماض بعيد، إثمه أكبر من نفعه، ويتّهمون كلّ صوت يشخّص الدّاء ويرشد إلى أنجع الدّواء. يرسمون حول ذلك الماضي أسوارا من الجمود والتطرّف تجعل الحديث عنه مساسا بالمقدّسات، ويطفّفون الكيل فيكتالون بمكيالين، ويحكمون في شريعة واحدة للأمثال بحكمين مختلفين. فهذا قاتل عمر بن الخطّاب مجوسيّ مع أنّ عمر نفسه شهد للعجم المقيمين بالمدينة أنّهم صلّوا صلاتهم وتكلّموا لسانهم! وذاك ابن ملجم قاتل عليّ بن أبي طالب(ع) مجتهد متأوّل مأجور . والخارج عن أبي بكر مرتدّ حلال الدّم، بينما الخارج عن عليّ بن أبي طالب(ع) مجتهد مأجور مبشّر بالجنّة! و من انتقد سلوك صحابيّ ما بموضوعيّة وإنصاف فهو زنديق، وأما من سبّ وشتم ولعن عليّ بن أبي طالب(ع) فهو ثقة صدوق لا نزاع فيه! تلك ثمار ثقافة الكرسيّ؛ وبالمناسبة إنّه من المؤسف حقّا أن يتجاهل المسلمون جيلا بعد جيل أقوال وأفعال ومواقف فاطمة بنت رسول الله(ص)، لكونها لا تسير في ظلّ ثقافة الكرسيّ، وهم في نفس الوقت يصلّون عليها يوميّا في كلّ صلواتهم فرضا ونفلا !
أضع بين يدي القارئ أخبارا وأحاديث تتعلّق بسيرة عمر بن الخطّاب، وأحاول تحليلها والتّعليق عليها بما يبدو لي منسجما مع المقاييس والمعايير التي دعا إليها القرآن الكريم، وعلى رأسها قول الله تعالى{ إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم}، وقوله تعالى{وأن ليس للإنسان إلاّ ما سعى}. وما توفيقي إلاّ بالله عليه توكّلت وإليه أنيب.
تنبيه:
ابن أبي الحديد يشترط على نفسه أن ينقل من كتب السنة لا من كتب الشيعة.
قال ابن أبي الحديد: «الفصل الأوّل: فيما ورد من الأخبار والسّير المنقولة من أفواه أهل الحديث وكتبهم، لا من كتب الشّيعة و رجالهم. لأنّا مشترطون على أنفسنا ألاّ نحفل بذلك، وجميع ما نورده في هذا الفصل من كتاب أبي بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ في السقيفة وفدك وما وقع من الاختلاف والاضطراب عقب وفاة النبي(ص)، وأبو بكر الجوهري هذا عالم محدّث كثير الأدب، ثقة ورع، أثنى عليه المحدثون ورووا عنه مصنفاته»([24]).
وإنمّا نبّهت إلى هذا لأنّ في المحدّثين والمؤرّخين من ينسب ابن أبي الحديد إلى التّشيّع، وذلك يؤدّي إلى نقض ما يورده مما يشكل به على مخالفي أهل البيت عليهم السّلام. قال إدوارد فنيك في معرض ذكر ابن أبي الحديد: أما ابن أبي الحديد فهو عبد الحميد بن هبة الله المدائني الشيعي المعتزليّ الكاتب المحسن الشّاعر المجيد؛ له كتاب الفلك الدائر على المثل السائر، قيل إنّه صنّفه في ثلاثة عشر يوما، وله أيضا ديوان شعر وغيرهما كثير ([25]).
أقول : ولا يلام إدورد فنيك على هذا الخطإ إذ كان شائعا بين المحدّثين والرّجاليّين والمؤرّخين؛ وفي اعتقادي أنّه خطأ متعمّد يرمي إلى سلب الحجّيّة عن كلّ ما يستدلّ به ابن أبي الحديد عند مناقشة الأحاديث والوقائع، وإلاّ فإنّه هو نفسه يردّ على علماء الشّيعة في أكثر من موطن في شرح نهج البلاغة، ويتتبّع عبارات الشّريف المرتضى واحدة واحدة قصد تفنيد مضمونها. وهذا الخلط المتعمّد منهم إنّما يقدح في نزاهتهم وأمانتهم، ويسلب عنهم صفة الموضوعيّة. فالاختلاف بين الشّيعة والمعتزلة واضح في كلّ شيء، في العقائد والفقه والأصول وغيرها. وترى المعتزلة في الفقه يقلّدون أصحاب المذاهب، وليس شأن الشّيعة الإمامية كذلك .وللمعتزلة رأيهم في قضيّة الإمامة وهو مخالف تماما لما عليه الشّيعة الإماميّة. وقد تردّدت عبارة «شيعي معتزلي» في كتاب المغني في الضّعفاء (ج1ص54وج2ص462) وكتاب ميزان الاعتدال(ج1ص280وج1ص369وج5ص217وج6ص502)وكتاب لسان الميزان (ج5ص72وج4ص280وج1ص262وج6ص82)وكتاب تاريخ الإسلام للذهبيّ (ج27 ص398 ) و كتاب إيضاح المكنون في الذيل على كشف الظنون (ج3ص181 ) لسان الميزان.
________________________
[1]) البدء والتاريخ، المطهر بن طاهر المقدسي، ج6 ص90، مكتبة الثّقافة الدينية، بورسعيد.مصر.
