الإمام السجاد باعث الإسلام من جديد
  • عنوان المقال: الإمام السجاد باعث الإسلام من جديد
  • الکاتب: السيد جعفر مرتضى العاملي
  • مصدر:
  • تاريخ النشر: 20:32:5 1-10-1403

الإمام السجاد باعث الإسلام من جديد

السيد جعفر مرتضى العاملي

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خير خلقه وأشرف بريّته محمد وآله الطيبين الطاهرين.. واللعنة على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين..

وبعد..

بعد أن استشهد الإمام الحسين صلوات الله عليه مع أهل بيته وأصحابه ، واطمأن الأمويون – حينئذٍ – فقط ، إلى أن آل علي (عليهم السلام) قد انتهى أمرهم ، وطويت صفحتهم ، ولن تقوم لهم بعد – بزعم الأمويين – أية قائمة ، ولن تبرق لهم في الأفق أية بارقة ، بعد ذلك ومع ذلك فقد استمروا في اتباع سياساتهم الرعناء تجاه أهل البيت (عليهم السلام) والأمة ، بهدف تكريس الأمر نهائياً في البيت الأموي ، ولكي يبقى العرش الأموي محتفظاً بوجوده وبتفوّقه ، ولكن قد خاب فألهم وطاش سهمهم ، فما كانت سياساتهم تلك إلا وبالاً ودماراً عاد عليهم أنفسهم ، فإننا نستطيع أن نقول: إن سياسات الأمويين تلك تتمثل بالخطوط التالية:

1- ملاحقة أهل البيت (عليهم السلام) إعلامياً بالافتراء عليهم ، وتوجيه مختلف التهم الباطلة إليهم ، وتصويرهم على أنهم هم " المعتدون والظالمون الآثمون " ، الذين لا يتورعون عن أية عظيمة ولا يمتنعون عن ارتكاب أية جريمة ، وحتى قتل الحسين (عليه السلام) فإنه لم يكن إلا لأنه كان هو الجاني على نفسه ، والساعي إلى حتفه ، وهو المذنب والمعتدي ، وهم وحدهم الضحية ، والمظلومون معه في هذه القضية .

ومن ذا الذي يستطيع أن يرد على دعايات الأمويين هذه ، أو يظهر الترديد والتشكيك فيها ؟! ، أو بالأحرى من ذا الذي يستطيع أن يجهر بالحقيقة ، ولو من دون تعرض لدفع دعايات الأمويين ، ودحض افتراءاتهم وأكاذيبهم ؟! .

2- سياسة التجويع والحرمان لأهل البيت (عليهم السلام) وشيعتهم ، وحرمانهم من كل الإمتيازات ومصادرة أموالهم ، وحتى هدم بيوتهم ، كي لا يجدوا اللقمة – لقمة العيش – إلا على موائد الأمويين ، ومن لف لفهم ، ودار في فلكهم ، وإجبارهم – وخصوصاً شخصيات آل علي – على التوجه إلى الحكام في وفادات منتظمة ، لاستجداء لقمة العيش ، ولحفظ كراماتهم ودمائهم ، حتى لا يعتبرهم الحكم في موقف المعارضة ، فيستحل كل تصرف ضدهم ، مهما كان قاسياً وشرساً وعنيفاً ، حتى إذا تأخرت أحياناً وفادة بعضهم عليهم تجدهم هم أنفسهم يطالبون بذلك ، ويتساءلون عنه وعن سببه وسره ، إن لم يبادروا إلى استقدامهم بشكل مباشر وصريح ، وبذلك يكونون قد شغلوا تلك الشخصيات بالبحث عن لقمة العيش ، وصرفوا همتهم إلى هذا المجال ، بالإضافة إلى أنهم يستفيدون من ذلك سياسياً وإعلامياً كما هو واضح .

3- ثم هناك سياسة الإضطهاد والملاحقة المرة والشرسة لكل من يتصل بأهل البيت (عليهم السلام) ، أو يظهر منه الميل إليهم ، الملاحقة التي لا تنتهي إلا بالتصفيات الجسدية والنفسية ، أو بما لا يقل سوءاً وفظاعة وبشاعة عن ذلك ، ويستفيدون بذلك أمرين :

الأول: الحرب النفسية لآل علي أنفسهم ، ومحاولة جعل اليأس يتطرق إلى نفوسهم ، فلا يفكرون بعد بأية حركة ، ولا بالوقوف أي موقف يتعارض مع مصلحة الهيئة الحاكمة .

