الأدلّة على مشروعيّة التوسّل
  • عنوان المقال: الأدلّة على مشروعيّة التوسّل
  • الکاتب:
  • مصدر:
  • تاريخ النشر: 20:55:18 1-10-1403

إن الوثائق والأدلة التي يمكن إقامتها لإثبات مشروعية التوسل متعددة، ومتنوعة ومنقسمة إلى دلائل قرآنية وروائية وعقلية وعقلائية وتحليلية وتاريخية، ونحاول في هذا المقال الوقوف قليلاً عند كل واحد من تلك الأدلة.

 

1ـ الأدلة القرآنية

الدليل الأول: القرآن ينفي التوسل بالوسائط المقترحة فقط.
عندما نرجع إلى الآيات القرآنية لا نجدها تنفي أو تستنكر الوسائط والتوسل بها بقول مطلق، بل نراها تقّسم الوسائط الوسائل إلى قسمين:
وسائط مقترحة ومخترعة من قبل العبيد.
وسائط إلهية نصبها الله تعالى لخلقه بسلطانه وإرادته.
والقرآن الكريم يدين ويستنكر بشدة في ضمن طوائف متعددة من الآيات اتخاذ الوسائط والوسائل باقتراح من الناس وتحكيم سلطانهم وهواهم على سلطان الله تعالى وإرادته، دون غيرها من الوسائط.
ونذكر فيما يلي ثلاث طوائف في هذا المجال:
الطائفة الأولى: وهي التي جاءت بلغة الاستنكار وإدانة اتخاذا الأسماء والوسائط باقتراح العبيد وسلطانهم وهواهم.
1ـ قوله تعالى : (أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤكُم مَّا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ)(1).
هذا الشجب والاستنكار يسجله الله تعالى في قرانه الكريم على لسان نبيه هود، عندما حاجج قومه وأنكر عليهم اتخاذ الوسائط المقترحة من عند أنفسهم ولم ينـزل الله عز وجل بها سلطاناً.
ومن الواضح والمقرر في البلاغة وعلم أصول الفقه، أن النهي أو النفي إذا ورد على حقيقة وطبيعة مقيدة بقيد، يقع ذلك النهي أو النفي على القيد لا على ذات الطبيعة المقيدة، كقولك: لا رجل طويل في الدار، فان النفي في هذا المثال متوجه إلى القيد، وهو الطول، وليس المراد نفي وجود الرجل في الدار من راس، وبالنتيجة يكون المنفي الصنف وهو الرجل الطويل، لا ذات الطبيعة المقيدة، وهي عموم الرجل.
كذلك في المقام، فالآية في قوله تعالى : (مَّا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ) إنما تنفي صنفاً خاصاً من الوسائط والوسائل وتصدّ عن التوسل بها، وهي الوسائط التي لم ينـزل بها الله تعالى سلطاناً، والأسماء المقترحة والمجعولة من قبل هوى النفس أو تقليداً للآباء والأجداد، ولم تنف الآية المباركة دور الوسائط مطلقاً.
وإلا فلو كان اصل الوساطة والتوسيط أمراً مستنكراً فلا معنى لذكر القيد، ويكون ذكره في الآية لغواً، مع أننا نرى أن الآية الكريمة ركزت على ذكر القيد وأكدت على كون الأسماء المستنكرة هي التي ما أنزل الله بها من سلطان، لا مطلق طبيعة الأسماء والوسائط.
وفي الآية المباركة إشارة لطيفة؛ إذ لم يطلق الاسم فيها على ذات الباري تعالى، وإنما أطلق على ذات الواسطة بينه وبين عبيده ومخلوقاته، وهذا يؤيد ما ذكرناه في مقال سابق من أن الاسم الإلهي يطلق على المخلوقات، فهي اسم دال على عظمة الذات الإلهية وهي المسمى.
2ـ قوله تعالى : (إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ)(2).
وتقريب الاستدلال بهذه الآية الكريمة بنفس ما تقدم في الآية السابقة، حيث إنها تجعل مركز التخطئة والاستنكار هو التصرف الإقتراحي من البشر في سلطان الله عز وجل، وليست التخطئة متوجهة إلى اصل نظرية الوسائط.
الطائفة الثانية: وهي ما كانت بلسان حصول الشرك وتحقق العبادة لغير الله تعالى نتيجة التوسل بوسائط اقتراحية لم تكن بسلطان الله تعالى وحكمه وإرادته.
1ـ قوله تعالى : (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ)(3).
2ـ قوله تعالى : (وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا)(4).
3ـ قوله تعالى : (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)(5).
4ـ قوله تعالى : (وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُم بِهِ عِلْمٌ)(6).
5ـ قوله تعالى : (مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ)(7).
فإن هذه الآيات المباركة تقرر أيضاً إن خطأ المشركين وسبب وقوعهم في هاوية الشرك وعبادة غير الله تعالى هو تحكيم سلطانهم ورغبتهم وهواهم وإرادتهم على إرادة الله تعالى وسلطانه، لا أن الوساطة مرفوضة مطلقاً في منطق القرآن الكريم.
وقد يقفز إلى الذهن إشكال حول الاستدلال بالآيتين الأخيرتين حصيلته: إن العبادة المرفوضة إذا كانت هي عبادة من لم ينـزل به الله سلطاناً، فهل هذا يعني أن العبادة لغير الله تعالى جائزة فيما إذا كان بسلطان الله وإرادته؟
وحصيلة الجواب عن هذا الإشكال:
إن العبادة لغير الله تعالى ممنوعة مطلقاً، والباري تعالى لا يأمر بعبادة غيره، وهذه الآيات المباركة إنما تريد أن تؤكد على أن الوسائل والوسائط إذا لم تكن بسلطان الله تعالى وإرادته فتكون معبودة من دون الله تعالى، ويكون الهوى وسلطان العبد إلهاً متبوعاً في اتخاذ الوسائط.
وهذا بخلاف ما لو كان اتخاذ الوسائط بأمر من الله تعالى فإن العبادة حينئذ لا تكون إلا لله عز وجل لا للوسائط ، وذلك لأنه جوهر العبادة وروحها بالخضوع والطوعانية والاستسلام، فإذا أمر الله تعالى بأمر تكون العبادة التوحيدية بامتثال ذلك الأمر، وان كان لهيئة الفعل المأمور به علاقة وإضافة إلى واسطة أو وسيلة معينة، فقوله تعالى مثلاً: (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ)(8) فإن هذا أمر من الله تعالى بالتوجه إلى الكعبة كواسطة في العبادة، وهذا لا يعني أن الله تعالى يأمر بعبادة أحجار الكعبة والسجود والخضوع لها، وإنما السجود والخضوع له تبارك وتعالى، ولكن الكعبة جعلها باباً للتوجه إليه والتقرب منه في العبادة.
وأما مع فقدان الأمر الإلهي فلا يكون الإتيان بالفعل طاعة لله تعالى وعبادة له وان حذفت الوسائط، بل يكون شركاً وتكبراً واستكبارا ً للنفس وعبادة لإله الهوى.
الطائفة الثالثة: وهي ما كانت بلسان أن تلقّي التشريع من غير الله تعالى يعد شركاً في التشريع إذا كان من دون إذن الله تعالى.
1ـ قوله تعالى : (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ)(9).
2ـ قوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ)(10).
ومضمون هذه الطائفة من الآيات كمضمون الطوائف التي سبقتها وهو أن الواسطة سواء في قضاء الحوائج وقبول العبادات أم في التشريع لا غضاضة فيه إذا كان بإذن الله وأمره وسلطانه.

 

نتيجة الطوائف الثلاث:

