القرآن وحرية المجتمع.. إشكاليات الواقع المعاصر
  • عنوان المقال: القرآن وحرية المجتمع.. إشكاليات الواقع المعاصر
  • الکاتب: محمود الموسوي
  • مصدر:
  • تاريخ النشر: 20:38:19 1-10-1403

إنّ الإحساس بالحاجة لقيمة الحرية لدى الإنسان هو إحساس فطري، وهو شعور جامح مودع في الإنسان و له دافعيته التي تثور باتجاه الأنعتاق من الأغلال والآصار التي تكبلها في شتّى مناحي الحياة.


لذلك فإنّ مبحث الحرية بالنسبة لهذا الإنسان الذي يشعر بهذا الشعور الجامح و هو المدرك لهذه الحاجة الكبرى، يعتبر مبحث ذو أهمية كبرى، و لذلك جاءت الشرائع والنظم والمناهج الجديدة التي تروم تغيير واقع الإنسان لتتحّدى واقعاً لا يأبه بهذا الشعور ولا يضبط منحاه ومساره، سواء بالإفراط أو بالتفريط، و يراهن المصلحون عبر تاريخ البشرية الغابر عادة على حقيقة أساسية، و هي أنّهم يمتلكون البرنامج الذي يكفل لهذا الإنسان إشباع هذه الحاجة في التحرر بأفضل وسيلة، وهذا التاريخ المعبّر عن هذه الحقيقة الكبرى ليس قصراً على نوع فكري معيّن من أنواع التفكير الإنساني، وإنّما هو كذلك ابتداء بالأديان السماوية على أيدي الأنبياء ومروراً بالأوصياء، وانتهاء بالثورات والحركات النهضوية في العصور القديمة والوسطى والحديثة، وما زال حديث الحرية يجد له في كُلّ الأوساط السياسية و الثقافية والتداولية المختلفة، أكفّاً مبسوطة، وأعناقاً مشرئبة، وقلوباً لهفى، تروم تحقيق التصور الأمثل والضابط الأقوم لروح التحرر عند الإنسان، فكلما عانى الإنسان من ظلم أخيه الإنسان، تشوّق لبصيص من الحرية، وكلما حصل على نور خافت منها، اشتاق للمزيد، كُلّ ذلك لأنّها مخلوقة مع الإنسان، إلاّ إنّها فقدت بعد ولادته.
عندما تتصل الحرية بالمجتمع، فهذا يعني أن تكون لها حيوية متصلة بجميع مفاصل الحياة، باعتبارها فعل دائم لكُلّ فرد فرد في المجتمع، وهذا ما يستدعي وضوح في الرؤية لتحديد شخصيتها الاعتبارية، عبر تحديد ماهيتها و مساراتها وحركتها، وقد جاء القرآن الكريم ليعطينا بصيرة نافذة تؤسس لحركة الحرية وتفاعلاتها في الاجتماع الإنساني، عبر نسيج من الآيات المباشرة وغير المباشرة، باعتبار أنّ القرآن الكريم (يصدّق بعضه بعضاً)، فكلّ أمر أو نهي في أيّ جانب من جوانب الحياة في القرآن الكريم، إنّما يكمّل التشريعات المتباينة الأخرى، وكلّ تلك التشريعات والتفريعات تنسجم مع الآيات التي تؤسس للقواعد العامّة في عملية (تصديقية)، يمكن الخروج من خلال فهمها وربطها ببعضها برؤية واضحة ومتكاملة، هذا ما سننتهجه في قراءتنا للنص القرآني المبارك، لتكوين تصوّر لحرية المجتمع في جانبها الديني على الأخص.

