حجّة بالغة في مجلس المأمون
  • عنوان المقال: حجّة بالغة في مجلس المأمون
  • الکاتب: نقلاً من موقع شبكة الإمام الرضا عليه السلام
  • مصدر:
  • تاريخ النشر: 20:47:59 1-10-1403

حجّة بالغة في مجلس المأمون

 

روي عن الحسن بن محمّد النوفلي أنّه كان يقول: قدم سليمان المروزي متكلّم خراسان على المأمون فأكرمه ووَصله، ثمّ قال له: إنّ ابن عمّي عليّ بن موسىالرّضا

قدم علَيّ ـ من الحجازـ يحبّ الكلام وأصحابه، فعليك أن تصير إلينا يوم التّروية لمناظرته.

فقال سليمان: يا أميرالمؤمنين! إنّي أكره أنْ أسأل مثله في مجلسك في جماعة من بني هاشم، فينتقص عند القوم إذا كلّمني ولا يجوز الاستقصاء عليه.

قال المأمون: إنّما وجّهت إليك لمعرفتي بقوّتك، وليس مرادي إلاّ اَنْ تقطعه عن حجّة واحدة فقط.

فقال سليمان: حسبك يا أميرالمؤمنين! إجمع بيني وبينه، وخلّني وإيّاه.

فوجّه المأمون إلى الرضا عليه السّلام فقال له: إنّه قدم علينا رجل من أهل مرو ـ وهو واحد خراسان ـ من أصحاب الكلام، فإن خفّ عليك أن تتجشّم المصير إلينا فعلت.

فنهض عليه السّلام للوضوء ثمّ حضرمجلس المأمون، وجرى بينه وبين سليمان المروزي كلام في البداء بمعنى الظهور، لتغيّر المصلحة، واستشهد عليه السّلام بآي كثيرة من القرآن على صحّة ذلك، مثل قوله تعالى: اللهُ يَبْدَأ الخَلْقَ ثُمَّ يُعيدُهُ (1) و يَزيدُ في الخَلْق ما يَشاءُ (2) و يَمْحُو اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ (3) و ما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ (4) و آخَرونَ مُرْجَونَ لأمْرِاللهِ (5) وأمثال ذلك.

فقال سليمان: ياأميرالمؤمنين! لا أُنكر بعد يومي هذاالبداء، ولا أُكذّب به إن شاء الله.

فقال المأمون: يا سليمان! سلْ أباالحسن عمّا بدالك، وعليك بحسن الاستماع والإِنصاف!

قال سليمان: يا سيّدي! ماتقول فيمن جعل الإِرادة اسماً وصفةً، مثل: حيّ، وسميع، وبصير، وقدير؟

قال الرّضا عليه السّلام: إنّما قلتم: حدثت الأشياء واخْتلفت، لأنّه شاء وأراد، ولم تقولوا: حدثت واختلفت؛ لأنّه سميع بصير، فهذا دليل على أنّها ليست مثل سميع وبصير ولا قدير.

قال سليمان: فإنّه لم يزل مريداً؟

قال: يا سليمان! فإِرادته غيره؟ قال: نعم.

قال: قد أثبتّ معه شيئاً غيره لم يزل! قال سليمان: ما أثبتّ؟

قال الرّضا عليه السّلام: أهي محدثة؟

قال سليمان: لا، ما هي محدثة! فصاح به المأمون وقال: يا سليمان! مثله يعايى أو يكابر، عليك بالانصاف، اَلا ترى من حولك من أهل النظر؟!

ثمّ قال: كلّمه يا أباالحسن، فإنّه متكلّم خراسان. فأعاد عليه المسألة فقال: هي محدثة يا سليمان، فإنّ الشّيء إذا لم يكن أزليّاً كان محدثا، وإذا لم يكن محدثا كان أزليّا.

قال سليمان: إِرادته منه كما أنَّ سمعه وبصره وعلمه منه.

قال الرّضا عليه السّلام: فإرادته نفسه؟ قال: لا.

قال: فليس المريد مثل السّميع والبصير.

قال سليمان: إنّما أراد نفسه، وأبصر نفسه، وعلم نفسه.

قال الرّضا عليه السّلام: ما معنى أراد نفسه، أراد أن يكون شيئا، أو أراد أن يكون حيّاً، أو سميعاً، أو بصيراً أو قديراً؟ قال: نعم.