إن الإنكار على الوثنية والمشركين ليس مركزه نظرية الوسائط وفكرة التوسل، وإنما مركزه الزيغ والانحراف الذي واجهته تلك النظرية، إذ كان من المفروض تلقّي التعليمات في التوجه إلى الوسائط من الله تعالى عن طريق أوامره ونواهيه التي كانت تصل عبر الأنبياء والرسل، ولكن المشركين أعرضوا عن ذلك وتوجهوا إلى الله تعالى بوسائط مقترحة لم تكن في الواقع ذات وجاهة حقيقة لدى الحضرة الربوبية، وهذا هو محط الإنكار والتقريع الإلهي للمشركين والوثنيين.
وهذا دليل قرآني عام يثبت أصل مشروعية نظرية التوسل بصورة عامة في الفكر الديني والإسلامي، ويميز بين أنواع وأصناف الوسائط ويوضح المستنكَر منها عن غير المستنكَر.
وأما تشخيص أفراد الوسائط المقبولة والوجيهة عند الله تعالى فسيتضح في الأدلة الآتية.
الدليل الثاني: قصة آدم مع إبليس
إن هذه الملحمة القرآنية تعد من أوضح الأدلة على ضرورة التوجه إلى الوسائط والحجج الإلهية لطلب رضا الله تعالى والتقرب إليه.
وهذه الواقعة التي افتتحت البشرية بها مسيرتها تضفي بلونها على أصول الدين كلها، إذ هي جاءت لتعيين مصير البشرية.
ونحاول تسليط الضوء على الجوانب القرآنية التي لها صلة بالمقام، وفيما يلي نذكر الآيات التي استعرضت
هذه القصة:
1ـ قوله تعالى : (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ)(11).
2ـ قوله تعالى : (إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ * قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ * قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ * قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ)(12).
3ـ قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ * قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ * قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ)(13)
4ـ قوله تعالى : (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ)(14).
هذه بعض الآيات الكريمة التي تناولت أطراف القصة.
والملاحظ لهذه الآيات المباركة يرى أنها احتوت على دلالات متعددة تنص على أسس المعارف الاعتقادية، ومن الجوانب المهمة في هذه القصة صدور الأمر الإلهي للملائكة بالسجود لآدم، وذلك ضمن تعابير متنوعة احتشدت في الآيات الكريمة لتبيّن عظمة الموقف، وشدة الأمر بالانقياد والخضوع لآدم (عليه السّلام)، كما في قوله تعالى : (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) حيث تجمعت فيها الدلالات التأكيدية كـ (هم) و (أجمع) و (كل)، ودخول الألف واللام على الجمع في (الملائكة) وغيرها من الدلالات الاخرى، وكقوله تعالى : (فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) ولا يخفى ما في الأمر بالوقوع مباشرة بلا فصل من شدة الخضوع والطوعانية والانقياد لآدم (عليه السّلام).
وهنا أصبح آدم واسطة وقبلة إلى الله تعالى، والملائكة بسجودهم له امتثالاً لأمر الله تعالى، نالوا المنـزلة الرفيعة من التوحيد والطاعة والقرب، وفي الوقت ذاته حكم القرآن الكريم على إبليس بالكفر والاستكبار، وكان بذلك مدحوراً ملعوناً مطروداً عن الساحة الإلهية.
ولا يمكن فهم هذا الحكم الإلهي إلّا على ما ذكرناه من أن المدار في الطاعة وتحقق العبادة، وتوحيد الله تعالى على وجود الأمر الإلهي، فمع مخالفة الأمر الإلهي يتحقق الكفر والشرك، وإن كان مضمون المخالفة عبارة عن رفض الوسائط مطلقاً كما فعل إبليس، وأما الملائكة فهم موحدون مطيعون وإن كان ذلك عن طريق الواسطة والقبلة التي نصبها الله تعالى لهم، كما ورد ذلك في روايات الفريقين، فقد أخرج ابن عساكر عن أبي إبراهيم المزني قوله ـ عندما سئل: أسجدت الملائكة لآدم؟ ـ: (إن الله تعالى جعل آدم كالكعبة، فأمر الملائكة أن يسجدوا نحوه تعبداً كما أمر عباده أن يسجدوا إلى الكعبة)(15).
والحاصل: إن الآية الكريمة صريحة في جعل الواسطة، وهو آدم (عليه السّلام) في الخضوع والانقياد والطاعة لله تعالى، ولم تكن طاعة الله تعالى لتتحقق من الملائكة إلا بذلك؛ ولذا نرى أن إبليس فسق عن أمر ربه عندما لم يسجد لآدم (عليه السّلام)، لأنه أراد أن يحكّم إرادته وسلطانه على إرادة الباري تعالى وسلطانه، وقد جاء في الحديث القدسي إن إبليس قال: (رب اعفني من السجود لآدم وأنا أعبدك عبادة لم يعبدكها ملك مقرب ولا نبي مرسل، فقال جل جلاله: لا حاجة لي في عبادتك، إنما عبادتي من حيث أريد لا من حيث تريد)(16) وليس ذلك إلا لكون عبادته التي يزعمها ـ مع رفضه السجود لخليفة الله آدم ـ تكبراً وتجبراً على الله عز وجل، وهو ينافي مضمون وحقيقة العبادة، التي هي الخضوع والطوعانية للأوامر الإلهية.
إذن قصة آدم (عليه السّلام) مع إبليس رفضت السجود المباشر لله تعالى، وطالبت بالتوسل بخليفة الله تعالى وتوسله في قبول الطاعة. فالتوسل منطلق حركة البشرية ومبدأ تفعيل دور خليفة الله ووليه، وهو واسطة في القرب لأشرف مخلوقاته، بما في ذلك كبار الملائكة المقربين كجبرائيل وميكائيل وعزرائيل وإسرافيل وغيرهم.
الدليل الثالث:
قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(17).
إن المراد من ابتغاء الوسيلة إلى الله تعالى قصدها والتوجه إليها في مقام التوجه إلى الله تعالى، ومن تداعيات الابتغاء أيضا أن هناك بعداً بين العبد وربه، ومسافة لابد أن تطوى بابتغاء الوسيلة والتوجه إليه.
ولا شك أن ذلك البعد من جهة العبد فحسب، لأن الله تعالى أقرب إلى العبد من حبل الوريد، قال عز وجل: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)(18)، وليس القرب الإلهي من الإنسان قرباً جسمانياً أو عقلياً أو روحياً كي يقع التضايف بين الطرفين، لان الله تعالى منزّه عن التضايف والتقابل بكافة ألوانه، لكون ذلك من التشبيه الباطل المنافي لوجوب وجود الله تعالى.
إذن المراد من كون الله عز وجل قريب من العبد هو قرب القدرة والسلطنة والهيمنة والإحاطة القيومية، فالمقتدر والمهيمن والمحيط كلما اشتدت قدرته وهيمنته وإحاطته كلّما كان أقرب من المحاط به، ويكون الأمر على العكس من جهة العبد، فهو يزداد ضعفاً وبعداً في الصفات كلّما كان طرفه المقابل أشد قوة واقتداراً، فالقوي قريب محيط والضعيف بعيد مُحاط من حيث افتقاره وافتقاده للصفات والكمالات غير المتناهية التي يمتلكها القوي شدة وعدة، فهناك نمط من التعاكس في القرب والبعد يعود إلى نمط التعاكس في الصفات.
ومن ثم لابد من ابتغاء الوسيلة التي تكون أشد كمالاً وأقرب صفة من الله تعالى، لكي يطوي المخلوق شيئاً من ذلك البعد وينال درجة من درجات القرب والرقي في مدارج الكمال.
والوسيلة هي الأقرب إلى الله تعالى من حيث الكمالات، إذ كلما تكامل المخلوق في المزايا والصفات كلما ازداد قربه من الله تعالى، وتجلّت فيه صفات الخالق أكثر، وأصبح مرآة وآية لكمال الحق وجماله، به يعرف الله تعالى واليه يتوجه لنيل القرب منه عز وجل، ومن هنا كان المخلوق الذي يتسم بالضعف والوهن والفقر والحاجة والبعد بحاجة إلى آية ووسيلة أقرب إلى الله تعالى في الصفات لتكون سبباً وواسطة تقرّبه منه تبارك وتعالى.
ومن ذلك يتّضح أن الوسيلة والواسطة التي أمر الله تعالى خلقه بالتوجه إليها وابتغائها هي أعاظم خلقه وآياته وأسمائه وكلماته الدالة عليه، والتي يتوصل العبد عن طريقها إلى نيل القرب والكمالات.
وسيأتي في الأدلة الروائية أن الوسيلة من المقامات العليا للنبي (صلّى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السّلام) وهذا يعني أنهم (عليهم السّلام) الوسيلة الكبرى والآية العظمى التي يتوجه بها إلى الله تعالى.

 

الدليل الرابع:

قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا)(19).
لقد نصّت هذه الآية المباركة على ثلاثة شروط لقبول التوبة والاستغفار من هذه الأمة، وهي:
1ـ المجيء إلى النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله).
2ـ إظهار استغفار الله تعالى عنده (صلّى الله عليه وآله).
3ـ إمضاء النبي (صلّى الله عليه وآله) لذلك الاستغفار باستغفاره لهم.
فهذه الآية المباركة من ضمن مجموع الآيات التي تعرضت لذكر شرائط التوبة، والشرط الأول لقبول توبة المذنب والظالم لنفسه اللجوء إلى النبي (صلّى الله عليه وآله) والاستعاذة والاستجارة به (صلّى الله عليه وآله) ، ثم بعد ذلك يظهر الندامة والاستغفار، إذ الترتيب في الآية ترتيب رتبي لا ذكري فقط، وذلك بقرينة العطف بالفاء، والمجيء إلى النبي (صلّى الله عليه وآله) عبارة عن التوجه إليه والتوسل به في قبول التوبة.
وهذه الآية المباركة كشفت النقاب عن شرطية التوسل بالنبي (صلّى الله عليه وآله) في أعظم خطر مصيري يحدق بالإنسان، وهو الذنب والمعصية التي قد تؤدي بالعبد إلى الهلاك.
ثم إن مضمون هذه الآية المباركة ليس خاصاً بحياة النبي (صلّى الله عليه وآله)، لأنها جاءت لبيان بنود ماهية التوبة وشرائطها العامة التي يشترك فيها كافة المسلمين، وفي جميع الأزمنة، ولا يمكن أن تكون مختصة بالفترة التي عاشها النبي (صلّى الله عليه وآله) أو تكون مختصة بمن عايش تلك الفترة، خصوصاً وأن الآيات القرآنية دستور الإسلام العام لجميع الأجيال في الأمة الإسلامية.
ويكون المراد من المجيء بناء على ذلك مطلق الارتباط بالنبي (صلّى الله عليه وآله) بالتوجه إليه قلباً وقالباً والكينونة في حضرته المباركة، والمثول عنده للاتيان بعبادة الاستغفار، وليس المراد من المجيء الحضور الفيزيائي لبدن المذنب عند الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) فحسب، بل إن هذا المجيء أحد المصاديق والأفراد المقصودة في الآية المباركة، والتعبير بالمجيء كنائي يراد به مطلق الاستغاثة والتوجه القلبي إلى النبي (صلّى الله عليه وآله)، كما فعل ذلك آدم عندما توسل بخاتم الأنبياء (صلّى الله عليه وآله) في غفران خطيئته على ما سيأتي في بحث الأدلة الروائية.
الدليل الخامس:
قوله تعالى : (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ)(20).
والاستدلال بهذه الآية المباركة قريب من الاستدلال بالآية السابقة، إذ أن فيها أمراً لعصاة هذه الأمة، بأن يأتوا إلى النبي (صلّى الله عليه وآله) ويتوسلوا به ليغفر لهم الله تعالى، وقد قال تعالى لرسوله (صلّى الله عليه وآله) في آيات أخرى: (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)(21) وقال أيضا عز وجل: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ)(22)، فالنبي (صلّى الله عليه وآله) مأمور من الله تعالى بأن يشفع لامته ويكون واسطة ووسيلة لهم في المغفرة، وفي آية المنافقين إضافة أخرى في الاستدلال، حيث يقول الله تعالى إن الإباء والصد عن المجيء عند النبي (صلّى الله عليه وآله) استكبار على الله تعالى (وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ) وهو الجرم الذي وقع فيه إبليس حينما أبى أن يسجد لولي الله وخليفته آدم (عليه السّلام)، قال تعالى : (أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ)، وليس ذلك إلا لكون المنافقين لوّوا رؤوسهم وأبوا زيارة النبي (صلّى الله عليه وآله) وتوسيطه والتوجه به إلى الله تعالى في الاستغفار والرحمة.
وهذه الآية كسابقتها عامة وغير مختصة بالفترة الزمنية التي عاشها النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله)، لما ذكرناه سابقاً من أن هذه الآيات جاءت لرسم ماهية التوبة والاستغفار عموماً، والقرآن قانون إلهي للبشرية كافة، بالإضافة إلى الروايات المتضافرة التي تنص على أن النبي (صلّى الله عليه وآله) حي يرزق تعرض عليه الأعمال، ويسمع الكلام، ويرد السلام، وهو الشاهد والشهيد على جميع الأمم، كما سوف يأتي ذكر تلك الروايات لاحقاً.
الدليل السادس: التوسل بالرسول (صلّى الله عليه وآله) ميثاق الأنبياء.
قال تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ)(23).
إن الميثاق المذكور في هذه الآية المباركة يعني تعاقداً بين الله تعالى وبين سائر الأنبياء (عليهم السّلام)، والطرفان اللذان وقع عليهما الميثاق والتعاقد هما الحكمة والنبوة، والمقامات التي أعطاها الله تعالى للأنبياء في مقابل طرف آخر مهم في المعاملة وخطير وهو الإيمان بسيدهم وخاتمهم محمد (صلّى الله عليه وآله) ونصرته، فالنبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله) وسيلة وواسطة لسائر الأنبياء في نيلهم المقامات الإلهية والمنح والعطايا الربانية.
إذن هذه الآية المباركة صريحة في أن التوجه إلى الله تعالى لنيل القرب منه عز وجل لا يتم إلا بالتوسل بالنبي (صلّى الله عليه وآله) والتشفع به عن طريق الإيمان به ونصرته، وبالتشفع به (صلّى الله عليه وآله) يفاض على العبد أعظم الأرزاق كالنبوة والكتاب والحكمة، فما بالك بسائر العطايا والأرزاق الدنيوية وغيرها التي لا تقاس بمقامات الأنبياء.
ثم إن الآية الكريمة رسمت خطورة الأمر ضمن تأكيدات مغلّظة، حيث جاء فيها قوله تعالى : (أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي)، وبعد أن تم الإقرار والمعاهدة والمعاقدة المشددة، أشهدهم الله تعالى على ذلك بقوله: (فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ) وهذا يعني أن للتوسل دوراً مهماً ومحورية أساسية في إطار رسم معالم الدين.
ومن الجدير بالتوجه في المقام إن إنكار التوسل في الأمور الدنيوية مع نص الآيات عليه وعلى مطلوبيته في عظائم الأمور ليس إلا تعظيماً لصغائر الأمور وتحقيراً لما عظمه الله تعالى، فإن الإيمان بكون الأنبياء لم يستحقوا ما نالوه من مقامات إلا عن طريق توسلهم بالإيمان بالنبي (صلّى الله عليه وآله) وتعهدهم بنصرته مع إنكار التوسل به في بعض الحاجات المعيشية الدنيوية لا معنى له سوى الاستهانة بتلك المقامات الشامخة وتهويل ما ليس حقه ذلك.
الدليل السابع: الصدّ عن التوسل استكبار على آيات الله.
قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ)(24).
سبق وان ذكرنا أن المراد من الآيات الحجج الإلهية من الأنبياء والأولياء والرسل والأوصياء، حيث أطلق الله تعالى لفظ الآية على بعض الأنبياء والأولياء كعيسى (عليه السّلام) وأمه مريم، حيث قال تعالى : (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً)(25).
ولا شك أن النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله) آية أعظم عند الله تعالى من عيسى وأمه مريم، لأنّ عيسى (عليه السّلام) لم ينل الدرجات الرفيعة التي وصل إليها إلا بولايته وإقراره وإيمانه ونصرته لسيد الأنبياء، إذاً النبي (صلّى الله عليه وآله) ومن معه في منزلته من أهل بيته (عليهم السّلام) المصداق البارز لآيات الله تعالى.
والذين يكذبون بآيات الله تعالى ويصدون ويستكبرون عنها ـ كما فعل إبليس مع آدم ـ لا تفتح لهم أبواب السماء، فلكي يسمع الله تعالى من الداعين والطالبين والراغبين إليه عز وجل لابد من التوجه إلى آيات الله تعالى واللجوء إليها والتصديق بها وعدم الإعراض عنها والتوسل بها وجعلها واسطة في تفتح أبواب السماء، وسبق وان ذكرنا في آيات متقدمة أن الصد عن الآيات والاستكبار عليها من صفات المنافقين.
ومن الشواهد في هذه الآية الكريمة على أن المراد من الآيات فيها هم الأنبياء والحجج، التعبير فيها بـ (كذبوا) فإنه في مقابل تصديقهم فيما يزعمونه من مناصب إلهية وارتباط مع الله تعالى، وأما الآية الكونية فليس فيها تكذيب أو تصديق، وإنما الذي يصدق في حقها هو الغفلة والإعراض عنها، إذ لا يوجد فيها زعم أو دعوى معينة كي تُصدَّق أو تكذّب.
والحاصل: إن هذه الآية المباركة تنص على أن مفاتيح أبواب سماء الحضرة الربوبية المقدسة الإقرار بالحجج والآيات والتوجه إليها والتوسل والتشبث بها والانقطاع إليها لا عنها، فلا يسمع الدعاء ولا ترتفع العبادة والإيمان والعقيدة ولا تتحقق التوبة إلا بالتصديق بالآيات وصلتها ومودتها والتوجه إليها والتوسل بها، والصد والإعراض عنها يوجب حبط الأعمال في الآخرة (وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ) فشرط النجاة يوم القيامة الارتباط بالآيات الإلهية والانتماء إليها والتوسل بها، لكونها قنوات غيبية بين الناس وبين ربهم.

 

الدليل الثامن:

قوله تعالى حكاية لكلام إبراهيم (عليه السّلام) مع عمه آزر: (قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا)(26).
فإن هذه الآية المباركة صريحة في الوساطة والتوسل والشفاعة، إذ أن النبي إبراهيم (عليه السّلام) يعلل شفاعته ووساطته في الاستغفار بحفاوته عند الله تعالى، وقد أقرّ الله تعالى إبراهيم على اصل الحفاوة، والتعليل في الآية المباركة بالحفاوة عام فيشمل كل من كان له تلك المنـزلة من القرب والحفاوة عند الله تعالى كالنبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السّلام).
ونظير هذه الآية المباركة قوله تعالى حكاية لقول موسى (عليه السّلام): (قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)(27).
فالنبي موسى (عليه السّلام) يستغفر لنفسه ويتوسط في طلب الاستغفار لأخيه هارون (عليه السّلام) ومعنى ذلك أن الوسيلة والشفاعة قد تكون أيضا من الولي الذي هو اقرب وأكثر حظوة عند الله تعالى للولي الذي هو دونه في القرب.
وإذا كان موسى (عليه السّلام) واسطة ووسيلة رحمة وغفران بين الله تعالى وبين هارون وهو نبي من الأنبياء فما ظنك بسائر البشر؟!
وفي الإطار ذاته استغفار يعقوب لولده، قال تعالى : (قَالُواْ يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)(28).
فإن قول أبناء يعقوب (عليه السّلام) توسل منهم بابيهم وتوجه إليه في توبتهم وأوبتهم وإنابتهم إلى الله تعالى لحفاوته وقربه من الله تعالى، والنبي يعقوب (عليه السّلام) أقرّهم على فعلهم هذا، وقال لهم (قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ) فقوله هذا شفاعة منه (عليه السّلام) لولده عند الله تعالى وفعلهم توسل به إلى الله تعالى كما تقدم من الرابطة الوثيقة بين التوسل والشفاعة.
ومن هذا المنطلق أيضا نفهم قوله تعالى حكاية عن نبي الله سليمان (عليه السّلام): (قَالَ يَا أَيُّهَا المَلأ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ)(29) فسليمان وهو نبي من الأنبياء يتوسل في قضاء الأمور المهمة الخارقة للعادة بمن عنده علم من الكتاب، حيث طلب الإتيان بالعرش بسرعة عالية، فقال: (قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ)(30)، وهذا لا يعني أن سليمان (عليه السّلام) عندما جعل واسطة للأتيان بالعرش كان عاجزا ً عن ذلك، وإنما فعل ذلك ليبين للناس أن في أمته وحكومته من هو واسطة في قضاء مهمات الأمور.
وفي هذا المضمار أيضا قوله تعالى : (مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتًا)(31) حيث إن هذه الآية المباركة ظاهرة في الشفاعة الدنيوية، إذ أنها تتحدث عن دار العمل والاكتساب لا دار الجزاء والحساب، وقد نصّت هذه الآية الكريمة على مشروعية الشفاعة والواسطة الحسنة المجعولة من الله تعالى والمرضية لديه، وقد تقدم أن الشفاعة لا تختلف عن التوسل إلا في كيفية النسبة حيث إن الشفاعة يلاحظ فيها العلاقة بين الواسطة وذي الواسطة المشفوع عنده، والتوسل يلاحظ فيه العلاقة والرابطة بين طالب الحاجة وبين الواسطة والشفيع، فإذا تقدم صاحب الحاجة بطلبه إلى الوسيط سمي ذلك توسلا ً، وإذا قبل الوسيط الطلب وتقدم به إلى قاضي الحاجات والغني بالذات سمي ذلك شفاعة، فالشفاعة والتوسل مجموع عملية واحدة، والتوسل اسبق في هذه العملية من الشفاعة، فإذا كانت الشفاعة في الدنيا مشروعة فالتوسل مشروعيته أوضح وأولى.