 

الحرية المطلقة:

من الخطورة بمكان أن تخلّى دعاوى الحرية دون ضوابط، و دون منهاج يرسم دربها ويحدد مساراتها، فإنّ تخليتها دون ذلك، سيولد لنا حالة من الإباحية المطلقة (إباحية الأعراض)، (إباحية الأموال)، (إباحية الأفكار)، (إباحية الفتك)، ويمكن أن نستظهر هذه الحالة في فعل (الإسراف بمفهومه القرآني) بمحتواه العام الذي يشمل كافة مناحي الحياة، باعتبار أنّ الإسراف هو حالة من الإفراط في الحاجات الإنسانية، وهو تطبيق عملي لحركة الحرية المطلقة في المجتمع المتصلة برغبات الإنسان وأمنياته، فقد جاء في الآيات التالية:
 

1- في الأكل والشرب ومظاهر الحياة:

(يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف: 31).

 

2- في القتل:

(وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إلاّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً) (الإسراء: 33).

 

3- في الحكم والإدارة:

(فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إلاّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ) (يونس: 83).

 

4- في اللامبالاة في الأفكار:

(وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ (غافر: 34).

 

5- في الجنس والشذوذ:

(إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ) (الأعراف: 81).

و من مجموع هذه الآيات القرآنية الشريفة يتضح لنا أنّ هذه الحالة من الإباحية المطلقة، تسبب فساد النظام العام للإنسان على الصعيد الفردي والاجتماعي، وهذه الحقيقة حقيقة وجدانية إذ لا يمكن أن يُعطى كُلّ شخص الحق المطلق في التصرّف بما شاء وفيما شاء وأينما شاء و وقتما شاء، باسم ممارسة الحرية، لأنّ هذا المبدأ هو إلغاء واضح لحريات الآخرين، حيث سيصطدم الفعل المطلق لا محالة بحريات الآخرين وبحقوقهم، باعتبار أنّ الفرد يعيش ضمن المجتمع ويتفاعل معه، هذا من ناحية مراعاة النظام الاجتماعي كما هو في (القتل) و (الظلم) و (الاعتداء الجنسي)، ومن ناحية أخرى فإنّ إطلاق العنان للحرية له تأثير على الفرد نفسه حتى لو لم يكن في محيط اجتماعي، كما هو الحال في (لكُلّ والشرب) و (الشك والريبة).
 

كبت الحرية:

وكذلك الحال عندما يسعى الإنسان إلى كبت شعور التحرر والإنعتاق من الأغلال، حيث يسعى للتقييد والضغط ووأد الفعل الإنساني في شتى مناحي الحياة و في جميع صوره وتمثلاته، وكافة مستوياته، فإنّ له آثاراً سلبية من شأنها أن تضيّق على الإنسان فسحة العيش التي منحها الله تعالى له، و تتلف شعوره و رغباته التي زوّده الله تعالى بها، ويمكن أن نستخلص هذه الحالة من القرآن الكريم في حالة (التحريم) التي مارسها الإنسان على نفسه تبرعّاً واجتهاداً، باعتبارها حالة من التضييق على النفس، وفيها فعل الكبت و تقييد للرغبات الفطرية المخلوقة مع الإنسان، يقول تعالى:

1- (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (الأعراف: 32).

2- (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلاَدَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ اللّهُ افْتِرَاء عَلَى اللّهِ قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ) (الأنعام: 140).

3- (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (المائدة: 87).

فإنّ الخالق جلّ وعلا عندما خلق الإنسان وخلق معه الشعور بالحرية، أعطاه في ذات الوقت ما يلبّي هذه الحاجة، فلا يمكن للإنسان أن يحرّم على نفسه تلك المباحات ويكبت ذلك الشعور.

فالفكرة الأساس التي ينطلق منها القرآن الكريم ويثبتها في العقول كأصل لفهم أيّ فكرة بعد ذلك في مجال الحرية، هي أنّ الإنسان ليس من صالحه كفرد وليس من صالح مجتمعه أن يعيش الانفلات وممارسة الحرية المطلقة، وليس له أيضاً أن يكبت ما وهبه الله تعالى في المقابل، ليؤسس القرآن الكريم بذلك لفكرة الإعتدال في ممارسة الحياة، كما قال تعالى تعبيراً عن الحالة الاقتصادية:

(وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً). (الفرقان: 67).

