شهادة الإمام موسى الكاظم (عليه السلام)
في الخامس والعشرين من رجب
الأستاذ الدكتور محمد علي عباس الخفاجي
ولادة الإمام الكاظم وكنيته( عليه السلام ):
وُلِد الإمام الكاظم ( عليه السلام ) - وهو الإمام السابع من أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) - بالمدينة المنورة ، في موضعٍ يُسمَّى : ( الأبواء ) ، وكان ذلك في السابع من صفر 128 هـ .
وكان ( عليه السلام ) يكنّى بعدة أسماء أشهرها : أبو الحسن
قال ابن شهر آشوب عند ذكره لألقابه :
والزاهر : وسمّي بذلك لأنّه زهر بأخلاقه الشريفة وكرمه المضيء التام .
والكاظم : لقّب بذلك لما كظمه عمّا فعل به الظالمون من التنكيل والإرهاق ... ويقول ابن الأثير : إنّه عرف بهذا اللقب لصبره ودماثة خلقه ، ومقابلته الشرّ بالإحسان .
والصابر : لأنّه صبر على الخطوب والآلام التي تلقّاها من حكّام الجور والطغاة ، الذين قابلوه بجميع ألوان الإساءة والمكروه .
والسيّد : لأنّه من سادات المسلمين ، وإمّام من أئمّتهم .
والوفي : لأنّه أوفى الإنسان في عصره ، فقد كان وفيّاً بارّاً بإخوانه وشيعته ، وبارّاً حتّى بأعدائه والحاقدين عليه .
ذو النفس الزكية : لقّب بهذا اللقب اللطيف لصفاء ذاته ، ونقاوة سريرته ، البعيدة كل البعد عن سفاسف المادّة ، ومآثم الحياة ، نفس أبيّة زكيّة ، طاهرة ، كريمة ، سمت وعلت حتّى قلّ نظيرها .
باب الحوائج : هذا اللقب كان من أشهر ألقابه ذكراً ، وأكثره شيوعاً ، انتشر بين العام والخاص ، حتّى أنّه ما أصاب أحدهم مكروه إلاّ فرّج الله عنه بذكره ، وما استجار بضريحه أحد إلاّ قضيت حوائجه ، ورجع مثلوج القلب ، مستريح الضمير ، ممّا ألّم به من طوارق الزمن التي لابدّ منها ، وقد آمن بذلك جمهور المسلمين على اختلاف مذاهبهم .
يقول أبو علي الخلاّل ـ شيخ الحنابلة وعميدهم الروحي ـ : ما همّني أمر فقصدت قبر موسى بن جعفر إلاّ سهّل الله تعالى لي ما أحب .
وقال الشافعي : قبر موسى الكاظم الترياق المجرّب .
وقد روى الخطيب البغدادي قضيّة كان فيها شاهد عيان ، عندما شاهد امرأة مذهولة ، مذعورة ، فقدت رشدها لكثرة ما نزل بها من الهموم ، لأنّها أخبرت أنّ ولدها قد ارتكب جريمة ، وألقت عليه السلطة القبض وأودعته في السجن ، ينتظر الحكم القاسي والظالم ، فأخذت تهرول نحو ضريح الإمام مستجيرة به ، فرآها بعض الأوغاد ، الذي لا يخلو الزمان منهم ، فقال لها : إلى أين ؟
قالت : إلى موسى بن جعفر ، فإنّه قد حُبِس ابني ، فقال لها بسخرية واستهزاء : إنّه قد مات في الحبس .
فاندفعت تقول بحرارة بعد أن لوّع قلبها بقوله : اللّهم بحقّ المقتول في الحبس أن تريني القدرة ، فاستجاب الله دعاءها ، وأطلق سراح ابنها ، وأودع ابن المستهزئ بها في ظلمات السجن بجرم ذلك الشخص .
ثمّ يروي الخطيب البغدادي عن محنة ألّمت به فاستجار بالإمام ( عليه السلام ) ، وكشف عنه الهمّ والغمّ ، فيقول : وأنا شخصيّاً قد ألّمت بي محنة من محن الدنيا كادت أن تطوي حياتي ، ففزعت إلى ضريح موسى بن جعفر بنيّة صادقة ، ففرّج الله عنّي ، وكشف ما ألّم بي .
