المراة الرابعة في حياة النبي(2)
  • عنوان المقال: المراة الرابعة في حياة النبي(2)
  • الکاتب: الشهيدة بنت الهدى
  • مصدر:
  • تاريخ النشر: 21:45:21 6-10-1403

نِساءٌ في حياةِ النبي

في أحد الأيام يدخل على خديجة زوجها المصطفى بعد أن كان قد أمضى في غار حراء الساعات الطوال ، فتنشط لاستقباله هاشّة باشَّة ولكنها تنكر منه حاله ولونه وتنكر منه ما يبدو عليه من ضعف وإعياء ، فهو شاحب اللون مجلل بالعرق ، ويطلب إليها أن تدثره ، وهو يرتعد .
فتدثره خديجة وهي ملحاحة في التعرف إلى ما يخامره ، فلم تعهد بمحمد ضعفاً ، ولم يصدف لها أن رأت الأضطراب بادياً عليه كما تراه الآن وهي تعلم أن زوجها الحبيب لا يضعف ، ولا يتخاذل لأي سبب مهما كان مؤثراً ومهما كان صعباً ، ولذلك فهي تسأله في إصرار وإلحاح وهو يتهرب من الجواب ويماطل في الرد ، ولكن خديجة الزوجة وخديجة الرفيقة والصديقة تأبى إلاّ أن تتعرف إلى حاله ، وتفهم السبب كيما لا تتأخر عن موقفها الطبيعي في السير معه في كل مضمار ، وإلى كل غاية .
وأخيراً يخبرها الرسول بما سمع ويشرح لها ما أحس ويقص عليها خبر الروح الذي فاجأه في غار حراء وقال له : إقرأ فيجيبه ما أنا بقارئ فيكررها عليه ثلاثاً ، ويرد الجواب نفسه ثلاثاً أيضاً فيقول ، الروح : ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ) صدق الله العظيم وهنا تسأله خديجة وهي في نشوة روحية نشطة : ألم تسأله من أنت ، ألم تسأله عن إسمه ؟ فيجيبها صلوات الله عليه قائلاً : سمعته يقول : أنا جبرئيل جئت أبلغك رسالة ربك ، ثمّ يردف ، وكأنه يريد أن يبث خديجة ما يحس وأن يشاركها بأفكارها .

قال : لقد خشيت على نفسي .

