قال ابن عباس :
دخلتُ على عُمَر في أوّل خلافته ، وقد اُلقِيَ له صاعٌ من تمر على خصفة(2) ، فدعاني إلى الاكل ، فأكلت تمرة واحدة ، وأقبل يأكل حتّى
أتى عليه ، ثم شرب من جَرٍّ(3) كان عنده ، واستلقى على مِرْفقةٍ له ، وطفق يَحْمَدُ الله ، يكرر ذلك ، ثم قال : من أين جئت يا عبدالله ؟
قلت : من المسجد.
قال : كيف خلّفت ابن عمك ؟ فظننته يعني عبدالله بن جعفر .
قلت : خلّفتُه يلعبُ مع أترابه .
قال : لم أعنِ ذلك ، إنّما عنيتُ عظيمكم أهل البيت .
قلت : خلّفُته يمتح بالغرْب(4) على نخيلات من فلان ، وهو يقرأ القرآن .
قال : عبدَالله ، عليك دماء البُدن إن كتمتنيها ؟ هل بقي في نفسه شيء من أمر الخلافة ؟ قلت : نعم .
قال : أيزعم أنّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ نص عليه ؟ قلت : نعم وأزيدك ، سألت أبي عَمّا يدّعيه ، فقال : صدَق .
فقال عمر : لقد كان من رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ في أمره ذَرْوٌ(5) من قول لا يثبتُ حُجّةً ، ولا يقطع عذرا ، ولقد كان يربَع
في أمره وقتا ما، ولقد أراد في مرضه أن يصرّح باسمه(6) فمنعت من ذلك(7) إشفاقا وحيْطة على الاسلام ! لا ورّب هذه البنيّة لا
تجتمع عليه قريش أبدا ؟ ولو وليها لا نتقضتْ عليه العرب من أقطارها ، فعلم رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ أنّي علمت ما في نفسه ،
فأمسك ، وأبى الله إلا إمضاء ما حتم (8).
____________
(1) هو : عبدالله بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف ، أبو العباس الهاشمي المكّي ابن عم رسول الله صلّى الله عليه وآله
وسلّم ، أمه لبابة بنت الحارث أخت ميمونة زوج النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وَولد قبل الهجرة في الشعب بثلاث سنين ، هاجر الى المدينة
المنورة مع أبويه عام الفتح ، وصحب رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ ثلاثين شهراً ، وكان عمره حين وفاة النبي صلّى الله عليه وآله
وسلّم ، كما روى عنه الكثير من الصحابة والتابعين ، كان محبا لعلي ـ عليه السلام ـ وتلميذه ، وحاله في الاخلاص والموالات والنصرة لامير
المؤمنين ـ عليه السلام ـ والذب عنه والخصام في رضاه والموازرة من لا شبهة فيه ، وهو حبر هذه الامة وعالمها ، دعى له النبي ـ صلّى الله
عليه وآله وسلّم ـ بالفقه والحكمة والتأويل ، وقال عنه معروف : كنت اذا رأيت عبدالله بن عباس قلت : أجمل الناس ، فاذا تحدث قلت
أعلم الناس ، فاذا تكلم قلت : افصح الناس ، وقد استفاض في الاخبار من مجادلته مع عمر بن الخطاب ، ومعاوية وغيرهم في الخلافة ،
وكف بصره في آخر عمره ، ومات بالطائف سنة ثمان او تسع وستين ، وقال في مرضه الذي توفي فيه : اللهم اني أحيا على ما حيي به
علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ وأموت على ما مات علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ ثم مات ، وصلى عليه محمد بن الحنفية .
راجع ترجمته في : تنقيح المقال للمامقاني ج 2 ص 191 ، سير أعلام النبلاء ج 3 ص 331 ، الطبقات لابن سعد ج 2 ص 365 ، حلية
الاولياء ج 1 ص 314 .
(2) الخصفة : الجلة تعمل من الخوص للتمر .
(3) الجر : آنية من خزف ، الواحدة جرة .
(4) الغرب : الدلو .
(5) ذرو : طرف .
(6) اشارة الى قول النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ : آتوني بدواة وكتف لاكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده .
(7) اعتراف الخليفة عمر انما صد عن كتابة الكتاب حتى لا يجعل الامر لعلي ـ عليه السلام ـ .
راجع : شرح نهج البلاغة ج 12 ص 78 ـ 79 . ومما يفيد ذكره هنا بمناسبة منع عمر لكتابة الكتاب ما ذكره المرحوم الشهيد الصدر
(قدس سره) يقول الدكتور التيجاني في كتابه ثم اهتديت ص 98 ـ 99 : وإني لا زلت أذكر إجابة السيد محمد باقر الصدر ، عندما
سألته : كيف فهم سيدنا عمر من بين الصحابة ما يريد الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ كتابته وهو استخلاف علي ـ عليه السلام ـ على
حد زعمكم ، فهذا ذكاء منه ؟! قال السيد الصدر : لم يكن عمر وحده فهم مقصد الرسول ، ولكن أكثر الحاضرين فهموا ما فهمه عمر ،
لانه سبق لرسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ أن قال مثل هذا إذ قال لهم : إنيّ مخلّف فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي ما إن
تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً ، وفي مرضه قال لهم : هلمّ أكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده أبداً ، ففهم الحاضرون ومن بينهم عمر أن
رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ يريد أن يؤكد ما ذكره في غدير خم كتابيّاً ، وهو التمسك بكتاب الله وعترته ، وسيد العترة هو علي ـ عليه
السلام ـ ، فكأنه ـ صلى الله عليه وآله ـ أراد أن يقول : عليكم بالقرآن وعلي ، وقد قال مثل ذلك في مناسبات أخرى كما ذكر المحدّثون .
(8) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 12 ص 20 ـ 21، كشف اليقين في فضائل امير المؤمنين للحلي ص462 ح 562، كشف الغمة
ج 2 ص 46 ، بحار الانوار ج 38 ص 156 .