ولا يَشِكّ في هذه الظاهرة التي اختصّ بها الإمام إلاّ من ارتاب في دينه وإسلامه .
مناظرات الإمام الكاظم ( عليه السلام )
1ـ
مناظرته ( عليه السلام ) مع أبي يوسف القاضي :
أمر هارون الرشيد أبا يوسف أن يسأل الإمام ( عليه السلام ) بحضرته ، لعلّه
يبدي عليه العجز ، فيتّخذ من ذلك وسيلة للحطّ من كرامته ، ولمّا اجتمع (
عليه السلام ) بهم ، وجّه إليه أبو يوسف السؤال التالي : ما تقول في
التظليل للمحرم ؟ قال ( عليه السلام ) : ( لا
يصحّ .
قال : فيضرب الخباء في الأرض ، ويدخل البيت ؟ قال ( عليه السلام ) :
نعم .
قال : فما الفرق بين الموضعين ؟ قال ( عليه السلام ) :
ما تقول في الطامث ، أتقضي الصلاة ؟ قال
أبو يوسف : لا.
قال ( عليه السلام ) : أتقضي الصوم ؟
قال : نعم ، قال ( عليه السلام ) : ( ولمَ ؟ ) قال : هكذا جاء ، قال ( عليه
السلام ) : وهكذا جاء هنا ) .
فسكت أبو يوسف ، ولم يطق جواباً ، وبدا عليه الخجل والعجز ، فقال هارون :
ما أراك صنعت شيئاً ، قال أبو يوسف : رماني بحجر دامغ .
فتركهما الإمام ( عليه السلام ) وانصرف ، بعد أن خيّم عليهما الحزن والشقاء
.
2ـ مناظرته ( عليه السلام ) مع أبي حنيفة :
دخل أبو حنيفة على الإمام الصادق ( عليه السلام ) ، فقال له : رأيت ابنك
موسى يصلّي والناس يمرّون بين يديه ، فلم ينههم عن ذلك ؟ فأمر ( عليه
السلام ) بإحضار ولده موسى ( عليه السلام ) ، فلمّا مثل بين يديه ، قال له
: ( يا بني ، إنّ أبا حنيفة يذكر أنّك كنت تصلّي
، والناس يمرّون بين يديك ؟ .
فقال ( عليه السلام ) : نعم ، يا أبتِ وإن الذي
كنت أصلّي له أقرب إليّ منهم ، يقول الله عزّ وجلّ :
( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ
الْوَرِيدِ ) .
عندها فرح الإمام الصادق ( عليه السلام ) وسرّ سروراً بالغاً ، لما أدلى به
ولده من المنطق الرائع ، فقام إليه وضمّه إلى صدره ، وقال مبتهجاً :
بأبي أنت وأمّي يا مودع الأسرار ) .
3ـ مناظرته ( عليه السلام ) مع المهدي العباسي :
قال علي بن يقطين : سأل المهدي أبا الحسن ( عليه السلام ) عن الخمر ، هل هي
محرّمة في كتاب الله تعالى ، فإنّ الناس إنّما يعرفون النهي عنها ، ولا
يعرفون التحريم ؟ فقال ( عليه السلام ) له : ( بل
هي محرّمة في كتاب الله عزّ وجل .
قال المهدي : في أي موضع هي محرّمة في كتاب الله عزّ وجلّ يا أبا الحسن ؟
فقال ( عليه السلام ) : ( قول الله عزّ وجل :
( إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا
ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ
وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ
تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ) .
فأمّا قوله:
( مَا ظَهَرَ مِنْهَا )
يعني الزنا المعلن ، ونصب الرايات التي كانت ترفعها
الفواحش في الجاهلية ، وأمّا قوله عزّ وجل :
( وَمَا بَطَنَ )
يعني ما نكح الآباء ، لأنّ الناس كانوا قبل أن يبعث
النبي ( صلّى الله عليه وآله ) إذا كان للرجل زوجة ومات عنها ، تزوّجها
ابنه الأكبر من بعده إذا لم تكن أمّه ، فحرّم الله عزّ وجلّ ذلك .
