الواقع إن ظاهرة الحجاب في التاريخ هي غالباً ظاهرة دينية أرشدت إليها الأديان السماوية، وركز عليها الاسلام، لذلك فإن كثيراً من القبائل الوثنية والشعوب التي لا تلتزم بدين سماوي لا تعترف بحجاب المرأة، بل إن هناك بعض القبائل ـ بغض النظر عن نوعية دينها ـ تلزم الرجل بالحجاب دون المرأة … ففي السودان والجزائر وليبيا والنيجر توجد قبائل الطوارق التي يتحجب ويتلثم الرجل فيها، وتسفر المرأة بدون تبرير كاف.
وإن دلّ هذا على شيء فإنما يدل على أن مسألة الحجاب لم تأتِ نتيجة سيطرة الرجل على المرأة، وإلا لما تحجب الرجل في قبائل الطوارق، ولما أسفرت النساء الوثنيات، ولما شاعت خلاعة النساء في أمم اليونان قبل دخولها في المسيحية.
الحجاب إذاً ظاهرة دينية سماوية، ولا يضيره أن الرجل استغله في فترات تاريخية لغير هدفه الديني السليم، فكثير من الحقائق حُرف وشُوه، وهذا لا يعني أن الحقائق بحد ذاتها لا قيمة لها.
وقد أشارت الأديان إلى ظاهرة الحجاب وضرورته كلياً أو جزئياً … ففي الدين اليهودي جاء في التوراة المتداولة قوله: (ورفعت رِفقَةُ عينيها فرأت إسحاق، فنزلت عن الجمل، وقالت للعبد: مَن هذا الرجل الماشي في الحقل للقائنا؟ فقال العبد: هو سيدي … فأخذت البُرقع وتغطّت).
وحمل الإصحاح الثالث من سفر إشعياء ـ التوراة الحالية ـ على الخليعات المتبرجات بالزينة وتوعدهن بالعذاب.
وفي الدين المسيحي جاء في الإنجيل المتداول قوله: (وأما كل امرأة تصلي أو تتنبأ، ورأسها غيرُ مُغطّى، فتشين رأسها، لأنها والمحلوقة شيء واحد بعينه. إذ المرأة إن كانت لا تتغطى فليقص شعرها. وإن كان قبيحاً بالمرأة أن تقص أو تحلق فلتتغطّ).
(ينبغي للمرأة أن يكون لها سلطان على رأسها من أجل الملائكة).
(هل يليق بالمرأة أن تصلي إلى الله وهي غير مغطاة).
وفي الدين الاسلامي جاء في القرآن الكريم قوله تعالى: (يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفوراً رحيماً) الأحزاب/ ۵۹٫
(ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن) النور/ ۳۱٫
( … وإذا سألتموهن متعاً فسألوهن من وراء حجاب) الأحزاب/ ۵۳٫
لهذا فإن الحجاب أساساً ليس ظاهرة استغلالية، وإنما هو ظاهرة دينية عريقة في التاريخ لا تختص بالاسلام، وإن كان الاسلام وضع له شروطه الدقيقة ومبادئه العامة.
أما لماذا فرض الحجاب على المرأة دون الرجل؟ ولماذا هي التي تتحمل هذا العبء دونه؟ فالجواب إن لهذا التمييز أسبابه الوجيهة:
أولاً: للحفاظ على الأجيال والنسل والأسرة وضبط العلاقات النوعية وتجنب المفاسد الاجتماعية يجب أن يكون هناك شيء من الحدود الحازمة بين الرجل والمرأة، فكان الحجاب الشرعي، فمن يكلف يا ترى التزام هذه الحدود؟ مَن هو الأنسب لاستعمال الحجاب الرجل أم المرأة؟
لما كانت المرأة ألصق بدور تربية الأجيال والأسرة وإعداد الطعام وشؤون المنزل وإدارة المملكة الصغيرة، والرجل ألصق بدور العمل في الخارج. غالباً كانت المرأة أولى أن تحمل هي مسؤولية الحجاب لأنه يتناسب وطبيعة دورها الهادئ في البيت، لاسيما وأنها في البيت المستور غير مكلفة بالحجاب.
