نظَراتٌ.. في التَقيّة 5
  • عنوان المقال: نظَراتٌ.. في التَقيّة 5
  • الکاتب:
  • مصدر:
  • تاريخ النشر: 20:6:40 19-8-1403

بين التقيّة والنفاق

العالم النزيه يُسمّي الأشياء بأسمائها الحقيقيّة، لا يغالط ولا يُوهم الناس، فهو مؤتَمَنٌ على ما اطّلع من الآيات والروايات والأحكام. فإذا حرّف واتّهم، وخلط المفاهيم والمصطلحات كان ممّن يوقَف غداً للحساب موقفاً عسيراً أمام الله تبارك وتعالى، وقبل ذلك ربّما وقف في محكمة التاريخ فحوسب وعُوقب، وافتُضح إذا كان وراء ما قال أو كتب عصبيّة عمياء، أو أحقاد حمقاء، أو جهلٌ ساقه إلى رأيٍ متعجِّل خاطئ فكان من علماء السوء، وكان مآله إلى سوء.
لنتدبّر في هذه الأحاديث الشريفة:
• يقول السيّد المسيح عيسى عليه السّلام مخاطباً: وَيْلكم يا علماء السُّوء! الأجرَ تأخذون، والعِلمَ تُضيّعون. يُوشِك ربُّ العمل أن يطلب عمله، وتُوشكون أن تخرجوا من الدنيا العريضة إلى ظلمة القبر وضِيقه (199).
• وروي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قوله: إحذَروا زَلّة العالِم؛ فإنّ زلّته تُكبكِبه في النار (200).
• وعن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال: زلّة العالِم كانكسار السفينة؛ تَغرَق، وتُغرِق (201).
• وقال رسول الله صلّى الله عليه وآله: العلم وديعة الله في أرضه، والعلماء أمناؤه عليه، فمَن عمِل بعلمه أدّى أمانته، ومن لم يعمل كُتب في ديوان الله تعالى أنّه من الخائنين (202).
• وقال صلّى الله عليه وآله: تناصحوا في العلم؛ فإنّ خيانة أحدكم في علمه أشدُّ من خيانته في ماله، وإنّ الله مُسائلكم يوم القيامة (203).
فما أحرى بأصحاب الأقلام وأهل الخطابة والدرس والبيان، أن يشعروا بالمسؤولية في كلمتهم التي يطلقونها، فتبلغ الأسماع وتعمل في الأذهان.. فلا يُطلق على حكمٍ شرعيّ واضح كالتقيّة والكتمان وحفظ الأنفُس والأعراض والأموال ـ مثلاً ـ أنّها صورُ نفاقٍ وحالاتٌ نفاقيّة!
وقد تقدّمنا بتعريف الكتمان لغةً أنّه من التوقّي والحذر، كما عن: ابن منظور في ( لسان العرب 401:15 )، والطريحيّ في ( مجمع البحرين 452:1 ) باب « وقى »، فالتقيّة هي الحيطة والحذر من الضرر والتوقّي منه.
يقول الزَّبيديّ في ( تاج العروس 396:10 ): التقيّة والتُّقاة بمعنىً واحد، قال تعالى: إلاّ أن تَتّقُوا منهم تُقاةً أي تقيّة، بالإتفاق.
أمّا التقيّة في الاصطلاح، فقد عرّفها جمع من علماء المسلمين بألفاظ متقاربة ذات معنىً واحد.. فهي عند الشيخ المفيد: كتمان الحق وستر الاعتقاد فيه ومكاتمة المخالفين وترك مظاهرتهم بما يُعقب ضرراً في الدين والدنيا (204).
وعرّفها الشيخ الأنصاريّ بـ: التحفّظ عن ضرر الغير بموافقته في قول أو فعل مخالفٍ للحقّ (205).
وبهذا النحو عرّفها آخَرون، مثل: ابن حجر في ( فتح الباري 136:12 )، وعبدالعزيز السَّلَمي في ( قواعد الأحكام في مصالح الأنام 107:1 )، والآلوسيّ في ( روح المعاني 121:3 )، والمراغي في ( تفسيره 137:3 )، ومحمّد رشيد رضا في ( تفسير المنار 280:3 ) وغيرهم.