وأمّا
( الإِثْمَ )
فإنّها الخمرة بعينها ، وقد قال الله تعالى في موضع آخر :
( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ
فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ ) ، فأمّا الإثم في
كتاب الله فهو الخمر والميسر ، فإثمهما كبير ، كما قال عزّ وجل )
.
فقال المهدي : يا علي بن يقطين هذه والله فتوى هاشمية .
4-مناظرة الإمام الكاظم ( عليه السلام ) مع هارون
الرشيد:
دخل هارون الرشيد على الإمام الكاظم ( عليه السلام ) ، وقد عمد على القبض
عليه ، لأشياء كذبت عليه عنده ، فأعطاه طوماراً طويلاً فيه مذاهب شنيعة
نسبها إلى شيعته ، فقرأه ( عليه السلام ) ، ثمّ قال له :
( يا أمير المؤمنين نحن أهل بيت منينا بالتقوّل
علينا ، وربّنا غفور ستور ، أبى أن يكشف أسرار عباده إلاّ في وقت محاسبته :
( يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ *
إِلاَ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) .
ثمّ قال : حدّثني أبي ، عن أبيه ، عن علي ، عن
النبي ( عليهم السلام ) : الرحم إذا مسّت اضطربت ثمّ سكنت ، فإن رأى أمير
المؤمنين أن تمس رحمي رحمه ويصافحني فعل ) ، فتحوّل عند ذلك عن
سريره ومدّ يمينه إلى الإمام الكاظم ( عليه السلام ) ، فأخذ بيمينه ثمّ
ضمّه إلى صدره ، فاعتنقه وأقعده عن يمينه .
وقال : أشهد أنّك صادق وجدّك صادق ، ورسول الله ( صلّى الله عليه وآله )
صادق ، ولقد دخلت وأنا أشدّ الناس حنقاً وغيظاً لما رقي إليّ فيك ، فلمّا
تكلّمت بما تكلّمت ، وصافحتني سري عنّي ، وتحوّل غضبي عليك رضى .
وسكت ساعة ، ثمّ قال له : أريد أن أسألك عن العباس وعلي ، بما صار علي أولى
بميراث رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) من العباس ، والعباس عمّ رسول
الله ( صلّى الله عليه وآله ) وصنو أبيه ؟
فقال له الإمام ( عليه السلام ) : ( أعفني
، قال : والله لا أعفيتك ، فأجبني .
قال ( عليه السلام ) : فإن لم تعفني فآمنّي
، قال : آمنتك ، قال ( عليه السلام ) :
إنّ النبي ( صلّى الله عليه وآله ) لم يورّث من قدر
على الهجرة فلم يهاجر ، إنّ أباك العباس آمن ولم يهاجر ، وإنّ علياً آمن
وهاجر ، وقال الله تعالى : ( وَالَّذِينَ
آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلاَيَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ
حَتَّى يُهَاجِرُوا ) ، فتغيّر لون هارون .
ثمّ تابع الرشيد فقال : ما لكم لا تنسبون إلى علي وهو أبوكم ، وتنسبون إلى
رسول الله وهو جدّكم ؟ فقال الإمام الكاظم ( عليه السلام ) :
( إنّ الله نسب المسيح عيسى بن مريم ( عليه السلام ) إلى خليله إبراهيم (
عليه السلام ) بأمّه مريم البكر البتول ، التي لم يمسّها بشر ، في قوله
تعالى : ( وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ
دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ
وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) ،
( وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ
كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ )
، فنسبه
لأمّه وحدها إلى خليله إبراهيم ( عليه السلام ) .
كما نسب داود وسليمان وأيوب وموسى وهارون ( عليه السلام ) بآبائهم
وأمّهاتهم ، فضيلة لعيسى ( عليه السلام ) ، ومنزلة رفيعة بأمّه وحدها ،
وذلك قوله في قصّة مريم ( عليها السلام ) :
(
إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ
الْعَالَمِينَ )
، بالمسيح من غير بشر
.
وكذلك اصطفى ربّنا فاطمة ( عليها السلام ) وطهّرها وفضّلها على نساء
العالمين بالحسن والحسين سيّدي شباب أهل الجنّة ) .