الثاني: منع الناس من الإقتراب منهم ، والإستفادة من تعاليمهم ، والتخلق بأخلاقهم ، والتعرف على الإسلام الصحيح الذي عندهم ، فإن الناس إذا علموا أن الإقتراب من آل علي لا يعني إلا الدمار والشقاء لهم ، ولكل من يلوذ بهم ، فإنهم سوف يجنبون أنفسهم ذلك ، ويؤثرون السلامة والراحة – كما هو طبع كل إنسان – على التعب والعناء ، إن لم يكن الدماء والفناء ، وعلى هذا الأساس ومن هذا المنطلق كان إصرارهم على لعن سيد الأوصياء أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) على المنابر ، بل كانوا يعتبرون - كما يقول مروان - على ما يظهر إن بذلك استقامة ملكهم ، وبقاء سلطانهم ، فإن لعنه – والعياذ بالله – إنما يعني :

ألف: خوف من يعرف الحقيقة من الإتصال بأهل بيت علي (عليه السلام) وشيعته ، وحرمانه من ثم من الإستفادة من تعاليمهم ، والتخلق بأخلاقهم ، والسير على منهاجهم ، الذي هو منهاج الإسلام الصحيح كما قلنا ، فإسلام علي (عليه السلام) لم تطّلع عليه الأمة ، ولم تعرفه كما يجب ، وإنما عرفت الإسلام الأموي إسلام المصالح والأهواء ، الإسلام الذي يستحل السلب والنهب ، وقتل النفوس البريئة ، وفعل كل عظيمة ، وارتكاب كل جريمة في سبيل الملك والسلطان ، وفي سبيل المال واللذة .

وأما من لا يعرف الحقيقة - وهؤلاء من الأغلبية الساحقة - كما سنرى ، فلسوف يصدق بأن هذه الشخصية ومن يمت إليها بصلة أو رابطة شخصية منحرفة حقاً ، وليس من المناسب ولا من الصالح الديني ولا الدنيوي الاتصال بها ، وبمن يمت أليها بصلة ، حتى ليتجرأ معاوية على القول لأهل الشام : إن علياً (عليه السلام) لم يكن يصلي (1) - والعياذ بالله – ، وحتى إن عشرة من قواد أهل الشام وأمرائهم إلى قيام الدولة العباسية ما كانوا يعرفون أن للنبي (صلى الله عليه وآله) قرابة سوى بني أمية ، وقد حلفوا على ذلك لأبي العباس السفاح بأغلظ الإيمان (2).

وغير ذلك من الشواهد الكثيرة جداً في التاريخ الإسلامي ، في عهد الأمويين وبعده .

باء: وشيعة علي وأهل بيته أيضاً يرون أنفسهم غير مقبولين اجتماعياً ، ولا يمكنهم ممارسة أي نشاط مهما كان ، فتخمد جذوة الثورة في نفوسهم ، وينصرفون عن التخطيط لأي عمل يضر بصالح الهيئة الحاكمة .

جيم: كما أن الأمويين يكونون قد أخذوا بثارات بدر وغيرها ، وكذلك الجمل وصفين ، وشفوا غيظ قلوبهم من علي (عليه السلام) ، هذا الذي كان القضاء النازل عليهم ، والبلاء المبرم ، الذي لم يجدوا منه مناصاً ولا عنه محيداً .

4- سياسة التجهيل : التي كانت تتعرض لها الأمة بأسرها ، ويكفي أن نذكر : أن الناس والهاشميين بالذات كانوا في زمن السجاد (عليه السلام) ، لا يعرفون كيف يصلون ، ولا كيف يحجون (3) .

وإذا كانت الصلاة ، التي هي الركن الأعظم في الإسلام ، ويؤديها كل مكلف خمس مرات يومياً ، كان لا يعرف حدودها وأحكامها من هم أقرب الناس إلى مهبط الوحي والتنزيل ، والذين يفترض فيهم أن يكونوا أعرف من كل أحد بالشريعة ، وأحكام الدين ، فكيف تكون حالة غيرهم من أبناء الأمة ، وما هو مقدار معرفتهم بالشريعة والدين إذن ؟ وما هو مدى معرفة الأمة وبالأخص من هم أبعد عن مصدر العلم والمعرفة بالأحكام الأخرى التي يكون التعرض لها والابتلاء بها أقل ؟! ، إننا نترك الجواب عن ذلك إلى أنس بن مالك الذي يقول – على ما رواه البخاري والترمذي – ما أعرف شيئاً مما كان على عهد رسول الله (ص) ؟ قيل: الصلاة ؟

قال: أليس صنعتم ما صنعتم فيه (4) ، وقال الزهري: دخلنا على أنس بن مالك بدمشق – وهو وحده – يبكي قلت: ما يبكيك ؟ قال : لا أعرف شيئاً مما أدركت إلا هذه الصلاة ، وقد ضيعت (5) .