فيما يُعرَّف النفاق بأنه إظهار الإسلام واستبطان الكفر.. ويدخل في النفاق: الرياء، وإظهار الصلاح واستبطان الفسق، وقد يُطلَق على مَن يدّعي الإيمان ولم يعمل بمقتضاه (206).
وتتّضح هنا فروق كثيرة، منها:
1. اختلاف في الباطن، فالتقيّة استبطان الإيمان والتقوى.. بينما النفاق هو استبطان الكفر والفسوق والفساد.
2. اختلاف في الظاهر، فالتقيّة هي حالة حذر وترقّب وتوقٍّ وحيطة، أمّا النفاق فليس فيه أدنى حذر.
3. اختلاف في السبب والنيّة والهدف، فصاحب التقيّة قد ألجأته الضرورة والاضطرار والخوف والحرج إلى أن يأخذ بما خوّله الله تعالى من التقية؛ ليصون بها نفسه ودينه وعِرضه وماله، ويحافظ على أهله وإخوانه.. فيكتم ويُداري، وهدفه مرضاة الله تعالى وطاعته. بينما المنافق يتظاهر ويُرائي لِيُوهم ويُغرِّر، يتحيّن فرصة للإفلات من يد العدالة، أو للغدر بالمسلمين والمؤمنين والمستضعفين، أو للدسّ في الإسلام ما ليس فيه وهو متظاهر بالحرص عليه، أو لجمع الأخبار والمعلومات المهمّة وإرسالها إلى أعداء الدين.
4. في الحكم الشرعيّ.. التقيّة على أقسام خمسة باعتبار حكمها التكليفيّ: التقيّة الواجبة، والمحرَّمة، المستحبّة، والمكروهة، والمباحة.. كما هو في آراء العلماء وتطبيقاتهم.
وقد اتّضح لنا حكم التقيّة جليّاً مستفاداً من الآيات والروايات، ثمّ جاء الإجماع والعقل مؤيِّدَين. بينما النفاق محرّم مذموم أشدَّ الذمّ في عشرات الآيات والأحاديث الشريفة، كذا المنافقون مذمومون، قد أُمر المسلمون بالحذر منهم وإبعادهم، بل ومحاربتهم في بعض المواقع بعد فضحهم.
إذن.. فالتقيّة حكمٌ شرعيّ جاءت به آيات كريمة في سياق المدح والدعوة إليه، وكذا وردت فيه أحاديث شريفة وروايات عديدة، أمّا النفاق فهو حالة مرضيّة ممقوتة شرعاً، وهو في حقيقته كفرٌ في القلب يتخفّى عليه صاحبه بإظهار الإيمان ومظاهره. والتقية إذا تُركت في حالة وجوبها يكون المرء موسوماً بذلك بالجهل والتهوّر وإذاعة الأسرار، ويتحمّل مسؤوليّة ذلك في الدنيا والآخرة، بينما ترك النفاق تطهير للقلب وكسبٌ للفضيلة واقتراب من الخير والسلامة.
وهنا يحسن بنا أن نورد ما قاله السرخسيّ بعدما نقل عن الحسن البصريّ قوله: التقيّة جائزة للمؤمن إلى يوم القيامة، حيث قال: ـ وبه نأخذ، والتقيّة أن يقيَ نفسه من العقوبة بما يُظهره وإن كان يُضمر خلافه. وقد كان بعض الناس يأبى ذلك ويقول إنّه من النفاق، والصحيح أنّ ذلك جائز؛ لقوله تعالى: إلاّ أن تَتّقُوا منهم تُقاةً .. وإجراء كلمة الشرك على اللسان مُكرَهاً مع طمأنينة القلب بالإيمان من باب التقيّة (207).
5. في المصير الدنيويّ.. التقيّة تأتي بالخير والعافية والسلامة في الدِّين والنفس والأهل والإخوة المسلمين، فهي: تحفظ من التهلكة، وتصون من الأذى، وتُبعد: الأعراض عن الهتك، والأموال عن السلب، والكرامة عن الإهانة.. وهي كما عبّر عنها الإمام الصادق عليه السّلام بقوله: كظم الغَيظ عن العدوّ في دولاتهم تقية، وحِرز لمن أخذ بها، وتحرّز من التعريض للبلاء في الدنيا (208).