فتجيبه رضوان الله عليها باندفاع وحماس .
كلا والله ، ما يخزيك الله أبداً إنك لتصل الرحم ، وتحمل الكلّ ، وتكسب المعدوم وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق ، وتصدق الحديث ، وتؤدي الأمانة .
بهذه الكلمات البليغة الحكيمة ردت خديجة على زوجها مشجعة مصدقة ، وكلها أطمئنان إلى صدق محمد بن عبد الله ، ثمّ ينزل عليه الوحي ليأمره بأن ينذر وأن يبلغ ويدعو إلى رسالة السماء ، وينهض رسول الله لكي ينذر وتنهض خديجة أيضاً تهب معه بكل طاقاتها وإمكانياتها المعنوية ، والعاطفية ، والمادية .
ومضت تواكب سيره المبارك في كل مضمار ، وعندما خرج ليصلي في المسجد لأول مرة ، وخرج معه إبن عمه علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، كانت خديجة ثالثتهما في الصلاة لم تقعد بها خيفة ولم يثنها عن اندفاعها الإسلامي تردد أو شك فهي تعرف محمداً كما لا يعرفه غيرها من الناس ، وتثق فيه ثقة مطلقة .
وهذه إحدى نواحي الإعجاز في النبي ، فإن أكثر عباقرة التاريخ كانوا يعانون الأمرَّين من تصرفات زوجاتهم ، وعدم تصديقهن بعبقريتهم ، فإن الإنسان الاعتيادي مهما كان عبقرياً فذاً لا يمكن له أن يخلو من نقص ، ونقاط ضعف إذا فرض فأمكن له أن يخفيها عن   كل أحد لا يمكن له أن يخفيها عن زوجته التي هي أقرب الناس إليه ، بالنسبة إلى رسول الله وزوجته خديجة انقلبت هذه القاعدة فأصبحت الزوجة أول مصدقة ومؤيدة لأنه صلوات الله عليه كان فوق مستوي غيره من الرجال مهما كانوا عباقرة وأفذاذاً ، فكلما كان الشخص قريباً منه كان أكثر حباً له ، وأكثر عقيدة ، وأرسخ إيماناً برسالته ، ودعوته .
فقد كانت عواطفه الإنسانية عامة شاملة لكل نواحي الحياة سيان في علاقاته الداخلية ، أو الخارجية، حتى أنه كان إذا لقيه أحد من أصحابه فقام معه فلم ينصرف حتى يكون الرجل هو الذي ينصرف عنه.
وإذا لقيه أحد فتناول يده ناوله إياها فلم ينزع يده منه حتى يكون الرجل هو الذي يدع يده .
وكان أشد حياء من العذراء في خدرها .
وكان أصبر الناس على أقذار الناس.
کان عطوفاً على كل ضعيف باراً بكل مسكين ما ضرب أحداً وما نهر خادماً قط .
وقد روي عن أنس أنه قال : خدمت النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عشر سنين فما قال لي أف قط ، ولا قال لي لشيء صنعته لم صنعته ، ولا لشيء تركته لم تركته .
وحتى زيد بن حارثة الذي خطف من أهله وهو صغير ثم اهتدى إليه أبوه واهتدى هو إلي أبيه على لهفة الشوق بعد اليأس من اللقاء ، فلما خُيِّر بين الرجعة إلى أبيه وبين البقاء مع الرسول اختار البقاء مع السيِّد عن الرجعة إلى الوالد ، وشق عليه أن يفارق ذلك الرصيد العامر بالعطف والحنان ، والذي غمره بحبه ومواساته ، إذ هو ضعيف شريد لا يرى ذويه ، ولا يدري من هم ذووه .
وحتى مولاه ثوبان ، والمولى في أغلب الأحوال يكون كارهاً لمولاه حاقداً عليه قالياً له نظراً لما يحسه من تقدم سيده عليه ومالكيته له ، ولكن ثوبان نحل وظهر عليه الحزن في ليله ونهاره فلما سأله صلوات الله عليه عن سبب ذلك قال : قرب منيتي وخوفي من فراقك لآنك في الجنة سوف تكون في درجات الآنبياء فلا أستطيع أن أراك.
ولهذا نزلت الآية الكريمة التي تبشر المؤمنين المخلصين بصحبة الآنبياء الصالحين ، ( وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ   الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحَسُن أولئك رفيقاً ) النساء/69.
هذه نواحٍ تكشف عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بما هو إنسان كامل حتى في نظر زوجته ومولاه ومرافقه ، هؤلاء الذين تنكشف لهم على الخصوص أخفى نواحي النقص ، وأدق نقاط الضعف.
هكذا كان صلوات الله عليه في نبوته وقبلها .
هكذا كان في محيطه الضيق ، وفي محيطه الواسع .
ولهذا ولكونه الرجل الكامل والإِنسان الكامل ، بعثه الله بالنبوة ، وحمله ثقل أقدس رسالة بعثت للناس .
وهكذا بُعث محمدً الرجل الأول والإِنسان الأول ليكون النبي الأول، وكانت خديجة من ورائه تساند وتعاضد ، فما أكثر ما امتحنت وإياه ، وما أكثر ما شدد عليهما الكفار وتهددت حياتهما بالخطر ، وما أكثر ما رجع إليها الرسول وهو مصاب بجروح ورضوض من قبل الأعداء ولم تكن لتزيدها هذه الأحوال إلا صموداً ولم تكن لتهبها إلا قوةً وعزيمةً وثبات إرادة.