[2]) لم يكن يسمح لغير المسلم بدخول المسجد على عهد عمر بن الخطاب، ويتضح ذلك من خلال قصة النصراني كاتب أبي موسى الأشعري التي تأتي لاحقا. وإسلام بنت أبي لؤلؤة ثابت.
[3]) علما أنّ النّبي (ص) سمّى قاتل علي (ع) أشقى الآخرين!
[4]) قال السيوطي في وصف المتوكّل العباسي : وذو التوكل ما أزكاه من خلف * ومظهر السنّة الغرّاء إذ نصرا * في عام سبع يليها أربعون قضى * قتلا حباه ابنه المدعوّ منتصرا * فلم يقم بعده إلا اليسير كما * قد سنّه اللَه فيمن بعضه غدرا .
[5]) تاريخ الخلفاء، السيوطي، ج1 ص303 .
[6])تاريخ الطبري، ج5 ص105 وتاريخ الإسلام، ج13 ص64 وتاريخ الخلفاء، ج1 ص301 و سمط النجوم العوالي ج3 ص435.
[7]) السيرة النبوية، ابن هشام، ج1ص5.
[8]) الثقات المتكلم فيهم، الذهبي، ج1 ص 24 .
[9]) الرواة الثقات المتكلم فيهم، الذهبي، ج1ص24 .
[10]) سير أعلام النبلاء، الذهبي، ج10ص92.
[11]) صحيح البخاري، ج5 ص2264 والمستدرك على الصحيحين، ج4 ص87 وفيض القدير، ج2 ص212 ومجموع الفتاوى، ج4 ص460 وقطف الثمر في بيان عقيدة أهل الأثر، ج1 ص97 وشعب الإيمان، ج7 ص39.
[12]) قال القرافي في الذخيرة ج3، ص411 «قال ابن القاسم: لا تجوز شهادة الفارّ من الزّحف وإن فرّ إمامه، وإن بلغ عدد المسلمين اثني عشر ألفا لا يجوز التولّي وإن كان العدوّ زائدا على الضّعف لقوله لن يغلب اثنا عشر ألفا من قلّة؛ فهذا الحديث مخصّص للآية عند أكثر العلماء».وفي منح الجليل «والفرار المحرّم من الكبائر فتسقط العدالة به فلا تقبل شهادة الفار إلا أن يتوب<منح الجليل شرح على مختصر سيد خليل. تأليف: محمد عليش ج3 ص153: دار الفكر، بيروت 1409هـ - 1989م.
[13])قال أبو ذرّ لمن حضر وفاته: «… أتسمعون؟ لو كان لي ثوب يسعني كفنا لم أكفن به إلا في ثوب هو لي أو ثوب يسعني كفنا إلا في ثوبها؛ فأنشدكم الله والإسلام أن يكفّنني رجل منكم أميرا أو عريفا أو نقيبا أو بريدا»! فكلّ القوم قد كان قارف بعض ذلك إلاّ فتى قال أنا أكفّنك فإنّي لم أصب مما ذكرت شيئا، أكفّنك في ردائي هذا الذي علي وفي عيبتي من غزل أمّي حاكتهما لي قال: « أنت فكفّنّي». قال فكفّنه الأنصاري والنّفر الذين شهدوه فيهم جحش بن الأدبر ومالك بن الأشتر في نفر كلّهم يمان.( المنتظم،ابن الجوزي، ج4 ص 347 ). وهذا يعني أنّ أبا ذرّ لم يكن يستحلّ الكفن من دولة عثمان، أي أنّه لم يكن يعتبرها دولة إسلاميّة.
[14]) أزمة الفكر السياسي في الإسلام، د. عبد الحميد متولي: ص 36، وفقه السنة، سيد سابق:
ج 1، ص10. وعبارة سيد سابق في فقه السنة كما يلي: وقد بلغ الغلوّ في الثقة بهؤلاء الأئمّة حتى قال الكرخي وهو حنفي: كل آية أو حديث يخالف ما عليه أصحابنا فهو مؤول أو منسوخ.
[15])) قال الرازي: «قال صاحب الكشاف: السيرة من السير كالركبة من الركوب، يقال سار فلان سيرة حسنة، ثمّ اتّسع فيها فنقلت إلى معنى المذهب والطريقة». (التفسير الكبير، فخر الدين الرازي، ج22ص26).
[16])) إشارة إلى امرأة نوح وامرأة لوط، و ابن آدم الذي قتل آخاه، وابن نوح الذي كان من المغرقين.
[17])صحيح البخاريّ، ج5، ص2407. الأحاديث: 6213و6214 و 621.
[18]) الشورى: 23
[19]) الشورى : 23.
[20]) وضعت قبال آية المودة أحاديث منها:.«الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا بعدي فمن أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي» و « الأنصار محنة فمن أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم» و« من أحب العرب فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم »، وهي كلها كما ترى. ولا يفوتك أن رسول الله(ص) يخاطب أصحابه فيقول لهم « الله الله في أصحابي»!
[21]) يونس : 64 .
[22]) البيت من قصيدة للشاعر العراقي المرحوم محمد المجذوب.
[23]) شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج 5، ص 129 ـ130.
[24]) شرح نهج البلاغة: ج16ص 210 باب ذكر ما ورد من السير والأخبار في أمر فدك. دار أحياء الكتب العربية ط,1962 م .
[25]) اكتفاء القنوع، ج1ص344، اكتفاء القنوع بما هو مطبوع، إدوارد فنديك، صححه السيد محمد علي البيلاوي، دار صادر، بيروت، 1896م.