• وعن الإمام الصادق عليه السّلام أيضاً قال: كان « حِزقيلُ » مؤمنُ آل فرعون يدعو قوم فرعون إلى توحيد الله... وإلى البراءة من ربوبيّة فرعون. فوشى به واشُون إلى فرعون وقالوا: إنّ حزقيل يدعو إلى مخالفتك، ويُعين أعداءك على مُضادّتك. فقال لهم فرعون إنّه ابن عمّي، وخليفتي على مُلكي ووليّ عهدي، إن فعل ما قلتم فقد استحقّ العذاب على كفره نعمتي، وإن كنتم كاذبين فقد استحققتم أشدّ العذاب؛ لإيثاركم الدخول في مَساءته.
فجاء بحزقيل وجاء بهم، فكاشَفوه وقالوا: أنت تجحد ربوبيّة فرعون وتكفر نعماءه، فقال حزقيل: أيّها الملك، هل جَرَّبت علَيّ كذباً قطّ ؟ قال: لا، قال: فسَلْهم مَن ربُّهم ؟ فقالوا: فرعون، قال: ومَن خالقكم ؟ قالوا: فرعون، قال: ومن رازقكم.. الكافلُ لمعاشكم، والدافع عنكم مكارهَكم ؟ قالوا: فرعون هذا. قال حزقيل: أيّها الملك، فاشَهْد ومَن حضَرَك أنّ ربّهم ربّي، وخالقهم هو خالقي، ورازقهم هو رازقي، لا ربَّ لي ولا خالق ولا رازق غير ربّهم وخالقهم ورازقهم. وأُشهدك ومَن حَضَرك أنّ كلّ ربّ وخالقٍ سوى ربّهم فأنا بريء منه ومن ربوبيّته، وكافر بإلاهيّته.
يقول حزقيل هذا وهو يعني أنّ ربّهم هو الله ربّي، ولم يقل إنّ الذي قالوا ربّهم هو ربّي. وخفي هذا المعنى على فرعون ومَن حضره وتوهّموا أنّه يقول: فرعون ربّي وخالقي ورازقيّ! فقال لهم فرعون: يا طلاّب الفساد في مُلكي، ومُريدي الفتنة بيني وبين ابن عمّي وهو عضُدي، أنتم المستحقّون لعذابي؛ لإرادتكم فسادَ أمري وإهلاك ابن عمّي.
ثمّ أمر بالأوتاد، فجُعل في ساقِ كلّ واحد منهم وتدٌ وفي صدره وتد، وأمر أصحاب أمشاط الحديد فشقّوا بها لحومهم من أبدانهم. فذلك ما قال الله: فوَقاهُ اللهُ سيّئاتِ ما مكَروا به لمّا وشَوا به إلى فرعون ليُهلكوه، وحاقَ بآلِ فرعونَ سوءُ العذاب (209) وهمُ الذين وشَوا بحزقيلَ إليه، لمّا أوتد فيهم الأوتاد، ومشّط عن أبدانهم لحومَهم بالأمشاط (210).
وبالتقيّة تُحفَظ حقوق المؤمنين، كما ورد عن أمير المؤمنين عليه السّلام حيث يقول: التقيّة من أفضل أعمال المؤمن، يصون بها نفسه وإخوانه من الفاجرين (211). وفي تعبير الإمام الحسن العسكريّ عليه السّلام: إنّ مداراة أعداء الله من أفضل صدقة المرء على نفسه وإخوانه (212).
فالتقيّة عزّة وصيانة، وهي حفظ من تضعيف العدوّ، وترس من نظراته وخُططه وحملاته وشِراكه وفتنه.. فيكون دين المرء في قوّة وسلامة وحصانة، يمارسه ويدعو إليه بحكمة وعقل وبصيرة.
جاء عن الإمام جعفر الصادق عليه السّلام قوله لأحد أصحابه: عليك بالتقيّة فإنّها سُنّة إبراهيم الخليل عليه السّلام، وإنّ الله عزّوجلّ قال لموسى وهارون عليهما السّلام: اذْهبا إلى فرعون إنّه طغى * فقولا له قولاً ليّناً لعلّه يتذكّرُ أو يخشى (213)، يقول الله عزّوجلّ: كَنِّياه وقولا له: يا أبا مُصعَب!..
مَن استعمل التقيّة في دين الله فقد تسنّم الذروةَ العليا من العزّ، إنّ عزّ المؤمن في حفظ لسانه، ومَن لم يملك لسانَه ندم (214).
