المرأة بين خطاب الجسد والإغواء، والقيم المضادة للإباحية
غيداء حلمي
أصبح الجنس في عصرنا مادة إضافية للاستهلاك، وبرزت الحاجة إلى الإشباع الجنسي العاجل الشبيه ببقية نماذج الإستهلاك السريعة والمأكولات الخفيفة، كما تحولت المرأة إلى مجرد جسد أو جارية عصرية.
ولتلبية الطلب المتزايد من الجمهور العريض المغفل عملت وسائل الدعاية على رفع وتيرة العرض وحولت الجسد إلى مادة استهلاكية متاحة قادرة على إثارة الفضول وحب الاستكشاف والاستطلاع تحت ذريعة ((كل ممنوع مرغوب))، لأن المقدّس لايوجد إلا للخرق في منظور الغرب، وهكذا تجري إعادة تشكيل تذوق الجمال عند الإنسان المعلوم لأسباب تجارية، وباختصار يتم تقديم المرأة الآن كجارية عصرية تبيع مفاتنها للعامة، إمرأة تقايض شرفها بنظرات الرجال الجائعة المليئة بالرغبة والغريزة.
وبهذا المعنى فإن المرأة ليست سوى ذلك الجسد الذي تتلصص عليه عيون المشاهدين.. جسد تنهشه النظرات، وتتطلع إليه الرغبات.. جسد تسلٌط عليه الموضة آلة تصوير شرهة تفترسه وتنفث فيه نار دعاية مسعورة.. جسد تستغله وسائل الإعلام وتمتهنه دور الإعلانات كمادة لتثمين مفاتن المرأة ومنح جاذبية أكثر لصورتها.
عمليات التبرج تجعل المرأة كائناً مظهرياً بامتياز، أي كائن من أجل الآخر، ذلك أن التزيين يعد من جانب المرأة دعوة للغواية ولعبتها الصامتة في الإغراء، فهو ذو بعد إيحائي واضح، فالوجه المجمّل وجه مستعار يصلح كمدخل لبوابة الرغبة والغواية بحيث توجد بينه وبين الوجه الأصلي علاقة قرابة كتلك الموجودة بين مادة اللوحة واللوحة نفسها. أخطر من هذا لغة العين التي تقول في التواصل الغوائي مالا يقوله اللسان، لهذا تحضرنا هنا حكمة غض البصر، ولهذا يتم في الكثير من الأحيان تحويل الوجه والعينين إلى جسد كامل في الخطاب الإشهاري، ويتم اختزال الجسد بأكمله في الوجه وتحويله إلى مشهد دائم للتواصل الإغرائي، وبما أن العين في هذا الإطار تغدو حلقة الوصل بين الرغبة الباطنة وتعبيرها الإشهاري الرمزي، فإن زينة الوجه تشكّل بالنسبة للجسد صورة جديدة تتجاوز بكثير الوظيفة التي يقوم بها اللباس بجميع أشكاله.
لامساحة للنساء خارج الجسد في الخطاب الفاضح، فالنساء هكذا دائماً لا يرين أبعد من أجسادهن. فحتى فنون الطبخ أصبح يقدمها الرجال ويعرضونها في البرامج على الشاشة وعلى المرأة أن تعيش على الأكل الجاهز، ولا وليمة لها غير جسدها، أما اللباس فقد صارأكثر من سلوك، لقد أصبح لغة.
وما زال الخطاب الإشهاري يجهد نفسه ويسرف في استحضار المرأة بوصفها مادة لإغراء الرجل باستعمال شتى أساليب الإغراء والإكراه النفسي، بل يمكننا القول أن وسائل الإعلام حوّلت المرأة وصورتها إلى غواية بتسليط الأضواء على الأجسام العارضة والمعروضة على حساب العقول المفكرة، فالمرأة في هذا السياق معروضة للبيع بالتقسيط وبالجملة، جسداً وصوتاً وطيفاً في الإعلانات والأفلام وفي خلفيات ((الفيديو كليب)) وعلى هوامش برامج المنوعات، وكعلاقة ثياب ولباس في عروض الأزياء عبر ثقافة المرأة إلى تنعيم بشرتها وتربية شعرها.