والواقع أن الرجل أليق بالعمل والكدح لخشونته، والمرأة أليق بتدبير شؤون البيت لرقتها.
قد تسأل: ولكن المرأة خرجت اليوم إلى ميدان العمل، وأصبحت كالرجل من هذه الناحية، فمن الظلم إلزامها بالحجاب!
الجواب: إنها خرجت إلى العمل مكرهة مضطرة لتأمين قوت بيتها، تماماً كما خرج الأطفال إلى العمل … وخروج المرأة إلى العمل وضعية ذات ضغوطات شديدة على المرأة. ولو افترضنا أن خروجها إلى العمل أصبح هو الأساس والقاعدة، فإنها لا تمارس في الخارج الأعمال والوظائف الشاقة كالرجل إلا ما شذّ وندر، لذلك فإن عملها المريح في الخارج يبقيها أجدر بحمل مسؤولية الحجاب من الرجل الذي يمارس أعنف الأعمال وأشقها مما لا تستطيعه المرأة ولا يتفق مع الحجاب .. ولا عبرة بالشاذ النادر من النساء والرجال لأن التشريع يأخذ بعين الاعتبار الحالات الأهم والأشمل.
ثانياً: إن مجال المناورة محدود أمام المرأة أساساً جراء الدورة الشهرية والحمل والوضع والإرضاع وتربية الطفل والاعتناء بالأسرة، ولكنه مفتوح أمام الرجل الذي أعفته الطبيعة بأمر الله من كل ذلك، ولكنها وضعت على عاتقه مهمات أصعب وهي: تأمين القوت ومواجهة الشدائد في الخارج ومصارعة أهوال الطبيعة والمجتمع والحياة، بينما أعطت المرأة مهمات التربية والبيت في أساس تكوينها الجسدي، لذلك كان عبء الحجاب أخف على المرأة منه على الرجل، لأن تحجب الرجل يعيق عمله الاقتصادي الخارجي الشاق في غالب الأحيان، بينما لا يجب على المرأة أن تتحجب في البيت ما دام البيت مصوناً عن أنظار الفضوليين. فضلاً عن أن الحجاب لا يعيقها عن تربية الأطفال وتدبير شؤون الأسرة.
أما لو عكسنا الأمر ووضعنا الحجاب على الرجل دون المرأة أو عليهما معاً لكان ذلك خللاً عملياً ووضعاً للشيء في غير محله.
ثالثاً: إن الرجل ليس من طبيعته الإغواء وإن مارسه أحياناً، بينما المرأة من طبيعتها الإغواء من خلال أدواته كجمالية الجسد وانسيابه ونعومته وروعة تشكيله .. إن طبيعة تكوينها تصرخ بالإغواء وإن لم تقصده، أما طبيعة الرجل فلا توحي بالإغواء إلا إذا تصنعه، فإن خشونة صوته وكثاثة لحيته وكثافة شعر جسده تناقض الإغواء .. إن طبيعة الرجل الغالبة هي القوة .. وهي طبع في الرجل وتطبع في المرأة، لذلك فإن الناس يكرهون الرجل المتخنث والمرأة المسترجلة لخروجهما عن طبعهما الأصيل … ولما كانت المرأة ـ بدون إرادتها ـ مجبولة بالإغواء فإن الحكمة تقتضي التخفيف من غلوائه بالستر والحجاب. ولعل ذلك من الأسباب التي دعت الشرع الكريم إلى اختصاص المرأة بالحجاب دون الرجل، وفي ذلك تنظيم وتكييف للإغواء ليحقق أهدافه الطبيعية في بناء الأسرة السعيدة والمجتمع السليم، فلا يطغى أو يسرف.
من هنا نضع أيدينا على السر الذي استدعى أن يكون الحجاب من حصة المرأة حيث يسعى الشرع إلى تحقيق هدفه الأخلاقي بأسهل الطرق وبأقل كلفة ممكنة.