 

الدليل التاسع:

قوله تعالى : (فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)(32) فإن الكلمات التي وردت في هذه الآية المباركة جعلها الله تعالى واسطة ووسيلة لقبول التوبة من آدم (عليه السّلام)، وذكرنا سابقاً أن الكلمات والآيات والأسماء الإلهية هي الحجج والعلامات التي نصبها الله عز وجل ورفعها لخلقه كي يهتدوا بها، وقلنا أن الأنبياء والرسل والأولياء من ابرز كلمات الله وآياته، قال تعالى : (وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ)(33) ولا شك أن خاتم الأنبياء أفضل من عيسى (عليه السّلام) وسائر أولي العزم من الرسل، فهو (صلّى الله عليه وآله) الكلمة التامة والأبلغ في الدلالة على الله تعالى، ولذا ورد في كتب السنة والشيعة إن الكلمات التامات التي تلقّاها آدم من ربه فتاب عليه هو النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله) ومن هم في درجته ومنـزلته من أهل بيته (عليهم السّلام) وهو (صلّى الله عليه وآله) سيدهم وأفضلهم، ومن تلك الروايات:
● ما أخرجه الحاكم النيسابوري في المستدرك عن عمر، قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (لما اقترف آدم الخطيئة، قال: يا رب أسالك بحق محمد لما غفرت لي، فقال: يا آدم وكيف عرفت محمداً ولم اخلقه؟ قال: يا رب لأنك لما خلقتني بيدك ونفخت فيّ من روحك رفعت رأسي، فرأيت على قوائم العرش مكتوباً لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلمت انك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك، فقال: صدقت يا آدم، انه لأحب الخلق إليّ، ادعني بحقه فقد غفرت لك، ولولا محمد ما خلقتك) قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد(34).
● ومنها: ما أخرجه الحاكم الحسكاني عن ابن عباس، قال: (سألت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عن الكلمات التي تلقّاها آدم من ربه فتاب عليه، قال: سأل بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين إلا تبت عليّ، فتاب عليه)(35).
● ومنها: ما أخرجه السيوطي في الدرّ المنثور عن الإمام علي (عليه السّلام) انه ذكر الكلمات التي تاب الله تعالى بها على آدم (عليه السّلام) وهي: (اللهم إني أسالك بحق محمد وآل محمد سبحانك لا إله إلا أنت عملت سوءاً وظلمت نفسي فاغفر لي انك أنت الغفور الرحيم، اللهم إني أسالك بحق محمد وآل محمد سبحانك لا إله إلا أنت عملت سوءاً وظلمت نفسي فتب علي انك أنت التواب الرحيم، فهؤلاء الكلمات التي تلقاها آدم)(36).
وهذه الروايات وان نقلت بألفاظ مختلفة إلا أنها لا تنافي بينها، إذ أنها بأجمعها تؤكد ما ذكره القرآن الكريم من أن الله تعالى تاب على آدم بواسطة كلمات، وأكدت تلك الروايات أن الكلمات هم محمد (صلّى الله عليه وآله) وآله الطاهرين، إلا أن ألفاظها متفاوتة، ولعل ذلك بسبب النقل بالمعنى.

الدليل العاشر: التوسل بمخلوقات كريمة أضيفت إلى الأنبياء والأولياء.
هناك آيات عديدة تنص على مشروعية التوسل بغير الأنبياء والرسل من المخلوقات الكريمة على الله تعالى التي أُضيفت ونسبت إلى بعض الأنبياء والأولياء، حيث تكون سبباً وواسطة لقضاء بعض الحوائج، وفيما يلي جملة من تلك الآيات:

1ـ قميص يوسف.
قال تعالى حكاية لكلام يوسف (عليه السّلام): (اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَـذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ * وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ * قَالُواْ تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ * فَلَمَّا أَن جَاء الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)(37) والشفاء في هذه الآية المباركة تحقق ليعقوب (عليه السّلام) وهو نبي من أنبياء الله تعالى بواسطة قميص لامس بدن ابنه يوسف (عليه السّلام)، وهذا من أقسام التوسل والتوسيط في إفاضة الشفاء من قبل الله تعالى.
فالشفاء وان كان من الله تعالى، كما جاء ذلك على لسان إبراهيم (عليه السّلام) حيث قال: (وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) إلا أن هذا لا يتنافى مع جعل الوسائط وأن يتوسل الشخص بواسطة منصوبة من الله عز وجل كالأشياء التي أضيفت إلى الأنبياء أو الأولياء (عليهم السّلام)، وسبق وان ذكرنا أن الاستشفاء والتوسل والتبرك أصناف متعددة لماهية التوسيط.
والسر الكامن وراء جعل تلك الوسائط إن الله تبارك وتعالى لحكمته وإتقان صنعه خلق العالم محكوماً بنظام الأسباب والمسببات لتكون تلك الأسباب مجاري وقنوات فيض الله تعالى وعطائه الدائم إلى المراتب الضعيفة والنازلة من الوجود، والتي لا تقوى على التلقي مباشرة من الله تعالى.
والذي يتضح من سياق الآيات المباركة أن موردها وهو القميص لا خصوصية له، وإنما هي تحكي قانوناً عاماً لكل ما له نسبة وإضافة إلى نبي من الأنبياء أو وصي من الأوصياء بالنحو الذي يوجب حصول البركة فيه، وذلك لان الفعل الذي بيّنته الآيات الكريمة يحمل في طياته الطبيعة العامة والسنة الإلهية الشاملة، ولذا قال الله تعالى في نفس سورة يوسف: (لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ)(38) وقال تعالى في السورة ذاتها: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى)(39).

2ـ قصة التابوت
قال تعالى : (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوَاْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)(40)، فالتابوت الذي فيه سكينة وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون جعله الله تعالى سبباً، وآية معجزة لملك طالوت وإمامته، فتلك التركة بسبب انتسابها إلى آل موسى وآل هارون واكتسابها البركة بإضافتها إليهم بلغت درجة الواسطة في الإعجاز لإثبات مطالب حقة، فتجاوزت هذه الواسطة حدّ الكرامة والبركة لتصل إلى مرحلة الإعجاز، فالتابوت وما فيه آية وواسطة يتوسل بها لإثبات ملك طالوت وإمامته.