فالصور في الفضاء المفضوح لاتخفي وراءها أي شيء، هي مجرد أداة فنية وجمالية للإغراء السحري والفاتن للمشاهد حيث الخيال يسبق الواقع والتضليل سابق على الحقيقة، لأن سلطة الإشهار تتكلم بمنطق الرغبة وهاجس الغرائز، أما الصور فهي لاتعكس واقعاً ولاتصور مشهداً، إنها تدل على ذاتها وكأنها سطح دون عمق ومرآة دون انعكاس وشاشة دون مشهد، هي سلعة معروضة للبيع لها قيمتها التجارية التي تكتسبها من الربح في السرعة وفي اللغة للحكم على كل شيء (الفعالية ـ الجودة ـ إلخ) لأن فن الإشهار ضد منطق الكفاف، فهو يعتمد منطق الغنى بالشيء عوض الغنى عن الشيء.
على النساء أن يتساءلن: لماذا يقف الرجل الإعلامي بلباسه السابغ الساتر بينما تقف نظيرته المرأة إلى جانبه كغانية؟ لماذا ترتدي المرأة الغربية على السواحل ملابس السباحة بكل سهولة وتختلط مع الرجال لكنها إذا ذهبت لاقتناء ملابس في محل ما فلا تجربه أمام الناس، بل تأخذ القطعة إلى مكان مخصص لقياسها؟ والمرأة المسلمة المؤمنة ترتدي الحجاب حين خروجها من المنزل، لكنها تنزعه أمام بعلها لأنها تملك رصيداً من القيم المضادة للإباحية تكسبها المناعة ضد الإنحلال. لماذا تُختصر المرأة في دورها الاستعراضي المثير للغرائز ويُلغى دورها الحضاري؟
التركيز على الشكل في الخطاب الفاضح لايعمل فقط على إلغاء المعنى بل يقتصر على إفقاره وإبعاده ويجعله رهن إشارته، لأن بلاغة الصورة تستوقف المشاهد لتثير فيه الرغبة والاستجابة عبر الوظيفة الجمالية التي ترمي بدورها إلى إثارة الذوق بهدف الترويج للبضاعة، والوظيفة الإباحية للصورة التي هي تعبير يغازل الوجدان ويغذيِ الأحلام وهي تروم إفشال الملكة النقدية لدى المشاهد عبر استمالته لفعل الشراء. فلا غرابة إذا أشهر الغرب سلاح الزمن في وجه المرأة، وسلٌط عليها سوط الشباب الدائم، فهي إما أن تبقى صبية دائمة النضارة كي تحظى بمركز الاهتمام، أو ترمى بقسوة على أقرب رف معتم تقاوم فيه شبح التجاعيد، أو تسرع إلى اقتناء ما يعرض عليها من مواد الزينة والتبرج، لهذا نجد النساء في الغرب يلهثن وراء الموضة حتى يطاردهن الرجال، لأن الموضة عند النساء هي التجديد، والتجديد بريق الشباب الذي تصبو إليه المرأة دائماً، هكذا تنقلب الرذيلة في الموضة إلى فضيلة حتى أن دهاء الفطنة يكاد يسقط أمام سخافة الموضة.
سوتيترات
* إن المرأة ليست سوى ذلك الجسد الذي تتلصص عليه عيون المشاهدين.. جسد تنهشه النظرات، وتتطلع إليه الرغبات.. جسد تسلط عليه الموضة آلة تصوير شرهة تفترسه وتنفث فيه نار دعاية مسعورة.. جسد تستغله وسائل الإعلام وتمتهنه دور الإعلانات كمادة لتثمين مفاتن المرأة ومنح جاذبية أكثر لصورتها.
* لامساحة للنساء خارج الجسد في الخطاب الفاضح، فالنساء هكذا دائماً لايرين أبعد من أجسادهن. فحتى فنون الطبخ أصبح يقدمها الرجال ويعرضونها في البرامج على الشاشة وعلى المرأة أن تعيش على الأكل الجاهز، ولا وليمة لها غير جسدها، أما اللباس فقد صارأكثر من سلوك، لقد أصبح لغة.