وبعد عصر أنس بقليل نجد الحسن البصري يقول : لو خرج عليكم أصحاب رسول الله (ص) ما عرفوا منكم إلا قبلتكم (6).

وروى مالك في الموطأ عن عمه عن جده مالك أنه قال : ما أعرف شيئاً مما أدركت عليه الناس إلا النداء للصلاة (7). 

فنقل السيوطي في شرحه عن الباجي قوله : يريد الصحابة ، وأن الأذان باقٍ على ما كان عليه ، لم يدخله تغيير ولا تبديل بخلاف الصلاة ، فقد اخرت عن أوقاتها ، وسائر الأفعال دخلها التغيير انتهى (8) .

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال : لو أن رجلين من أوائل هذه الأمة خلوا بمصحفيهما في بعض هذه الأودية لأتيا الناس اليوم ، ولا يعرفان شيئاً مما كانا عليه (9) .

وبعد هذا.. فإن من الطبيعي أن يعتبر من حفظ عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بعض الأحاديث – أربعين حديثاً مثلاً أو عرف بعض الأحكام – إن من الطبيعي أن يعتبر أنه أعلم الناس وأعظمهم في وقته وعصره ، ولاسيما إذا أضاف إلى ذلك وزاد عليه ما شاءت له قريحته ، وسمحت به نفسه ، حيث لا رقيب عليه ولا حسيب ، ولا من يستطيع أن يميز هذا عن ذاك .

ولذلك نجد أن سوق الكذابين والوضّاعين وحتى بعض من أسلم من أهل الكتاب ، نجد أن سوقهم قد راج ، وصاروا هم أهل العلم والمعرفة والثقافة للأمة ، حينما انضووا تحت لواء الحكام ، وأبعد أهل البيت (عليهم السلام) عن الساحة ، وأجبروهم على التخلي عنها ، حتى لنجد أن الإمام السجاد (عليه السلام) يقول في دعائه الخاص بيوم الجمعة وعرفه (10) :

(( اللهم إن هذا المقام لخلفائك وأصفيائك ، ومواضع أمنائك في الدرجة الرفيعة التي اختصصتهم بها ، قد ابتزوها حتى عاد صفوتك وخلفاؤك مغلوبين مقهورين مبتزين ، يرون حكمك مبدلاً وكتابك منبوذاً وفرائضك محرفة ، عن جهات أشراعك ، وسنن نبيك متروكة.. )) (11) .

بل نجد الإمام السجاد (عليه السلام) أيضاً يقول للقاسم : (( إياك أن تشد راحلة ترحلها هنا لطلب العلم ، حتى يمضي لكم بعد موتي سبع حجج )) (12) ، وكان السجاد (عليه السلام) إذا سافر صلى ركعتين ثم ركب راحلته ، وبقي مواليه يتنفلون ، فيقف ينتظرهم ولا يمنعهم من ذلك مع أن النوافل في السفر غير مشروعة ، بل نجد أن علياً (عليه السلام) قبل ذلك يشكو من عدم تمكنه من إظهار علمه ونشره ، فهو يتلهف ويقول : إن في صدري هذا لعلماً جماً ، علمنيه رسول الله لو أجد حفظة ، كما أن الإمام الباقر (عليه السلام) يقول ما يقرب من هذا .

وعلي (عليه السلام) أيضاً يتنفس الصعداء على المنبر ويقول : (( سلوني قبل أن تفقدوني ، فإن بين الجوانح مني علماً جماً ، هاه هاه ألا لا أجد من يحمله)) .

وقال (عليه السلام) : (( لو أجد ثلاثة رهط استودعهم العلم ، وهم أهل لذلك لحدثت بما لا يحتاج فيه إلى نظر في حلال ولا حرام ، وما يكون إلى يوم القيامة )) .