 

3ـ قصة السامري صاحب العجل

قال تعالى حكاية عن بني إسرائيل:(قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ * فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ)(41) إلى أن قال الله تعالى حكاية عن موسى (عليه السّلام):(قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ * قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي)(42).
إن الرسول المقصود في الآية المباركة كما نصّت على ذلك روايات الفريقين هو جبرائيل (عليه السّلام) عندما هبط وتمثل بشراً راكباً على حصان ليهدي موسى (عليه السّلام) وبني إسرائيل إلى الطريق ويستنقذهم من فرعون وجنوده بالعبور من مصر إلى الطرف المقابل، وكان السامري من خواص النبي موسى (عليه السّلام)، فشاهد السامري أن حافر حصان جبرائيل عندما كان يخطو الحصان ينبت الزرع ويتحرك دفعة واحدة من تحته، فقبض قبضة من اثر جواد الرسول فنبذها في العجل فإذا هو له خوار.
قال الطبري في تفسيره: (وقوله: فقبضت قبضة من اثر الرسول، يقول ـ قتادة ـ قبضت قبضة من اثر حافر فرس جبرائيل) ثم اخرج عن ابن عباس قوله: (لما قذفت بنو إسرائيل ما كان معهم من زينة آل فرعون في النار وتكسرت، ورأى السامري اثر فرس جبرائيل (عليه السّلام) فاخذ تراباً من أثر حافره، ثم اقبل إلى النار فقذفه فيها، وقال: كن عجلاً جسداً له خوار، فكان للبلاء والفتنة) وفي حديث آخر عنه أيضا قال: (فألقى القبضة على حليهم فصار عجلاً جسداً له خوار).
واخرج أيضا عن مجاهد في قول الله تعالى : (فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا) قال: (من تحت حافر فرس جبرائيل، نبذه السامري على حلية بني إسرائيل فأنسبك عجلاً جسداً له خوار)(43).
وفي تفسير القمي عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال: (وكان السامري على مقدمة موسى يوم اغرق الله فرعون وأصحابه، فنظر إلى جبرائيل وكان على حيوان في صورة رمكة(44) فكانت كلما وضعت حافرها على موضع من الأرض تحرك ذلك الموضع، فنظر إليه السامري وكان من خيار أصحاب موسى، فاخذ التراب من تحت حافر رمكة جبرائيل وكان يتحرك، فصره في صرة وكان عنده يفتخر به على بني إسرائيل، فلما جاءهم إبليس واتخذوا العجل، قال للسامري هات التراب الذي معك، فجاء به السامري فالقاه إبليس في جوف العجل، فلما وقع التراب في جوفه تحرك فخار)(45).
فإذا كان اثر التراب الذي لامس حافر فرس جبرائيل (عليه السّلام) له ذلك التأثير مع أن السامري استخدمه في طريق الضلالة فكيف يمن هو اشرف من جبرائيل؟! وكيف لا تكون المواضع التي وقف فيها الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) وقبره والمواطن التي لامست بدنه الشريف ذات بركة وتأثير خارق لما هو المعتاد لاسيما إذا كان في طريق الهداية والانصياع للأوامر الإلهية؟!

 

4ـ عصا موسى (عليه السّلام)

حيث كانت وسيلة وواسطة للعديد من المعاجز الإلهية كانقلابها أفعى، وضرب البحر بها فكان كل فرق كالطود العظيم، وضرب الحجر بها فانفجرت اثنتا عشرة عيناً، كل ذلك لكون تلك العصا مضافة إلى موسى (عليه السّلام) فهي مباركة ببركة موسى (عليه السّلام) وواسطة للكثير من المعاجز، فكيف ظنك بموسى ومن هو أفضل منه، الا يكون واسطة ووسيلة لقضاء الحوائج التي لا تصل في العظمة والخطورة إلى حد المعجزة؟!.

2ـ الدليل العقلي
هناك بيانات متعددة للدليل العقلي الدال على مشروعية وضرورة التوسل، نستعرض فيما يلي بيانين منها:

البيان الأول: الوسائط الإلهية والوسائط المقترحة
إن نصب الوسائل والوسائط والأبواب من قبل المخلوقين والعبيد باقتراحهم واختراعهم يعد تصرفاً في سلطان الله عز وجل ونوعاً من تحكيم إرادة العبد وهواه على إرادة ربّه، ويكون هذا الفعل من العبد شركاً ونِدّية ووثنية جاهلية، سواء من ناحية العمل كاتخاذ الأحجار والأصنام وجعلها واسطة أم من ناحية الفكر والمعتقد وذلك كاتخاذ العقل ربّاً والقول بلا محدوديته وانه يتسع في الحكم والبت في الحقائق أينما بلغ، فإن هكذا توسيط من اقتراح البشر يعد مغالاة وشركاً في العقيدة؛ لان ذلك يكون مناددة لله تعالى وصنمية للعقل، بدعوى: إن الحكم إلا للعقل.
وأما التوسل والتوجه بالوسائط التي جعلها الله عز وجل ونصبها لخلقه فهو التوحيد التام، والإعراض عن الحجج والأبواب الإلهية وترك التوجه إليها يعد استكبارا ً على إرادة الله تعالى وسلطانه، كل ذلك من إدراك العقل وجوب الطاعة للمولى فيما أراد، والابتعاد عن الوقوف بوجهه في مقام جعل الوسائط والتوسل بها، فلا يكفي في نبذ الشرك وتحقق التوحيد نفي الوسائط الاقتراحية، بل لابد من التوسل بالحجج التي نصبها الله تعالى؛ وذلك من يقف عند إنكار الوسائط المقترحة كقوله (لا إله) ويسكت من دون ذكر المستثنى، حيث انه يوجب الكفر لا التوحيد.
إذن لابد من التوجه إلى الوسائط الإلهية والتوسل بها والذوبان فيها، وكلما ازداد الشخص ذوباناً في تلك الحج كلما ازداد توحيده والعكس بالعكس.

البيان الثاني: الاختلاف في المراتب الوجودية
هناك ضرورة عقلية أكّدها الفلاسفة، وهي إن الله تعالى وان كان هو الخالق لكل شيء ولا خالق سواه، ولكن إيجاد المخلوقات من الله تعالى ليس على رتبة واحدة، بل هي ذات مراتب متفاوتة ومشككة، وهذه الضرورة ليست نابعة من عجز في قدرة الله تعالى؛ إذ هو على كل شيء قدير، وإنما النقص والعجز في طرف المخلوق المتلقي للفيض والعطاء؛ وذلك لان شيئية الأشياء لا تتقرر ولا يمكن أن تفرض متحققة إلا بعد امكانها وصلاحيتها واستعدادها، فمع عدم امكانها لا يمكن فرض الشيئية لها، والأشياء النازلة في الرتبة الوجودية كالموجودات المادية أو البرزخية مثلاً لابد لها من سلسلة إعدادات ومخلوقات سابقة تكون مجاري فيض الله تعالى وعطائه، ويكون للمخلوقات السابقة في الرتبة الوجودية دور في تقرر صلاحية وامكان المخلوق اللاحق، وليس ذلك إلا لعجز المخلوق الهابط في الرتبة عن التلقي المباشر من منبع العطاء، فلابد من واسطة في الفيض ذاتاً وصفة، ولذا نرى أن الإنسان ببدنه المادي مثلاً لا يتقرر له امكان إلا بعد خلق المعدات وتسخير الأرض والسماء والماء والهواء وكافة المخلوقات الحية وغيرها، ففي الخلقة الدنيوية المادية توجد مؤثرات كثيرة أعدها الله تعالى وسخرها لكي يعيش الإنسان حياة ممكنة في هذا الكون، قال تعالى : (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ)(46) وقال أيضا تبارك وتعالى : (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)(47).
ومن هنا ورد من طرق الفريقين إن أول ما خلق الله تعالى العقل(48)، وفي روايات أخرى إن أول ما خلق الله القلم(49) أو إن أول ما خلق الله تعالى نور النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله)(50).
وورد أيضا إن الله تعالى أجرى الأمور بأسبابها(51)، فسنة الخلقة في هذا العالم الامكاني جارية على ضوء الأسباب والمسببات بجعل المخلوق السابق في الرتبة سبباً لان يخلق الله تعالى المخلوق اللاحق بنحو التقدم والتأخر الرتبي في ضمن قانون كتبه الله تعالى على نفسه بإرادته ومشيئته.
ولا شك أن التقدم في الدرجات الوجودية بين المخلوقات معناه أن المخلوق الأسبق رتبة اشرف وأكرم واقرب إلى الله تعالى في كمالاته من المخلوق الأدنى، وهو مجرى عطاء الله تعالى وسبب لتفتح أبواب السماء لتلقي الفيض.
إذن أساس فكرة الوساطة والسببية والوسيلة سنة تكوينية سنها الله عز وجل في خلقة الممكنات.
وهذا بيان عقلي واضح دال على ضرورة التوجه والتوسل بالمقربين وبالمخلوقات الكريمة على الله تعالى على المستوى الشرعي، وذلك لان الشريعة تتناسب وتتلائم مع نظام الخلقة والفطرة التكوينية.
وهذه هي الحفاوة التي استند إليها آدم وإبراهيم  في استغفارهما إلى الله تعالى.