قال الرّضا عليه السّلام: أفبإِرادته كان كذلك؟ قال سليمان: لا.

قال الرّضا عليه السّلام: فليس لقولك أراد أن يكون حيّاً سميعاً بصيراً معنىً، إذ لم يكن ذلك بإرادته.

قال سليمان: بلى قد كان ذلك بإرادته.

فضحك المأمون ومنْ حوله، وضحك الرّضا عليه السّلام، ثمّ قال لهم: إرفقوا بمتكّلم خراسان!

فقال: يا سليمان! فقد حال عندكم عن حاله وتغيّر عنها، وهذا ممّا لا يوصف الله عزّوجلّ به. فانقطع.

ثمّ قال الرّضا عليه السّلام: يا سليمان! أسألك عن مسألة؟

قال: سل جُعلت فداك!

قال: أخبرني عنك وعن أصحابك، تكلّمون النّاس بما تفقهون وتعرفون، أو بما لا تفقهون وتعرفون؟ فقال: بل بما نفقهه ونعلم.

قال الرّضا عليه السّلام: فالّذي يعلم النّاس أنّ المريد غير الإرادة، وأنّ المريد قبل الإرادة، وأنّ الفاعل قبل المفعول، وهذا يبطل قولكم: إنّ الإرادة والمريد شيء واحد.

قال: جعلت فداك! ليس ذلك منه على ما يعرف النّاس، ولا على ما يفقهون.

قال: فأراكم ادّعيتم علم ذلك بلا معرفة، وقلتم: الإرادة كالسّمع والبصر إذا كان ذلك عندكم على ما لا يعرف ولا يعقل. فلم يحر جواباً.

ثمّ قال الرّضا عليه السّلام: هل يعلم الله تعالى جميع ما في الجنّة والنّار؟

قال سليمان: نعم.

قال: فيكون ما علم الله عزّوجلّ أنّه يكون من ذلك؟

قال: نعم.

قال: فإذا كان حتّى لا يبقى منه شيء إلاّ كان، أيزيدهم أو يطويه عنهم؟

قال سليمان: بل يزيدهم.

قال: فأراه في قولك قد زادهم ما لم يكن في علمه أنّه يكون.

قال: جعلت فداك! فالمزيد لا غاية له.

قال: فليس يحيط علمه عندكم بما يكون فيهما إذا لم يعرف غاية ذلك، وإذا لم يحط علمه بما يكون فيهما لم يعلم ما يكون فيهما قبل أن يكون، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً!

قال سليمان: إنّما قلت: لا يعلمه، لأنّه لا غاية لهذا، لأنّ الله عزّوجلّ وصفهما بالخلود، وكرهنا أن نجعل لهما انقطاعاً.

قال الرضا عليه السّلام: ليس علمه بذلك بموجب لا نقطاعه عنهم، لأنّه قد يعلم ذلك ثمّ يزيدهم ثمّ لا يقطعه عنهم، ولذلك قال عزّوجلّ في كتابه : كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا العَذابَ (6)، وقال لأهل الجنّة: عَطاءً غَيْرَ مَجْذوذٍ (7)، وقال عزّوجلّ: وَفاكِهَةٍ كَثيرَةٍ* لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (8) فهو عزّوجلّ يعلم ذلك ولا يقطع عنهم الزيادة، أرأيت ما أكل أهل الجنّة وما شربوا، أليس يخلف مكانه؟

قال: بلى.

قال: أفيكون يقطع ذلك عنهم وقد أخلف مكانه؟

قال سليمان: لا.

قال: فكذلك كلّما يكون فيها إذا أخلف مكانه فليس بمقطوع عنهم.

قال سليمان: بلى، يقطعه عنهم ولا يزيدهم.

قال الرّضا عليه السّلام: إذاً يبيد ما فيها، وهذا يا سليمان إبطال الخلود وخلاف الكتاب، لأنّ الله عزّوجلّ يقول: لَهُمْ ما يَشاؤُونَ فيها وَلَدَيْنا مَزيدٌ (9) ويقول عزّوجلّ: عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٌ (10) ويقول عزّوجلّ: مَا هُمْ مِنْها بِمُخْرَجينَ (11) ويقول الله عزّوجلّ: خالِدينَ فيها أَبداً (12) ويقول عزّوجلّ: وَفاكِهَةٍ كَثيرَة* لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (13). فلم يحر جواباً.