وكذلك هو يقول إنه لو حدثهم ببعض ما يعلم من الحق في الكتاب الذي نزل به جبرئيل على محمد ، لتفرقوا عنه حتى يبقى في عصابة حق قليلة (13) .

فإذا كان هذا هو حال الأمة في زمن علي (عليه السلام) ، ولم يكن الأمويون بعد قد تسلطوا على الأمة بشكل فعال ، فكيف كان حال الناس بعده  في زمن معاوية وزمن يزيد ؟ ، الذي أخذ مسرف بن عقبة البيعة من أهل المدينة على أنهم خول له ، والذي قتل الحسين (عليه السلام) ، ونصب المنجنيق على الكعبة ، ثم بعده عبد الملك بن مروان ، والحجاج وغيرهم من جبابرة وملوك بني مروان ؟! .

نعم.. لقد صار أولئك الوضاعون والكذابون وأصحاب المصالح ، وحتى مسلمة أهل الكتاب هم مصدر الثقافة والمعرفة ، وهم معلموا الأمة ، وهداتها .

وقد ساعد الحكام على ذلك ، ووفروا لهم الحماية الكافية والمال ، وساعدوهم في كل ما يريدون ويشتهون ، وذلك لأمور:

الأول: إن هؤلاء كانوا يخدمون العرش الأموي بشكل فعال ، ويؤيدونه بمختلف المختلقات والافتراءات ، على شكل روايات تتخذ صفة القداسة في نفوس الناس ، وتترسخ في وجدانهم ، لأنها منسوبة إلى نبي الأمة الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) .

الثاني: إنهم قد وجدوا فيهم ما يقدمونه للناس على أنه البديل عن أهل البيت (عليهم السلام) ، فلا يعيش الناس في الفراغ النفسي والعقائدي والتشريعي الذي سوف يتركه إبعاد أهل البيت (عليهم السلام) عن المجال العملي العام .

الثالث: وهو الأهم : إن السياسة الأموية كانت قائمة أساساً على إبعاد الناس عن الإسلام الصحيح ، وحتى على القضاء على الشخصية النبوية في نفوس الناس قضاءً مبرماً ونهائياً ، هذه الشخصية التي سوف لن يكون تعرف الأمة عليها على حقيقتها في صالح العرش الأموي على الإطلاق .

ولذلك نجد أنه كانت ثمة رقابة كاملة على سنة النبي (صلى الله عليه وآله) وسيرته ، وحتى على سيرة أصحابه ولاسيما الأنصار منهم ، كما يظهر من كتاب الموفقيات للزبير بن بكار ، وعلى سيرة الإمام علي وأهل البيت (عليهم السلام) وسلوكهم ومفاهيمهم وتعاليمهم بشكل أخص ، ومحاولة التعتيم عليها أو التشكيك فيها ، وحتى قلبها رأساً على عقب إن أمكن ذلك ، وقد أشرنا إلى ذلك بشيء من التفضيل في مقال سابق فلا نعيد .

وقد ساعدهم على ذلك سياستهم الخاصة تجاه صحابة النبي (صلى الله عليه وآله) ، وتجاه حديث النبي ، والتي كانت تقضي بالمنع عن التحديث عنه (صلى الله عليه وآله) إلا بنوع خاص من الأحاديث ، وبمنع كبار الصحابة من السفر إلى البلاد لتثقيف الناس ، حتى مات هؤلاء الصحابة وانقرضوا أو كادوا ، ولم يبق إلا بعض الصغار منهم ، والذين لم يعرفوا الكثير منه (صلى الله عليه وآله) ولم يعايشوه بالشكل الواعي والكافي ، بل إنك لتجد أن بعض كبارهم كان يعاشره البعض سنة فلا يسمعه ، يقول قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وكان يجعل هذا من ميزاته وحسناته ، ويفوز بكثير من المدح والثناء عليه (14).

كانت تلك لمحة خاطفة عن الوضع الذي كانت تعيش فيه الأمة في زمن الإمام السجاد (عليه السلام) ، وكانت تلك بعض الخيوط السياسية للحكم الأموي آنذاك .

وفي هذا الجو بالذات كان على الإمام السجاد (عليه السلام) أن يقوم بمهمة إمامة الأمة وهدايتها إلى الإسلام ، الإسلام الصحيح إسلام محمد (صلى الله عليه وآله) وعلي (عليه السلام) ، إسلام القرآن ، ولقد كانت مهمته هذه في غاية الصعوبة والخطورة .