بينما النفاق ذلّة وازدواجيّة وشيطنة، إذ هو فساد للإيمان وتوأم للشرك، ومرضٌ في القلب، وخوف من الحقّ، وكذب ودَجَل وخيانة.. فهو مترشّح عن أرذل الخصال وأقبح الصفات، يكفي في بيان حال المنافقين في حياتهم الدنيا قولُ الله جلّ وعلا في محكم كتابه المجيد: إنّ المنافقين يُخادِعون اللهَ وهوَ خادِعُهم، وإذا قاموا إلى الصلاةِ قاموا كُسالى يُراؤون الناسَ ولا يَذكُرونَ اللهَ إلاّ قليلا * مُذَبْذَبينَ بينَ ذلكَ لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، ومَن يُضْلِلِ اللهُ فلن تَجِدَ له سبيلا (215)، فحياتهم تلوّنٌ وحيرة وشعور بالحقارة والخسّة والضعة، وترقّب للفضيحة والعار والشنار.. لما يكون عليهم من نفاقهم علامات مريبة.. فالمنافق: قاسي القلب، جامد العين، مصرّ على الذنب، حريص على الدنيا، إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتُمن خان، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر. ومثل هذا مفضوح عاجلاً أم آجلاً، فقد أبى الله أن يُعبَث بدينه، أو يتّخذه الأدعياء وسيلةً للمخادعة والتضليل.. حاشاه ربّ العزّة جلّ وعلا.
أمّا المصير الأُخرويّ.. فواضح ـ أيّها الإخوة الأعزّاء ـ إذا علمنا أنّ التقيّة أمرٌ الهيّ ودعوة ربّانيّة رحيمة، يرضى الله تعالى بها ويُثيب عليها؛ لأنّ فيها طاعته، وفي تركها مخالفته ومعصيته.
وقد عُرف مصير أصحاب التقيّة من أمثال: مؤمن آل فرعون، إذ وقاه الله تعالى الفتنة في دِينه، فانتهى إلى سلامةٍ فيه وفاز وصار مثلاً لمن عمل بالتقيّة فنجا في مصيره وعاقبته وآخرته..
• رويَ أنّ الله تبارك وتعالى أوحى إلى رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: انّي قد أيدّتك بشيعتين: شيعة تنصرك سرّاً، وشيعة تنصرك علانية. فأمّا التي تنصرك سرّاً.. فسيّدهم وأفضلهم عمُّك أبو طالب، وأمّا التي تنصرك علانيةً.. فسيّدهم وأفضلهم ابنه عليّ بن أبي طالب. قال الإمام العسكريّ عليه السّلام بعد أن روى ذلك: وإنّ أبا طالب كمؤمن آل فرعون، يكتم إيمانه (216).
• وأمّا أصحاب الكهف.. فهُم أيضاً قد آلُوا إلى رحمة ربّهم مرضيّين، بل مأجورين أجرَين، فقد روى ابن أبي الحديد أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله قال: إنّ أصحاب الكهف أسرُّوا الإيمان وأظهروا الكفر، فآتاهمُ الله أجرهم مرّتين. وإنّ أبا طالب أسرّ الإيمان وأظهر الشرك، فآتاه الله أجره مرّتين (217).
• وعن الإمام الصادق عليه السّلام: ما بلغت تقيّة أحد تقيّة أصحاب الكهف، إن كانوا لَيَشْهدون الأعيادَ ويَشُدّون الزَّنانير، فأعطاهمُ الله عزّوجلّ أجرهم مرّتين (218).
• وأمّا عمّار بن ياسر.. وكان قد عمل بالتقيّة بعد أن اضطُرّ إليها وقلبه مطمئنّ بالإيمان، فقد شهد له النبيّ صلّى الله عليه وآله في مواقع عديدة بحسن عاقبته، ومن ذلك قوله له:
ـ يا عمّار، إنّك ستقاتل مع عليّ صِنفَين: الناكثين والقاسطين، ثمّ تقتلك الفئةُ الباغية. قال: يا رسول الله، أليس ذلك على رضى الله ورضاك ؟ قال: نعم، على رضى الله ورضاي (219).
• أمّا المنافقون.. فمصيرهم واضح نزلت فيه آيات بيّنات كثيرة، منها: وعدَ اللهُ المنافقينَ والمنافقاتِ والكفّارَ نارَ جهنّمَ خالدينَ فيها.. (220).