فإنّ روح مبدأ الحرية هو حركة الاعتدال في الحياة، التي تنصف الآخرين وتتعامل مع الأشياء بالنظر لحقوقها واحتياجاتها، كما يقول عز وجل في التعامل مع النعم:

(وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ). (الأنعام: 141).
 

 

المجتمع الحر:

اهتم القرآن الكريم بتكوين مجتمع حرّ كريم، و وضع سمة الحرية ضمن سمات المجتمع الحضاري والمتمدّن الذي يدعو لإقامة الإسلام عن طريق الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)، و اعتبرها أصلاً من أصول المجتمع الحي، وعندما تتكوّن تلك الصفة فيه فإنها تخلق فيه روح النهوض والتقدّم، فلكي يكون المجتمع حيّاً وذا شخصية نابضة عليه أن يستجيب لدعوة الله تعالى والرسول الأعظم (ص)، كما قال تعالى:

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (الأنفال: 24).

فحياة المجتمع ورقيّه تتكوّن عبر صياغته وفقاً للدعوة القرآنية التي جاء بها الرسول (صلى الله عليه وآله) في الآية الكريمة التالية:

(الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الأعراف: 157).

فالرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) يدعو لتكوين مجتمع يمارَس فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، و يحل الطيبات ويحرّم كُلّ ما خبث، إضافة إلى ذلك فإنّه: (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) تعبيراً عن مبدأ الحرية وسيادتها في المجتمع، وتخليصه من الآصار والأثقال النابعة من النفس والذات، وتحريره من الأغلال والقيود التي تكبّل حريته التي خلقه الله عليها، ولكي نستظهر تعبير (الأغلال) وكيفية حركتها وتأثيرها على المجتمع، نقرأ قول الله تعالى:

(إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ) (غافر: 71).

فالأغلال الاجتماعية هي كالسلاسل المطوّقة لأعناق الناس تسحبهم كرهاً وجبراً نحو ما لا يريدون، فالحرية هي إزالة هذه الأغلال لكي ينطلق المجتمع باتجاه إرادته التي يختارها وفقاً للمبنّى الذي أشرنا إليه، وهي الحرية التي تلبّي رغبات الذات ولا تلغي حريات الآخرين، لأنّ (الحرية في الواقع تتمثل في حفظ حرمات الآخرين. فحريتي تكون حقيقية وواقعية حين يحترم الآخرون حقوقي، ويحترمون شخصيتي وكرامتي. لذلك لا يستخدم الإسلام كلمة الحرية إلاّ قليلاً وإنّما يستخدم الجانب الآخر للحرية وهو عبارة الحرمة ومشتقاتها، فيقول.. حريم الإنسان، وحريم البيت، وحرم الله، وحرمة الاعتداء. فالحرية تتبدل في مفهوم الإسلام إلى الحرمة، لأنّ الحرمة هي التي تحافظ على الحرية. وحينما يحافظ الناس على حرمة البيت، والشارع، والمدرسة، والسوق فمعنى ذلك أنّهم يحافظون على حرية الأفراد، ومن هنا سُمّيت مكة المكرمة حرماً آمناً، لأن حرية الإنسان فيها مضمونة ولا يمكن لأحد أن يعتدي على حقوق الآخرين).

(/ المجتمع الإسلامي ج3 (القيادة السياسية في المجتمع الإسلامي) آية الله العظمى السيد محمد تقي المدرسي، ص86).