فقد عرفنا موقف الحكم الأموي منه ، ومن أبيه وجده ، وعمه ، ومن أهل بيته وشيعته ، وكل من يلوذ بهم بسبب أو نسب .

وإذا أضفنا إلى ذلك : أن الإمام الحسين (عليه السلام) كان أعظم شخصية في الأمة الإسلامية ، ولم تنس الأمة بعد ما سمعته من النبي (صلى الله عليه وآله سلم) في حقه ، مع ما عرفته فيه طيلة سبعة وخمسين عاماً من السلوك المثالي ، والإستقامة على الحق ، والعلم والوعي الذي لا يقاس ولا يضاهى ، وغير ذلك من الصفات الفضلى ، والسجايا النبيلة .

وحينما استشهد الإمام الحسين (عليه السلام) مع أهل بيته وأصحابه ، إعتبر الأمويون والناس : أن أهل البيت (عليهم السلام) قد انتهى أمرهم ، وأفل نجمهم ، فلا الأمويون يخافونهم ، ولا غير الأمويين يرجونهم ، هذا عدا عن عدم جرأة أحد على الإتصال بهم ، وعدا عن الجهل المطبق بالإسلام ، فكانت الردة عن أهل البيت (عليهم السلام) والإبتعاد عنهم عامة وشاملة ، وحتى ليقول الإمام الصادق (عليه السلام) : ارتد الناس بعد قتل الحسين إلا ثلاثة : أبو خالد الكابلي ، ويحيى بن أم الطويل ، وجبير بن مطعم (لعل الصحيح: حكيم بن جبير) ، ثم إن الناس لحقوا وكثروا (15).

إذن.. فلابد للإمام للسجاد (عليه السلام) أن يبدأ العمل من نقطة الصفر تقريباً ، ولاسيما عقائدياً ، ويعيد الإسلام من جديد ، ويوجه الناس نحو تعاليمه وأحكامه ، ويعيد للناس عقيدتهم التي كانت قد تعرضت للكثير من التحريف ، وأن يعيد لهم ثقتهم بأهل بيت نبيهم (عليهم السلام) .

والخلاصة: أن يبدأ تماماً كما بدأ النبي(صلى الله عليه وآله) فيما سبق من نقطة الصفر ، والإمام السجاد (عليه السلام) هو خليفة ذلك النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله ) ، ولابد له أيضاً من الحفاظ على العلويين ، وكل من يتشيع لهم ، ولابد له بالإضافة إلى ذلك : من أن يكسر ذلك الطوق الحديدي الذي ضربه الحكم حولهم ، لاحتواء كل تصرفاتهم ونشاطاتهم ، ولابد له كذلك من إعادة ثقة الأمة بأهل البيت (عليهم السلام) ، وتوجيهها نحوهم واعتبارهم المصدر الأصفى لتعاليم الإسلام ، الإسلام القرآني الصحيح ، ومصدر كل المعارف والعلوم النافعة والأفكار الراقية ، والأخلاق الفاضلة الكريمة .

ولقد نجح (عليه السلام) في كل ذلك أيما نجاح ، رغم قسوة الظروف ورغم الأخطار الجسيمة التي كان يواجهها ، حيث لم يكن له أية حماية أو رعاية من أي جهة كانت ، ومن أي نوع كانت .

نعم .. لقد نجح في ذلك نجاحاً باهراً ، حتى إنه عندما خرج ولده زيد على الحكم الأموي ، بايعته الآلاف الكثيرة وإن كانوا قد تركوه ولم يثبتوا معه ، ثم توالت الثورات الشعبية العارمة واحدة بعد الأخرى ، وأغلبها كان بدوافع دينية ، وشعور مذهبي .

ويكفي أن نذكر أن من نتائج جهوده (عليه السلام) - بالإضافة إلى كل ما سبق - : أن هيأ الجو على النحو الأكمل والأفضل لمدرسة الإمامين بعده : الباقر والصادق (صلوات الله عليهما وعلى آبائهما وأبنائهما الطاهرين ) .