فقد نفذ نور الإِسلام إلى الأعماق من روحها وفكرها فاستنارت بنوره واهتدت بهداه ومن خصائص الإِسلام   ومميزاته بوصفه عقيدة ثورية تتسق مع الفطرة والعقل وتغمر الوجود الإنساني كله أنه إذا استقر في قلبٍ ، وأي قلب كان ، فتح أمامه أبواباً للتضحية والفداء ، فما أكثر النساء المسلمات اللاتي قدمن الضحايا من الآباء والأبناء وهن أكثر ما يكن ثباتاً وقوة ، بل وكن يستهن بالموت من أجل القضية الإسلامية أمثال أم عمار بن ياسر التي صمدت على كلمة الإسلام أمام كل الوسائل الوحشية التي أتخذت لتعذيبها والتنكيل بإبنها وزوجها ، وكان رسول الله يمر عليهم وهم يعذبون فتطفر الدموع من عينيه ويبشرهم بالجنة نزلاً. وكثير غيرها من النساء المسلمات اللاتي اعتنقن الإسلام في أحرج أدواره وأشدها ولكن المجال لا يتسع لنا لذكرهنّ جميعاً ولعلنا سوف نلتفت الى هذه الناحية من حياة المرأة المسلمة في رسالة خاصة تبين مواكبة المرأة للإسلام وأثرها في الدعوة الإسلامية.
فقد كانت المرأة المسلمة تذهب الى ساحات الجهاد لتشجع إخوتها وأولادها على خوض غمار الحرب وهي معهم تطبب وتداوي وتسقي العطشى وتعين المصاب ، ولا يزيدها فقد الأولاد والأخوة والأعمام إلاّ حرصاً على الإسلام وتفانياً فيه .
وقد كانت المرأة المسلمة تسمع بأذنيها نعي أعزائها وأحبائها وهي لهفانة في الوقت نفسه للإطمئنان على سلامة رسول الله، وعلى هذا فلا عجب إذاً إذا كانت خديجة زوجة الرسول أول مصدقة به وأقوى ساعد لديه ، والواقع أنني حينما أراجع سير النساء المسلمات في صدر الإسلام وأقرأ تضحياتهن ومواقفهن أكاد أسأل جادةً هل نحن مسلمات حقاً .
هذا الإسلام هو الذي نوَّر قلب خديجة بعد إذ انبثقت أنواره من غار حراء ومن بيتها هي بالذات ، ولهذا فقد كانت خديجة ( رضي الله عنها ) جديرة بهذا الاندفاع الإسلامي وهي التي أصطفت محمداً لنفسها منذ زمن بعيد ، وبعد أن عرفت أنه صاحب رسالة مقدسة ، ولذلك فهي لم تفاجأ ولم تستغرب عند سماعها بخبر الوحي الذي نزل على زوجها في غار حراء ، وقد قنعت من زوجها بكلمات قلائل سرعان ما صدقته بعدها وآزرته وهي أقوى ما تكون فكرة راسخة مركَّزة ، وإحساساً فياضاً صادقاً .
وأستمرت خديجة أم المؤمنين تحيا بحياة الرسالة المحمدية وتستهين في سبيلها بكل المصاعب والمحن ، وقد بذلت في هذا الطريق كل ما تملك من مال حتى   أصبحت وهي الغنية الواسعة الثراء فقيرة لا تملك شيئاً ، وقد استنفدت بدعوتها رصيدها الضخم من المال ولم يبق منه حتى النزر القليل ، فهي تطوي جوعاً إذا طوى النبي وتشبع إذ يشبع بالذي يشبع فيه ، وهذا يبيِّن مدى التفاوت بينها وبين باقي أمهات المؤمنين ، الفارق الذي جعل رسول الله يحن إليها الى آخر يوم من حياته الشريفة.
فهي قد بذلت للإسلام كل ما تملك يوم كان الإسلام وحيداً ، وصلَّت مع رسول الله يوم لا مصلِّية غيرها ، بينما أحتجت أمهات المؤمنين الأخريات على النبي ، بعد أن عمت كلمة الإسلام جميع البقاع وطالبن بزيادة النفقة وتوسيع المعيشة : عليهن ولم تثنهن نصائح النبي عن ذلك حتى أنه جاء في الروايات أن أبا بكر دخل على النبي (ص) ومعه نساؤه فوجده حزيناً وعرف السبب في ذلك فقام على أبنته يريد أن يجأ عنقها لأنها آلمت الرسول وأعترضت طريق دعوته بمطاليبها المادية حتى نزلت الآية الكريمة(1) التي خيرت نساء النبي بين متاع الحياة الدنيا وبين رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فاخترن صحبة الرسول الأعظم بعد أن قُطعت أمامهن السبل، وقد كانت خديجة صلوات الله   عليها لا تألو جهداً في بذل يد العون للدعوة الإسلامية بكل ما يسعها ذلك ، وقد حدث مثلاً أن فرضت قريش على بني هاشم حصاراً في منطقة تسمى بمنطقة الشِّعب أو شِعب ( أبو طالب ) وقد منعوا عنهم في هذا الحصار الماء والزاد ، وكان الموت جوعاً يهدد جميع بني هاشم لولا أموال خديجة فإنها كانت تبعث من يشتري لهم الطعام سراً وفي أغلى ثمن ، تستنصر وتستعين بأولاد إخوتها وأخواتها على ذلك ، وبذلك أمَّنت الغذاء لبني هاشم المحاصرين في الشعب.
فلهذا ولغيره من المواقف الفذة في تاريخ الإسلام أحتلت رضوان الله عليها الصدارة في قلب النبي وفي حياته الشريفة.
وقد توفيت رضوان الله عليها في السنة الثالثة عشر للبعثة وقد حزن عليها رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حزناً عظيماً وكانت وفاتها في عام وفاة عمه ( أبو طالب ) ، ولذلك فقد سمِّي ذلك العام بعام الحزن لحزنه على فقدها وفقد عمه ( أبو طالب ) ، نعم توفيت خديجة المرأة الرابعة التي دخلت حياة النبي في أحرج أدوارها لم تخرج من حياته أبداً فقد خلَّفت له أغلى وأثمن ذكرى مقدسة ، وهي الصدِّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين ، وقد جاء في بعض الرويات أنها خلفت للنبي أربع بنات هن زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة ( وسوف نناقش هذا الموضوع في محله إنشاء الله ) ، وقد أصبحت الزهراء قطب الرحى في حياة أبيها العظيم حتى أنه كان يسميها بأم أبيها.

(1) سورة الأحزاب آية 28 ـ 29.

مصدر: المرأة مع النبي « صلى الله عليه وآله » في حياته و شريعته