الدليل العقلائي: وجوب الاحترام والتعظيم.
إن الأسلوب المتبع في شرعيات البشر وأعرافهم وآدابهم العقلائية والاجتماعية عند بعضهم البعض هو أن طريقة الوفود على الشخص الكريم في مجتمعه بالاستئذان من الباب والحجاب والشفعاء والوسائل التي تؤدي إليه، وان يكون ذلك بمنتهى الأدب والاحترام.
وبعبارة ثانية: إن الشخص عندما يتوسل بشخص آخر ويوسّطه للوفود على عظيم من العظماء يعد من أشكال الاحترام والتعظيم والأدب، وزيادة في إبداء إكرامه والتبجيل، فأنت مثلاً عندما تتخذ كافة الإجراءات اللازمة وتأتي عن طريق الحجب والأبواب صيانة لحرمة من تفد عليه تكون ممدوحا لدى العقلاء، وان لم يكن ذلك الطرف الذي وفدت عليه محجوباً في نفسه، ولو لم تَرْعَ تلك الإجراءات فكأنك هتكت حريمه.
وقد ذمّ الله تعالى الذين ينادون النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله) من وراء الحجرات وأمر بإتيان البيوت من أبوابها، وأن لا يدخلوا بيوتاً غير بيوتهم حتى يستأذنوا، قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ)(52) وقال عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)(53) وقال تعالى أيضا: (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(54).
وجاء في الحديث عن الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) قال: (أنا مدينة العلم وأنت يا علي بابها، فمن أراد المدينة فليأتها من بابها)(55).
ونجد أن الأدب ذاته قرره الشارع في الوفود على بيت الله الحرام، فجعل الاحرام مقدمة للتهيؤ وباباً للتعظيم.
وقد يقال: إن الجاري في الأعراف أمور متواضع عليها ولا ربط لها بالحقائق.
ولكن الجواب عن ذلك واضح لان الاعتبارات العقلائية ليست أمورا جزافية، وإنما لها مناشئ حقيقية ورابطة تكوينية، وقد أمضى الله تعالى تلك الاعتبارات. ثم إن الله تعالى ـ وإمضاءً لما جرى عليه العقلاء ـ نصب أبوابا ووجهاء مقربين يتوجه بهم إليه من باب التأدّب مع الله عزّ وجل، ولذا عندما يريد الشخص المسلم أن يطلب حاجته من الله تعالى في الدعاء وفي غيره لابد من تقديم الثناء على الله تعالى وشكره وحمده ثم يطلب حاجته كما هو مذكور في كتب الأدعية، وكما جاء ذلك أيضا في سورة الحمد التي يقرؤها الفرد المسلم في يومه وليلته عشر مرات على اقل تقدير، حيث تصدّر فيها المدح والثناء والشكر والحمد لله تعالى وبعد ذلك يتقدم القارئ بطلب حاجته.
إذن التوسل بمن يكون وجيهاً عند الله من التأدب والتعظيم لله عز وجل، والوفود على الله مباشرة من قبل الأفراد العاديين، الذين لا يحرز كون وجوههم مقبولة عند الله تعالى، بل قد يكون مطروداً من ساحة العظمة الإلهية بسبب ما يقترفه من الذنوب، يعد من الكبرياء والعنف وتعظيم الذات والعتو على الله تعالى، كما قال الله تعالى : (وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوًّا كَبِيرًا)(56) فإنكار هؤلاء لوساطة الأنبياء كان ناتجاً عن العتو والاستكبار على الله تعالى، فذم الله تعالى الذين يصدون عن الوسائط ويطلبون الارتباط المباشر بالسماء.
والحاصل: إن التوسل من مبادئ الأصول الفطرية والأخلاقية، وهو مقتضى التواضع والخضوع في التوجه والوفود على الله تعالى، وفي ذلك مزيد رفعة في التوحيد؛ لان التواضع حالة توحيدية خالصة، ورفض التوسل من الكبرياء والخشونة التي لا تناسب الأدب التوحيدي ويستنكرها العقل ويشجبها العقلاء في تعاملهم.

الدليل التأريخي:
لا ريب أن هناك ضرورة إسلامية وقرآنية تؤكد على أن عزل الشهادة الثانية ـ وهي شهادة أن محمداً رسول الله ـ وفصلها عن الشهادة الأولى ـ وهي شهادة أن لا إله إلا الله ـ وإنكارها يعد شركاً وخروجاً عن دائرة التوحيد التام الذي جاءت به الشريعة الإسلامية الخاتمة.
وعندما نرجع إلى القرآن الكريم نراه يحكم بالشرك والوثنية على الطقوس والمناسك العبادية التي يأتي بها أهل الكتاب، مع أنهم كانوا يزعمون أنهم على دين موسى وعيسى  . وفي الوقت ذاته اعتبر القرآن الكريم عبادة قريش وحجهم ومناسكهم وصلاتهم تجاه الكعبة من الشرك والجاهلية وعبادة الأوثان، مع أنهم كانوا يزعمون أن مناسكهم على ملة إبراهيم (عليه السّلام) كالصلاة إلى الكعبة وحج بيت الله الحرام والإتيان بأجزائه وشرائطه كالطواف والسعي والوقوف بعرفات والمزدلفة وسوق الهدي وغيرها من المناسك، وليس حكم القرآن ذلك إلا لعدم الرجوع إلى النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله) وقطع الصلة به والابتعاد عنه والتخلي عن ولايته وعدم الخضوع له وفصل الشهادة الثانية عن الشهادة الأولى، فإن ذلك كله يجعل من العبادات والمناسك طاعة لغير الله تعالى وشرك أكبر، فالطواف حول الكعبة عبادة لغير الله تعالى إذا افتقد تواصله بالشهادة الثانية والتولي لنبي الإسلام (صلّى الله عليه وآله).
وقريش إنما خرجت من حضيض الشرك بقولها لا اله الاّ الله ودخلت الإسلام بإقرارها بالشهادة الثانية وتولّيها للنبي (صلّى الله عليه وآله) والأخذ عنه والخضوع لطاعته وأوامره. فلا يضرّ التوحيد أن يجعل العبد واسطة بينه وبين ربّه الذي وحّده، ولا يدفع الوثنية والشرك الايمان بالواسطة فحسب وانما يضر العبد باسلامه لو أنكر الواسطة المنصوبة من الله عز وجل فلا يبقى له مجال وطريق لاستعلام أوامر الله ونواهيه وإراداته التشريعية الحقة، التي يريد من البشرية السير على خطاها، وحينئذ لا يكون لذلك العبد إلا إرادته وهواه وميول نفسه وسلطان ذاته، فيكون وثنه وإلهه هواه، كما قال تعالى : (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ)(57) وقال تعالى : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ)(58) فالهوى وسلطان النفس وثن وإله من الآلهة وان لم يكن أحجاراً.
والحاصل: إنّ أي عبادة من العبادات إذا فقدت تواصلها مع الشهادة الثانية تدخل حيّز الشرك والجاهلية، كما جاء ذلك في قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـذَا)(59)، حيث حكم الله تعالى بالشرك والنجس على عبادة غير المسلمين وان كانت في البيت الحرام؛ لرفضهم ولاية النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله).
وهذا برهان تاريخي أدياني يؤكد ضرورة الواسطة في العبادة، والواسطة هي الطاعة لولي الله تعالى بكل ما للطاعة من معنى وتداعيات ومقتضيات تقتضيها تلك الطاعة بجميع مستوياتها.

الدليل التحليلي: التجسيم من أسباب نفي الوسائط
إن إنكار التوسل ورفض الوسائط ناتج إما من القول بالتجسيم أو القول بالنبؤة والتنبي، وأما من لا يدعي النبؤة لنفسه وينكر كون الله تعالى جسماً فلا محالة له من قبول الوسائط والوسائل في جميع العوالم والنشئات.
وقبل البرهنة على هذا المدعى لابد من بيان مقدمة، وهي:
إن الحقائق أو الأمور العدمية الباطلة تدور مدار واقعها، لا مدار العنوان والشعار، فليس المقصود من دعوانا إن إنكار التوسل ناتج من التجسيم أو القول بالنبؤة هو أن يكون القائل بذلك قد ادعاه قولاً وعنواناً وشعاراً، بل قد يكون بحسب واقعه متبنياً لحقيقة التنبي أو التجسيم من دون أن يسميه تنبياً أو تجسيماً.
إذا اتضح ذلك نقول:
حيث ثبت في قسم التوحيد إن الله تعالى منزّه عن الجسمية بكل أشكالها وإنحائها، ونحن أجسام في شطر من ذواتنا وشطر من ادراكاتنا التي تتحقق عبر الارتباط والتعلق بالأجسام، سواء في الدنيا أم في البرزخ والآخرة، وحينئذ لا يمكن الارتباط مباشرة برب العزة والجلال، وحيث إن الارتباط بالله تعالى في الدنيا أو البرزخ أو في الآخرة ليس منقطعاً تماماً؛ لان معناه التعطيل في قدرة الباري تعالى ومعرفة العباد له، وهو باطل بضرورة الدين، فلابد من القول إما بالوسائط أو النبؤة.
والمجسمة إنما لجأوا إلى القول بالتجسيم لأنهم أنكروا الوسائط وخافوا من الوقوع في التعطيل أو دعوى النبؤة، فلا محيص لهم عن الالتزام بالتجسيم.
والشاهد على ذلك قوله تعالى : (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ)(60) فقوله تعالى (لِبَشَرٍ) للإشارة إلى الجسم والخصوصيات الجسمانية، وقوله تعالى : (إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) بمثابة البرهان والاستدلال على مضمون الآية المباركة، وقوله تعالى : (وَمَا كَانَ) لنفي الشأنية والامكان، لا لبيان عدم الوقوع فحسب.
ومعنى الآية الكريمة: انه لا وجود لأي مجابهة جسمانية بين الله تعالى وبين البشر المحكومين بأحكام المادة والجسمية، فتكليمه عز وجل للبشر إما وحياً أي عن طريق الجانب الروحي في البشر، أو من وراء حجاب أي عن طريق خلق الصوت وإيجاده في الأمور المادية كما في تكليم الله عز وجل موسى (عليه السّلام) من خلال الشجرة، أو يرسل رسولاً أي إرسال الملائكة، بل إن الملائكة أيضا يكلمهم الله تعالى بواسطة الإيحاء كما في قوله تعالى : (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ)(61).
إذن لا مجال للمواجهة الجسمانية مطلقاً في الدنيا والبرزخ والآخرة، وقوله تعالى : (إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) أي متعال أن يكون جسماً محاطاً ومحدوداً؛ لان العلو يستلزم نفي الجسمية، وهو تعالى حكيم أي غير معطل فمن حكمته أن يرسل رسلاً ويقيم أئمة ويوسط وسائط، فهو تعالى (عليّ) متعال على الجسمية ومقابلة الأجسام وحكيم غير معطل بينه وبين خلقه عن طريق الوسائط والرسل فلا تجسيم ولا تعطيل وهو تعالى يعرف برسله وأدلته وحججه.
والبعض حيث أنكر التجسيم وفرّ من التعطيل ورفض الوسائط بدعوى إنها صنمية منافية لروح التحرر ابتلى بالقول بالتنبي ولجأ إلى الإيمان بقدسية العقل وسعة مدياته وحدوده وانه يصيب كل صغيرة وكبيرة كما هي مقالة بعض المتعلمنين من الإسلاميين.
ولكن حيث إن التنبي والإيحاء إلى الجميع باطل بنص القرآن الكريم، قال تعالى مستنكراً هذه الفكرة على الكافرين: (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفًا مُّنَشَّرَةً)(62) وثبت أيضا في محله أن التشبيه والتجسيم والتعطيل باطل فلابد من الإيمان بالوسائط والوسائل، ويكون إنكار ولي الله وحجته تجسيماً أو تعطيلاً أو استكباراً وإكباراً للنفس وصنمية للعقل، وهي النبؤة المرفوضة في الكتاب والسنة.
ومن ذلك كله يعلم عظم مكانة الآية والحجة الإلهية، وان إنكارها بمنزلة إنكار الله تعالى، كما ورد ذلك في قوله تعالى : (وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ)(63) وقال أيضا عز وجل: (فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ)(64) وليس ذلك إلا لان الذات المقدسة إذا لم يكن بينها وبين المخلوقات أي ارتباط تكون معطلة عن المعرفة وهو بمنـزلة الإنكار لها.