فالحرية هي من أهم السمات الحضارية للمجتمع الإسلامي الناهض، لذلك أكّد عليها القرآن الكريم، وعالج مشكلاتها المرتبطة بالآصار النفسية، وهي عبارة عن الأمراض النفسية و ثقافة الوأد و وساوس النفس الداعية إلى العبودية للذات والشهوات، وعالج مشكلات الكبت التي يمارسها الطواغيت، ودعى للكفر بالطاغوت ورفضه، و مجابهته باعتباره معيقاً لحركة المجتمع وفاعليته، وحرية المجتمع بهذا المعنى الذي ينظر فيه إلى الشقين:

الأول: (الآصار النفسية):

 كما يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): (لا يسترقنّك الطمع وقد جعلك الله حرّاً)، وقال (عليه السلام): (لا تكونوا عبيد الأهواء والمطامع).

(غرر الحكم، ج2 329،/ 166 و ص 341 / 271).

و الثاني: (الأغلال الخارجية) التي يفرضها الغير عليه:

و هذه هي الميزة التي امتازت بها دعوة القرآن الكريم عن دعوات التحرر التي انطلقت في مسيرة الإصلاح الإنسانية التي تمثّلت في الحركة الليرالية ضد استعباد الكنيسة والسلطات الحاكمة، والتي نتجت عنها مواثيق حقوق الإنسان، و تعاريف المفكرين، كما يقول (برتراند راسل) على سبيل المثال بأنّ (الحرية بشكل عام يجب أن تعرف على إنّها غياب الحواجز أمام تحقيق الرغبات).

(ضد الاستبداد / فاضل الصفار، ص 137).

(وبهذا يكون مفهوم الحرية في الإسلام وان اشترك في بعض مصاديقه مع الحرية عند الديمقراطيين إلاّ أنّه أوسع وأشمل، وأتمّ منه إذ إنّه لا يكتفي بتحرير الإنسان خارجياً وجسدياً ومنحه حقه الطبيعي في العيش بسلام، وحريته في الكلمة والتجمّع، والسفر ولو كانت على حساب الروح والنفس وغيره، بل يتوسّع ويرقى لتطهيره وينزهه روحياً، ونفسياً، ويهذّب سلوكه وطباعه ثمّ يتركه حرّاً في الخارج، أيضاً يمارس إرادته ويختار مصيره بحرية واستقلال).

(ضد الاستبداد / فاضل الصفار، ص 134).

 

إشكاليات الواقع المعاصر:

أمام هذا الوضوح في الطرح القرآني لمبدأ الحرية وأهميته بالنسبة للجتمع، إلاّ أنّ هنالك إشكاليات تثار حول مدى واقعية هذا الطرح، ومدى مصداقيته، خصوصاً أمام الحالة التي يعيشها العالم الإسلامي في الوقت الراهن، من ممارسات تشوّه هذا المبدأ، وتعزّز مقولات الإكراه والفرض، إلاّ أننا لا يمكن أن نأخذ كُلّ ما قد يثار على محمل الجد، لأنّ أكثر الدعاوى إنّما تنطلق من جهات غير منصفة للفكر الإسلامي، بل من جهات قد تكون لها مآرب أخرى غير فكرية (سياسية أو اقتصادية)، خصوصاً إذا ما قرأنا التاريخ الذي ينبئنا بالممارسات التاريخية الشاهدة على ظلم الآخر وسبل وأده للحريات، فعلى سبيل المثال (تعتبر القرون الوسطى مثالاً على ما عانته الشعوب الأوربية التي رزحت تحت نير الإرهاب و القمع الفكري باسم الكنيسة، حيث سنّ الملك (شارلمان) قانوناً يقضي بإعدام كُلّ من يرفض أن يتنصّر ـ أي أن يصبح نصرانياً ـ ولما قاد حملته القاسية على السكسونيين والجرمان أعلن أنّ غايته إنّما هي تنصيرهم.
ولمحاكم التفتيش التي أنشأتها الكنيسة في تلك العصور سمعة سيئة وسجلاًّ قاتماً مظلماً، فقد اجتهدت في فرض آراء الكنيسة على الناس باسم الدين والتنكيل بكلّ من يرفض أو يعارض شيئاً من تلك الآراء، فنصبت المشانق وأشعلت النيران لإحراق المخالفين، ويقدر أنّ من عاقبت هذه المحاكمة يبلغ عددهم (300000) وأحرق منهم (32000) أحياء كان منهم العالم الطبيعي المعروف (برونو)، نقمت الكنيسة منه نتيجة لآرائه المتشدّدة، والتي منها قوله بتعدد العوالم، وحكمت عليه بالقتل، وهكذا عوقب العالم الطبيعي الشهير (غاليلو) بالقتل، لأنّه كان يعتقد بدوران الأرض حول الشمس.
وكانت المسيحية قد فرضت فرضاً بالحديد والنار ووسائل التعذيب والقمع التي زاولتها الدولة الرومانية بمجرّد دخول الإمبراطور قسطنطين في المسيحية، بنفس الوحشية والقسوة التي زاولتها الدولة الرومانية من قبل ضد المسيحيين القلائل من رعاياها الذين اعتنقوا المسيحية اقتناعاً وحبّاً، ولم تقتصر وسائل القمع والقهر على الذين لم يدخلوا المسيحية، بل إنّها ظلّت تتناول في ضراوة المسيحيين انفسهم الذين لم يدخلوا في مذهب الدولة، وخالفوها في بعض الاعتقاد بطبيعة المسيح).
(حرية المعتقد في الإسلام و القانون، أمير موسى بو خمسين، مجلة الكلمة العدد 4، السنة الأولى، صيف 1994م/ 1415هـ.).
لذلك فإننا نقول أنّ الإشكاليات التي تواجه الممارسات الإنسانية على وجه الأرض، هي إشكاليات عامّة تشمل الجميع فلا تختصّ بممارسات المسلمين في بلادهم دون غيرهم، خصوصاً إذا عرفنا أن المشهد في الجانب الإسلامي ليس أكثر من الجانب الغربي والمسيحي في ممارسة الظلم والاضطهاد واستعباد الناس، فالباحث المنصف هو الذي يدرس الظاهرة بتجرّد وموضوعية، فنحن لا يمكن أن نجعل الكثير من الإشكاليات المعاصرة بخصوص الحرية في المجتمع الإسلامي كعماد للبحث ومزاولة الأخذ والرد، والنقد والإبرام.. وإنّما نسلّط الضوء على إشكالية تمسّ الانحراف الفكري الذي أصاب بعض المنتسبين للإسلام من خلال القراءة الدينية المجتزئة للنصوص القرآنية المباركة، لمعالجتها على ضوء هدى القرآن الكريم، ففي الوقت الذي نستبعد الإشكاليات المتحاملة من قبل الآخرين، لا ننفي وجود خلل في المشهد الإسلامي بخصوص التعامل مع مبدأ الحرية (الدينية على الخصوص) وفهمه ضمن سياقات الدعوة الإلهية للدين الحقّ، فهنالك بالفعل خلل أصاب الحكاّم الذين حكموا بالنار والحديد، وهذا لا يرتبط ببحثنا، وخلل آخر أصاب بنية التفكير الديني في قراءة النصوص القرآنية، من قبل مجاميع من الحركات المنتسبة للإسلام، والتي عاثت في البلاد التضييق والقتل لكُلّ من يخالف رأيهم دينياً، فالقتل للإنسان ذي الدين الآخر بوصفه (كافراً) و لذي المذهب المغاير بوصفه (مشركاً)، و قد مارست بعض الجماعات عبر تجارب سياسية عديدة، الإكراه والإرغام للمجتمع ليطبّق ما يرونه من أحكام دينية، حتى لو لم يكن يؤمن بها أصلاً، وهذا السلوك أنتج حالة من التشويه للدين وأسّس رأياً عاماً سلبياً في المناطق الغربية حول الإسلام، فقد (أظهر استطلاع للرأي أجراه معهد (بيو) الدولي للأبحاث (أنّ غالبية الأمريكيين والأوربيين قلقون إزاء تزايد التطرف الإسلامي حول العالم) معتبرين (الإسلام أكثر الأديان عنفاً).
وشمل الاستطلاع 17 دولة منها 6 دول ذات غالبية مسلمة وهي لبنان واندونيسيا والمغرب والأردن وباكستان وتركيا، وشارك فيه 1000 مواطن من كُلّ دولة.
وأبدى 22% من الأمريكيين الذين تم استطلاعهم (نظرة سلبية عن الإسلام) مقابل 57% (عبروا عن نظرة ايجابية). وذكر 34% من الفرنسيين المستطلعين (أن لديهم نظرة سلبية) مقابل (64% ايجابية).
وأعرب غالبية الأوربيين والمشاركين في الاستطلاع عن (الشعور بتصاعد الهوية الإسلامية في بلادهم) معتبرين ذلك (سيئاً لمستقبلها) فيما أكد 84% من الروس و 78% من الألمان و 70% في كُلّ من بريطانيا والولايات المتحدة (تزايد قلقهم من التطرف الإسلامي).
و لعل معرفة (الحرية الدينية) من خلال القرآن الكريم، هو السبيل لمحو هذا التصور القاتم للإسلام والمسلمين في أعين الآخرين، لتساهم هذه المعرفة في بناء ثقافة واضحة لا لبس فيها لأبعاد هذه الحرية ومدياتها.

 

الحرية الدينية:

الحرية الدينية هي أنّ للفرد الحقّ في اختيار ما يعتقد به من دين من دون إكراه على اتباع دين دون آخر، لذلك نفى القرآن الكريم الإكراه في الدين، حيث قال:(لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) (البقرة: 256).
 
إلاّ أنّ القرآن الكريم ينبئنا بأنّ الدّين الحقّ الذي جاء من عند الحق هو (الإسلام)، وقد دعى القرآن الكريم لتبنّي العقيدة الإسلامية، وإلى عبادة الله تعالى باعتبارها الغاية من الخلق، وأنّ نتيجة انتهاج الإسلام ديناً هو الفوز في الدنيا والآخرة، و أنّ رفض الدين الإسلامي لهو الخسران المبين، هذه الحقائق تحدّثت عنها الآيات الكريمة التالية:

(إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إلاّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فإنّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ) (آل عمران: 19).

(وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (آل عمران: 85).

(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إلاّ لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات: 56).

• فكيف يمكن أن نفهم هذا التوجيه للإسلام كدين حقّ، في مقابل مبدأ الحرية الدينية في الاختيار؟
نجيب على هذا التساؤل من خلال وضع اليد على أسباب الانحراف الذي أصاب البعض في فهم (حقّانية الإسلام) والذي دعاهم لممارسات منافية لمبدأ الحرية، و يبدوا أن السبب في سلوك هذا المسلك هو الخلط بين مفهوم (التبليغ والدعوة) و بين مفهوم (الهداية)..
فالتبليغ مسئولية الإنسان المسلم، وهي وسيلة للوصول إلى الهداية وهي الدخول في الدين الحق.
والهداية شأن إلهي خاص، ليس لأحد التدخّل فيه.
لذلك فقد مارس البعض ممارسات ليست من شأنه ووكّل نفسه عن الله تعالى في هداية الناس، و كفّروا كُلّ من لا يستجيب لطريقتهم و فهمهم للدين، وعمدوا بالتالي إلى ممارسة العقاب لكُلّ هؤلاء، بإصدار فتاوى القتل أو الإرغام بقبول ما يعتقدونه حقّاً، بل ورأى بعضهم أنّ آيات القتال في القرآن الكريم هي الآيات الحاكمة في مسألة التعامل مع الآخر المختلف دينياً وعقيدياً، وهي ناسخة لآية : (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)،وغيرها من الآيات الداعية للسلم واللين.
(راجع كتاب (الحريات العامة في الدولة الإسلامية) للشيخ راشد الغنوشي، مركز دراسات الوحدة العربية. ط1، 1993م.)
فعندما نفرّق بين مسئولية الإنسان المسلم (الرسالية) وهي تبليغ الرسالة عبر الوسائل القرآنية، وبين الشأن الإلهي المختص وهو الهداية وما يصاحبها من (عقاب وثواب)، فإننا بلا شك سنقف على رؤية واضحة توازن بين الإيمان برسالة الإسلام كدين حق، وبين الحرية الدينية التي ينبغي أن يمارسها المجتمع.