وأما عن أسلوب عمله وجهات جهاده ونضاله ، فإننا لا نستطيع في هذه العجالة أن نلم بكل جوانبها ومجالاتها ، فضلاً عن دقائقها وتفصيلاتها ، ولذلك فنحن نكتفي بالإشارة إلى الأمرين التاليين :

الأول: بالإضافة إلى أنه كان يوجه الأمة من خلال سلوكه وتصرفاته ومواقفه ، فإنه كان أيضاً يوجه الأمة من خلال أدعيته ، التي كان يضمنها مختلف المعارف الإسلامية : عقائدياً – وهو الأهم – وسياسياً وأخلاقياً وغير ذلك ، ولم يكن بإمكان أحد أن يعترض عليه ويقول له : لا تدع ربك ، فإن ذلك سوف يكون مستهجناً ومرفوضاً من كل أحد ، حيث يرونه – بحسب الظاهر – لا يتعرض لدنيا هؤلاء الحكام ، وإنما شغل نفسه بعبادة ربه ، وتصفية وتزكية نفسه .

ويظهر أن الحكام أنفسهم أيضاً قد اطمأنوا إلى أنه (عليه السلام) ليس في صدد التخطيط والعمل ضدهم ، ولا يفكر في الخروج عليهم ، فراق لهم انصرافه عن دنياهم ، بل لقد أصبح له عندهم مكانة عظيمة واحتراماً خاصاً لم يكن لأحد من أهل البيت قبله ، ولا كان لأحد منهم بعده ، ولذلك تجد الثناء العاطر ينهال عليه من كل جانب ومكان ، من قبل من ترضى عنهم الهيئة الحاكمة ، وتعتبرهم من أعوانها .

ولقد فاتهم أنه كان في الظاهر يدعو الله ، ولكنه كان في واقع الأمر يدعو إلى الله ، ويوجه نحوه ويعرّف الناس سبيله ، ويضمن كلامه الكثير من التعاليم الإلهية ، والمعارف الدينية التي تهمهم في أمر دينهم ودنياهم ، كما اتضح ذلك جلياً فيما بعد ، وأنه كان يقود عملية التغيير الشامل في بنية العقيدة للأمة الإسلامية بأسرها .

الثاني: اهتمامه (عليه السلام) المتميز بشراء الموالي وعتقهم ، حتى ليقول البعض (16) " وعرف العبيد ذلك فباعوا أنفسهم له ، واختاروه وتفتلوا من أيدي السادة ليقعوا في يده ، وجعل الدولاب يسير، والزمن يمر، وزين العابدين يهب الحرية في كل عام ، وكل شهر وكل يوم ، وعند كل هفوة ، وكل خطأ ، حتى صار في المدينة جيش من الموالي الأحرار ، والجواري الحرائر ، وكلهم في ولاء زين العابدين ، قد بلغوا خمسين ألفاً أو يزيدون".

ويقول أيضاً: " فهو يشتري العبيد لا لحاجة إليهم ، ولكن ليعتقهم ، وقالوا : إنه اعتق مئة ألف " (17) .

ودعا (عليه السلام) مملوكه مرتين فلم يجبه وأجابه في الثالثة ، فقال له : يا بني ، أما سمعت صوتي ؟

قال: بلى.

قال: فما بالك لم تجبني؟

قال: أِمنْـتُكَ .

قال: الحمد لله الذي جعل مملوكي يأمنني (18) .

وكان (عليه السلام) لا يضرب مملوكاً ، بل يكتب ذنبه عنده ، حتى إذا كان آخر شهر رمضان جمعهم وقررهم بذنوبهم ، وطلب منهم أن يستغفروا له الله كما غفر لهم ، ثم يعتقهم ويجيزهم بجوائز ، وما استخدم خادماً فوق حول .

وقال السيد الأمين : ولقد كان يشتري السودان وما به إليهم من حاجة ، يأتي بهم عرفات فيسد بهم تلك الفرج ، فإذا أفاض أمر بعتق رقابهم ، وجوائز لهم من المال (19) .

ونحن نلاحظ هنا الأمور التالية :

أولاً: إنه يخاطب مماليكه بـ (يا بني) ، وكان يهدف إلى إعطاء النظرة الصحيحة للإسلام تجاه المماليك ، وأنه يعتبرهم بمنزلة الإخوة والأبناء ، وإن الإسلام الذي يفرض على الإمام السجاد (عليه السلام) أن يعامل مماليكه معاملة يأمنوه معها ، يختلف عن ذلك الإسلام الذي يدعيه الآخرون الذين يعتبرون الموالي أحقر وأذل من الحيوان .

وثانياً: إن كتابة إساءاتهم ، ثم محاسبتهم عليها وعتقهم حينه ، إنما يهدف إلى تنبيههم إلى أخطائهم ، وترسيخ ذلك في نفوسهم ، ولاسيما حينما تطرح كقضية حاسمة في أسعد لحظات حياتهم : اللحظات التي ينالون فيها حريتهم ، التي هي في الحقيقة هوية وجودهم .