التوسل في الأدلة القرآنية وسيرة المسلمين:
إن طوائف الروايات الدالة على مشروعية التوسل ومحوريته في المنظومة الدينية كثيرة جداً, نقتصر على ذكر بعضها ضمن العناوين التالية:

أولاً: التوسل بعموم الأنبياء والصالحين:
لقد ورد في الروايات المعتبرة والصريحة التأكيد على صحة التوسل بذوات وحق الأنبياء والصالحين:
1- عن ابن عباس عن رسول الله  أنّه قال: (مَن سره أن يوعيه الله حفظ القرآن، وحفظ أصناف العلم، فليكتب هذا الدعاء في إناء نظيف أو في صحف قوارير، بعسل وزعفران وماء مطر، وليشربه على الريق، وليصم ثلاثة أيام، وليكن إفطاره عليه، ويدعو به في أدبار صلواته:
اللهم إني أسألك بأنك مسؤول لم يسأل مثلك ولا يسأل، وأسألك بحق محمد رسولك ونبيك، وإبراهيم خليلك، وموسى نجيك، وعيسى روحك وكلمتك ووجيهك، وأسألك بصحف إبراهيم وتوراة موسى وزبور داود وإنجيل عيسى وفرقان محمد صلى الله عليه وسلم وأسألك بكل وحي أوحيته وبكل حق قضيته وبكل سائل أعطيته وأسألك بأسمائك التي دعاك بها أنبياؤك فاستجيب لهم وأسألك باسمك المخزون المكنون الطهر الطاهر المطهر المبارك المقدس الحي القيوم ذي الجلال والإكرام وأسألك باسمك الواحد الأحد الصمد الفرد الوتر الذي ملأ الأركان كلها والذي من أركانك كلها وأسألك باسمك الذي وضعته على السماوات فقامت وأسألك باسمك الذي وضعته على الأرضين فاستقرت وأسألك باسمك الذي وضعته على الجبال فرست وأسألك باسمك الذي وضعته على الليل فأظلم وأسألك باسمك الذي وضعته على النهار فاستنار وأسألك باسمك الذي تحيي به العظام وهي رميم وأسألك بكتابك المنزل بالحق ونورك التام أن ترزقني حفظ القرآن وحفظ أصناف العلم وتثبتها في قلبي وأن تستعمل بها بدني في ليلي ونهاري أبداً ما أبقيتني يا أرحم الراحمين)(65).
2- ما ورد من توسل يوسف بيعقوب، حيث جاء ذلك عن أبي بصير سأل الإمام الصادق (عليه السلام): (ما كان دعاء يوسف في الجب فإنا قد اختلفنا فيه؟ قال: إن يوسف لما صار في الجب وآيس من الحياة قال: اللهم إن كانت الخطايا والذنوب قد أخلقت وجهي فلن ترفع لي إليك صوتاً، ولن تستجيب لي دعوة فإني أسألك بحق الشيخ يعقوب، فارحم ضعفه واجمع بيني وبينه، فقد علمت رفقه علي وشوقي إليه، قال ثم بكى أبو عبد الله  : ثم قال: وأنا أقول: اللهم إن كانت الخطايا والذنوب قد أخلقت وجهي عندك فلن ترفع إليك صوتاً ولن تستجيب دعوة فإني أسألك بك فليس كمثلك شيء، وأتوجه إليك بمحمد نبيك نبي الرحمة يا الله يا الله يا الله، قال: ثم قال أبو عبد الله: قولوا هذا وأكثروا منه)(66).
3- وقد توسل داود  بحق آبائه  ، فقد ورد عن ابن عباس، أن النبي  قال: قال داود: ((أسألك بحق آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب))(67).

ثانياً: التوسل بالنبي  بالخصوص:

1- التوسل بالنبي قبل خلقه  :
حيث أن النبي آدم  عندما اقترف خطيئته وهي تركه للأولى، وتاب إلى الله تعالى مما صدر منه، تلقى من ربه كلمات فتاب عليه، كما أشار القرآن الكريم لذلك: (فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)(68).
وقد ورد في الأحاديث الصحيحة أن تلك الكلمات هي محمد  ، وفي أحاديث أخرى هي محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين  .
روى الحاكم في المستدرك عن عمر بن الخطاب إنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (لمّا اقترف آدم الخطيئة قال: يا رب أسألك بحق محمد لّما غفرت لي, فقال الله: يا آدم وكيف عرفت محمداً ولم أخلقه؟ قال: يا رب لأنك لما خلقتني بيدك أو نفخت فيّ من روحك رفعت رأسي، فرأيت على قوائم العرش مكتوباً لا إله إلاّ الله محمد رسول الله فعرفت أنك لم تضف إلى اسمك إلاّ أحب الخلق إليك، فقال الله: صدقت يا آدم، إنه لأحب الخلق إليّ، وسألتني بحقه فقد غفرت لك ولولا محمد ما خلقتك) ، وقال الحاكم هذا حديث صحيح الإسناد(69).
وكذلك أخرجها السيوطي في تفسيره بلفظ آخر يشتمل على ذكر الرسول (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته  ، وهي: (اللهم إني أسألك بحق محمد وآل محمد سبحانك لا اله إلاّ أنت، عملت سوءً، وظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت الغفور الرحيم، اللهم إني أسألك بحق محمد وآل محمد سبحانك لا اله إلاّ أنت، عملت سوءً، وظلمت نفسي فتب علي إنك أنت التواب الرحيم، فهؤلاء الكلمات التي تلقى آدم)(70).
وفي لفظ ثالث للرواية: (الكلمات التي تلقى آدم فتاب عليه سأله بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم إلا تبت علي فتاب عليه)(71).

2- التوسل بالنبي  قبل البعثة:
تواترت الأخبار حسب تعبير السبكي(72) في توسل المسلمين بالنبي، حيث كانوا يفزعون إليه  ويستغيثون به في كل ما يصيبهم من المهمات، ولم تقتصر هذه الاستغاثات بالنبي  في زمن بعثته، وإنما كانت ممتده منذ أن كان رضيعاً, ولم تقتصر الاستغاثة أيضاّ على المسلمين خاصة، بل اليهود الذين هم أقل عقيدة بمثل هذه الأمور (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) كانوا يتوسلون بالنبي  ، وإليك عدة من تلك الوقائع التاريخية في هذا المضمار:

توسل اليهود بالنبي  :
ذكر المفسرون في تفسير الآية المباركة: (وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ)(73)، حيث إن اليهود من أهل المدينة وخيبر إذا قاتلوا مَن يليهم من مشركي العرب من الأوس والخزرج وغيرهما قبل بعثة النبي (صلى الله عليه وآله) كانوا يستنصرون به عليهم ويستفتحون, لما يجدون ذكره في التوراة, فيدعون ويتوسلون بحقه  للنصرة عليهم, فيقولون: (اللهم إنا نستنصرك بحق النبي الأمي إلا نصرتنا عليهم)، وعن ابن عباس قال: (كانت يهود خيبر تقاتل غطفان فكلما التقوا هزمت يهود خيبر فعاذت اليهود بهذا الدعاء: اللهم إنا نسألك بحق محمد النبي الأمي الذي وعدتنا أن تخرجه لنا في آخر الزمان إلاّ نصرتنا عليهم، قال: فكانوا إذا التقوا دعوا بهذا الدعاء فهزموا غطفان, فلما بعث النبي (صلى الله عليه وآله) كفروا به فأنزل الله وقد كانوا يستفتحون بك يا محمد على الكافرين)(74).

استسقاء عبد المطلب بالنبي  وهو غلام:
حيث استسقى عبد المطلب بالنبي  وهو غلام، ولذا قال ابن حجر إن أبا طالب أشار بقوله:

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه     ***     ثمال اليتامى عصمة للأرامل

إلى ما وقع في زمن عبد المطلب حيث، استسقى لقريش والنبي معه غلام(75).