فقال له هارون ـ وقد اضطرب وساءه ما سمع ـ : من أين قلتم الإنسان يدخل
الفساد من قبل النساء ومن قبل الآباء ، لحال الخمس الذي لم يدفع إلى أهله ،
فقال الإمام الكاظم ( عليه السلام ) : هذه مسألة
ما سئل عنها أحد من السلاطين غيرك ، ولا تيم ولا عدي ولا بنو أميّة ، ولا
سئل عنها أحد من آبائي فلا تكشفني عنها .
قال الرشيد : فإن بلغني عنك كشف هذا رجعت عمّا آمنتك!!! . فقال ( عليه
السلام ) : لك ذلك ، ثمّ قال ( عليه
السلام ) : فإنّ الزندقة قد كثرت في الإسلام ،
وهؤلاء الزنادقة الذين يرفعون إلينا في الأخبار ، هم المنسوبون إليكم
، فقال هارون : فما الزنديق عندكم أهل البيت ؟
فقال ( عليه السلام ) : الزنديق هو الراد على
الله وعلى رسوله ، وهم الذين يحادّون الله ورسوله ، قال تعالى :
( لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ
يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ
أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ )
، وهم الملحدون ، عدلوا عن التوحيد إلى الإلحاد
.
فقال هارون : أخبرني عن أوّل من ألحد وتزندق ؟ فقال ( عليه السلام ) :
أوّل من ألحد وتزندق في السماء إبليس اللعين ،
فاستكبر وافتخر على صفي الله ونجيبه آدم ( عليه السلام ) ، فقال اللعين :
( أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ
نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ) ،
فعتا عن أمر ربّه وألحد ، فتوارث الإلحاد ذرّيته إلى أن تقوم الساعة
، فقال هارون : ولإبليس ذرّية ؟
فقال ( عليه السلام ) : نعم ، ألم تسمع إلى قول
الله عزّ وجلّ : ( إِلاَ إِبْلِيسَ
كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ
وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ
لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً * مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ
وَالأرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ
عَضُداً ) ) ، فهل عرف
الرشيد من أي فريق هو ؟!
موقف الإمام الكاظم ( عليه السلام ) من هارون
الرشيد:
ثَـقّل الإمام ( عليه السلام ) على هارون ، وَوَرّم أنفه منه ، وذلك لأنّه
( عليه السلام ) أعظم شخصية في العالم الإسلامي ، يَكنّ له المسلمون
المَوَدّة والاحترام ، في حين أنّ هارون لم يَحْظَ بذلك .
ويقول الرواة : إنّ من الأسباب التي أدّت هارون لِسجن الإمام ( عليه السلام
) أنّه لما زار قبر النبي ( صلى الله عليه وآله ) وقد احتفّ به الأشراف ،
والوجوه ، والوزراء ، وكبار رجال الدولة ، أقبل على الضريح المُقدس ووجه
للنبي ( صلى الله عليه وآله ) التحية قائلاً : السلام عليك يا بنَ العَم
.فإنّه قد افتخر على من سواه بَرَحِمِهِ المَاسّة من النبي ( صلى الله عليه
وآله ) ، فإنّه إنّما نال الخلافة بهذا السبب .
وعندها كان الإمام الكاظم ( عليه السلام ) إلى جانبه فَسلَّم على النبي (
صلى الله عليه وآله ) قائلاً : ( السَّلامُ عليكَ
يَا أَبَتِ .
فحينها فقد الرشيد صوابه ، وَورَمَ أنفُه ، وانتفخت أوداجه ، فإنّ الإمام (
عليه السلام ) أقرب منه إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وأَلصَقُ به من
غيره . فاندفع الطاغية هارون بِنَبَراتٍ تقطرُ غضباً قائلاً : لِمَ قلتَ
إنك أقرب إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مِنّا ؟!!
فأدلى الإمام بالحجة القاطعة التي لا يمكن إنكارها قائلاً :
لو بُعِث رسولُ اللهِ حَيّاً ، وخطب منك
كَريمَتَك ، هل كنتَ تجيبُه إلى ذلك ؟
وسارعَ هارون قائلاً : سبحان الله !! وإنّي لأفتخر بذلك على العرب والعجم .