 

مسؤولية التبيلغ:

لأنّ الدين الإسلامي هو الدين الحقّ، وهكذا آمن به الإنسان المسلم، فقد كلّفه الله تعالى بأن يؤدّي دوراً رسالياً تجاه هذا الدين، بأن يدعوا إلى الدين ويبلّغ الرسالة لبقية الناس، لكي يدخلوا في رحمة الله تعالى، حيث قال عز وجل:

(الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إلاّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً) (الأحزاب: 39).

ومن الطبيعي أنّ الإنسان إذا عرف الحقّ والخير، فإنّه يقوم بدعوة الناس إليه، ويوجّه لهم النصح بأن ينتهجوا منهجه ويقتفون أثره، خصوصاً إذا كانت له تبعات في الدنيا وفي الحياة الأخرى الأبدية، وهذه الدعوة هي لرفع حجب الجهل والغفلة عن عقل الإنسان، لكي تصل به إلى طريق الهداية التي عرفها من الحق جل وعلا، يقول تعالى:

(أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) (الأعراف: 62).

إلاّ أنّ هذه المسئولية الرسالية الملقاة على عاتق الإنسان المؤمن لها آلياتها المستفادة من هدى القرآن الكريم أيضاً، و ذلك لكي يكون تبليغ الحق عبر وسيلة الحقّ، لا وسيلة أخرى غير منسجمة مع الحقّ، وهي الدعوة بالأسلوب الحكيم الذي يراعي مقتضيات الأحوال ويضع كُلّ شيء في موضعه، ويستخدم الموعظة بالكلمة للوصول إلى قناعة بالدين، يقول عزّ من قائل:

(ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (النحل: 125).

وحتى إذا واجهت الإنسان المؤمن في طريق تبليغه للرسالة المصاعب والصدود من الآخرين، فإنّه لا ينبغي له تعدّي حدود مسئوليته التبليغية، حيث يقول تعالى:

(فإنّ تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ) (النحل: 82).
 

وقال جلّ جلاله:

(فإنّ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فإنّ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) (آل عمران: 20).
 

الهداية شأن إلهي:

يقوم الإنسان بتبليغ الرسالة، وتعبيد الطريق أمام الناس بالتبيين والإنارة، ثمّ يأتي اختيار الإنسان الآخر لهذه الدعوة أو رفضها، فإنّ قبلها فقد دخل في نور الهداية، وإن رفضها فقد ضل عن سواء السبيل، والهداية هي شأن إلهي يهبه الله تعالى لمن يؤمن بالبينات، حيث يقول الله تعالى:

(لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إلاّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ)(البقرة: 272).

فإنّ من يسعى للهداية ويستمع الحجة لكي يتبناها فذلك هو المهتدي، فـ (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ ) (الزمر: 18).

وتأكيداً على أنّ الهداية من الله تعالى وأنّ مسئولية الإنسان هي التبليغ، ولا مجال فيها للقسر أو الإجبار، يقول تعالى:

(فَذَكِّرْ إنّما أَنتَ مُذَكِّرٌ* لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ) (الغاشية: 22، 21)، وقال جلّ شأنه: (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً) (الفرقان: 43). وقال تعالى: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (البقرة: 256).