استسقاء أبي طالب بالنبي وهو غلام:
أخرج القسطلاني عن ابن عساكر عن جلهمة بن عرفطة، قال: (قدمت مكة وهم في قحط، فقالت قريش: يا أبا طالب ! أقحط الوادي، وأجدب العيال، فهلم فاستسق. فخرج أبو طالب ومعه غلام يعني النبي  كأنه شمس دجن تجلّت عن سحابة قتماء، وحوله أغيلمة، فأخذه أبو طالب، فألصق ظهره بالكعبة، ولاذ إلى الغلام، وما في السماء قزعة، فأقبل السحاب من ها هنا، وأغدق واغدودق، وانفجر له الوادي وأخصب النادي لبادئ، وفي ذلك يقول أبو طالب:
 

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه     ***     ثمال اليتامى عصمة للأرامل)(76).


وجاء في الملل والنحل للشهرستاني: (ومما يدلل على معرفته بحال الرسالة وشرف النبوة أن أهل مكة لما أصابهم ذلك الجدب العظيم وأمسك السحاب عنهم سنتين أمر أبا طالب ابنه يحضر المصطفى محمداً  ، فأحضره وهو رضيع في قماط، فوضعه على يديه، واستقبل الكعبة ورماه إلى السماء وقال: يا رب: بحق هذا الغلام, ورماه ثانيا وثالثاً. وكان يقول: بحق هذا الغلام اسقنا غيثاً دائماً هطلاً، فلم يلبث ساعة أن طبق السحاب وجه السماء وأمطر حتى خالفوا على المسجد. وأنشد أبو طالب ذلك الشعر اللامي الذي منه:

 

 

وأبيض يُستسقى الغمام بوجهه     ***     ثمال اليتامى عصمة للأرامـل

ويطيف به الهلاك من آل هاشم     ***     فهم عنـده في نعمة وفواضل

كذبتم ورب البيت نبزي محمداً     ***     ولما نطـاعن دونه وننـاضل

ولا نسلمه حـتى نُصَرّع حوله     ***     ونذهل عن أبنائنا والحلائل(77)


وقد كانت هذه الوقائع من الاستسقاء بالنبي  وهو غلام، وكذا استسقاء عبد المطلب به  وهو صغير معروفةً بين العرب.

3- التوسل بالنبي  بعد البعثة:
أعرابي يستسقي بالنبي  :
لقد كان استسقاء أبي طالب بالنبي  وهو غلام محلّ رضا النبي  كما هو صريح بعض الروايات، فعن أنس بن مالك قال: (جاء أعرابي إلى النبي  فقال يا رسول الله: لقد أتيناك وما لنا بعير يئط، ولا صبي يصطح يغط, ثم أنشد:

 

 

 

 

 

أتيناك والعذراء يدمي لبانهــا     ***     وقد شغلت أم الصبي عن الطفـل

وألقى بكفيه الفتى استكانــة     ***     عن الجوع ضعفاً ما يمر وما يحلــي

ولا شيء مما يأكل الناس عندنا     ***     سوى الحنظل العامي والعلهز الفسل

وليس لنا إلا إليك فرارنــا     ***     وأين فرار الناس إلا إلى الرســل


فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يجر رداءه حتى صعد المنبر, ثم رفع يديه إلى السماء, فقال: اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً مريئاً مريعاً غدقاً طبقاً عاجلاً غير رائث نافعاً غير ضار تملأ به الضرع وتنبت به الزرع وتحيي الأرض بعد موتها فوالله ما ردّ يديه إلى نحره حتى ألقت السماء بأورامها وجاء أهل البطاح يعجبون يصيحون: يا رسول الله الغرق الغرق, فقال رسول الله  : اللهم حوالينا ولا علينا، فانجاب السحاب حتى أحدق بالمدينة كالإكليل، فضحك رسول الله  حتى بدت نواجذه، ثم قال: أبو طالب لو كان حياً لقرت عيناه، من ينشدنا قوله؟ فقام علي بن أبي طالب فقال يا رسول الله: كأنك أردت قوله:

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه     ***     ثمال اليتامى عصمة للأرامل

فقال رسول الله  أجل)(78).
ثم إن التوسل بالصغار في الاستسقاء أمر ندب إليه الشارع، وقد ذكر الشافعي في آداب صلاة الاستسقاء استحباب خروج الصبيان وكبار السن(79).
ولا شك إن الهدف من وراء ذلك هو أن هؤلاء الأبرياء والصلحاء مفاتيح استنزال الرحمة، وكأن المتوسل يقول ربي وسيدي ومولاي إن الصغير معصوم من الذنب والكبير الطاعن في السن أسير الله في أرضك، وهما أحق بالرحمة عندك، فلأجلهم أنزل رحمتك إليهم حتى تعمنا، كالساقي للشجرة الواحدة يسقي مساحة واسعة لأجل تلك الشجرة، وفي ظلها تسقى سائر الأشجار والأعشاب الأخرى.

رجلٌ يطلب الإغاثة من النبي  :
ورد في الصحيحين، عن أنس بن مالك: (أن رجلاً دخل المسجد يوم جمعة من باب كان نحو دار القضاء ورسول الله  قائم يخطب، فاستقبل رسول الله (صلى الله عليه وآله) قائماً، ثم قال يا رسول الله: هلكت الأموال وانقطعت السُبل، فادع الله يغيثنا فرفع رسول الله  يديه ثم قال: ((اللهم أغثنا اللهم أغثنا اللهم أغثنا)) قال أنس: ولا والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار، قال: فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت، فلا والله ما رأينا الشمس ستاً، ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة ورسول الله  قائم يخطب فاستقبله قائما فقال يا رسول الله: هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله يمسكها عنا، قال: فرفع رسول الله (صلى الله عليه وآله) يديه ثم قال: ((اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والضراب وبطون الأودية ومنابت الشجر)) قال: فأقلعت وخرجنا نمشي في الشمس)(80)، فكان المرتكز لدى المسلمين أن رسول الله  هو المفزع والوسيلة والواسطة بينهم وبين الله تعالى في قضاء الحوائج واستجابة الدعاء, ثم إن إطلاقها شامل لما بعد وفاة النبي  فهو الوسيلة، خصوصاً وأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) حيّ يرزق يسمع كلامنا ويردّ سلامنا كما سيأتي.

النبي هو الشفيع عند ربه في الدنيا:
روى البيهقي في دلائله، وغيره عن أبي وجزة السلمي قال: (لمّا قفل رسول الله (صلى الله عليه وآله) من غزوة تبوك أتاه وفد بني فزارة - إلى أن قال - فقالوا: يا رسول الله، أسنتت بلادنا وأجدبت أحياؤنا وعريت عيالنا وهلكت مواشينا، فادعُ ربّك أن يغيثنا، واشفع لنا إلى ربك ويشفع ربك إليك، فقال رسول الله  : ((سبحان الله، ويلك، إن شفعت إلى ربي فمن ذا الذي يشفع ربّنا إليه؟ ! الله لا إله إلا هو العظيم وسع كرسيّه السموات والأرض)) - إلى أن قال: - فقام رسول الله (صلى الله عليه وآله) فصعد المنبر وكان مما حفظ من دعائه: ((اللهم اسق بلدك وبهائمك وانشر رحمتك وأحي بلدك الميت...))(81) وذكر دعاءً وحديثاً طويلاً.
وفي سنن أبي داود: (أتى رسول الله  أعرابي، فقال: يا رسول الله، جهدت الأنفس، وضاعت العيال، ونهكت الأموال، وهلكت الأنعام، فاستسق الله لنا فإنا نستشفع بك على الله ونستشفع بالله عليك، قال رسول الله  : ((ويحك ! أتدري ما تقول؟)) وسبّح رسول الله  ، فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه، ثم قال: ((ويحك ! إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه، شأن الله أعظم من ذلك))(82).
ومن الواضح أن رسول الله  قرّر الأعرابي على قوله: (فإنا نستشفع بك على الله)، فلم ينكر  الاستشفاع به على الله، وإنما أنكر بقوله: (ويحك) قول الأعرابي: (ونستشفع بالله عليك) فبيّن له الرسول الأكرم  أنه لا يصلح الاستشفاع بالله على أحد من خلقه، أي لا يصح أن يجعل الله واسطة لخلقه؛ لأن الله تعالى أعظم شأناً، وإن الواسطة لا تملك من أمرها شيئاً، وإنّما كل شيء بيد المالك وهو الله تعالى، فلا يصح جعله واسطة وشفيعاً.

توسل النبي  بحقه وحق من سبقه من الأنبياء:
عن أنس بن مالك قال: (لما ماتت فاطمة بنت أسد بن هاشم أم علي  دخل عليها رسول الله  فجلس عند رأسها، فقال: رحمك الله يا أمّي، كنتِ أمّي بعد أمّي، تجوعين وتشبعيني، وتعرين وتكسيني، وتمنعين نفسك طيب الطعام وتطعميني، تريدين بذلك وجه الله والدار الآخرة، ثم أمر أن تغسّل ثلاثاً وثلاثاً، فلما بلغ الماء الذي فيه الكافور سكبه عليها رسول الله  بيده ثم خلع رسول الله  قميصه فألبسها إيّاه، وكفنت فوقه، ثم دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله)