حرص الإسلام العظيم – عقيدة وشريعة- على صياغة الشخصية الإنسانية صياغة تؤهلها لحمل أمانة الله (تعالى) وتجسيد خلافته على وجه الأرض.
وقد جاءت العقيدة الإسلامية – بنسيجها الفكري المحكم – لتبني فكر هذا الإنسان، وتصوغ نظرته إلى نفسه والوجود من حوله وفقًا للنظرة المنسجمة مع الواقع، المدعومة بالبرهان، والمؤيدة بالفطرة الإنسانية النظيفة التي تعجُّ بالتسبيح والتقديس لبارئها (تبارك وتعالى) ولا تنقطع عن ذلك إلا حين تنقطع عن الطهر وتتلوث بالطين. وهكذا كانت الشريعة المطهرة وفي كل أحكامها – التي تنطلق من وحي المصالح والمفاسد – تتحرك نحو ذلك الهدف الكبير من العمل على تخريج الإنسان الخليفة والمجتمع الرشيد والذي لا يكون -أبدًا- إلا من خلال معرفة الله (تعالى) وعبادته. قال (تبارك وتعالى): ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً…﴾ (البقرة/۳۰). وقال (عز وجل): ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذاريات/۵۶). وحين نقف أمام تشريع الاعتكاف نقف على ذلك الهدف وتلك الغاية الآنفة الذكر. فما هي الدروس التي يمكن أن تلقيها علينا مدرسة الاعتكاف؟ هذه بعض الدروس التي يمكن أن تشير إليها هذه الكلمات باختصار شديد:
الدرس الأول: الخلوة بالله (تعالى) والتفرّغ لعبادته
يشكل الاعتكاف فرصة ذهبية للخلوة بالله (تعالى) والتفرّغ لعبادته، وأمنية عزيزة – عند أولياء الله (تعالى)- للقرب من مولاهم وحبيبهم (عز وجل). قال السيد الجليل والعابد الزاهد السيد السبزواري(أعلى الله مقامه):
«لا ريب في أن العكوف في دار المحبوب من أهم تمنيات الحبيب؛ لعله يستفيض من إفاضاته، ويتشرف بكراماته وذلك فطري بين كل طالب ومطلوب، وقد أمر الله تعالى خليله أن يطهِّر بيته للعاكفين(۱) أفهل يُعقل أن يردهم خائبين؟!حاشا ذلك عن مخلوق هيًّأ داره للواردين، فكيف برب العالمين.» (۲). فالاعتكاف يوفر فرصة – مؤقتة- للخروج من الجو الذي تفرضه طبيعة الحياة والانشغال بمتطلباتها ومسؤوليتها للإنفتاح على الله (تعالى) والوفود على الكريم الذي بيده ملكوت كل شيء. هذه الخلوة الضرورية لبناء الشخصية المسلمة والتي لا تتاح – بهذا القدر من الوقت- في ظل الظروف الاعتيادية كما تقدم.
وقد أشار السيد الشهيد الصدر(أعلى الله مقامه) إلى ذلك بقوله:
«يبدو أن الشريعة الإسلامية – بعد أن ألغت فكرة الترهب والاعتزال عن الحياة الدنيا واعتبرتها فكرة سلبية خاطئة (ورهبانية ابتدعوها)،- شرّعت الاعتكاف ليكون وسيلة موقوتة وعبادة محدودة تؤدي بين حين وآخر، لتحقيق نقله إلى رحاب الله يعمق فيها الإنسان صلته بربه ويتزود بما تتيح له العبادة من زاد، ليرجع إلى حياته الاعتيادية وعمله اليومي وقلبه أشد ثباتا وإيمانه أقوى فاعلية.»(۳). إن هذه الفترة المحدودة التي يقضيها الإنسان في ضيافة ربه قد تدوم آثارها الإيجابية مدة طويلة، وقد تبقى تحفِّزه على الخير وتدفعه باتجاه التكامل مدى العمر إذا حافظ الإنسان على مكتسباتها ورعاها بعد الخروج من تلك المدرسة. وإن اللذة التي تُعقِبها هذه الطاعة لا يمكن أن تمحوها الأيام أو يفنيها الزمن. أما لذات الدنيا فهي باقية ما بقيت الممارسة وقد تتحوّل إلى ألم وعذابات حين تكون اللذة محرمة، والاستمتاع تجرِّيا على الله (تعالى) وهذا ما يصوره دعاء التوبة للإمام السجاد(عليه السلام) حيث يقول: “… وَعَدَّدَ مِنْ ذُنُوبِهِ مَا أَنْتَ أَحْصَى لَهَا خُشُوعًا وَاسْتَغَاثَ بِكَ مِنْ عَظِيمِ مَا وَقَعَ بِهِ فِي عِلْمِكَ وَقَبِيحِ مَا فَضَحَهُ فِي حُكْمِكَ مِنْ ذُنُوب أدْبَرَتْ لَذَّاتُهَا فَذَهَبَتْ، وَأَقَامَتْ تَبِعَاتُهَا فَلَزِمَتْ”(۴). فكم كانت مدة اللذة الوهمية بالمعصية؟ لقد كانت اللذة ما كانت المعصية، وها هي الآن – وبعد أن انفتح بصر الهدى وتقشّعت سحائب العمى – تتحول إلى نار تكوي الضمير، وجمرات تحرق القلب، يتمنى الإنسان أن يدفع كل ما يملك لتمحى من سجله بعد أن كان مستعدا ليدفع الكثير من أجل الوصول إليها. فالاعتكاف خلوة بالله(تعالى) وتزوّد بعبادته(تبارك وتعالى) لا يستغني عنها الإنسان الذي يسعى نحو الكمال ويطلب القرب من الله (تعالى) ونيل رضاه.
الدرس الثاني: التعوُّد على مخالفة الأهواء
إن الاعتكاف يؤدي -إذا مُورِسَ بوعي- إلى التعوُّد على مخالفة الأهواء والصبر عن المشتهيات، وبناء ملكة التقوى في نفس الإنسان؛ وذلك لأن الشروع في الاعتكاف يجعل من بعض الأمور التي كانت مباحة قبل الاعتكاف محرمة، ويوجب ما لم يكن قبل الاعتكاف واجبًا، وفي ذلك ترويض للنفس على مخالفة مشتهياتها، وتثبيت لحالة السيطرة على ضغط الشهوات والإمساك بزمامها بقبضة الإرادة التي يصنعها الاعتكاف، وترسِّخها أجواؤه الروحية المربية.
إن الاعتكاف يمكن أن يخرِّج نفسًا لا تنهزم أمام شهوة البطن أو الفرج، وذاتا لا تتهاوى صريعة تحت وطأة الشهوات؛ ففيه تمرُّ النفس بتجربة يفترض فيها أن تكون قد تأهّلت لخوض غمار هذا المعترك- الذي انزلق فيه الكثيرون وسقط في وحله العديد من الناس- وتتجاوزه بكل كفاءة وجدارة ونجاح. وما أعظم هذا المكسب الذي يشكل النجاح فيه تجاوزًا لعقبة كبيرة من هذا النوع تمهِّد للإنسان الطريق إلى مقامات أخرى. وقد جاءت الإشارة إلى أهمية هذه المسألة في بعض الروايات. فقد روي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: “ما عُبد الله بشيء أفضل من عفة بطن وفرج”(۵).
الدرس الثالث: فرصة لمراجعة النفس ومحاسبتها
من الأمور المؤسفة حقًا أن يهجر الإنسان أقرب المقربين منه وهي نفسه التي بين جنبيه فلا يلتقي بها الأيام أو السنوات الطوال، ولا يجلس معها ليواجهها وجها لوجه، فيعيش- من هذه الناحية- في جانب ونفسه في جانب آخر وكأنهما في حالة خصام!!
وقد لا يلتقي هذا الإنسان بنفسه إلا عند الفجعية، أو حين تجرُّه إليها مصائب الدهر جرًا وربما كان ذلك بعد فوات الأوان، وضياع الفرصة. ونظرًا لأهمية الوقفات الجادة مع النفس وضرورة محاسبتها جاءت الروايات الكثيرة عن المعصومين(عليهم السلام) متناولة هذه المسألة الأساسية في تربية النفس. فقد روي عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) أنه قال: “ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم فإن عمل خيرا استزاد الله منه وحمد الله عليه وإن عمل شرًا استغفر الله وتاب إليه” (۶). ومن هنا تنبع أهمية الاعتكاف الذي يشكِّل فرصة تتيح للإنسان أن يلتقي بنفسه فيتأمل فيها، مفتشًا في خباياها وزواياها عن جوانب النقص ليكملها، وجهات الخلل ليسدّها ويصلحها، عن علاقته بربه، وعلاقاته بالآخرين، عن نظرته للدنيا وقيمة الدنيا في نفسه، وعن نظرته للآخرة وقيمتها في نفسه، ومدى تذكرها وآثار تذكرها على سلوكياته، وما أعدّ لها من زاد. إن ساعة يعيشها الإنسان متأملا متفكرا محاسبا لنفسه قد تساوى السنوات الطوال في ما تتركه من أثر إيجابي وتخلفه من تصحيح للمسار وتنشيط على الطاعة، ووضع للخطى على طريق الفطرة والغاية من الخلق. هذه بعض الدروس التي يمكن أن يشار إليها في هذه الكلمات المختصرة. وأسأل الله (تعالى) أن يوفقنا لكل ما يحب ويجنبنا ما يكره إنه سميع مجيب.
___________
(۱) إشارة إلى قوله (تعالى): (… وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)(البقرة/۱۲۵).
(۲) مهذب الأحكام، السيد عبد الأعلى السبزواري:۱۰/۳۶۰٫
(۳) الفتاوى الواضحة، السيد محمد باقر الصدر، ص ۵۳۵٫
(۴) الصحيفة السجادية: دعاء التوبة.
(۵)الكافي، الشيخ الكليني: ۲ / ۷۹٫
(۶) الاختصاص، الشيخ المفيد، ص ۲۶ –۲۷