حديث البؤس مزعج لكنه ضرورة معرفية رغم تململ الملوثين بالغرور والتبجح، فهؤلاء السعداء أو المخدوعون بوهم السعادة لا يسرهم الفراغ المستبد باللوحة، أو الزرقة الجاثمة على صدر المدينة التي تملأ الفراغ وتعكر صفو الكأس، البؤس طائر أزرق في سماء المدينة، وظفه بيكاسو في مرحلة تدشينية من مراحله الفنية التي تعكس روحه السديمية المتعددة..
نجده في «الوجبة الزهيدة» التي أنجزها في العام ۱۹۰۴ حيث يظهر زوجان أمام مائدة فارغة تحاصرهما التعاسة وشيء من التعاطف الفطري، بدت الزوجة بصفتها حصيلة لتراكم وضعيات متعددة من البؤس، الأكثر تعاسة والأكثر يأسا أو سخرية أو لا مبالاة في الآن نفسه، في حين ارتسمت ملامح الخوف والانكسار والنحول الشديد على محيا الزوج الذي أخفق في دوره كحارس، فهو فارس دون أسلحة.
أما البروتريه الذاتي الذي رسمه لنفسه في العام ۱۹۰۱ فيراه أحد نقاده كتجسيد لصمت ووحدة مضاعفة: الوحدة إزاء الطبيعة إضافة إلى إهمال القانون الذي وضعه الإنسان نفسه. «وليس ذلك فقراً ناجماً عن ظروف بدائية إنه الفقر الناجم عن قوانين وضعها الإنسان: الفقر الذي ينبغي إسقاطه من الاعتبار لأنه لا يستحق الاهتمام مع أنه مقبول شرعياً».. لكن هذا الحزن سرعان ما يتحول إلى فعل احتجاجي ولو على نحو رمزي، فالفقير الذي يمثل صورة معتادة سرعان ما يتحول إلى ثيمة اتهامية مبطنة لمدينة يعصف بها اللون الأزرق.
عرف بيكاسو كيف يحيل الزرقة إلى رمز كئيب، الأزرق عنوان مرحلة لونية من مراحل الفنان الإسباني يسودها غضب مكتوم ويأس نبيل لمنبوذ ليس مجرد ضحية، إذ يقترن هذا المنبوذ بشخصية المهرج، في دلالة وإشارة إلى هوية تحتشد داخلها جحافل المنفيين «الفقراء/ المرضى/ المجانين..إلخ» فالمهرج مواطن فقير ساخر يضحك من تلك الوعود الساذجة لمدينة لا تمنحه إلا مساوئها.
واقعة البؤس هي النصف الفارغ من الكأس، الوجه المتواري لمدنية تحمل معها قيودها وشقاءها وأغلالها. كانت هذه الحسناء بارعة في تجميل البشاعة قبل أن تخفيها بعمليات جراحية، ولنا أن نفحص التحولات التي أنجزها التقدم المدني والحضاري والثقافي على شكل قطيعة خادعة مثقلة بالوعود المعسولة التي لم تفعل سوى مفاقمة الشقاء ومضاعفته، الشقاء اليوم يزدهر في قلب المدينة وليس في أطرافها كما كان بالأمس، صار يوجد على مرمى حجر بل يكاد يلتصق بالضواحي المترفة والموائد الدسمة دون أن ينال منها حتى الفتات.
إن التأكيد على الجانب المعتم من الصورة، صورة المدنية الفارهة، تمليه تحولات البؤس ذاتها، يتحول البؤس تبعا لتحولات الفاعل التاريخي الممسك بزمام السلطة، في السابق كانت السلطة رجلاً، وبرحيله ترحل السلطة وأخلاقها وقيمها وحارسها، وتبعا لذلك يمكننا تحديد البؤس -بصفته طرفاً مقابلاً- ضمن طبقة أو شريحة أو عرق.
وبدخولنا عصر «السيستم» تميعت هذه الملامح وتشظت، انتشر البؤس بل صار متخفياً تماماً مثل السلطة ذاتها، السلطة كما يفهمها ميشيل فوكو حيث تجيد ارتداء الأقنعة وتتحدد بوصفها شبكة من التعالقات الموزعة في كل مكان، في السجن كما في المستشفى والجامعة، إنها ذلك المشتمل الذي يتواجه ويتجابه فيه الفاعل مع ضحاياه، أو بكلمات يفضلها ميشيل فوكو: تشتبك السلطة مع البؤس بكل أشكاله: المجنون، المريض، الشاذ، المنحرف.. إلخ.
إن الاهتمام بالسلطة في هذا الخطاب الفلسفي ليس شيئاً آخر غير الاهتمام بالضحايا، الحسنة الوحيدة للحداثة أنها كسرت الاحتكار الفكري لعلية القوم، لم يعد المثقف حامل لواء المعرفة صعلوكاً على أبواب الارستقراطية أو السادة الأثرياء كما كان بالأمس، حيث الأديب شاعر مناسبة والمفكر ديدنه لحس الأحذية والفيلسوف منهمك بفض الاشتباك أو القطيعة بين «الوجود» و«الموجود».. أما وريثه اليوم فلم يتورع عن الدخول إلى أقبية السجون ومصحات المجانين والمنفيين كما فعل فيلسوفنا ميشيل فوكو، هل سيتواضع الفيلسوف الميتافيزيقي ليؤرخ للجنون أو ما اصطلح على تسميته بالأمراض العقلية كما فعل فوكو؟ هل يفعلها هيجل؟ هل سيتنازل ابن سينا عن ميتافيزيقاه ليصغي ولو للحظة واحدة إلى عذابات المحاصرين بزرقة بيكاسو؟!
يقول باكو الفيلسوف الفرنسي إن الطوبيا خاصية غربية، وربما جاز القول أيضا إن أدبيات البؤس وواقعه علامة على هذه الخاصية نفسها، ففي كل وعد ثمة طوبيا تخفي زرقة كئيبة كتلك التي فطن إليها بيكاسو، فهذا الأخير أنطق ضحايا البؤس بما يتجاوز مقولة الوعي نحو معول الفعل، للبؤس طبيعة مازوشية يركن إليها البائس لكنه هنا دعوة لكسره والخروج عليه بمعرفة آلياته الظاهرة والخفية.
تحطيم البؤس وهو الوظيفة الأساسية التي تشكل اليوم رهان المثقف، سواء تجسد في قصيدة أو لوحة أو فعل اجتماعي، أعم من مجرد معالجات اقتصادية أو اجتماعية أو محكات تلجأ إليها مؤشرات السعادة التي تدهشنا كل عام بتصنيفها بين شعوب سعيدة وأخرى شقية، وكأن امتلاك بيت فاخر أو هواء منعش يكفي لأن يكون المرء سعيداً، السعادة حالة سيكولوجية ومكون ثقافي، إنها محتجبة كما يحتجب البؤس، ولهذا جاز القول نتيجة لهذا المؤشر المدهش إن قبيلة من البدائيين هي أسعد شعوب الأرض وليس الشعوب الاسكندنافية، إن البدائي سعيد ببؤسه حتى وإن تملك ناطحة سحاب، سعيد لأنه لا يملك الوعي ولا يملك إلا أن يكون ذاته، وغني عن القول إن المحدد الأساسي في قاموس التعب هو لوغوس الوعي ولا شيء غيره.