ثمّ أنّ الإكراه لا يتصور في تحقيق الإيمان ودخول الدين، لأنّ الهداية من مختصات العقل والقلب، وبهذا جاءت مجمل آيات الذكر الحكيم، لتخاطب قناعات الإنسان وعقله من أجل الوصول إلى نور الهداية، أمّا فعل الإكراه فهو ممارسة تهتم بالشكل والمظهر، فقسر الإنسان للإيمان بفكرة أو عقيدة ما رغماً عنه، ليس له ارتباط بالعقل والقلب، فكلّ ما يتلفظ به أو يمارسه بعد ذلك لن يعدوا كونه شكلاً من دون محتوى، فلا يمكن إيصال الإنسان إلى حالة الهداية ليقبل بالدين عن طريق إكراهه على تبني عقيدة ليست من اختياره، و لا يؤمن بها قلبياً، ولذلك فإنّ نفي الإكراه في آية:  (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) قد تكون ناظرة لهذا الأمر، فيكون النفي في الآية المباركة هو نفي للجنس، أي أنّه لا يتحقق في الخارج أصلاً، لأنّ الهداية للدين هي من الله تعالى وموضعها القلب، وليست من مختصات البشر.

(ولأنّ الهدى من اللـه تعالى، وهو صنعه وفضله، فليس على الرسول إلاّ البلاغ لأنّه (صلى اللـه عليه وآله) لا يهدي من أحبّ، ولكن اللـه يهدي من يشاء، حيث قال اللـه تعالى: ( إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللـه يَهْدِي مَن يَشَآءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (القصص/56).

(وبعد إتمام حجته البالغة على جميع خلقه، وبعد توفير فرصة الهداية للناس على السواء، فإنّ اللـه يهـدي من يشاء وليس جميع البشر. (إنّما يهدي من اتخذ إلى ربه سبيلاً، ويضيء قلب من اسلم وجهـه لله، واستجاب لدعوة رسله، وآمن بقلبه). قال اللـه تعالى: (قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِين) (الإنعام/149). (التشريع الإسلامي، ج5، آية الله العظمى السيد محمد تقي المدرسي، ص 21).

وهكذا ينبغي للداعية أنّ يعرف حدود مسؤوليته، وهي إبلاغ الرسالة. (ثمّ لا يزعم أنّ عليه هداية الناس). فاللـه يخاطب رسوله (صلى اللـه عليه وآله) ويقول له: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللـه يَهْدِي مَن يَشَآءُ وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلاَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إلاّ ابْتِغَآءَ وَجْهِ اللـه وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ) (البقرة/272).

ولأنّ الهدى هو هدى اللـه. فإنّ الذين يجعلون أنفسهم معيارا للهداية، ويزعمون أنّ من اتبعهم أو اتبع دينهم هو المهتدي أنّهم في ضلال بعيد. قال اللـه تعالى: (وَلاَ تُؤْمِنُواْ إلاّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللـه أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَآ اُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللـه يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللـه وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (آل عمران/73). (التشريع الإسلامي، ج5، آية الله العظمى السيد محمد تقي المدرسي، ص 20)

 

الحرية الدينية لا تعني التصويب:

ويبقى أنّ الاعتقاد بانّ للإنسان الحرية في اختيار دينه أو التزامه بتعاليم الدين عملياً، لا يعني تصويب رأيه، فإنّ الله تعالى خلق الناس متساويين في العقل و السمع والبصر، و جعل لهم الخيار، وبيّن لهم سبيل الحق وسبيل الضلال، حيث قال عزّ وجلّ:

(إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً. إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) (الإنسان:2، 3).

وقال تعالى: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ(البلد: 10).

بل إنّ الله تعالى ألقى الحجة البالغة، (قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ) (الأنعام: 149)، بأن خلق الآيات والعلامات الكونية الدالّة عليه تعالى، بما فيها من أسرار الخلق وعجيب الصنع والحكمة في التدبير، ثمّ جعل للإنسان الأدوات و الوسائل التي يستطيع من خلالها أن يهتدي بهذه الكونيات، كما جاء في سورة الشمس:

(وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا * وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا*).

وبعد ذلك كله يُترك واختياره، ويتحمل عواقبه، يقول تعالى:

(قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ) (يونس: 108).