فهم إذن قد نالوا أعز ما في الوجود من غير استحقاق ، وفي هذا ضغط نفسي من نوع معين ، ليحاولوا الإرتفاع بأنفسهم إلى درجة الإستحقاق والجدارة ، ويبعث في نفوسهم روح العمل الجاد في سبيل التكامل في الفضائل الإنسانية ، والإلتزام بالتعاليم الأخلاقية الإسلامية .

وثالثاً: إن ذلك يجعل له – بشكل طبيعي – مكانة خاصة في نفوسهم ، والنظر إليه نظرة خاصة فيها كل الاحترام والتقدير، واعتباره نوعية أخرى ، تختلف عما يعرفون ويعهدون ، وهذا يؤهلهم في المستقبل إلى الإستماع إلى تعاليمه ، واحترام آرائه التي هي تعاليم وآراء الإسلام ، ثم السير على منهاجه واتباع سلوكه .

ورابعاً: وأما إعطاؤهم المال في هذا الظرف بالذات ، فبالإضافة إلى أنهم يكونون عادة في أمس الحاجة إليه في هذا الظرف بالذات ، حيث لا يملكون فيه من حطام الدنيا شيئاً ، ويمنعهم بذلك من اتباع الأساليب الملتوية من أجل الحصول علي لقمة العيش ، فبالإضافة إلى ذلك هو يؤكد على إنسانية تعاليم الإسلام ، وإنه يعيش قضية الإنسان ، ويتفاعل معها ، ويهتم اهتماماً حقيقياً بحلها ، ولا يتاجر بآمال الناس وآلامهم ، وبكراماتهم كما هو شأن غيره ممن لم يعد أمرهم خافياً على أحد .

وخامساً: لقد كان من نتيجة هذه السياسة التي لا نجدها بهذا الشمول والسعة لدى غيره ، أن صار الموالي يعتبرون أهل البيت (عليهم السلام) هم المثل الأعلى للإنسان وللإسلام ، وكانوا مستعدين للوقوف إلى جانبهم في مختلف الظروف ، ولا نعدم بعض الشواهد التي تظهر أن الموالي كانوا ينتصرون للعلويين إذا رأوهم تعرضوا لظلم أو لبغي من قبل السلطات ، كما يظهر لمن راجع كتاب عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب لابن عنبة ، وغيره .

وسادساً وأخيراً : إن ذلك كان إدانة لمنطق الأمويين القائم على أساس تفضيل العربي وإعطائه كل الامتيازات ، وحرمان غيره منها بكل صورة ، واعتباره أذل وأحقر من الحيوان ، حتى كان يقال : لا يقطع الصلاة إلا كلب أو حمار أو مولى ، ومنعوهم من الإرث كما في موطأ مالك ، ومن العطاء ومن القضاء ، ومن الولاية وإمامة الجماعة ، ومن الوقوف في الصف الأول منها ، واعتبر غير العربي ليس كفؤاً للعربية ، وأباحوا استرقاقهم ولا يسترق غيرهم ، إلى غير ذلك مما لا مجال لتتبعه واستقصائه .

وإذا لاحظنا أن العرب قبل الإسلام لم يكن لهم شأن يذكر ، ولا كان لهم حكم ولا سلطان ، وإنما كان الحكام هم غيرهم ، فإن من الطبيعي أن ترضي هذه السياسة غرور العربي ، الذي أصبح يرى نفسه حاكماً على ملك الأكاسرة وغيرهم ، وذلك ربما كان يزيده عنفاً وغلواً في معاملته القاسية لغير العرب .

ومن الجهة الأخرى ، فإن من الطبيعي أن يحس غير العرب بالغبن وبالمظلومية وعدم حفظ حقوقهم ، فكان هذا سبباً لتعاطفهم مع الدعوة العباسية التي تسببت في الإطاحة بالعرش الأموي ، وعلى الأخص حينما رأى غير العرب أنه لم ينصفهم ويعاملهم معاملة عادلة وحسنة إلا علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، ثم جاء الإمام السجاد (عليه السلام) وغيرهم من أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ليعلن رفض الإسلام لمنطق الأمويين هذا القائم على أساس التمييز العنصري البغيض ، وأن هذا لا يمثل رأي الإسلام الصحيح ، ولا ينسجم مع منطلقاته في التعامل والتفضيل القائم على أساس العمل فقط : ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ ) [الحجرات : 13] و: ( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ ) [الزلزلة : 7- 8] .