فقال ( عليه السلام ) مقيماً عليه الدليل أنّه أقرب إلى النبيّ ( صلى الله
عليه وآله ) منه قائلاً : ولكنه لا يَخطِبُ مني
، ولا أُزَوّجه ، لأنّه وَالدُنا لا والدكم ، فلذلك نحنُ أقربُ إليه منكم )
.
وأقام الإمام ( عليه السلام ) دليلا آخر على قوله فقال لهارون :
هل يجوزُ لرسول الله أن يدخلَ على حرمك وَهُنّ
كَاشفات ) ؟
فقال هارون : لا .
فقال الإمام ( عليه السلام ) : لكن لَه ( صلى
الله عليه وآله ) أنْ يدخُل على حرمي ، ويجوز لَهُ ذلك ، فَلِذلك نحنُ
أقربُ إليهِ منكم ) .
فثار الرشيد ، ولم يجد مسلكاً ينفذ منه لتفنيد حجة الإمام ( عليه السلام )
، وانطوت نفسه على الشرّ . وفي اليوم الثاني أصدر أوامره بإلقاء القبض على
الإمام ( عليه السلام ) ، فألقت الشرطة القبض عليه وهو قائم يصلي عند رأس
جده النبي ( صلى الله عليه وآله ) .
فقطعوا عليه صلاته ، ولم يُمهلُوه لإتمامها ، فَحُمِل ( عليه السلام ) من
ذلك المكان الشريف وَقُيِّد وهو يذرف أَحَرَّ الدموع ، ويَبثُّ شكواه إلى
جَدِّه قائلاً : ( إِليكَ أشكو يا رَسولَ اللهِ )
.
وحُمل الإمام ( عليه السلام ) وهو يرسف في القيود ، فَمَثُلَ أمام الطاغية
هارون فَجفَاه ، واغلَظَ لَهُ في القول ، وَزَجَّ الإمام ( عليه السلام )
في السجن .
شهادة الإمام الكاظم ( عليه السلام ):
عهد هارون إلى السندي بن شاهك – وكان الإمام مسجوناً عنده- باغتيال الإمام
( عليه السلام ) ، فَدُسّ له سُمّاً فاتكاً في رطب ، وأجبره السندي على
تناوله . فأكل ( عليه السلام ) مِنهُ رطبات يسيرة ، فقال له السندي : زِد
على ذلك .
فَرَمَقَهُ الإمام ( عليه السلام ) بَطَرْفِه وقال له :
( حَسبُكَ ، قد بَلغتُ ما تحتاجُ إليه )
.
وتفاعل السم في بدنه ( عليه السلام ) ، وأخذ يعاني الآلام القاسية ، وقد
حفت به الشرطة القُساة . ولازَمه السندي ، وكان يُسمِعُه مُرَّ الكلام
وأقساه ، ومَنعَ عنه جميع الإسعافات لِيُعَجّل له النهاية المَحتومة .
وكانت شهادته ( عليه السلام ) في ( 25 ) رجب من سنة ( 183 هـ ) .
فخرج الناس على اختلاف طبقاتهم لتشييع جثمان إمام المسلمين وسيد المتقين
والعابدين ، وخرجَت الشيعة وهي تلطم الصدور ، وتذرف الدموع ، وخرجت السيدات
من نسائهم وَهُنَّ يَندبْنَ الإمام ( عليه السلام ) ويرفَعْنَ أصواتَهُنَّ
بالنياحَة عليه ( عليه السلام ) .وسارت المواكب متجهة إلى محلة باب التبن
وقد ساد عليها الحزن ، حتى انتهت إلى مقابر قريش في بغداد .
فَحُفِر للجثمان العظيم قبر ، فواروه فيه وانصرف المشيعون وهم يعددون
فضائله ( عليه السلام ) ، ويَذكُرون بمزيد من اللَّوعة الخسارةَ التي مُني
بها المسلمون .
فَتَحيَّات من الله على تلك الروح العظيمة ، التي ملأت الدنيا بفضائلها
وآثارها ومآثرها .