ثمّ قال الرّضا عليه السّلام: ألا تخبرني عن الإرادة، فعلٌ أمْ هي غير فعل؟

قال: بل هي فعل.

قال: فهي محدثة، لأنّ الفعل كلّه محدث!

قال: ليست بفعل.

قال: فمعه غيره لم يزل؟

قال سليمان: الإرادة هي الإنشاء.

قال: يا سليمان! هذا الّذي عبتموه على ضرار وأصحابه من قولهم : إنّ كلّ ما خلق الله عزّوجلّ في سماءٍ أو أرضٍ أو بحرٍ أو برٍّ، من كلبٍ أو خنزيرٍ أو قردٍ أو إنسانٍ أو دابّةٍ: إِرادة الله، وإنّ إرادة الله تحيا وتموت، وتذهب، وتأكل وتشرب، وتنكح وتلد، وتظلم وتفعل الفواحش، وتكفر وتشرك، فتبرأ منها وتعاديها، وهذا حدّها.

قال سليمان: إنّها كالسمع والبصر والعلم.

قال الرّضا عليه السّلام: قد رجعت إلى هذا ثانيةً، فأخبرني عن السمع والبصر والعلم، أمصنوع؟

قال سليمان: لا.

قال الرّضا عليه السّلام: فكيف نفيتموه؟ فمرّةً قلتم: لم يردْ، ومرّةً قلتم: أراد، وليست بمفعول له. قال سليمان: إنّما ذلك كقولنا مرّةً: علم، ومرّةً: لم يعلم.

قال الرّضا عليه السّلام: ليس ذلك سواء؛ لأنّ نفي المعلوم ليس بنفي العلم، ونفي المراد نفي الإرادة أن تكون، لأنّ الشيء إذا لم يرد لم تكن إرادة، وقد يكون العلم ثابتاً وان لم يكن المعلوم، بمنزلة البصر: فقد يكون الإِنسان بصيراً وإن لم يكن المبصر، ويكون العلم ثابتاً وإن لم يكن المعلوم.

فلم يزل سليمان يردّد المسألة وينقطع فيها ويستأنف، وينكر ما كان أقرّ به ويقرّ بما أنكر، وينتقل من شيءٍ إلى شيءٍ، والرّضا صلوات الله عليه ينقض عليه ذلك حتّى طال الكلام بينهما، وظهر لكلّ أحدٍ انقطاعه مرّاتٍ كثيرة، تركنا إيراد ذلك مخافة التطويل، فآل الأمر إلى أنْ قال سليمان: إِنّ الإِرادة هي القدرة.

قال الرّضا عليه السّلام: وهو عزّوجلّ يقدرعلى ما لا يريده أبداً، ولابُدّ من ذلك لأنّه قال تبارك وتعالى: لَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذي أَوْحَيْنا إلَيْكَ (14) فلو كانت الإِرادة هي القدرة، كان قد أراد أن يذهب به لقدرته.

فانقطع سليمان وترك الكلام عند هذا الانقطاع، ثمّ تفرّق القوم(15).

---------------------------

1ـ الرُّوم(30) 11.

2ـ فاطر (35) 1.

3ـ الرّعد (13) 39.

4ـ فاطر (35) 11.

5ـ التّوبة (9) 106.

6ـ النِّساء (4) 56.

7ـ هود (11) 108.

8ـ الواقعة(56) 32،33.

9ـ ق (50) 35.

10ـ هود (11) 108.

11ـ الحجر (15) 48.

12ـ النِّساء (4) 57.

13ـ الواقعة (56) 32،33.

14ـ الإسراء (17) 86.

15ـ رواه الصّدوق في التّوحيد ص 441 ـ الباب 6/الرقم2 . عيون أخبار الرضا عليه السّلام179:1 ـ الباب 13/الرقم1: عن أبي محمّد جعفر بن عليّ بن أحمد، عن أبي محمّد الحسن بن محمّد بن علي بن صدقة القمّي، عن أبي عمرو: محمّد بن عمر بن عبد العزيز الأنصاريّ الكجيّ قال: حدّثني من سمع الحسن بن محمّد النوفلي يقول : قدم سلميان المروزيّ... ونقله العلاّمة المجلسيّ رحمه الله في بحار الأنوار 329:10 ـ 338. مع شرح الحديث

نقلاً من موقع شبكة الإمام الرضا عليه السلام