فكان كل ذلك قد هيأ الأجواء لتعاطف غير العرب مع الدعوة ضد الأمويين ، كما أنه في نفس الوقت قد خفف من غلوائهم وحقدهم ، ولهذا فإننا لا نجد تطرفاً كثيراً في معاملة غير العرب للعرب حينما حكموهم في الدولة العباسية في فترات متعددة ، وإن كان للظروف الخاصة الأخرى أثراً كبيراً أيضاً في هذا المجال .

وهكذا.. فإن علي بن الحسين ( قد قام بمهمة شاقة جداً وخطيرة جداً ، مهمة بعث الإسلام في الأمة من جديد ، في حين أنه لم يكن يعترف بإمامته في وقت ما غير ثلاثة أشخاص ، وهيأ الظروف والأجواء وأعاد العلاقات والروابط والصلات بين أهل البيت (عليهم السلام) وبين الأمة رغم جهد الحكام المستمر والمستميت لقطعها ، والقضاء عليها .

نعم.. لقد قلب كل الموازين رأساً على عقب كما أوضحناه بأسلوبه الحكيم ، والهادئ الرصين.. صلوات الله عليه وعلى آبائه وأبنائه الطاهرين .

ويلاحظ : أنه قد فعل كل ذلك ونجح فيه أعظم النجاح ، بصورة متميزة وفريدة ، قد خفيت على الحكم ، وعلى كل أجهزته بصورة تامة ، ولعل ذلك هو ما يفسر لنا ما نجده مع اهتمامهم بإبراز عظمته (عليه السلام) ، وسعة علمه وفضله حتى من قبل المتعاطفين مع الحكم والموالين له ، حتى ليقول يحيى بن سعيد والزهري: ما رأيت قرشياً قط أفضل من علي بن الحسين (20) .

والحمد لله رب العالمين.

------------------------------------

(1) تاريخ الطبري ج4 ص30 والكامل لابن الأثير ج3 ص313 والفتوح لابن الأعثم ج3 ص196 وصفين لنصر بن مزاحم ص354 وشرح النهج للمعتزلي ج8 ص36 وأنساب الأشراف بتحقيق المحمودي ج2 ص184 ونقله المحمودي عن تاريخ دمشق لابن عساكر ج38 رقم 1139 وترجمة الإمام علي لابن عساكر بتحقيق المحمودي ج3 ص99 والغدير ج10 ص122و290 عن بعض من تقدم..

(2) راجع: الحياة السياسية للإمام الرضا(ع) للمؤلف ص54.

(3) راجع: كشف القناع عن حجية الإجماع ص67.

(4) ضحى الإسلام ج1 ص386 وراجع: الصحيح من سيرة النبي(ص) للمؤلف ج1 ص28.

(5) جامع بيان العلم ج2 ص244وراجع: الصحيح من سيرة النبي(ص) للمؤلف ج1 ص28 حول مصادر أخرى.

(6) جامع بيان العلم ج2 ص244/245.

(7) الموطأ ( المطبوع مع تنوير الحوالك ) ج1 ص93 وجامع بيان العلم ج2 ص244.

(8) شرح الموطأ للزرقاني ج1 ص221 وتنوير الحوالك ج1 ص93-94 عن الباجي.

(9) الزهد والرقائق لابن المبارك ص61.

(10) الصحيفة السجادية، دعاء رقم 48.

(11) راجع: الصحيح من سيرة النبي(ص): التمهيد.

(12) كشف القناع عن حجية الإجماع ص66.

(13) راجع المصدر السابق ص66-69.

(14) راجع: الصحيح من سيرة النبي(ص) (التمهيد) والحياة السياسية للإمام الحسن(ع) الفصل الثاني كلاهما للمؤلف.

(15) راجع: رجال الكشي ص123و115 وغيره.

(16) زين العابدين ص47، لعبد العزيز سيد الأهل.

(17) المصدر السابق ص7.

(18) كشف الغمة ج2 ص299.

(19) أعيان الشيعة ج4 ص468.

(20) أنساب الأشراف بتحقيق المحمودي (ع) ج3 ص146و207.

---------------------------------

مراجعة وضبط النص شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي (بتصرف يسير) .