إنّ المنافقين في الدَّرْكِ الأسفَلِ من النارِ ولن تجدَ لهم نصيرا (221).
• ويقول فيهم أمير المؤمنين عليه السّلام: إنّهم الضالّون المُضِلّون، والزّالّون المُزِلّون، يَتَلوّنون ألونا، ويَفْتنّون آفتنانا،... قد أعدّوا لكلّ حقٍّ باطلا، ولكلّ قائم مائلا، ولكلّ حيٍّ قاتلا... فهُم لُمَة الشيطان، وحُمَة النيران، أولئك حزبُ الشيطانِ، ألاَ إنّ حزبَ الشيطانِ همُ الخاسرون (222) أي هم: جماعة الشيطان، ولسعة النيران.

 

تساؤلٌ مُحقّ

إذن.. بعد هذه الفروق العديدة والواضحة بين التقيّة والنفاق.. ما السبب في المغالطة التي يتعمّدها البعض في نسبته التقيّة إلى النفاق ؟! فنقرأ ـ وللأسف ـ لبعضهم هكذا يكتب:
• كلّ من يدين بالتقية منافق لا يُعتدّ بآرائه ولا يُوثق فيه، ولا يجوز تصديقه فيما يقول، لأنّه يستحلّ الكذب! (223)
• ويعبّر آخر عن التقيّة بأنّها غُشّ في الدين! (224)
• ويتجرّأ آخر فيقول: التقيّة هي عقيدة خبيثة وخطيرة! (225)
• ويزيد عليه آخر فيقول: وفي التصوّر الإسلاميّ.. لا فرق بين التقيّة والكذب؛ فكلاهما رضع من حليب النفاق! (226)
وهكذا تكون المغالطات لا مع النفس ومع الناس فحَسْب، بل حتّى مع الشريعة الإسلاميّة التي عرضت التقيّة في آيات بيّنات وأحاديث شريفة وروايات، وأقرّ التقيّةَ علماء كثيرون، ورجّحها واستحسنها أهلُ العقل، وأُجمع على فضلها وفوائدها وضرورتها.
فالتقيّة ليست ـ بأيّ حال من الأحوال ـ جانجةً إلى كذب، إنّما هي ضرورة يُراد بها نجاةٌ من عدوّ، أو جذبٌ لمسلم عن طريق المدارة، أو رفقٌ بمن لا يطيق الحقائق.. ولها مواردُها الشرعيّة، فإذا لم تتوفّر شروطها حرمت وبطلت.
فلو كانت نفاقاً.. إذن كانت تهمةً موجّهةً إلى الصحابة والتابعين وأئمّة المذاهب الإسلاميّة وقد عملوا بها، بل وتهمة ـ والعياذ بالله ـ للأنبياء عليهم السّلام، ثمّ كيف أجازها النبيّ صلّى الله عليه وآله لأصحابه إذا كانت كذباً ونفاقاً ؟! بل كيف أجازها من قبله ربُّ العزّة في آيات كريمة أُجمع على تفسيرها بالتقيّة ؟!
وهنا نعود نتساءل: لماذا يُخلَط بين التقيّة والنفاق ؟ فنجاب أحياناً: لهذا الأسباب:
ـ إمّا جهلاً بمعنى التقيّة وفروقها الواضحة مع النفاق.. ويُردّ هذا بأنّ الجاهل لا يحقّ له أن يخوض في العلم فيَزلّ ويُزِلّ.
ـ وإمّا اتّباعاً للمتَّهِم جماعةً عملوا بالتقيّة تعصّباً ضدَّها.. وهذا يُردّ أيضاً بأنّ ديننا الحقّ يذمّ الاتّباع الأعمى كما يذمّ التعصّبَ الأعمى، ويدعو إلى الدعوة إلى سبيل الله بالحكمة لا بالعصبيّات الجاهليّة والأحقاد الطائفيّة.
ـ وإمّا قصوراً عن فهم أقسام التقيّة، ونظراً إلى التقيّة المحرّمة.. وذلك لا عذر فيه لمَن يدّعي العلم، فإنْ كان بعض المكاسب محرّمة، فهل يستلزم هذا أن تُحرّم المكاسب جميعها وتُتّهم بالقسم المحرّم منها فيُعمّم عليها ؟!
ـ وإمّا تشنيعاً على الشيعة وإشاعة للكذب عليهم لأنّهم عملوا بها فسلموا من مواضع القتل والحبس والإيذاء.. وهذا لا يصدر من مسلم يعلم أنّ التهمة والكذب والافتراء من مساوئ الأخلاق ومن دواعي العذاب الإلهيّ.
وعلى أيّة حال.. فانّ التقيّة من شأنها إشاعة السلام في ربوع المسلمين، التقيّة التي حرّمت الخصومات والتناحرات، وقرّبت المسلمين وأشاعت بينهم الحياة الهادئة والعلاقات الإسلاميّة، بعد أن فُهمت التقيّة المداراتيّة بعض الفهم، وعُمل بالتقيّة الكتمانيّة بعض العمل، أخذاً بما جاء في القرآن الكريم وهو منار العالَم:
ومَن أحسَنُ قولاً ممّن دعا إلى اللهِ وعمِلَ صالحاً وقال إنّني من المسلمين * ولا تستوي الحسنةُ ولا السيّئةُ ادفعْ بالتي هي أحسَنُ فإذا الذي بينك وبينَهُ عداوةٌ كأنّه وليٌّ حميم * وما يُلقّاها إلاّ الذين صبروا وما يُلقّاها إلاّ ذو حظٍّ عظيم * وإمّا ينزغنّكَ مِن الشيطانِ نَزْغٌ فاستعذْ بالله إنّه هو السميعُ العليم (227) صدَقَ اللهُ العَليُّ العظيم.

-------------

199 ـ بحار الأنوار 39:2.
200 ـ كنز العمال / خ 28683.
201 ـ بحار الأنوار 58:2.
202 ـ الدرّة الباهرة من الأصداف الطاهرة للشهيد الأوّل ص 17.
203 ـ بحار الأنوار 68:2. الترغيب والترهيب للمنذريّ 123:1.
204 ـ تصحيح الاعتقاد 66.
205 ـ التقيّة للشيخ الأنصاري 37.
206 ـ بحار الأنوار 109:72.
207 ـ المبسوط 45:24.
208 ـ مشكاة الأنوار لأبي الفضل عليّ الطبرسيّ 42 ـ الفصل الحادي عشر.
209 ـ سورة غافر:45.
210 ـ قصص الأنبياء للسيّد نعمة الله الجزائريّ ـ الفصل الخامس: 258 ـ 259.
211 ـ تفسير الإمام العسكريّ عليه السّلام 321 / ح 164.
212 ـ تفسير الإمام العسكريّ عليه السّلام 142.
213 ـ سورة طه: 43 ، 44.
214 ـ معاني الأخبار، للشيخ الصدوق 386 / ح 20.
215 ـ سورة النساء 142 ، 143.
216 ـ الغدير لللأمينيّ 395:7 ـ عن الشيخ الصدوق وضياء العالمين لأبي الحسن الشريف.
217 ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 312:3. وذكره السيد ابن معدّ في كتابه « الحجّة » ص 17 من طريق الحسين بن أحمد المالكيّ وزاد فيه: وما خرج من الدنيا ـ أي أبو طالب ـ حتّى أتته البشارة من الله تعالى بالجنّة.
218 ـ الكافي 218:2 / ح 8 ـ باب التقيّة.
219 ـ كفاية الأثر للخراز الرازيّ 120.
220 ـ سورة التوبة 68.
221 ـ سورة النساء: 145.
222 ـ نهج البلاغة: الخطبة 194.
223 ـ تبديد الظلام لإبراهيم الجبهان 482.
224 ـ الشيعة وتحريف القرآن لمحمّد مال الله 35.
225 ـ رجال الشيعة في الميزان لعبد الرحمن الزرعيّ 126.
226 ـ الشيعة معتقداً ومذهباً لعبد الرحمن طعيمة 118 ـ الهامش رقم 5.
227 ـ سورة فُصّلت: 33 ـ 36 وقد جاء في ظلّ قوله تعالى: « ولا تستوي الحَسَنةُ ولا السيّئة » قول الإمام الصادق عليه السّلام: الحسنةُ التقيّة، والسيّئةُ الإذاعة. وتحت قوله تعالى: « إدفعْ بالتي هي أحسَن » قوله: التي هي أحسن: التقيّة.